«يا طالع الشجرة»: بين الرمزية واللامعقول
يقدِّم الآن مسرح الجيب مسرحية «يا طالع الشجرة» للأستاذ توفيق الحكيم، وهي المسرحية التي حيرت النقاد والمفسرين منذ أن ظهرت في كتاب وقبل أن تُمثل على خشبة المسرح، وبخاصة أن مؤلفها الماهر قد زادهم حيرة وبلبلة عندما كتب لها مقدمة ضافية تحدَّث فيها عن اللامعقول ونظرته الخاصة إلى الحياة والأحياء، وزعم أن أدبنا الشعبي نفسه قد عرف اللامعقول وصدر عنه في بعض مواويله مثل موال «يا طالع الشجرة»، الذي فسره الحكيم تفسيرًا حرفيًّا ليرى اللامعقول في طالع الشجرة الذي سيأتي معه ببقرة، وهو تفسير ذكي مغرض، وما نظن توفيق الحكيم قد فاته أن هذا الموال ليس من اللامعقول بل من الرمزية التي يلجأ إليها الأدب الشعبي أخذًا بالتقية حينًا وسترًا لماء الوجه حينًا آخر، فهذا الموال يجري على لسان رجل فقير يسأل من اغتنى — أي من طلع الشجرة — أن يجود عليه ببقرة تسقيه شيئًا من لبنها، وليس هذا من اللامعقول في شيء بل إنه من تدبير العقل الذكي الواعي القادر على الرمز وستر الحياء خلفه.
وكذلك الأمر في مسرحية «يا طالع الشجرة»، فهي لا ترسم صورة لحياة يراها المؤلف غير معقولة ولا مفهومة أو قابلة للفهم، بل هي مسرحية تعالج قضية شغلت توفيق الحكيم بالذات طول حياته، وسبق له أن عالجها في مسرحيات أخرى من أهمها «بجماليون» و«شهرزاد»، وهي قضية بين الصراع بين الفن مجسدًا في زوج فنان يتعهد شجرة الفن في حديقته، وزوجة مشغولة بشئون الحياة وبخاصة إنجاب الأطفال، ولانغماس كل منهما فيما يهمه استحال بينهما التفاهم وكأن بينهما برزخًا لا يبغيان، حتى احتدام الصراع في نفس الفنان بين وجوب وتكريس اهتمامه في شجرة الفن، وبين ضرورة معايشة زوجته التي ترمز في المسرحية للحياة مجسدة في المرأة، بينما ترمز السحلية الخضراء التي انسابت نحوه من جحر عند ساق شجرة الفن لسحر الحياة وسحر المرأة، وبلغ هذا الصراع حد إثارة نزعة لا شعورية عند الفنان الزوج لقتل زوجته واستخدام جثتها سمادًا لشجرة الفن، وجاء درويش فكشف للزوج الفنان عن هواجسه اللاشعورية الآثمة وكأنه صوت ضميره الواعي، ومع ذلك فلم تلبث تلك الهواجس الآثمة أن تحققت بقتل الزوج لزوجته فعلًا، وإن يكن قد عدل في نهاية المسرحية عن دفن جثتها عند جذور شجرة الفن لتسميدها مكتفيًا بدفن سحر المرأة مجسدًا في السحلية.
وعلى هذا الأساس فالمسرحية تعالج أو تجسد قضية معقولة شغلت توفيق الحكيم طوال حياته، وإن يكن قد جمع في أسلوب علاجها بين الأسلوب الرمزي واللامعقول، ومع العلم بأننا لم نرَ من اللامعقول في هذه المسرحية غير مشهد واحد هو المشهد الذي ظهر فيه الزوج جالسًا إلى جوار زوجته وكأنهما يتحاوران، وذلك بينما نسمع كلًّا منهما يحدِّث نفسه عن الموضوع الذي شغله، فالزوجة تتحدث عن الجنين الذي أجهضته في الشهر الرابع وقبل أن يكتمل نموه، بينما الزوج يتحدث عن ثمرة البرتقال التي سقطت من شجرة فنه المتعددة الثمار قبل أن تستقبل نموها. وبذلك نحس أن اللغة قد فقدت في هذا المشهد وظيفتها كوسيلة للتحاور والتفاهم بين الناس، حيث تحوَّل الحوار — أي الديالوج — إلى مناجاة فردية منعزلة، أي «سيليوك»، وهذا أحد موضوعات اللامعقول الأثيرة عند كاتب كبير من كُتاب اللامعقول مثل يوجين يونسكو، حيث نراه مثلًا في مسرحية «المغنية الصلعاء» يعرض علينا زوجًا وزوجة جالسين متجاورين أو يبدو أنهما متجاوران، بينما كل منهما في الحقيقة يحدِّث نفسه عن أمر يشغله، وعندما يتخلصان من استغراقهما يكتشفان أنهما زوجان.
والفن البارع في مسرحية توفيق الحكيم هو أنه قد استخدم المشهد اللامعقول الذي أشرنا إليه في تأييد التفاهم أو التلاقي أو التعايش بينهما، فالزوج رمز الفن مشغول بثمرات إنتاجه، والزوجة مشغولة بثمرة الحياة التي أجهضتها قبل الأوان، ولا سبيل إلى الالتقاء أو التفاهم بينهما ما دام كل منهما في وادٍ غير وادي الآخر تمامًا.
وفيما عدا هذا المشهد يُخيل إليَّ أنه من السهل فهم وتفسير بقية أحداث المسرحية ومشاهدها على أساس من الرمزية الذهنية التي برع فيها توفيق الحكيم، باختلاف أو تغيُّر الأزمنة والأمكنة وتداخلها وتكرار الحدث الرئيسي في المسرحية وهو قتل الزوج لزوجته، كل هذا يمكن تفسيره على أساس رمزي، فعملية القتل الأولى لم تتم في الواقع بل تمت في هواجس الزوج وعقله الباطن، بينما تمت بعد ذلك في المرة الثانية. وعلى هذا الأساس لا أستطيع أن أقبل التفسيرات والتوجيهات التي أوردها الأستاذ توفيق الحكيم في مقدمة مسرحيته، وأحسبها من الوسائل الشيطانية في تضليل النقاد والدارسين تضليلًا واعيًا مقصودًا لسبب أو لآخر لا محل لمناقشته الآن.
وأما عن الطريقة التي استخدمها الأستاذ سعد أردش في إخراج هذه المسرحية العويصة وطريقة الأداء التي أدى بها الممثلون الكبار: صلاح منصور في دور الزوج، ونجمة إبراهيم في دور الزوجة، والدكتور إبراهيم سكر في دور الدرويش؛ فقد وصلوا جميعًا فيما رأيت وأحسست إلى قمة المجد الفني، بل وخلقوا أدوارًا تستحق الخلود والتسجيل في تاريخ فننا كله.