العش الهادئ واستبداد الجمهور
وأخيرًا زرت مسرح التليفزيون الذي لم تكن لديَّ عنه فكرة واضحة من قبل، ومع ذلك فقد وجدت فيه ما توقعته من استبداد الجمهور بمثل هذه الأجهزة التي تخاطب الملايين وتحرص على اجتذابهم.
فمسرح التليفزيون أو على الأصح مسارح التليفزيون يلوح لي أن اعتمادها الأكبر ينهض على جذب الجمهور بواسطة الأسماء المعروفة من بين أدباء ومن بين نجوم السينما، وإذا لم يكن الأديب المعروف كاتب مسرحيات بل كاتب قصص حُوِّلت قصصه إلى مسرحيات، كما حدث لقصص يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله وعبد الرحمن الشرقاوي، وإذا كان الأديب المعروف كاتب مسرحيات كتوفيق الحكيم اختير من بين مسرحياته العديدة أخفها وزنًا من أمثال «العش الهادئ»، ولم يُكتفَ بذلك بل تُرجمت إلى العامية و«لحلحها» المترجم، ثم زادها المخرج «لحلحة» لكي تُرضي الجمهور الذي يريد أن يضحك!
فمسرحية «العش الهادئ» التي اختارتها إحدى فرق مسرح التليفزيون من أخف مسرحيات الحكيم وزنًا وأقربها غورًا وأبسطها فنًّا، فضلًا عن أنها لا تعالج مشكلة جديدة أو فريدة في مسرح أديبنا الكبير توفيق الحكيم، بل تعالج مشكلة أزمنت عند أديبنا لأنها ظلت سنين طويلة من مشاكل حياته الخاصة، وقد عالج المؤلف هذه المشكلة في عدد كبير من مسرحياته المختلفة المصادر؛ ونعني بها مشكلة العلاقة بين الرجل والمرأة بوجه عام، وبينها وبين الأديب أو الفنان بنوع خاص. ولقد سبق لي أن درست هذه المشكلة دراسة تفصيلية وتتبعتها في مسرحيات توفيق الحكيم المختلفة منذ مسرحية «المرأة الجديدة»، التي كتبها في صدر شبابه وقبل أن يسافر إلى فرنسا، حتى مسرحية «إيزيس»، مارًّا بمسرحيات «بجماليون» و«شهرزاد» و«الخروج من الجنة» وغيرها. وما من شك في أن مسرحيات توفيق الحكيم الذهنية التي عالجت هذه المشكلة على أساس أسطوري «كبجماليون» و«شهرزاد»، تفضل بعمق مضمونها وشاعرية حوارها ورفاهية فنها الدرامي مسرحياته التي تعالج نفس المشكلة على أساس اجتماعي واقعي، وإن كان الواقع يتحول فيها غالبًا إلى كاريكاتير، وكأن الإطار الأسطوري يكبح خيال توفيق الحكيم عندما يلهبه الخوف من المرأة.
ومسرحية «العش الهادئ» ليست مسرحية موحدة البناء، حتى قد خُيل إليَّ أنها تتكون من مسرحيتين، هما: «سيما أونطة» و«بجماليون»، فالفصل الأول منها يعرض منتِجًا سينمائيًّا أثرى من تجارة الخيش وأراد أن يزداد ثراءً من تجارة السينما، مع اتخاذ هذا الفن وسيلة لصيد الفتاة الراقصة ميمي التي تثير لعابه الحيواني، وقد اتفق مع مخرج أفَّاق على إنتاج فيلم بشرط أن «يفصِّل» فيه الأديب الكاتب الأستاذ فكري دورًا ينجح في إغراء ميمي ويمكِّن الحيوان المنتج منها.
ولكننا لا نلبث أن ننتقل من هذه «السينما الأونطة» إلى مشكلة الأديب الكاتب الذي يلوح في أعماقه أنه قد مل عداوته التقليدية للمرأة، وأخذ يتمنى أن لو ساق إليه القدر امرأة من ذوات العزم تحل عقدته بأن تطلبه هي للزواج بدلًا من أن يطلبها. ولو أنني اصطنعت مذهب الناقد العلمي سانت بيف الذي كان يؤمن بأن التنقيب في حياة الأديب الشخصية هو السبيل الحق إلى فهم مؤلفاته الأدبية وتفسيرها، لاستطعت أن أكتشف عن جذور هذه المشكلة في حياة توفيق الحكيم وأن أتتبع تطورها منذ مسرحية «المرأة الجديدة» حتى مسرحية «إيزيس».
ومنذ أن انتقل بنا المؤلف من «السينما الأونطة» إلى مشكلة الفنان وموقفه مع المرأة، انتقل إلى المجال المألوف المطروق في مسرح توفيق الحكيم كله، ورأينا خياله الذي ألهبه الخوف من المرأة ينطلق إلى تصور أحداث خرافية أو شبه خرافية وإن حاول أن يسبغ عليها ثوب الواقع، فمن الشطط الزعم بأن الزوجة أخذت تطالبه بخمسين جنيهًا كل ليلة أجرًا لممرضة تسهر على طفلهما المريض، ومن الشطط الأكثر أن تأتي الممرضة لتسهر على الطفل وهي على وشك الوضع.
وإغراء فرق مسرح التليفزيون لنجوم السينما بالعمل فيها إرضاءً للجمهور ولو كلفها ذلك المال الوفير وأحدث فوارق مجحفة بين فئات الممثلين المسرحيين؛ أمر يستحق العناية والدرس، وقد أثير فعلًا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ولكني مع ذلك أترك هذه المشاكل العملية جانبًا لأن لا حيلة لي فيها، وأكتفي بما لاحظته من أنه وإن تكن الأصول العامة لفن التمثيل واحدة بين المسرح والسينما، إلا أن الكاميرا في السينما تؤثر تأثيرًا خاصًّا وخطيرًا على الممثلين والممثلات الذين يعتادونها، ولقد كان هذا واضحًا بنوع خاص في أداء الممثلة برلنتي عبد الحميد لدور «درية» في «العش الهادئ»، حيث أحسست أنها لم تَعُد تُمثل على نحو ما عهدناها على المسرح عند أول تخرُّجها من المعهد العالي للفنون المسرحية، بل أخذت تتنقل من «بوز» إلى آخر على نحو ما ألِفت في أدوار الإغراء التي تخصصت في أدائها أو كادت في الأفلام السينمائية، في أن درية السبَّاحة الماهرة الحازمة القوية الشخصية مجرد فتاة إغراء جنسي في «العش الهادئ»، كما لاحظت — أو على الأصح لمحت من بعيد — أنها كثيرة الاعتماد على التعبير بملامح الوجه وحركات الحاجبين، وهذا أسلوب في التعبير قد يصلح للكاميرات التي تستطيع التقاطه وإبرازه، بل يُخيل إليَّ أن ممثلة الكاميرا قد لا تحتاج إلى المبالغة في هذه الحركات على نحو ما فعلت برلنتي على المسرح.
وهكذا خرجت من مشاهدة مسرحية «العش الهادئ» وفي نفسي إحساس نحو الفن والذي نعتز به ونرجو أن نساعد الجمهور على أن يرتفع إليه بدلًا من أن ننزل إلى مستواه، أو نسلِّم له بالحق في أن يستبد به. وفي رأيي أن اليوم الذي يتشجع فيه مسرح كمسرح التليفزيون فيقدِّم لجمهوره «بجماليون» أو «شهرزاد» بدلًا من «العش الهادئ» — وكلها مسرحيات لنفس المؤلف الكبير، وتعالج نفس المشكلة ولكن بأسلوب أكثر عمقًا وفنًّا وأكثر رهافة — هو اليوم الذي سنستطيع أن نطمئن فيه حقًّا على مصير هذا الفن الرفيع في بلادنا.