الفروض الذهنية
والكثير من مسرحيات توفيق الحكيم الذهنية يقوم على فروض فكرية يفترضها الحكيم، أو يفترضها نيابة عن القصص الدينية أو الأسطورية، ثم يأخذ الحكيم في معالجة النتائج التي يمكن أن تتولد عن هذه الفروض لو تحققت، ثم يفصل في هذه النتائج وفقًا لطبيعة نفسه ونظرته إلى الحياة وما فيها من قيم. وهذه الحقيقة الكبيرة واضحة في مسرحية «أهل الكهف» التي تفترض فيها القصة الدينية عودة أهل الكهف إلى الحياة بعد أن قضوا في كهفهم ما يزيد على القرون الثلاثة، ثم يأخذ الحكيم في عرض النتائج التي يمكن أن تتولد عن هذا البحث، ويرى في النهاية أنها ستحمل أهل الكهف على العودة إلى كهفهم. وفي مسرحية «شهرزاد» يفترض الحكيم أن شهريار قد أصبح عقلًا خالصًا وأنه قد تخلَّص من نداء القلب والجسد، ثم يأخذ في دراسة النتائج التي ستترتب على ذلك، وما سوف يصيب شهرزاد عندئذٍ من حيرة وتردد، وكأنه قد أصبح معلقًا بين السماء والأرض تتجاذبه كلتاهما. وفي «رحلة إلى الغد» يفترض أن شخصين تركا الأرض في صاروخ رسا بهما على كوكب مجهول ثم استطاعا العودة إلى الأرض، فإذا بالرحلة قد استغرقت ثلاثة قرون، وإذا الحياة قد تغيرت تغيرًا تامًّا وأصبحت شبه آلية بسبب التقدم العلمي الخارق، ثم يأخذ في دراسة النتائج التي ستترتب على ذلك والملل بل الشقاء الذي سيصيب طائفة من الناس نتيجة لهذا التطور الخطير.
وفي مسرحية «عودة الشباب» يفترض أن شيخًا عاد إلى شبابه بفضل دواء اكتشفه العلم الحديث، ثم يدرس ما يتصوره من نتائج محتملة لهذه العودة إلى الشباب، ويفضِّل في النهاية أن يعود الشيخ إلى شيخوخته وأن يلتزم مكانه في صف الإنسانية المتلاحق لا يعدوه إلى خلف ولا إلى أمام، فليس في الإمكان أبدع مما كان. وفي مسرحية «سليمان الحكيم» يفترض المؤلف أن صراعًا قد قام بين الحكمة والقوة المادية، ثم يدرس النتائج التي يمكن أن تنتج عن هذا الصراع، وإلى أي حد لا بد أن تنهزم، وبخاصة أمام قوة العاطفة القلبية في شخصية ملكة سبأ التي لم يستطع سليمان أن ينال حبها بجبروته وقوته المادية حتى ولو سخَّر في ذلك قوة الجن نفسها. وفي مسرحية «بجماليون» يفترض أن الفنان قد استجاب لنداء الحياة فتزوج من الفتاة التي أحبها، ثم يدرس بعد ذلك ما يمكن أن يتعرض له من أخطار، ويوحي إلينا في النهاية بأن الخير للفنان أن ينقطع لفنه، وألا يترك المرأة تشغله عنه أو تعكر صفو حياته التي لا بد لها من هذا الصفاء لكي يستطيع الفنان أن يبدع ويبتكر ويصيب المجد والخلود ويحقق ذاته تحقيقًا كاملًا جميلًا.
ويُخيل إلينا أن قيام كل هذه المسرحيات على فروض فكرية هو الذي يبعد بها عن حرارة الحياة الواقعية على نحو يحملنا على أن نسمِّي هذا النوع من المسرحيات ﺑ «المسرحيات التجريدية» لا «المسرحيات الذهنية» التي نجدها عند إبسن وشو مثلًا، بخاصة بعد ما أوضحناه عن طبيعة الشخصيات في هذه المسرحيات.