الفن والحياة: «بجماليون»
أهدى توفيق الحكيم إلى الأسطى حميدة الإسكندرانية كتابه «أهل الفن» الذي نُشر في سنة ١٩٢٤، قائلًا إنها أول من علَّمه كلمة الفن. ومن حديثه في هذا الكتاب عن «العوالم» في القاهرة و«الزمار» في الريف المصري و«الشاعر» في مونمارتر في باريس، نستشف النظرة الرومانسية التي نظر بها إلى الفن منذ مطلع شبابه في مصر ثم استمرار هذه النظرة واستفحالها في نفسه بعد ذلك في باريس، وإذا كان قد شُغف بأهل الفن في مصر وخالط أوساطهم المختلفة، فإنه اندمج في نفس البيئات في باريس حيث يعيش الفنانون للفن دون غيره غير عابئين بالحياة ومشاكلها، حتى ليزال حي الفن في باريس يعلن استقلاله عن المدينة إن لم نقل عن البلاد كلها فيطلق الفنانون عليه اسم «مقاطعة مونمارتر الحرة»، وفي كتابي توفيق الحكيم عن ذكريات باريس — وهما «عصفور من الشرق» و«زهرة العمر» — ما يوحي إيحاءً قويًّا بهذه النظرة إلى الفن التي زاد الحكيم تشبعًا بها في باريس بعد أن خالطت روحه في مصر، ثم استخدم توفيق الحكيم ثقافته ومطالعاته الواسعة في عقد عهد مع شيطان الفن، على نحو ما عقد من قبل فاوست عهدًا مع الشيطان ميفوستوفوليس وهبه به روحه مقابل تمكينه من الوصول إلى كل ما يريد من مُتع الحياة وأسرارها، وقد وصف توفيق الحكيم عهده مع شيطان الفن وصفًا شعريًّا مجنِّحًا مشعشعًا في كتابه «عهد الشيطان»، ومن هذا الكتاب نحس أن الحكيم قد نذر حياته كلها للفن أو هكذا أراد، وأقام توفيق الحكيم ترتيبًا على هذه النظرية تعارضًا أساسيًّا بين الفن والحياة، وزاد هذا التعارض في نفسه حدة تجاربه الفاشلة في طفولته وصدر حياته مع المرأة.
ولما كانت المرأة هي باب الحياة فقد أخذ الحكيم يجالد نفسه مجالدة عنيفة لكي يوصد هذا الباب، فتظاهر بعداوته للمرأة واحتقاره لها وشكه في قدرتها على السمو إلى المُثل العليا وسفه طموحها، ولكنه كان في الواقع يغالط نفسه، وظلت الحياة تناديه بصوت المرأة، وزاد هذا الصوت قوة أن التعارض المزعوم بين الفن والحياة تعارض رومانسي وهمي، فالفنان لا يستطيع أن يهرب من الحياة وما ينبغي له، وهي لا بد نافذة خلاله بأشعتها المرئية وغير المرئية، ومن ثم لم يكن للحكيم مفر من أن يتصارع الفن والحياة في نفسه، وأن يجرِّد من هذا الصراع النفسي قضية عامة يتعارض فيها الفن مع الحياة، وقد وجد الحكيم في أسطورة يونانية قديمة وعاء يعالج فيه هذه القضية، فيكتب في سنة ١٩٤٢ مسرحيته الذهنية «بجماليون».
يقول توفيق الحكيم في مقدمة «بجماليون» إن أول ما لفت نظره إلى هذه الأسطورة قد كان لوحة شاهدها في متحف اللوفر بباريس، ثم أعاد تذكيره بها فيلم عُرض في القاهرة عن قصة بجماليون لبرنارد شو، ولما كانت هذه الأسطورة تمس وترًا حساسًا في نفس الحكيم، فقد كان من الطبيعي أن تستهويه. ومن قراءة مسرحيته تحس أن الحكيم قد قرأ كثيرًا وفكَّر كثيرًا في أساطير اليونان القدماء الغنية غنى لا مثيل له بالمعاني الرمزية التي تمس جميع قضايا الحياة الكبرى وأسرارها الذهنية، وهي رموز يمكن أن تتشكل في كل نفس فنانة وفقًا لمزاجها الخاص وفلسفتها في الحياة والفن؛ ولذلك نرى رمزية هذه الأسطورة تأخذ طابعًا واقعيًّا وتلبس حقائق الحياة الحية عند كاتب يجمع بين الرمزية والواقعية مثل برنارد شو، بينما نراها تتخذ طابعًا رومانسيًّا عند كاتب كتوفيق الحكيم الرومانسي المزاج والتكوين، فتجمع مسرحيته بين الرمزية والرومانسية الشاردة.
ولم يقتصر توفيق الحكيم في مسرحية بجماليون على الشخصيتين اللتين تقوم عليهما الأسطورة القديمة، وهما النحات بجماليون وتمثال جالاتيا الذي صنعه الفنان ثم أحبه، بل أضاف إليهما شخصيات أسطورية أخرى يونانية مثل نرسيس «النرجس» الذي تقول الأسطورة القديمة إنه كان فتى جميل الخلقة مدللًا بنفسه معجبًا بجماله، فكان يطيل النظر في الغدران ليرى جماله منعكسًا فيها حتى مسخته الآلهة زهرة، هي زهرة النرجس التي لا تزال تنمو على حافة الغدران وتحني ساقها فوق صفحتها وكأنها تطل في مرآة، ثم شخصية إيسمين الفتاة الأسطورية التي عُرفت في الأدب اليوناني القديم بالحكمة والنبل، وأخيرًا الإلهين أبلُّو إله الفن وفينوس إلهة الحب.
وتجري أحداث المسرحية في الفصلين الأولين وكأن بجماليون ونرسيس شخصان مختلفان، فهذا يمثل الفنان وذاك يمثل الإنسان التافه المدلل بجماله الجسمي، وعلى هذا الأساس لا تكاد فينوس تنفث الحياة في تمثال جالاتيا العاجي فتصبح امرأة حية حتى نراها تهرب مع نرسيس الذي كان بجماليون قد أقامه حارسًا على تمثاله، وذلك بينما يخبرنا المؤلف في الفصل الأخير من مسرحيته أن نرسيس إنما هو مجرد رمز للجانب الإنساني في الفنان، بينما يرمز بجماليون إلى النزعة الفنية الخاصة في الفنان، وكأن الشخصيتين تمثلان النزعتين المتصارعتين داخل المؤلف نفسه أو داخل كل فنان من النوع الذي يصوره المؤلف، فهرب جالاتيا مع نرسيس معناه أن المرأة تفضِّل الرجل على الفنان، وأنها لا تطيق صبرًا على اشتغال الفنان عنها بفنه وبخاصة الفنان المعتز بهذا الفن والذي لا يعدل به شيئًا في الحياة لأنه خلق خالد بينما المرأة فانية معرَّضة لعوادي الدهر التي لا بد أن تُذبل جمالها بل أن تفنيه، وبالفعل يضيق بجماليون بجالاتيا المرأة الحية حتى بعد عودتها إليه واستغفارها له وتوكيدها أنها لم تَعُد المرأة الطائشة، بل أصبحت تقدس زوجها الفنان وتُقر بعظمته وخلوده اللذين لا يقلان عن عظمة وخلود الآلهة نفسها؛ لأن الفنان يخلق الجمال المطلق الخالد بينما يخلق الآلهة البشر المشوبين بأنواع من القبح والضعف والتعرض للفناء، ففي الفصل الأخير نرى جالاتيا تعود إلى زوجها لتقوم على خدمته كما تفعل الزوجات، ولكن رؤية الفنان لها وفي يدها مكنسة تحطم الصورة الرومانسية الشعرية التي لديه عن المرأة المعشوقة، وكأنه يريد المرأة مجرد صورة لا حقيقة حية واقعية، بل مجرد حلية، وتبلغ به خيبة الأمل حدًّا يتناول معه المكنسة من يد جالاتيا لينهال بها على رأس التمثال، بعد أن استجاب أبلُّون إلى دعائه فحوَّل جالاتيا تمثالًا عاجيًّا كما كان أول الأمر. وأكبر الظن أن بجماليون لم يحطم تمثاله لخيبة أمله المزعومة في المرأة فحسب، بل انتقامًا من ذلك التمثال الذي حرك بجماله غرائز الحياة في نفسه فجعله يشتهي المرأة ويطلب إلى فينوس نفث الحياة فيه، وبذلك تتمخض المسرحية عن مغزاها الرومانسي وهو أن الحكيم لا يعارض بين الفن والحياة فحسب، بل ويفضِّل الفن على الحياة والوهم الرومانسي على الواقع الحي.
والظاهر أن حرص توفيق الحكيم على «السيمترية» هو الذي دفعه إلى إقحام شخصية إيسمين على هذه المسرحية، فدورها يكاد يقتصر على محاولة عابرة لإخصاب روح نرسيس الضحلة التافهة، وكأن المؤلف يريد أن يقول لنا إن المرأة حتى ولو كانت نبيلة حكيمة فاضلة لا تصنع من الإنسان التافه شيئًا، بينما تستطيع جالاتيا المرأة أن تُفسد على الفنان الموهوب حياته وتبدد أحلامه وتعوق ملَكاته الخلاقة. وفي اعتقادنا أن حذف شخصية إيسمين لا يُفقد المسرحية شيئًا، بل لعله يزيدها تركيزًا وإحكامًا في البناء، وبخاصة أن المؤلف قد عالج وجهتي النظر علاجًا ضافيًا مسهبًا في الفصل الأخير عن طريق الحوار شبه الجدلي الذي يُجريه بين نرسيس وبجماليون حول دور المرأة في الحياة عامةً وحياة الفنان خاصةً، وهي القضية التي حلها توفيق الحكيم بنفسه ولنفسه في حياته الفعلية بزواجه في سنة ١٩٤٦ وإنجابه طفلين دون أن يشل الزواج ملَكاته الخلاقة، بل لعله أخرجه من التردد بين الفن والحياة وعشق الفن للفن، حتى كانت ثورة سنة ١٩٥٢ بفلسفتها الاشتراكية الواقعية الجديدة فتم تحرر توفيق الحكيم من نفسه وتعاطفه مع الحياة واشتغاله بقضاياها العامة، فأخذ يكتب المسرحيات الشعبية الحياة مثل: «الأيدي الناعمة» و«الصفقة»، بعد أن كتب في سنة ١٩٥٥ مسرحية «إيزيس» التي استوحاها من أساطير الفراعنة القدماء، وصوَّر فيها الصراع بين الخير في الحياة العامة وما يمكن أن يؤدي إليه التضليل السياسي من حمل الجماهير أحيانًا على مناصرة الشر ضد الخير، وإن كانت الغلبة لا بد أن تكون في النهاية للخير على الشر.
وعلى أية حالة فتلك كانت نظرة الحكيم إلى الفن والحياة في سنة ١٩٤٢، وهي نظرة رأينا بذورها عند الحكيم منذ حداثته الأولى وخلال تجاربه في الحياة والمؤثرات الثقافية التي خضع لها، بينما نرى نفس الأسطورة تتحول إلى رموز تلبس الواقع وتجلو حقائقه عند أديب آخر مثل برنارد شو، الذي تختلف حياته وما خضعت لها من مؤثرات اختلافًا جوهريًّا عن حياة توفيق الحكيم، فبجماليون في قصة شو لم يَعُد نحاتًا بل أصبح أستاذًا أرستقراطيًّا في جامعة لندن يلقى في عُرض الطريق فتاة من عامة الشعب تبيع الزهور تروقه ملاحتها وحُسن استعدادها، فيلتقطها من الشارع ويأخذ في تهذيبها وتلقينها لغة الأرستقراطية وطريقة نطقها، وما يزال بها حتى تصل إلى أرقى مستويات فتاة الصالونات اللندنية، وكأن الأستاذ الأرستقراطي قد خلق هذه الفتاة خلقًا جديدًا أو من العدم، كما نحت بجماليون في الأسطورة جالاتيا من العدم، وعلى نحو ما أحب بجماليون تمثاله لأنه من صُنعه وجزء من نفسه وامتداد لذاته، نرى الأستاذ الجامعي الأرستقراطي يحب بائعة الزهور التي أعاد خلقها ويصل حبه إلى حد الرغبة في الزواج منها، ولكن الفتاة التي لم يرُقها فيما يبدو تفاهة حياة الصالونات الأرستقراطية وما فيها من خزي ونفاق؛ ترفض هذا الزواج وتفضِّل أن تتزوج من سائق تاكسي تحس بأنها ستعثر معه على السعادة والتفاهم في الحياة.
وهكذا اتخذ برنارد شو من أسطورة بجماليون وعاء صب فيه فلسفته الاشتراكية الفابية، التي ترى أن الفوارق القائمة بين طبقات المجتمع ليست إلا فوارق مصطنعة يسهل تحطيمها إذا أتيحت لأبناء الطبقة الشعبية الظروف التي تمكِّنها من رفع مستواهم الحضاري وصقل ظاهرهم، وكما دل على أن عقلية الطبقة العليا ليست خيرًا من عقلية الطبقة الدنيا ولا طبيعتهم أنقى من طبيعتها، بل وفضَّل في النهاية حياة هذه الطبقة المتواضعة على حياة الطبقة العليا بحمله بائعة الزهور التي تحضرت على تفضيل سائق التاكسي دون أستاذ الجامعة الأرستقراطي كزوج لها وشريك لحياتها.
ونخرج من المقارنة بين بجماليون الحكيم وبجماليون برنارد شو إلى أن بجماليون الحكيم ما هو إلا صورة من خالقه الفنان الرومانسي الحالم في برجه العاجي بعيدًا عن معركة الحياة، الخائف من رذاذها المتهيب للمرأة كباب للحياة، بينما بجماليون شو صورة لمؤلفه الاشتراكي الواقعي الذي خاض معارك الحياة العامة مع جماعة الفابيين واشتغل بالسياسة الفعلية الإيجابية وبشئون المجتمع قبل أن يتفرغ للفن، وقد حمل معه إلى محراب الفن دروس حياته الشاقة التي خاضها في صدر حياته فعرف حلو الحياة هينة رخاء، على أن توفيق الحكيم الذي انغمس في الفن الخالص منذ حداثته الأولى، لم يستطع أن يلمس واقع حياة مجتمعه عن قرب إلا عندما زجت به الظروف زجًّا في عُباب هذا الواقع على نحو ما حدث في الفترة التي عمل فيها وكيلًا للنائب العام في القضاء الأهلي، وخرج منها بكتابيه الواقعيين: «يوميات نائب في الأرياف» و«ذكريات الفن والقضاء»، أو جرفه تيار الحياة العامة إلى «الأيدي الناعمة» و«الصفقة».