«بجماليون» قصيدة درامية
كانت «بجماليون» هي المسرحية التي ناقش توفيق الحكيم في مقدمتها قضية الأدب الدرامي، وهل يُكتب للتمثيل فحسب أم من الممكن أن يُكتب أيضًا للقراءة وأن يُستغنى عن التمثيل، وذلك بعد تجربة مسرحية «أهل الكهف» على خشبة المسرح في سنة ١٩٣٥ حيث لم يلقَ عرضها نجاحًا جماهيريًّا واسعًا، مما أثار هذه القضية في نفس المؤلف بصورة حادة؛ فراح يشك أحيانًا في إمكان عرض المسرحيات الذهنية بنجاح على خشبة المسرح، وأحيانًا أخرى يعود فيتمنى أن لو أتيحت لمسرحياته الذهنية مخرج مثل رينيه بو مؤسس مسرح الإيفر في باريس، والذي تخصص في إخراج المسرحيات الرمزية الذهنية، من أمثال مسرحية «بلياس وميليزاند» رائعة المسرح الرمزي لموريس ميترلينك.
وبالفعل أحسست أنا نفسي بعد قراءة «أهل الكهف» ثم مشاهدتها على المسرح أن متعتي كانت أعظم بقراءتها مني بمشاهدتها؛ وذلك لأنها عند العرض لم تُثِر في نفسي أي انفعال قوي بعد أن رأيت أهل الكهف يُبعثون ثم يعودون إلى كهفهم ثانيةً، كما تنتقل قطع الشطرنج من خانة إلى أخرى، وإن تكن بالطبع حركت تفكيري بل وأوحت إلى عقلي إيحاءً قويًّا بحقيقة الحياة من حيث إنها ليست شيئًا قائمًا بذاته، بل هي مجموعة الروابط التي تربط الإنسان بعصره وبيئته وأهله وماله وأحبابه، فإذا تقطعت كل هذه الروابط بفعل الزمن لم يَعُد للحياة معنى وأصبحت هي والموت سواء، بحيث لا يدهش الإنسان عندما يرى أهل الكهف يعودون إلى كهفهم بعد أن تبينوا أن كل ما كان يربطهم بالحياة قد انقطع، وهذا التأمل الفكري في حقيقة الحياة من المؤكد أن القراءة الهادئة المتأنية أكثر مواتاة وعونًا عليه من العرض التمثيلي.
وخُيل إليَّ بعد ذلك أن مسرحيات توفيق الحكيم الذهنية الأخرى تكفي فيها القراءة بل وتفضل المشاهدة على خشبة المسرح، ولكن كم كانت دهشتي عندما ذهبت منذ أيام لمشاهدة مسرحية «بجماليون» التي أخرجها المخرج المثقف المخلص نبيل الألفي على خشبة مسرح محمد فريد! فرأيتني أنفعل بعرضها انفعالًا مزدوجًا يطغى في نفسي على التأمل العقلي في مأساة بجماليون الفنان الذي يتردد بين الفن والحياة ممثلة في المرأة.
والظاهر أن توفيق الحكيم نفسه كان قد أساء إلى هذه المسرحية عندما زعم أن الصراع فيها يجري بين المطلق من المعاني، أي بين فكرتين مجردتين هما الفن والحياة، ولكن مُخرجنا الذكي المثقف خالف في هذا الفهم الذهني المجرد لمأساة بجماليون، فطرح جانبًا فكرة الصراع بين المطلق من المعاني التي نادى بها الحكيم كمحور لمسرحه الذهني كله، ولم يرَ في قصة بجماليون ونواتها الأسطورية القديمة إلى مأساة الفنان كإنسان تهفو روحه إلى الجمال المطلق الخالد الذي يستطيع أن يخلقه وأن يضمن له الخلود، فيود لو انقطع لهذا الفن وترهَّب في سبيله، ولكن الحياة الثانية تناديه بغرائزها التي لا تُقهر، وتتجسد الحياة بالنسبة إليه في المرأة، وإذا به يعاني من تمزق داخلي عنيف فيه عظمة الفن وكبرياؤه وطموحه إلى الخلود، وفيه ضعف الإنسان الفاني وحاجاته الملحة إلى المودة والرحمة، أي إلى المرأة التي يسكن إليها وتسكن إليه. وهذا هو ما استطاع نبيل الألفي أن يطلعني عليه في تلك الليلة الجميلة الممتعة التي قضيتها مع القبيلة كلها في مشاهدة المسرحية، التي كم طالعتها كنص أدبي ممتع حرك تفكيري وأثار تأملاتي في الفن والحياة والصلة أو التعارض بينهما! ولكنه لم يولِّد قط في نفسي عند القراءة الهادئة المتأنية ذلك الانفعال المزدوج الذي هز أعماق نفسي، وهو الانفعال الشعري والانفعال الدرامي، حتى رأيت هذا الانفعال المزدوج يُملي عليَّ نفسه عند البحث عن عنوان هذا المقال، فوجدتني أختار تلقائيًّا وصف «بجماليون» التي قدَّمها لنا نبيل الألفي بأنها «قصيدة درامية».
وقبل أن أشد الرحال إلى «بجماليون» كنت مشفقًا على مُخرجنا وممثلينا من صعوبة أداء مثل هذه المسرحية، وبخاصة بعدما قرأت عن عدم تمكين نبيل الألفي من جميع الوسائل اللازمة لإخراجها، وبخاصة أجهزة الإضاءة التي يستطيع أن يستخدمها في التمييز بين مستويات هذه المسرحية التي تتراوح بين مستوى الآلهة الرفيع ومستوى الحياة العادية للبشر، ولكني مع ذلك طابت نفسي لِما شاهدته إذ رأيت مُخرجنا الماهر يتغلب على كل هذا الصعوبات — التي لا يزال يصطدم بها لسوء الحظ كل عمل جاد مخلص — ويقدِّم لنا عرضًا فنيًّا رائعًا، وإن كنت لا أزال في لهفة لمعرفة ما إذا كانت هذه المسرحية يمكن أن تزداد جمالًا وتأثيرًا إذا توافر لها مزيد من الإمكانيات المسرحية، التي تستطيع أن تُبرز الجانب الإلهي الأسطوري إلى جوار الجانب الإنساني الخالص القائم على حقائق النفس البشرية وما يمكن أن يتصارع في داخلها من نزعات، يجذبنا بعضها نحو السماء ويشدنا بعضها الآخر نحو الأرض أي نحو الحياة، فالإمكانيات المحدودة التي وُضعت تحت تصرُّف المخرج قد حملته فيما يبدو إلى التركيز على الناحية الإنسانية الواقعية في هذه المسرحية الفنية التي تجمع بين الأسطورة وصدق الواقع النفسي للإنسان.
وعندما تناولت برنامج الحفلة المتواضعة الذي لم يتجاوز قائمة بأسماء الممثلين، خشيت أيضًا أن تكون المسرحية أضخم وأثقل من أن يستطيعوا حملها ومعظمهم من الممثلين الجدد، ولكني مع ذلك خرجت من العرض وأنا شاكر ما قدموا لنا من متعة فنية رفيعة حقًّا.
فحسين الشربيني في دور «بجماليون»، والفتاة الرقيقة بثينة حسن في دور جالاتيا، وعواطف حلمي الناطقة باسم الجوقة، وقدرية قدري في دور إيسمين، ثم زهرة العلا في دور فينوس، وعزت العلايلي في جلال أبلُّون، ورشوان توفيق في دور نرسيس؛ قد اشتركوا جميعًا وبأستاذية مبكرة في إثارة ذلك الانفعال المزدوج في نفسي، أعني الانفعال الشعري والانفعال الدرامي، حتى لاحت التمثيلية كلها كأنها قصيدة من الشعر وُزِّعت أبياتها بين هؤلاء الممثلين، ومأساة درامية عنيفة لم يجرِ الصراع فيها بين فكرتين مجردتين، بل جرى داخل نفس حسين الشربيني في دور «بجماليون» بين عظمة الفن وكبريائه ومثله الأعلى من جهة، ونداء الحياة وغرائزها وضعف الإنسان وواقعه من جهة أخرى، وبذلك اكتشفت أن هذه المسرحية ليست ذهنية بحتة — كما تصورت وكما تصور توفيق الحكيم نفسه — بل هي مأساة درامية وقصيدة شعرية تفجرت من نفس توفيق الحكيم، في حالة نفسية تتأرجح بين الوعي واللاوعي، وكأنها إلهام لم يتبين الحكيم ولا يمكن أن يتبين القارئ حقيقته ومداه، واستطاع ذلك لحُسن الحظ نبيل الألفي وهذه النخبة الممتازة من الشبان الذين نهضوا بعبء هذا العمل الدرامي الشعري الكبير.