«الطعام لكل فم»: بين النص والإخراج
إن كثيرًا من الأحلام التي راودت كُتابًا من أمثال جيل فيرن الفرنسي وويلز الإنجليزي وصوروها في قصصهم، قد جاء العلم الحديث فحققها، مثل غزو الفضاء والرحلة إلى القمر وغيرهما.
وإن فكرة مماثلة قد راودته في أثناء تمثيله لبلادنا في مؤسسة اليونسكو الدولية بباريس، فتقدم لهذه الهيئة بمشروع قد يبدو خياليًّا يدعو فيه العلماء ورجال الدولة إلى استخدام الطاقة الذرية في الإنتاج السلمي على نحو يوفر الطعام لكل «فم»؛ وبذلك يعم السلام الأرض ويسعد البشر جميعًا، وبالفعل أورد الأستاذ توفيق الحكيم في تعقيبه هذا نص المذكرة التي قدَّمها إلى اليونسكو بمشروعه.
وكانت هذه الواقعة مصدر تأليف توفيق الحكيم لمسرحية «الطعام لكل فم»، التي أخرجها أخيرًا الأستاذ محمد عبد العزيز بالمسرح القومي على خشبة مسرح الأزبكية.
وقد تخيل الأستاذ توفيق الحكيم في إبراز فكرته في صورة درامية أسرة مكونة من الزوج حمدي وزوجته سميرة، وقد أطلقت جارتهما التي تسكن الطابق الأعلى المياه الغزيرة لغسل بلاط شقتها، فتسرب الماء إلى حائط شقة حمدي وزوجته، وثار الزوجان ولكنهما لم يلبثا أن هدأا عندما لاحظا أن نشع الماء قد أخذ يرسم على الحائط مشهدًا دراميًّا آخر، يظهر فيه الشاب طارق الذي كان يدرس علوم الذرة في زيورخ بسويسرا، ثم عاد إلى بيته في القاهرة ليُتم بحث مشروع يوفر به الطعام لكل فم عن طريق استخدام الطاقة الذرية.
ولكن توفيق الحكيم لم يكتفِ بذلك، بل جعل طارقًا هذا يدخل مع أمه وأخته نادية في حوار درامي طويل تعلم منه أن أمه تآمرت مع ابن عمها وحبيبها القديم الدكتور ممدوح على قتل أبيه، وذلك بعد أن أثرى الدكتور ممدوح فزال العائق الذي كانت تلك الأم رفضت من قبل بسببه الزواج من ابن عمها مفضلة والد طارق ونادية لغناه.
ونرى نادية تتهم أمها بهذه الجريمة وتحاول أن تقنع أخاها بذلك. ثم يستطرد توفيق الحكيم إلى مقارنة هذا الموقف بموقف «هملت» ثم بموقف «إليكترا وأورست» من مثل تلك الجريمة، ولكن طارقًا يرى أن الزمن قد تغيَّر ولم يَعُد من الحكمة أن يعمل مع أخته أو منفردًا على الثأر لأبيه من أمه وشريكها في الجريمة، وينتهي الأمر باكتفاء طارق وأخته بإعلان قرارهما بترك البيت لأمهما وممدوح الذي تزوجته بعد التخلص من زوجها الأول. وكل هذا الحوار لا نحس بأي ارتباط عضوي بينه وبين محور المسرحية الأصلي أو فكرتها الأساسية وهي فكرة الطعام لكل فم، اللهم إلا أن تكون رغبة الحكيم في إبراز تغيير القيم في عصرنا الحاضر تغيرًا اكتفى الحكيم إزاءه بموقف التسجيل دون حكم أو إيحاء بحكم له أو عليه.
وقضية تغيُّر القيم على أية حال تبدو مقحمة على هذه المسرحية أو غير مرتبطة ببنائها ارتباطًا عضويًّا، حتى لتلوح كأنها مسرحية أخرى من نوع مسرحيات الأدراج حيث يفتح المؤلف في مسرحيته درجًا يخرج منه هذا الموقف الدرامي الدخيل.
ثم لا يلبث الحائط أن يجف وينهار الطلاء ومعه المشهد الخيالي الذي رآه حمدي وزوجته سميرة وأُعجبا وتعلَّقا به، وهنا تنتقل المسرحية إلى عدة مواقف مضحكة غريبة يحاول فيها الزوج وزوجته إعادة النشع إلى الحائط ليعود المشهد، فيتسرب الزوج إلى شقة الجارة العليا من نافذة المنور متسلقًا على ماسورة المياه، ولكن المشهد لا يعود إلى الظهور، فيحتال الزوج والزوجة لدخول الشقة كل يوم لغسلها بالماء، ولكن المشهد لا يعود أبدًا للظهور ثانيةً على الحائط، وكل هذه مواقف وأحداث لا هدف لها إلا مط المسرحية بعض الوقت، وفي النهاية ييئس حمدي وزوجته من إعادة المشهد، ومع ذلك فقد كان ظهوره الأول كافيًا لتغيير عقلية حمدي وسلوكه في الحياة، فنراه في الفصل الأخير وقد اشترى ميكروسكوبًا يفحص به الأشياء، ويُدهش زوجته عندما يدعوها إلى أن ترى البرغوث تحت الميكروسكوب وقد بلغ حجم الفيل، وكأنه يريد بذلك أن يقنعها ببعض معجزات العلم الحديث، وذلك بينما نراه هو يُقلع عن سلوكه التافه وحياته التافهة التي كانت ضائعة بين عمله البليد كأمين المحفوظات في إحدى الوزارات، وبين التردد على القهوة للعب الطاولة والدردشة مع شلة من المتسكعين، وذلك لكي يتوفر على كتابة قصة تبشِّر بالمشروع الإنساني الذي رأى طارقًا يُعده على الحائط، ثم تُسدل الستارة.
الفكرة إذن طريفة وخيِّرة وتقدمية. وأما عن طريق علاج المؤلف لها فغير قائمة على منطق نفسي أو فني سليم، اللهم إلا أن يكون تحوُّل نشع الماء على الحائط إلى مشهد درامي نوعًا من هلوسة اللامعقول، وهي هلوسة ليس لها أي مبرر أو ضرورة، وكان المؤلف يستطيع أن يجد عنها معدلًا في نظرية علمية ثابتة من نظريات علم النفس، وهي نظرية الإسقاط النفسي التي عرفتها الشعوب بفطرتها السليمة قبل أن يثبتها العلم التجريبي، وذلك عندما يقول شعبنا: «اللي يخاف من العفريت يطلع له.» أو عندما يقول: «حلم الجعان عيش.» بمعنى أن من تشغله فكرة وتسيطر عليه من الممكن أن تتجسد أمام ناظريه سواء حلم اليقظة أو حلم النوم، وهذا التجسيد إنما يحدث لأن الإنسان المشغول بهذه النظرية العلمية بل والشعبية أيضًا يقتضي من الأستاذ توفيق الحكيم أن يصور حمدي مشغولًا بمثل هذه الفكرة حتى يفسر لنا رؤيته لها مجسدة على الحائط. وأما أن يصوره شخصًا تافهًا مبددًا للحياة ليس له أي اهتمام جدي بأي شأن من شئون الحياة، لا هو ولا زوجته سميرة، ثم يجعلهما يشاهدان مثل هذا المشروع الكبير عند طارق، بل ويشاهدان أيضًا مسرحية أخرى أخرجها من إحدى الأدراج ليقارن بينها وبين مأساة هملت أو مأساة «إليكترا وأورست»؛ فهذا كله شيء غير مفهوم ولا قابل للفهم، كما أن تحوُّل حمدي من أمين محفوظات تافه إلى «جيل فيرن» أو «ويلز» أمر مضحك لا يكفي لتبريره استخراج مشهد الحائط الذي لا يحمل أية دلالة نفسية عند حمدي تُرهِص بمثل هذا التحول، الذي أصبح بفقدان الأساس النفسي أقرب ما يكون إلى التهريج أو الانقلاب المسرحي الرخيص.
وجاء المخرج فزاد الطين بلة، فبالرغم من أننا نصحناه في إصرار بأن الطريقة المثلى لإخراج مثل هذه المسرحية هي أسلوب المسرح السحري الذي يجمع بين العرض السينمائي والتمثيل المسرحي حتى يتمكن من الجمع بين تمثيل حمدي وزوجته ورؤيتهما في المشهد الخيالي الذي يظهر لهما على الحائط ويعلقان عليه؛ فإنه ركب رأسه، وأصر على أن يُخرج المسرحية بالأسلوب المسرحي العادي، ويا ليته اكتفى بذلك! إذ رأيناه يستخدم إمكانية الدوران التي أُدخلت حديثًا على مسرح الأزبكية، فرأيناه يُنزل ستارة رُسمت عليها أشباح طارق وأخته وأمهما، ثم يرفع هذه الستارة لترى أسطوانة الدائرة وقد ظهرت عليها الممثلة القديرة أمينة رزق في دور الأم مولية ظهرها هي وابنها وابنتها إلى الجمهور، ثم تدور الأسطوانة ليعطونا وجوههم، وهذا شيء غريب ومضحك بل مذهل حقًّا؛ لأن المفهوم أننا برفع الستارة المرسومة عليها الأشباح نرى الشخصيات في نفس الوضع لا مولية ظهورها إلينا، وكان من السهل على المخرج أن يصل إلى ذلك بالاستغناء عن «البندة» إدارة الأسطوانة. ثم رأينا حمدي وزوجته ينزويان في الظلام صامتين أثناء مشهد الحائط، وبذلك زاد إحساسنا بانفصال هذا المشهد كليةً عن المشهد الأول الذي ابتدأت به المسرحية، وبالطبع حذف المخرج جميع تعليقات حمدي وزوجته على مشهد الحائط، فزاد المسرحية عدم إقناع؛ لأن تلك التعليقات هي التي تشير في النص إلى التحول التدريجي الذي حدث في عقلية حمدي وزوجته متأثرين بهذا المشهد، وبالتالي حملت شيئًا ولو قليلًا من التفسير للتحول النهائي الذي سيطر على شخصية حمدي التافهة أصلًا.
وإذا كان الممثلون جميعًا قد أجادوا الأداء بمن فيهم الممثلة الشابة الموهوبة هالة فاخر التي أحسست بأن النقد ظلمها، فإن تفكك النص ثم تفكك الإخراج قد ذهب لسوء الحظ بمجهودهم الذكي المخلص أدراج الرياح.