الإنسان والزمن: «أهل الكهف»، «عودة الشباب»، «رحلة إلى الغد»
ونستطيع أن ننظر الآن في هذه القضايا الذهنية التي عالجها توفيق الحكيم، وفي كيفية علاجه لها، والأحداث التي اتخذها هيكلًا لهذا العلاج، فنبدأ بقضية «الزمن» وصراع الإنسان له، والحكيم نفسه يحدثنا في «زهرة العمر» — كما رأينا — أن فكرة الزمن ومحاولة الإنسان التغلب عليه قد شغلته دائمًا كما شغلت من قبل الفراعنة، بل وشغلت الإنسانية كلها إزاء رهبة الموت والفناء، حتى رأينا جميع الأديان تفتح أمام الإنسان باب الأمل في بعث وحياة جديدة وإن اختلفت ديانة الفراعنة بعد ذلك عن غيرها من الديانات، فتصورت أن البعث سيكون استئنافًا لحياة الإنسان على الأرض أو لحياة شديدة الشبه بهذه الحياة الأرضية، وفي روح شعرية لطيفة يرى توفيق الحكيم أن الفراعنة لم يتصوروا جنة يُبعثون فيها خيرًا من واديهم الخصيب؛ ولهذا حنطوا الجثث، وأقاموا التماثيل في سِنِي الشباب النضر لكي تتقمصها الأرواح عند بعثها، واحتفظوا حولها بما طاب من غذاء وشراب.
وقد وجد توفيق الحكيم في تاريخ المسيحيين معجزة تصلح وعاء لفحص هذه القضية، وهي المعجزة التي تقول بأن نفرًا من المسيحيين الأوائل خشوا على حياتهم من بطش إمبراطور الرومان المتعصب للوثنية دقيانوس الذي حكم بين ٢٤٩–٢٥١م، ففروا إلى كهف ناموا فيه مئات السنين، ثم بُعثوا إلى الحياة في عصر الإمبراطور المسيحي الصالح تيدوسيوس الثاني الذي تولى عرش الإمبراطورية الشرقية فيما بين ٤٠٨–٤٥٠م، وكان بعثهم استجابة من الإله لصلاة هذا الإمبراطور الذي طلب من ربه أن يُظهره على برهان محسوس لحقيقة البعث توكيدًا لفكرته، فبعث الله أولئك الفتية.
ولقد تجادل المسلمون أيام النبي في أمر أهل الكهف بعد أن عرفوا بنبئهم من البيئات اليهودية والمسيحية التي كانت تقيم في الجزيرة أو على أطرافها، وسألوا النبي في ذلك فنزلت سورة الكهف التي تحكي قصتهم في ثماني عشرة آية ها هو نصها: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا.
ويقول توفيق الحكيم — كما رأينا — إن ما فعله هو مجرد تحوير فني لهذه الآيات القرآنية، وهذا صحيح من حيث هيكل الأحداث والشخصيات، فتوفيق الحكيم يأخذ بالرأي القائل بأن أهل الكهف قد مكثوا في كهفهم «ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا»، وإن تكن المصادر المسيحية تقول — كما رأينا من التواريخ — إنهم قد مكثوا مئتي سنة فحسب، وهي الفترة التي انتصرت خلالها المسيحية وقضت على الوثنية وأصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية الشرقية. وأما من حيث الأشخاص وعددهم فقد اكتفى توفيق الحكيم بثلاث شخصيات وردت أسماؤهم في تفسير النسفي، وهم: مشلينا ومرنوش وزيرا دقيانوس ثم الراعي يمليخا وكلبه قطمير، وأضاف إليهم الفتاة برسكا ومربيها غالياس، وأما يودوسيوس فلم يذكر الحكيم اسمه مكتفيًا بتسمية «الملك»، وهذه هي كل شخصيات المسرحية، فهو قد اعتمد إذن اعتمادًا أساسيًّا على القرآن وكُتب المفسرين، وإن يكن الحكيم قد أقحم على قصة أهل الكهف قصة مماثلة يابانية هي قصة موت الأمير أوراشيما وبعثه، وقد ساقها مفصلة في الفصل الأخير من المسرحية على لسان الفتاة برسكا في غير مقتضى ذهني أو فني.
ولا فائدة من نزال الزمن … لقد أرادت مصر من قبل محاربة الزمن بالشباب، فلم يكن في مصر تمثال واحد يمثل الهرم والشيخوخة كما قال لي قائد جندٍ عاد من مصر، كل صورة فيها هي الشباب من آلهة ورجال وحيوان … كل شيء شباب … ولكن الزمن قتل مصر وهي شابة وما تزال ولن تزال، ولن يزال الزمن يُنزل بها الموت كلما شاء وكلما كُتب عليها أن تموت.
وأما لماذا ييأس مرنوش من نزال الزمن وبخاصة بعد أن تحققت المعجزة فعاد هو ورفاقه إلى الحياة، فإننا نستطيع أن نجد الجواب على هذا السؤال المهم في المسرحية نفسها على لسان مرنوش أيضًا، بعد أن خرج من الكهف باحثًا عن بيته وزوجته وولده الذي كان قد أعد له هدية، فلم يجد بيتًا ولا زوجًا ولا ولدًا، وإنما وجد سوقًا للسلاح يقوم مكان بيته وقد مات ولده بل وأحفاده، فيئس من الحياة وغشي الحزن روحه فقال: «إن الحياة المطلقة المجردة عن كل ماضٍ وعن كل صلة وعن كل سبب هي أقل من العدم بل ليس هناك قط عدم، ما العدم إلا حياة مطلقة.» وهذه هي فلسفة الحكيم في هذه المسرحية وعليها تقوم المسرحية كلها، فالزمن عند الحكيم ليس شيئًا مجردًا بل هو محتوياته، والحياة ليست جوهرًا في ذاته بل هي مجموعة الروابط التي تربط الإنسان بهذه الحياة، فإذا انقطعت تلك الروابط ذبلت الحياة فينا وماتت وأصبحت عدمًا، وكل هذا حق ولكن موضع الضعف في هذه الفلسفة هو أن الحكيم لا يؤمن بقدرة الإنسان على خلق هذه الروابط من جديد إذا تقطعت، فالحكيم ليس من دعاة الإرادة البشرية التي لا تنهزم، وهذا هو سبب اتهام فلسفته بالسلبية بل الانهزامية على نحو ما أوضح الدكتور عبد العظيم أنيس والأستاذ محمود العالِم في كتابهما «الثقافة المصرية»، والأستاذ سلامة موسى في بعض مقالاته، ونحن لا نستطيع إلا أن نُقر هذا الرأي وبخاصة بعد أن عاد توفيق الحكيم إلى تأكيده والإصرار عليه إزاء معجزات السماء وحدها، بل إزاء معجزات العلم في مسرحية «عودة الشباب» ثم في مسرحية «رحلة إلى الغد» اللتين يصور فيهما ما يعتقد من عجز الإنسان المزعوم عن تكييف حياته من جديد وفقًا لمعجزات العلم الذي يسعى إلى قهر الموت والفناء في «عودة الشباب»، والشقاء والجهد البشري المضني في «رحلة إلى الغد».
ومن الغريب أن نلاحظ أن الحكيم قد وضع إحدى شخصيات أهل الكهف في وضع يمكِّنه من تجديد أقوى رابطة له بالحياة، وهي رابطة الحب، ولكننا نلاحظ أنه بعد أن كادت المحاولة تنجح وقفها المؤلف لكي يعود بمشلينا صاحب هذه المحاولة إلى الكهف أي إلى الموت وفي أعقابه الفتاة برسكا نفسها وهي حفيدة خطيبته القديمة برسكا، وقد اختلطت الفتاتان في نفس مشلينا ودام اللبس زمنًا طويلًا إلا أنه تبدد في النهاية واستطاع مشلينا أن يحمل برسكا الجديدة على حبه، بل ووجد فيها من مزايا الجمال والحكمة والذكاء واتساع الأفق أكثر مما كانت تملك خطيبته القديمة التي كانت تحمل نفس الاسم، وإن كنا نلاحظ أن مشلينا لم يقم بهذه المحاولة كعمل إرادي واعٍ بما يفعل، بل نتيجة للبس والوهم اللذين أشرنا إليهما، وإن تكن التجربة على أي حال قد نجحت وكان من الممكن أن يمد الحكيم في عمر مشلينا الجديد وحبيبته الجديدة برسكا بعد أن شدهما الحب إلى الحياة، ولكن الحكيم أبى إلا أن يطبق فلسفته على طول الخط فعاد بهما — كما قلنا — إلى الكهف، وإن كان مشلينا آخر من عاد إلى الكهف من أهل الرقيم.
وأيًّا ما يكون رأينا في الفلسفة السلبية فإننا لا نستطيع إلا أن نقر بمهارة توفيق الحكيم في تصويره هذه الفلسفة وتفتيق جوانبها خلال الحوار الممتع الذي يجريه بين شخصيات المسرحية، وبفضل تنويعه للألوان النفسية لهذه الشخصيات ودرجة إيمانها ونوع الروابط التي يرتبط كل منها بالحياة، ومدى قوة كل نوع من هذه الروابط، فضلًا عن الجو الشعري الساحر الذي يسود المسرحية كلها.
فبالرغم من الظاهرة العامة التي تشيع في مسرح الحكيم الذي يسمِّيه ذهنيًّا ونسميه تجريديًّا، وهي عدم نجاحه النجاح الكافي في إيهامنا بأن الشخصيات لا تعبِّر عن آرائه بل تصدر عن ذاتها؛ فإننا نلاحظ مع ذلك أنَّه قد جعل الراعي الساذج يمليخا أرسخ إيمانًا وأكثر اطمئنانًا روحيًّا من زميليه، ومشلينا ومرنوش الوزيران المثقفان يلجأان إلى التفكير المنطقي على نحو يقودهما حتمًا إلى الشك، كما نحس من الحوار السريع الذي يجري بين الشخصيات الثلاث إثر بعثهم:
الوداع! وأشهد الله والمسيح أن أموت ولا أعرف هل كانت حياتي حلمًا أم حقيقة.
مثل هذا القول لا يمكن أن يصدر عن يمليخا إلا أن تكون شخصيته قد تطورت تطورًا كبيرًا منذ بعثه في الفصل الأول حتى عودته إلى الموت بالكهف في الفصل الأخير، وهو تطور لا وجود له في المسرحية.
وأما عن تنويع الحكيم للروابط التي كانت تربط كلًّا من الشخصيات الثلاث بالحياة وتنويع النتائج التي تترتب على اختلاف هذه الروابط، فقد أظهر الحكيم في كل ذلك مهارة واضحة، فيمليخا لا يربطه بالحياة غير قطيع غنمه الذي تركه يرعى الكلأ ويحرص على أن يسرع بالعودة إليه، ثم كلبه الذي صحبه إلى الكهف ليرقد بالوصيد أي الباب. والحكيم يرى بحق أن المال هو أهون الروابط بحكم أنه غادٍ ورائح، وإن يكن الحكيم لم يرتب على هذه الحقيقة نتيجتها المنطقية عندما نراه يجعل يمليخا أسرع الجميع يأسًا من الحياة وعودة إلى الكهف بمجرد أن تيقن من أن قطيع غنمه قد أهلكته السنون، وكنا نتوقع أن يهون عليه الخطب وأن يحاول تعويض ما فقده. وأما مرنوش فقد كان يربطه بالحياة — كما رأينا — بيت وزوجة وولد كان قد أعد له هدية، ولكن تهديد دقيانوس أعجله عن حمل الهدية إلى ولده فتأبطها إلى الكهف، وكان مرنوش ثاني من عاد إلى الكهف بعد أن تحقق من زوال بيته وفناء زوجته وولده بل وأحفاده فكان يأسه سريعًا مطبقًا. وأما الشخصية الطريفة التي غمرت حياتها السريعة الجديدة بشيء من الحركة والأمل ومحاولة الارتباط من جديد بالحياة، فهي شخصية مشلينا الذي وجد في قصر الملك الجديد فتاة تحمل اسم خطيبته القديمة ابنة دقيانوس الوثني التي كانت قد تلقت المسيحية عن مشلينا وأحبته وعاهدته على الزواج، فخُيل إليه أنه أمام خطيبته التي تشبه برسكا الجديدة في ظاهر شكلها وإن اختلفت عنها في ملَكاتها النفسية، وقد تفنن الحكيم في تبرير هذا اللبس بنسخة من الكتاب المقدس وخاتم كان قد أهداهما مشلينا لخطيبته، والحوار الذي يجري على أساس هذا اللبس بين مشلينا وبرسكا الجديدة وانكشاف هذا اللبس شيئًا فشيئًا ثم انبثاق الحب في قلب الطرفين شيئًا فشيئًا؛ يُعتبر من أروع ما كتب الحكيم من حوار، وإن كنا لا ندري — كما أوضحنا من قبل — لماذا عاد الحكيم ثانيةً بمشلينا إلى كهفه رغم تجدد أقوى صلة تربطه بالحياة وهي صلة الحب، بل وجعل برسكا الجديدة تلحق به في الكهف، وإن يكن مشلينا قد كان بالضرورة آخر من عاد إلى الموت باعتبار الأمل في الحب قد أمسكه بعض الوقت في رحاب حياته الجديدة.
عودة الشباب
وعاد توفيق الحكيم مرة ثانية إلى فكرة الإنسان والزمن والصراع القائم بينهما، ولم يلجأ هذه المرة إلى معجزة دينية تنقل الإنسان من موضعه في خيط الزمن إلى موضع آخر كما حدث لأهل الكهف، بل لجأ إلى معجزة ممكنة من معجزات العلم الحديث وهي احتمال رد الإنسان من الشيخوخة إلى الشباب، أي العودة بالإنسان إلى الوراء على خط الزمن، فكان ذلك في مسرحيته التي سمَّاها «لو عرف الشباب» ونشرها ضمن «مسرح المجتمع»، وهي في الحقيقة من المسرح الذهني لا من مسرح المجتمع وإن كتب أمامها الحكيم أنها من وحي المجتمع والعلم الحديث، فهي مسرحية ذهنية لأنها تقوم كمسرحياته الذهنية الأخرى على فرض عقلي يدرس المؤلف نتائجه لينتهي إلى الرأي الذي يتمشى مع فلسفته، والذي يقول بأنه لا جدوى للإنسان في منازلة الزمن ومحاولة التغلب عليه أو الخروج من إطاره إلى الأمام أو إلى خلف، فهناك ما يشبه الجبر الحتمي الذي يُلزم الإنسان بأن يلتزم مكانه في الصف.
وكلمة «لو عرف الشباب» جزء من مثل فرنسي سائر ترجمه من قبل إلى العربية شاعرنا الرقيق إسماعيل باشا صبري بقوله:
وكان توفيق الحكيم قد كتبها باللغة الفصحى، غير أنه عندما فكرت الفرقة القومية في تمثيلها منذ عامين رئي تغيير عنوانها بحيث يتفق مع حقيقة مضمونها فأصبح العنوان «عودة الشباب»، كما أن الحكيم نفسه رأى من الأفضل أن ينقلها هو نفسه إلى العامية تطبيقًا للرأي الذي أبداه في مقدمة مسرحية «الصفقة» حيث قال إنه «إذا كان استخدام الفصحى يجعل المسرحية مقبولة في القراءة، فإنها عند التمثيل تستلزم الترجمة إلى اللغة التي يمكن أن ينقلها الأشخاص»، وهي نظرية سنناقشها في حينها مكتفين هنا أن نلاحظ أنه بالرغم من تقديم هذه المسرحية للجمهور باللغة العامية، فإن الإحصائيات الرسمية التي نشرتها الفرقة القومية في كتابها السنوي تدل على أن متوسط رواد هذه المسرحية لم يتجاوز مئتي متفرج في الليلة، بينما بلغ متوسط الرواد في كوميديا «سيما أونطة» لنعمان عاشور التي قُدمت في نفس الموسم ٤٦٦ شخصًا في كل ليلة، مما قد يعزز رأي توفيق الحكيم نفسه في أن المسرحيات الذهنية ربما كانت أصلح للقراءة منها للتمثيل في ظروفنا الحاضرة، وبخاصة إذا لم تُصِب تلك المسرحيات الذهنية ما ينبغي لها من إقناع. وليست اللغة هي العامل الوحيد في إقبال الجمهور أو إعراضه، فالجمهور أكثر انجذابًا نحو المسرحيات التي تعالج مشاكله الحيوية الراهنة الوثيقة الاتصال بحياته، بدليل نجاح مسرحية «الصفقة» جماهيريًّا أكثر من نجاح مسرحية ذهنية مثل «عودة الشباب».
وتجري أحداث هذه المسرحية في حلم سقط فيه صديق باشا رفقي الشيخ الطاعن في السن على أثر حقنة أعطاه إياها طبيبه المعالج الدكتور طلعت ضد الروماتيزم، وكان الدكتور طلعت يقوم ببحث عن تجربة دواء يعيد الشباب إلى الشيوخ وحدَّث الباشا عن هذا الدواء فودَّ الباشا أن لو جربه الطبيب فيه، وبالرغم من أن الطبيب لم يفعل فإن الباشا قد ظن أن الحقنة التي أعطاه إياها الطبيب هي حقنة إعادة الشباب، فأغفى واختلط في نفسه الحلم بالحقيقة وإذا به يعود شابًّا، ومن هنا تنطلق أحداث المسرحية في سلسلة من التطورات غير المقنعة التي يحسبها الجمهور حقيقة لا حلمًا، ويظل هذا الاعتقاد سائدًا حتى يفاجأ الجمهور في النهاية بالباشا الشيخ، وقد صحا من نومه شيخًا كما كان بعد أن أقنعته الأحداث السابقة بأن لا جدوى من محاولة العودة إلى الشباب ومغالبة الزمن، فقد كان الباشا الشيخ مرشحًا كسياسي محنك لرياسة الوزارة الجديدة، فلما عاد إلى الشباب أصبح توليه الوزارة أمرًا مشكوكًا فيه، وكانت للباشا أموال مدخرة في البنك يسحبها بشيكات موقَّعة بإمضائه المرتعش كشيخ، فلما أصبح شابًّا رفض البنك اعتماد إمضائه الجديد الثابت الرسم، بل إن زوجته لم تعرفه بعد عودته إلى الشباب رغم ما في هذا الفرض من إسراف، وصوَّر لنا المؤلف جنازة وهمية دُفِن فيها الباشا الشيخ وارتدت زوجته عليه الحداد، وكذلك ابنته نبيلة لم تعرفه شابًّا وراقتها نضرة شبابه فبادلته بعض عبارات الغزل، ولكن المؤلف يوحي إلينا بأن الباشا رغم عودة جسمه إلى الشباب فإن قلبه وغرائزه ظلت في الشيخوخة، بل والبقاء مثقلًا بتجارب السنين وبرودة العقل الناضج. وأمعن من كل هذا في عدم الإقناع ما زعمه المؤلف من أن الدكتور طلعت قد أصيب بما يشبه الخبل عندما رأى دواءه ينجح في رد الشيخ إلى الشباب، مع أن النتيجة لم يفاجأ بها الطبيب بل كان يسعى إليها جاهدًا، وكان من الطبيعي أن يفرح بنجاح تجربته ويبتهج لا أن يصاب بالخبل ويأوي إلى أحد المستشفيات التماسًا لعلاجه، وكل هذه النتائج المفترضة يلوح أن المؤلف قد أخذ يخترعها اختراعًا غير مستند إلى شيء من منطق الحياة لكي يتكئ عليها في تبرير فلسفته التي رأيناها من قبل في أهل الكهف، وهي أنه لا فائدة من نزال الزمن وأن الحكمة تقضي بأن يلزم كل منا مكانه في الصف فليس في الإمكان أبدع مما كان، وأما النتائج التي قد تبدو محتملة مقبولة كمشكلة تولي الشيخ للوزارة أو تغيير توقيعه على الشيكات، فإن حلها كان ممكنًا لولا الروح الانهزامية التي تخشى استئناف الجهاد في الحياة بروح الشباب وقطع الشوط من جديد، لو أن المؤلف كان ممن يؤمنون ويدعون إلى إرادة الحياة.
وأغرب من كل هذا أن الباشا لا يكاد يصحو من حلمه في نهاية المسرحية شيخًا كما كان ويُدعى تليفونيًّا لتأليف الوزارة، ويرتدي ملابسه الرسمية لمقابلة صاحب الأمر، حتى نراه يخر ميتًا تحت وطأة الشيخوخة، فلا هو فرح بالشباب الذي عاد إليه في الحلم وانطلق من جديد في شوط الحياة، ولا هو جنى ثمرة الشيخوخة التي كان ينتظرها بتأليفه للوزارة، وبهذا أطبقت الروح الانهزامية على المسرحية من جميع أطرافها، وكأن المؤلف يطلب من رجال العلم الحديث أن يوقفوا مسعاهم في مجالدة الزمن ومغالبة الفناء، ويحذِّر الناس من الابتهاج بمثل هذا الانتصار إذا تحقق في يوم من الأيام.
رحلة إلى الغد
وعاد توفيق الحكيم مرة ثالثة إلى الزمن وما يمكن أن يتمخض عنه العلم بعد ثلاثة قرون، وحاول أن يرسم الصورة التي يتصورها للحياة عندئذٍ في مسرحية جديدة سمَّاها «رحلة إلى الغد»، تصور فيها أن رجلين محكومًا عليهما بالإعدام خيَّرتهما الحكومة بين الشنق والسفر في صاروخ إلى أحد الكواكب المجهولة، ففضَّل الرجلان طبعًا المجازفة بالسفر في الصاروخ ما دام رفضهما سينتهي بهما حقًّا إلى حبل المنشقة، ووصل الرجلان بعد رحلة شاقة عبر الفضاء إلى الكوكب المجهول حيث رسا بهما الصاروخ، فإذا بهما فوق كوكب معدني لا يحتاج الإنسان على سطحه إلى غذاء أو شراب بل يعيش على نوع من الإشعاع، وسئما الحياة الراكدة فوق ذلك الكوكب فنهضا لإصلاح ذلك الصاروخ الذي كانت بعض أجزائه قد تلفت عند صدمة الهبوط على سطح الكوكب، ونجحا في النهاية في أن يستقلا الصاروخ ثانيةً عائدين إلى الأرض، وعند وصولهما تبيَّن لهما أن هذه الرحلة التي بدت سريعة قد استغرقت ثلاثة قرون في حساب التوقيت الأرضي، أي نفس الزمن الذي نامه أهل الكهف تقريبًا، ولم يكادا يصلان إلى الأرض حتى وجدا كل شيء فوقها قد تغيَّر، فالناس جميعًا ركود لا عمل لهم لأن الآلات التي اخترعها العلم قد كفت البشر مئونة كل عمل، ونزل الرجلان في قصر فخم به صنابير وأزرار، يفتح أحدهما الصنبور فيجري بالشاي الدافئ واللبن، ويضغط على زر فيأتيه آليًّا ما يشتهي من طعام، ووجدا البشر منقسمين إلى حزبين: حزب التقدم وحزب الرجعية، فانضم أحدهما إلى الحزب الأول وانضم الثاني إلى الحزب الآخر، ولما كانت الغلبة لحزب التقدم فقد انتهى الأمر بالقبض على المعارض للتقدم ووضعه في السجن من جديد. وواضح من هذا التلخيص الموجز أن المؤلف يصدر عن روح رومانسية حالمة في معارضته للتقدم العلمي، وزعمه أن هذا التقدم سيجعل الحياة آلية جافة تنضب فيها ينابيع العاطفة والحرارة والخيال، معتقدًا أن انعدام الصراع في الحياة لوفرة الرخاء سوف يطيح بنبض الحياة، ويحيل البشر إلى ما يشبه الآلات الصماء التي ستنهض عنهم بجميع أعباء الحياة.
وأما الأساس الذي حمل أحد الرجلين على الانضمام إلى حزب التقدم بينما حمل الآخر على الانضمام إلى الحزب المعارض عند عودتهما إلى الأرض، فقد مهَّد له المؤلف منذ الفصل الأول من المسرحية، وهو الفصل الذي قام فيه بعرض الشخصيتين أو على الأقل إحدى الشخصيتين وحدد أبعادها الروحية، فالشخصية الأولى شخصية طبيب عاطفي ارتكب جريمة قتل بالسم مسوقًا بشعور خيِّر استغلته امرأة لعوب أوهمته بأنها شقية بزوجها معذبة، وتظاهرت بحبها لهذا الطبيب العاطفي حتى أقنعته بارتكاب جريمة دس السم لزوجها ثم تزوجت منه وغدرت به، فكشفت لرجال الأمن عن جريمته في قتل زوجها الأول، مما انتهى بالحكم على هذا الطبيب بالإعدام. ومن سياق المسرحية تحس بأن هذا الطبيب هو الذي يمثل المؤلف ويعبِّر عن آرائه الرومانسية العاطفية للحالة المهتزة. وأما الرجل الآخر فمهندس مشغول بأبحاثه العلمية التي لا يتورع عن أية وسيلة تمكِّنه من الاستمرار فيها، فنراه يلجأ إلى طريقة إجرامية خطيرة في تدبير المال اللازم لأبحاثه العلمية، وتلك الوسيلة هي الزواج من السيدات الكبيرات السن الثريات ثم قتلهن تباعًا ليرث أموالهن ويستخدمها في أبحاثه العلمية، وهذا المهندس هو الذي تولى قيادة الصاروخ وصيانته وإصلاحه فوق الكوكب المجهول ورصد الحقائق العلمية التي سجلها الصاروخ أثناء رحلته، وهو رجل يكاد يكون عقلًا خالصًا لا يتطرق إليه أي خوف أو وهن عاطفي، بينما زميله مستغرق في أثناء الرحلة كلها في ذكرياته وتأملاته الفلسفية والأخلاقية وشطحاته العاطفية ومحاسبات ضميره، وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن ينضم المهندس إلى حزب التقدم، وأن ينضم زميله إلى المعارضة حزينًا مهمومًا ظانًّا أن الحياة الجديدة قد قتلت فيها الآلية كل عاطفة وكل انطلاق شعري وكل انفعالات الأمل واليأس والنصر والهزيمة والحب والبغض والصراع واليأس وبذلك ركدت الحياة وأصبحت مملة مسقمة.
في هذه المسرحية يعارض الحكيم بين حياة الحاضر وحياة المستقبل ويفضِّل كعادته الحاضر على المستقبل؛ لأنه — كما قلنا — محافظ يخشى المجهول ولا يستطيع أن يتصور المستقبل في صورة أزهى وأجمل من الحاضر، وعنده — كما قلنا غير مرة — أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وما هو كائن فعلًا، كما يعارض بين حياة العقل الخالص التي يظنها حياة المستقبل وحياة القلب التي يظنها حياة الحاضر، وكل هذه المعارضات خاطئة مفتعلة فليس من الصحيح أن للقلب حياة وسط الصراع المرير الذي يخوضه البشر الآن من أجل الحياة ووسائل الحياة، فالمجهود المضني الذي يضطر الناس إلى بذله اليوم للقيام بأود حياتهم لا يكاد يترك لهم فضلة من فراغ أو من أعصاب أو من اطمئنان يُنمُّون بها حياتهم العاطفية ويُشبعون نزعاتهم الجمالية، بينما يتوقع السديدو التفكير من البشر أن التقدم العلمي سوف يخلِّص البشر من مرارة هذا الصراع من أجل الحياة، وسوف يقلل من الجهد العضلي والعصبي الذي يبذلونه في سبيل القيام بأودهم، ويترك لهم من الفراغ وراحة النفس والبدن ما يسمح بتنمية حياتهم العاطفية وإشباع ظمئهم إلى كل ما هو جميل رائق.
هذا، ولقد ذكَّرني توفيق الحكيم في مسرحيته هذه بقصيدة طويلة، قالها أحد كبار الرومانسيين الفرنسيين في النصف الأول من القرن الماضي، وهي قصيدة «بيت الراعي» للشاعر «ألفريد دي فني» عندما افتُتح في فرنسا أول خط للسكة الحديد بين باريس وفرساي، فأخذ الشاعر يصرخ ويعول من هذا الاختراع الجهنمي، ويبكي الرحلات الشعرية البطيئة في عربات النقل البدائية، ويرى في اختراع السكة الحديد قضاء على نبع من منابع الحياة الشعرية، ويصف القطار بالغول والوحش، وينعته بأقبح الصفات، ومع ذلك ظلت القطارات تسير وتبعتها الطائرات ثم الصواريخ، ولم تجف ينابيع الشعر ولم تتحجر القلوب ولم يذر الإنسان مللًا وسآمة.
والواقع أن توفيق الحكيم في قرارة نفسه رومانسي عتيد، وهذه الروح الرومانسية هي التي تفسر وِجهة النظر التي يختارها دائمًا فيما يعرض له من قضايا الفكر، فهو يفضِّل دائمًا الحياة الحالمة المستغرقة في الفن للفن المستريحة المطمئنة الهاربة من مشقات الحياة ومجالدتها، المسترخية في حديقة أو مقهى أو العاكفة في «برج عاجي» أو حتى «مصباح أخضر»، ولعلنا نعثر على هذه الرومانسية سافرة صاخبة في الكُتب التي كتبها في صورة خواطر شخصية أو صور حياة مرت به، مثل كُتُب: «أهل الفن» و«عهد الشيطان» و«راقصة المعبد» و«زهرة العمر» و«عصفور من الشرق» و«الرباط المقدس»، بل إن دفاعه عن الفلاح المصري في بعض قصصه ومسرحياته مثل «عودة الروح» وغيرها إنما يصدر عن عاطفة رومانسية لا عن تفكير موضوعي وغوص وراء مشاكله ودفاع عن حقوقه كإنسان ومواطن، فحتى نوم الفلاح مع دوابه في مكان واحد يفسره الحكيم تفسيرًا شعريًّا رومانسيًّا بحب الفلاح للحيوان، بدلًا من أن يُظهر ما في هذا الوضع من بؤس وفقدان لكل وعي وبحث عن أسباب ذلك.