مسرح الحياة
ونحن نعني بمسرح الحياة مجموعة المسرحيات التي تناول فيها توفيق الحكيم جوانب من حياة الإنسان أو المواطن كفرد وكعضو في المجتمع، وهذه المسرحيات كثيرًا ما تختلط فيها العناصر النفسية بالعناصر الاجتماعية، ونقصد بالعناصر النفسية تلك العناصر النابعة من طبيعة الإنسان كإنسان في ذاته، وبالعناصر الاجتماعية تلك التي ولَّدتها في الفرد حياته داخل المجتمع، فمسرحية «أريد أن أقتل» مثلًا تجمع بين العنصرين؛ العنصر النفسي النابع من غريزة حب الحياة والمحافظة عليها، والعنصر الاجتماعي النابع من النفاق الضروري في أحيان كثيرة لحياة الأسرة كخلية اجتماعية، ففي هذه المسرحية يصور توفيق الحكيم زوجين يتبادلان عبارات المحبة والمجاملة، فيتمنى كل منهما أن يكون «يومه» قبل يوم شريكه في الحياة، وفي تلك الأثناء يفاجأ الزوجان ببنت الجيران مصابة بلوثة تقتحم مسكنهما وبيدها مسدس وتعلنهما أنها قد قررت أن تقتل أحدهما، فيأخذ كل من الزوجين في استعطافها لكي تجنبه الموت، وقد نسيا ما كانا يتبادلانه منذ لحظة من تمنِّي كل منهما أن يكون «يومه» قبل يوم شريكه، وفي النهاية تطلق الفتاة مسدسها فإذا به يُحدث مجرد صوت ودخان دون أن ينطلق منه رصاص قاتل! وواضح أن هدف توفيق الحكيم من المسرحية هو الكشف عما يظنه نفاقًا اجتماعيًّا لا يلبث أن ينهار أمام غريزة حب الحياة والمحافظة عليها، ولكنه نقد سطحي أقرب إلى الكاريكاتير المضحك منه إلى النقد الإنساني العميق، فروح التضحية ليست مستحيلة الوجود في أية بيئة.
ومسرح الحياة بوجه عام لا يخرج عن أن يكون إما نقدًا للحياة أو محاولة لبنائها، وقبل ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ كان مسرح الحياة عند الحكيم موجهًا نحو النقد، ولكن نقده للحياة لم يكن في يوم من الأيام نقدًا جريئًا عميقًا ينفذ إلى أُسس الفساد، بل كان مقصورًا على بعض النواحي السطحية التي لا تصل إلى الأسس، وذلك لسببين جوهريين: أولهما أن الحكيم قد كان دائمًا ممن يؤْثرون السلامة ويتجنبون تحمُّل مسئولية الرأي الحاسم، كما أننا لا نعرف له فلسفة اجتماعية محددة، فهو ينتمي بتفكيره إلى الطبقة البرجوازية المحافظة التي تحرص على رتابة الحياة وتفضِّل الاستقرار على التمرد والتجديد، كما يشهد مسرحه الذهني الذي تتبلور فيه أفكاره العامة كما سنرى، فهو مثلًا في مسرحية «عمارة المعلم كندوز» يصور لنا احتيال المعلم كندوز الجزار على تزويج بناته بكتابة عمارته لكل منهن حتى تتزوج ثم استردادها منها بعد ذلك لكي يكتبها لأختها حتى تتزوج هي الأخرى، وفي النهاية يجتمع أصهاره في ضجة صاخبة مضحكة ينكشف فيها الموقف. وتوفيق الحكيم يصف هذه المسرحية في فهرست «مسرح المجتمع» بأنها من أخلاق الحرب، ولكن المشكلة التي تعالجها مشكلة مزمنة في بلادنا وليست مقصورة على أخلاق الحرب؛ لأنها ترجع إلى فساد عميق كان متأصلًا في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية، وكان يدفع الزوج إلى البحث عن مال زوجته قبل البحث عن شخصيتها.
وأما بعد ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢، فقد رأينا توفيق الحكيم يصدر لأول مرة في مسرحيات الحياة التي كتبها — وهي «الأيدي الناعمة» و«الصفقة» — عن فلسفة اجتماعية محددة هي الفلسفة الاشتراكية، ويجب أن نلاحظ هنا أن توفيق الحكيم لم يكن من رواد هذه الفلسفة في يوم من الأيام وإنما أصبح من التابعين لها أو على الأقل المتأثرين بها، فهو في ذلك تابع لا رائد، وأدبه الصادر عنها يُعتبر من الأدب الذي يسمَّى «أدب الصدى» لا «أدب القيادة»، على نحو ما كان في أعقاب ثورة سنة ١٩١٩ التي أوحت إليه بقصة «عودة الروح» التي يسجل فيها بعث الشعب المصري، ويعلن عن ثقته فيه وقدرته على التقدم والنهوض إذا أتيحت له القيادة الصالحة، فهو في هذا أيضًا صدى شعري لتلك الثورة العاتية التي لم يترسب معناها الضخم في نفسه إلا بعد سنوات عدة تبلغ ثماني أو تسع سنوات.
وأيًّا ما يكون الأمر فنحن نعتقد أن مسرحيتي «الأيدي الناعمة» و«الصفقة» هما خير ما كتب توفيق الحكيم من مسرحيات اجتماعية؛ وذلك لأن «الأيدي الناعمة» توضح معنًى كبيرًا من معاني ثورتنا الاشتراكية الأخيرة، بل معنى من معاني التطور الإنساني العام في العصر الحديث، وهو أنه لم يَعُد في الحياة الحديثة مجال لمن سمَّاهم الرئيس جمال عبد الناصر المتعطلين بالوراثة، الذين كانوا يعيشون على الإقطاعيات التي نهبها أجدادهم من الشعب واحتكروا ثرواتها وسخَّروا في العمل بها أيدي الشعب الخشنة المحرومة، كما تسجل تفاهة العلوم الجدلية العقيمة التي كان يبدد فيها أعمارهم عدد من شبابنا، مثل الدكتور الذي حصل على الدكتوراه عن بحث في حرف «حتى» جعله يُعرف في المسرحية باسم الدكتور حتى، ويجد نفسه بين «الأيدي الناعمة» بعد الثورة ويصادق أميرًا سابقًا، ولا يجدان معًا بدًّا من البحث عن عمل منتج يكتسبان منه قوت حياتهما.
وأما مسرحية «الصفقة» فتصور الحالة التي كانت سائدة في الريف قبل الثورة يوم كان الفلاحون تفزعهم الأوهام من سيطرة الإقطاعيين وحرصهم على احتكار الأرض الزراعية، ففي هذه المسرحية نرى إحدى الشركات العقارية الأجنبية تقرر بيع تفتيش من أراضيها في إحدى قرى الريف فيتضافر أهل القرية على شرائه وتوزيع أرضه فيما بينهم ويجمعون لذلك المال، غير أنهم يسمعون بقدوم إقطاعي قريتهم حامد بك لزيارة القرية، فيقع في وهمهم أنه قادم لمعاينة التفتيش وشرائه من الشركة مع أنه آتٍ لأمر آخر ولا علم له بعزم الشركة على بيع تفتيشها، ويجمع الفلاحون كمية من المال ليقدموها للإقطاعي كرشوة مقنَّعة لكي يترك لهم الأرض ولا ينافسهم على شرائها، غير أن الإقطاعي لا يكاد يعلم بوجود الصفقة حتى يستيقظ جشعه فيطلب مزيدًا من المال، بل يطلب فتاة ريفية جميلة راقته بحجة حاجة أطفاله إليها، ويذعن الفلاحون لمطالبه، ولكن الفتاة تنقذ شرفها بأن تتظاهر بإصابتها بالكوليرا في منزل الإقطاعي بالقاهرة، فيخشى هذا الإقطاعي العدوى على نفسه وعلى أطفاله ويسرِّح الفتاة التي تعود إلى قريتها وإلى خطيبها، ويفوز الفلاحون في النهاية بالصفقة. وفي هذا — كما قلنا — ما يوحي بالثقة في الشعب وبقدرته على هزيمة الإقطاعيين رغم الأوهام المترسبة في نفوس هؤلاء الفلاحين، وبالرغم من الطابع الكاريكاتيري الذي يبدو في بعض أحداث هذه المسرحية، فإنها مع ذلك تبدو مسرحية إيجابية مستندة إلى فلسفة اجتماعية خيِّرة مؤيدة لفلسفة حياتنا الجديدة أو كما قلنا صدى لهذه الحياة.
•••
وفي رأينا أن خير ما كتب توفيق الحكيم من نقد واقعي لحياتنا ومجتمعنا قبل ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ لا نجده في مسرحياته، وإنما نجده في ذكرياته التي سجلها عن فترة عمله وكيلًا للنائب العام في القضاء الأهلي في طنطا ودسوق ودكرنس وغيرها، وقد صاغها في قالب قصصي استعراضي حتى في كتابه «يوميات نائب في الأرياف» حيث يصور المظالم التي كانت شائعة في بيئاتنا الريفية، ثم في كتابه «ذكريات في الفن والقضاء» الذي نشره في سلسلة «اقرأ» عام ١٩٥٣، وهو يُعتبر استمرارًا ﻟ «يوميات نائب في الأرياف»، وتصور «ذكريات في الفن والقضاء» نفس المفاسد والمظالم أو شبيهًا لها. وتأتي قيمة هذين الكتابين من أنهما يُعتبران تصويرًا على الطبيعة، وتنبع قيمة هذين الكتابين الفنية من براعة الحكيم في استخدام الحوار فيهما والاعتماد عليه اعتمادًا كبيرًا، ثم من روح السخرية والتهكم والإشفاق المغلف بالابتسام في تصوير تلك المشاهد المحزنة.