من حيرة الحكيم إلى التزام نجيب سرور
بعد عودتي من تونس أخذت أتدارك ما فاتني من النشاط المسرحي الجديد، فشاهدت تباعًا «شمس النهار» لتوفيق الحكيم «وياسين وبهية» لنجيب سرور، وهالني ما لاحظته بين المسرحيتين من تفاوت بالغ في الاتجاه الفني والهدف الإنساني.
فمسرحية توفيق الحكيم لها من فن المسرحية جميع المقومات، كالقصة والحدث والحركة والشخصيات والصراع … وما إلى ذلك مما نعلِّمه للطلبة في الجامعات والمعاهد، ومع ذلك خرجت من مشاهدة المسرحية وأنا أبحث في نفسي عما أراد الحكيم أن يقوله لي ولغيري من المواطنين، فالمسرحية ظاهرها رومانسي شارد يتلخص في تردد الفتاة شمس النهار بنت السلطان بين الزواج من أحد أبناء الشعب، بعد أن استطاع هذا الشاب أن يهزم كبرياءها وأن يعيد تكوينها النفسي والفكري، فأحست كأنه بقوته واعتزازه بنفسه قد خلقها من جديد وأخرجها من قمقمها السلطاني إلى الحياة العاملة الجادة؛ وبين الأمير حمدان الذي استطاعت هي أن تُنزله من عليائه وتلقنه فن الحياة السليم. وإذا كان توفيق الحكيم قد اختتم هذه المسرحية في نصها الأصلي تاركًا شمس النهار حائرة مترددة، فإن مخرج المسرحية فتوح نشاطي هو الذي قد اختار لها — فيما علمتُ — خاتمة حاسمة بدل الخاتمة المفتوحة، بأن جعل شمس النهار تختار في النهاية ابن الشعب الذي خلقها.
وبالرغم من أن المسرحية يمكن أن نأخذها هذا المأخذ الرومانسي الساذَج، فإن ظروف حياتنا الراهنة تكاد تحملنا حملًا على أن نبحث في هذه المسرحية عن هدف آخر رمزي — رغم أن هذه الرمزية لا يوحي بها النص بل نفترضها نحن المشاهدين افتراضًا — عندما يُخيل إلينا أن شمس النهار ترمز للثورة التي تتردد في الزواج ممن خلقها أو ممن خلقته وهو الأمير حمدان الذي يمكن أن يرمز للشعب باعتبار الشعب هو صاحب السلطة والإمارة، ولكن هذا المفهوم للثورة لا يَنُم عن فهم عميق لحقيقتها فهي ثورة لم يخلقها فرد مثل قمر الزمان، كما أنها لم تتردد في الزواج من حمدان مصدر السيادة وهو الشعب المرموز له بالأمير حمدان.
وهكذا يتضح ما في هذه المسرحية من شطط وافتعال رومانسي إذا أخذناها بمظهرها، وما فيها من حيرة وخلط إذا حملناها محل الرمزية الغامضة إلى حد الإلغاز والخوف الشديد من كل إيحاء قريب أو بعيد.
ومع كل ذلك وإنصافًا للحقيقة يحلو لي أن أُبرز قيمة إيجابية أكيدة جسدتها هذه المسرحية بصريح حوارها ومواقفها، وهي قيمة العمل واعتباره شريان الحياة وعمودها الفقري، فشمس النهار تعترف أن ابن الشعب خلقها بدفعها إلى العمل، وهي بدورها التي خلقت الأمير المترفع المتبطل وعلَّمته الحياة بدفعها له إلى العمل.
ولكن هذا التحول والتطور في الشخصيات لم ينتهِ في المسرحية إلى هدف أو غاية تنحل بهما عقدة المسرحية والصراع المفتعل الذي يدور في نفس البطلة بين ترجيحها لقمر الزمان أو حمدان، وذلك بينما نرى كاتبًا ملتزمًا مثل برنارد شو يحسم مثل هذا الموقف في مسرحيته المعروفة «كانديدا» عندما افتعل صراعًا في نفس زوجة قسيس بين تفضيلها لزوجها أو تفضيلها لشاب خيالي شاعر مدلَّه بها، وإن تكن قد حسمت هذا الصراع لا على أساس عاطفي أو أخلاقي، بل على أساس فكري إرادي خالص، بينما ترك الحكيم مسرحيته في نصها الأصلي مفتوحة الخاتمة وتخلَّى عن شمس النهار وهي حائرة مبلبلة.
وعلى العكس من ذلك طربت لجرأة وشجاعة وقدرة شبابنا الجديد عندما شاهدت مسرحية نجيب سرور عن قصة «ياسين وبهية» الشعبية العريقة، فنجيب سرور لم يكتب مسرحيته بمقوماتها الفنية المعروفة بل كتب قصة شعرية طويلة غيَّر تغييرًا جذريًّا في روايتها الشعبية، وذلك بأن حدد لنا قاتل ياسين الذي تسأل عنه الرواية الشعبية في لهفة بعد أن فُجعت فيه خطيبته وحبيبته بهية؛ وذلك لأن نجيب سرور قد جزم في قصته بأن الباشا الإقطاعي المسيطر على الناحية هو الذي قتل هو وأعوانه ياسين لأنه حرك أهل القرية وقادهم لإحراق قصر الباشا انتقامًا لخطيبته وحبيبته بهية التي كان زبانية القصر يسعون لإدخالها في هذا القصر حيث ينتظرها المصير المحتوم من هتك العرض وثلم الشرف، وإن تكن هذه المحاولة هي مجرد شرارة أشعلت نار الثورة الموجودة في قلوب أهل القرية ضد مظالم الإقطاع وقسوته وجبروته.
هذه هي القصة كما كتبها نجيب سرور في قصيدة طويلة لم يتحرج الشاعر عن أن يستخدم في صياغتها أحيانًا بعض الألفاظ العامية عندما كان يحس بأنها أقدر على التعبير عما يجيش في صدره، وإن يكن الشاعر قد ارتفع أحيانًا أخرى بلغته وتراكيبه وصوره إلى ذروة الفصاحة والبيان.
وانتهت هذه القصيدة الطويلة إلى يدي شاب آخر هو المخرج الفذ كرم مطاوع، صنع ما يقرب من حد الإعجاز بإخراج هذه القصيدة في صورة درامية جديدة كل الجدة هي التي نستطيع حقًّا أن نسمِّيها بالفن الدرامي الشعبي، وذلك بأن قطع هذه القصيدة إلى أجزاء وزعها على مجموعتين من الكورس وعدد قليل من الممثلين، الذين تقمصوا دور بهية وياسين وأم بهية وأبيها وعمها ونفر قليل آخر من أهل القرية، ووُفِّق كرم مطاوع في اختيار الممثل القدير محمد الطوخي لإلقاء الأجزاء القصصية الطويلة، وكسر رتابة الإلقاء القصصي بتدخُّل الكورس ومساهمته مع رئيسه الطوخي في سرد أحداث القصة، وبنبرات الطوخي والنخبة الممتازة التي كونت الكورس تحوَّل القصص إلى انفعال درامي أحسست بوضوح استجابة الجمهور وانفعاله له.
وهكذا استطاع شبابنا أن يقدِّم بنجاح رائع قصيدة شعرية قصصية طويلة في صورة درامية جديدة لا أظن أنها مسبوقة في بلادنا أو غيرها من بلاد العالم، بل إن إلقاء الطوخي العميق المركَّز قد أنسانا ما في نص وروح القصيدة من خطابية ثورية عنيفة وكأنه يهمس من أعماقه، فضلًا عن نجاحه في إثارة خيالنا لتصور الأحداث الظالمة على نحو كان أعمق أثرًا في النفوس من المشاهدة الفعلية لتلك الأحداث فيما لو كانت هذه القصة الشعبية قد صيغت في صورة حوار ومواقف درامية بدلًا من الاكتفاء بالقصص. ويُخيل إليَّ أن نجيب سرور وكرم مطاوع قد أكدا بهذه المسرحية المبدأ الكلاسيكي الشهير الذي كان يفضِّل القصص الشعري الناجح على المشاهدة الفعلية لحوادث ومشاهد العنف والقتل والدماء.
وهكذا شاهدت قصة شعبية طوَّرها الشاعر الملتزم إلى قصة هادفة مؤثرة رغم أنها لم تُكتب كمسرحية بمقوماتها، بل كُتبت كقصيدة شعرية ثورية طويلة، ومع ذلك استطاع مخرجنا الشاب أن يقدِّمها في صورة درامية حققت هدفها في إثارة مشاعرنا ضد الظلم والظالمين من الباشوات الإقطاعيين في العهد البائد. وقد حقق كرم مطاوع بذلك ما يشبه المعجزة الفنية، وأثبت أن العبرة ليست بالأصول وبالمقومات الفنية التي يلتزم بها المؤلف، بل العبرة بثقافة ومهارة المخرج والممثلين الأكْفاء الذين يستطيعون أن يحوِّلوا القصيدة الشعرية القصصية البحتة إلى صورة درامية ناجحة مؤثرة.
وهكذا خرجت من المقارنة بين المسرحيتين وأنا أرجو من أدبائنا وفنانينا المخضرمين أن ينتقلوا مع الثورة من مرحلة الحيرة والتردد إلى مرحلة الشجاعة والالتزام والتجديد الأصيل، الذي يمكننا من المساهمة الجادة في ركب الثقافة الجديدة المتطورة المتقدمة دائمًا إلى الأمام في مضمونها وصورتها الفنية.