الجياع على مائدة اللئام، والزوج يتحول إلى صرصار!
رأينا على مسرح الحكيم طفلًا جائعًا يأكل اللحم المشوي على مائدة اللئيم العربيد عزت بك، أما كيف حدث ذلك فلا يخبرنا به الأستاذ توفيق الحكيم في مسرحية «الجياع» التي عُرضت على ذلك المسرح، فنحن لم نعلم عن عزت بك إلا أنه كان قد اتفق مع مطعم كبير باذخ على إعداد عشاء شهي له ولزوجة صديقه الثري عبد الغني باشا، التي كان يظن أنه عشيقها الوحيد، حتى إذا جاءه هذا الزوج الأبله الحقير ليُبلغه أو يشكو إليه خيانة زوجته مع شخص ثالث ورؤيته لها معه في المطعم المجاور، اشتاط عزت بك غضبًا وقرر عدم تناول العشاء المعد والاكتفاء بدفع ثمنه، وإذا به يفاجَأ في المطعم بالطفل المسكين الجائع المهلهل الثياب بائع أوراق اليانصيب الذي اعتاد جرسون المطعم أن ينهره ويطرده كلما جاء، غير أن عزت بك يتدخل في هذه المرة لكي يسمح الجرسون لهذا الطفل بأن يجلس على مائدته، وأن يُحضر له الجرسون اللحم المشوي المعد ليأكله هذا الطفل المسكين.
ولقد فرحنا طبعًا بفرح هذا الطفل، ولكننا خرجنا — كما قلت — ونحن لا ندري كيف تحوَّل عزت بك فجأة من ذلك اللئيم العربيد المنتهك عرض صديقه الباشا إلى رجل كريم خيِّر شفيق بالجياع المحرومين التعساء، وقد أخذت أحاول أن أفسر هذا التحول بخيبة الأمل التي أصابت عزت بك من شوشو، ولكنني لم أستطع لمخالفة هذا التفسير لطبائع النفوس في مثل موقف عزت بك، فالمعقول في مثل هذا الموقف أن تمتد إرادة عزت بك وغضبه فتشمل جميع من حوله بما فيهم الجرسون والطفل الجائع، لا أن يحنو على هذا الطفل ويجلسه على مائدته ويقدِّم له الطعام، ولا أظن أن عزت بك قد فعل ذلك لأنه أراد ألا يضيع ماله سدى، ففضَّل أن يقدم الطعام الذي دفع ثمنه لهذا الطفل المسكين، فمثل هذا العربيد اللئيم المستهتر لا أظنه يحسب للمال مثل هذا الحساب. وإذن لم يبقَ أمامي إلا أن أسلِّم آسفًا بافتعال كاتبنا المسرحي الكبير لهذا الموقف الكاذب الذي قد يوحي بأن الجياع لم يكونوا جائعين بل كانوا يجدون الطعام على مائدة اللئام أنفسهم، أو أن القدر كان يمكِّنهم من ذلك أحيانًا لينتقلوا من البحث عن غذائهم في صناديق القمامة — كما قال الطفل — إلى مثل هذه المائدة الحافلة.
وعلى أية حال، فمسرحية «الجياع» ذات الفصل الواحد لم تقنعني ولا أظنها أقنعت غيري من المشاهدين، وهي قطعًا دون المستوى العام لمسرح توفيق الحكيم، وربما كان السبب في ذلك هو أنها من مسرحياته القديمة، ولعلها من تلك المسرحيات السريعة التي كان يكتبها لصحيفة «أخبار اليوم» في الأربعينيات، وإن لم يكن الممثلون بوجه عام وبخاصة الطفل وجدي العربي قد أعانوا على ازدهارها.
وقدَّم مسرح الحكيم في نفس الليلة مسرحية أخرى حديثة للأستاذ توفيق الحكيم من فصلين هي مسرحية «مصير صرصار»، التي تدور حول المشكلة القديمة المزمنة التي عانى منها المؤلف طوال حياته، وانعكست تلك المعاناة الشخصية في إنتاجه المسرحي منذ ١٩٢٠ حتى ١٩٦٥، وهي مشكلة العلاقة بين الرجل والمرأة التي ابتدأ توفيق الحكيم الحديث عنها بروح عدائية شرسة صاخبة ضد المرأة في عدد من مسرحياته الأولى، مثل «المرأة الجديدة» و«نائبة النساء» و«جنة الأزواج» و«جمعية النساء»، ثم انتقل من مرحلة العداوة للمرأة بتقدمه في السن إلى مرحلة التشكك والحيرة وما سمَّاه بالصراع بين الفن والحياة — أي بين الفن والمرأة — وجسَّم هذا الصراع في مسرحية كبيرة رمزية ذهنية من مسرحياته وهي مسرحية «بجماليون».
وظننا أن هذه المشكلة قد انحلت بالنسبة لتوفيق الحكيم بعد زواجه سنة ١٩٤٦، ولكننا فوجئنا بعودته إلى نفس المشكلة منذ عامين أو ثلاثة في مسرحية «يا طالع الشجرة»، التي قتل فيها زوج زوجته ليتخذ من جسدها سمادًا لشجرة الفن التي غرسها في حديقته والتي تؤتي ثمارًا متنوعة.
ثم ها هو يعود في عامنا هذا إلى نفس المشكلة مرة أخرى في مسرحية «مصير صرصار» التي يفصح فيها عن أن الزوج عادل قد رأى نفسه في الصرصار الذي اكتشفه في حوض الحمام، والذي تدور بينه وبين زوجته السليطة سامية معركة عنيفة حول قتله أو تركه يحاول التسلق على جدار الحوض الناعم والخلاص بعمره من الهلاك، ويأتي طبيب من الشركة التي يعمل بها الزوجان للكشف على الزوج ومعرفة سبب تأخره عن الحضور إلى عمله في الميعاد المحدد، ومن الحوار الطويل الراكد الذي يدور بين الثلاثة نعلم صراحةً لا رمزًا أو إيحاءً بأن سيطرة الزوجة على زوجها قد جعلته يرى نفسه في هذا الصرصار، ويطول الموقف ويمتد ويكاد يتجمد لولا أن الزوجة تنهيه بأن تأمر خادمتها بإعداد الحمام فتقتل الخادمة الصرصار وتملأ الحوض بالماء.
وفي النص الذي نُشر بجريدة الأهرام زعم المؤلف أن الزوجة قد عادت بعد ذلك إلى السيطرة على الزوج وسحق شخصيته، ولكن هذه الخاتمة انقلبت على المسرح فرأينا الزوج يستأسد بعد قتل الصرصار أو يحاول ذلك.
ومن الغريب أنني قرأت عن هذه المسرحية العجيبة — التي لا تخلو هي الأخرى من مبالغة مفتعلة — دراسة وتحليلًا طويلين في مجلة «المسرح» للدكتور لويس مرقص، يقارن فيها هذه المسرحية بمأساة أجاممنون الإغريقية القديمة التي تآمرت فيها الزوجة على قتل زوجها! ولست أدري لماذا نسي الدكتور لويس مرقص أستاذ الأدب الإنجليزي أن يقارنها أيضًا بمأساة هملت ما دام قد أباح لنفسه هذا الاجتهاد المسرف غير المعقول، بل وراح يزعم أن الصرصار في هذه المسرحية يرمز لنطفة الخلق، وأن حوض الحمام يرمز لحوض المرأة أو رحمها! وهذا تخريج لا أدري كيف يمكن إلصاقه بهذه المسرحية التي أفصح المؤلف نفسه عن دلالة رموزها على لسان الطبيب ثم الزوجة والزوج معًا، وكل ذلك رغم المبدأ البديهي في النقد والتفسير القائل بأنه لا اجتهاد في مورد النص، أي لا اجتهاد مع النص الواضح الصريح الذي يفسر نفسه بنفسه.
وأعود وأكرر هنا صادقًا أن الممثلين، وبخاصة الممثلة القديرة سناء جميل في دور الزوجة، هم الذين أعانوا أيضًا على ازدهار هذه المسرحية المستهلكة الموضوع، فسناء جميل لم تكن تُمثل بقدر ما كانت تعيش فعلًا هذا الدور.