الفكرة العبقرية!
أثارت مخاوف «برقوق» ارتياح الشياطين … فقد أصبح متعاطفًا مع المنظمة وأهدافها ورسالتها.
لقد طمأنه «أحمد» لأن كل الطرق المؤدية إلى المقر مراقبة عن بُعد … ولم تسجل أيًّا من أجهزة المراقبة أو الرصد اختراقًا لحدود المقر الأمنية.
وعليهم الآن أن يتفرغوا للانتهاء من هذه المهمة … وتحديد هوية «حصان طروادة» الذي سيتسلل الشياطين عبره إلى الجبَّانة.
كان «أحمد» يتابع «ريما» منذ وقت ليس بالقصير دون أن تلاحظ … أما هو فقد لاحظ أنها مكثت شاردةً لفترة طويلة وهو ما لا يحدث عادة … فظن بها خيرًا، وتمنى أن تكون عند حسن ظنه … فسألها سؤالًا مباغتًا بقوله: هل وصلت للحل؟!
فانتبهت له وقالت: نعم الحل في المومياوات.
انتفض «أحمد» واقفًا … وصاح في أصدقائه يطلب منهم الهدوء … ﻓ «ريما» تقول كلامًا غير تقليدي … وعاد يقول لها: أكملي يا «ريما».
خرجت «ريما» من شرودها وأكملت قائلةً: إن «حصان طروادة» المناسب لنشاط هؤلاء الرجال … والمناسب للمكان المقيمين فيه هو المومياوات … وتماثيل الفراعنة.
صاح «بو عمير» معترضًا فهو حل تعجيزي … فمَن ذلك الذي يستطيع الوصول إلى صُنع مومياء تخدع هؤلاء المتمرسين … وكيف سيُعطيها البُعد الزمني لمومياوات ما قبل التاريخ وعلَّق «عثمان» قائلًا: إنه حل خيالي للغاية يا صديقي «أحمد» … فهل عندك استعداد لأن تنام في إحدى هذه المومياوات لساعات طويلة أو قصيرة.
لم يعلِّق «أحمد» … فقد شعر أن هذا الحل غير التقليدي … فجَّر عند زملائه طاقةً مُثمِرة … تبدأ بالاعتراض … وستنتهي لحل أكيد.
ورغم تعاطف «إلهام» مع هذا الحل غير التقليدي ومع صاحبته، فإنها ترى أنه غير واقعي مع كل ما يثيره من مستحيلات، في براعة صنع هذه المومياوات وتقنية الوصول بظاهرها إلى عُمر زمني يجاوز الألفَي عام … حتى ولو كانت هذه الخدعة لساعات … مع خطورة النوم داخل تلك المومياوات مع صعوبة إقناع هؤلاء الرجال المتمرسين بأن جبَّانة واحدة خرج منها كلُّ ذلك العدد من المومياوات … وغيره الكثير.
لم يلُمْ «أحمد» أحدًا من زملائه على عدم التحمُّس للفكرة … فهو نفسه حتى الآن لا يعرف كيف سيلملم كل هذه التفاصيل … غير أنه تعوَّد على أن كل فكرة عبقرية تستحق الخوض في تفاصيلها حتى ولو كانت نسبة معقوليتها ضئيلة للغاية.
فقال لهم: هل يمكننا أن نناقش مدى معقولية الفكرة؟
اندفع «مصباح» يقول: ليس بها نسبة معقولية بالمرة.
غير أن «باسم» قال: إنها لن تكون أغرب ولا أخطر من ارتداء حزام ناسف لتفجيره في موقع أمني للعدو.
- أولًا: إعداد المومياء لن يكون مستحيلًا أمام ما تتمتع به معامل وورش المقر … ومراكز معلوماته من تقنيات.
- ثانيًا: إضفاء البُعد الزمني عليها … ليس بالمستحيل … وقد حدث من قبل في عمليات تزوير شهيرة … ولا يُمكن أن تُكتشَف إلا بأجهزة فحص حديثة وخبراء ذي علم … وهذا لا يتوافر لهؤلاء الرجال.
وهنا تدخل «أحمد» قائلًا: ونحن لا نحتاج لوقت طويل لإنهاء العملية … بل كلها بضع ساعات … لن يتمكنوا فيها من اكتشاف الخدعة.
وكان ﻟ «قيس» ما يقوله … فتحدث قائلًا: أما عن النوم داخل المومياء واحتماله … فهذا ممكن … أولًا بتوفير تقنيات حديثة تُمكِّننا من التنفُّس والحصول على حاجتنا من السوائل في الطوارئ … وهنا تدخَّل «أحمد» قائلًا: يُمكن بسهولة توفير الأكسجين لفترة طويلة وكذلك درجة الحرارة المناسبة والتدليك المستمر لعضلات الجسم … كل هذا بواسطة أجهزة صغيرة للغاية.
بدأت الفكرة تبدو أكثر معقولية للشياطين … وبدأت نبرة الاعتراض العالية تهدأ … وهنا طرح «أحمد» رؤيته في أن يعرضوا طلباتهم هذه على مركز بحوث المقر … وعليهم بعد ذلك انتظار النتيجة التي سيترتب عليها إما استكمال العملية للنهاية أو البحث عن «حصان طروادة» آخَر … أو إلغاء فكرة «حصان طروادة» هذه تمامًا.
وبالفعل قام الشياطين جميعهم بإعداد تقرير وافٍ عن الفكرة … وأعدوا منه عدة نسخ … كان من نصيب إدارة الدراسات الأمنية نسخة … ومركز بحوث المقر نسخة … وأرسلوا إلى قيادة المنظمة نسخة.
وفي الثامنة من مساء نفس اليوم … قام رقم «صفر» باستدعائهم عبر ساعاتهم فتوجهوا إلى قاعة الاجتماعات الصغرى … فوجدوا أجهزة الكمبيوتر دائرة وشاشاتها مُضاءة.
وما إن جلسوا جميعًا خلفها … حتى أعطى «أحمد» التمام لرقم «صفر» فتغير لون الشاشة … وتحولت إلى مربعات متداخلة … بدأت ترسم وجه رقم «صفر» غير مُحدَّد الملامح … وسمعوا أخيرًا صوته يقول لهم: مساء الخير عليكم!
لقد سبق ووعدتكم بأن الخطة العبقرية التي ستعرض عليَّ سأدعمها أنا والمنظمة بكل أنواع الدعم … ولن نبخل عليها بشيء.
وقد حدث وعرضتم علينا فكرة غير تقليدية … ورغم نسبة المخاطرة العالية بها … فإنها قابلة للدراسة … والتأمين … وتقليل المخاطر.
ونحن بدورنا سندعمكم فيها جيدًا … ويكفي أن تعرفوا أن قيادات أمنية وسياسية كبيرة في البلد تُقدِّر لكم هذا الجهد … وتقف خلفكم بكل قوة … وقد حصلنا على وعد ﻟ «برقوق» بإسقاط جميع التهم المنسوبة إليه … واستخراج صحيفة حالة جنائية له نظيفة تمامًا … بل والاستعانة به بعد ذلك كعميل للمنظمة.
الآن عليكم استكمال الخطة … وغدًا مساءً سوف يُبلغكم مركز بحوث المقر والإدارة الهندسية بالنتيجة التي وصلوا إليها … وفقكم الله … إلى اللقاء!
وهكذا أصبحت الفكرة العبقرية ﻟ «ريما» تحظى بحفاوة الجميع … وأصبحت «ريما» أكثر أعضاء الشياطين رقة وبراءة … ومحط أنظار زملائها وقياداتها في المنظمة وهذا دافع جيد للباقين للإجادة والإبداع.
كانت الكاميرات في هذه الأثناء تنقل ما يدور في منطقة الجبَّانات المهجورة … فهذه المنطقة قد تم استخراج ما بها من آثار … وأُهملت منذ زمن بعيد، غيرَ أن نشاط مهرِّبي الآثار هناك يُنبئ عن أن هذه المنطقة ما زالت تعج بالآثار … وما زال بها الخير الكثير.
ولفت نظر «أحمد» بعض الأوعية التي صُنعت من سعف النخيل وقد رآها تنتقل بين أيدي الرجال كثيرًا في هذه المنطقة.
وقد أثاره تفاوت أحجامها تفاوتًا للاستفهام.
والإجابة الوحيدة عن هذا الاستفهام … هي أنها تُصنع مناسبة لحجم التماثيل أو القلائد أو اللوحة الجدارية المراد تهريبها دون أن يدري أحد … فهذه الأوعية أو السلال … تُصنع خِصِّيصَى لتعبئة البلح … وأهل «مطروح» معتادون أن يروها.
كانت هذه معلومة مُهمة تستحق الاتصال برقم «صفر» … وليُصبح المسرح مُعَدًّا إعدادًا جيدًا للانتهاء من هذه المجموعة التي تُعَدُّ أخطر عصابة لتجارة وتهريب الآثار.
غير أنه آثَر أن ينتظر لحين اجتماع رقم «صفر» بهم في مساء اليوم التالي … فالأمر ليس بهذه العجلة.
وفي اليوم التالي … تحدَّث «أحمد» كثيرًا مع «برقوق» عن طريقة هذه العصابات في نقل الآثار والتحرك بها … ونوع السيارة التي سيحتاجونها لذلك … وكيف سيتم الاتصال بهم لعرض الآثار عليهم.
- أولًا: يجب دفن المومياوات في الرمال في منطقة آمنة … أو تبدو لهم كذلك.
- ثانيًا: يجب أن يبدو علينا الحذر والحرص الشديد ونحن نعرض عليهم، ولا نريهم كل المومياوات مرة واحدة.
فقال «أحمد» مُعقِّبًا: هذا يعني بقاءنا تحت الرمل لفترة طويلة مما يُعرضنا لخطر الاختناق … فقد لا يكفي ما لدينا من أكسجين.
برقوق: لن ينام أحد في التابوت إلا بعد الاتفاق على شرائه وتحديد موعد تسليمه.
أحمد: ومَن سيعرض هذه التوابيت للبيع؟!
وكانت مفاجأة سارة ﻟ «أحمد» حين قال له «برقوق»: أنا الذي سأعرضها.
في مساء نفس اليوم قام رقم «صفر» بالاتصال ﺑ «أحمد» وأبلغه أنهم تمكنوا من صُنع تابوت لوزير فرعوني … اكتُشفَت جبَّانته فارغة منذ عشرات السنين … وقد زوده بكل التقنيات التي تساعد النائم بداخله على المكوث لأربع ساعات لا أكثر … ويتم فتحه من الداخل بقفل إلكتروني.
واستجابةً لطلب «أحمد» تم إرسال أربع صور له بها أربعة توابيت كان «برقوق» قد طلبها منه لعرضها على التجار.
وفي صبيحة اليوم التالي خرج «برقوق» وحده مصحوبًا بثقة الجميع … وبأنه لن يخون ويبيعهم لهؤلاء المهربين.
خرج «برقوق» ومعه صور لبعض التوابيت ليعرضها على سماسرة يعرفهم هو … وهؤلاء السماسرة لهم علاقة بعصابة الجبَّانة.
ومرت ساعة وساعتان … ولم يأتِ «برقوق» وانتصفت الشمس في السماء … ولم يأتِ «برقوق».
فهل خانهم «برقوق»؟
ورغم أن «أحمد» يعرف كيف يتجنب التوتر … فإن زملاءه رأوه في هذا اليوم متوترًا للغاية … فكل ما يشغل الأجهزة الأمنية ومراكز بحوث المقر والمعامل والورش … يتوقف على مدى صدق وأمانة هذا الرجل … فهل سيصدق أم سيضع مستقبل «أحمد» في مهب الريح.
لم يكن من الحكمة ترك «برقوق» يتحرك دون رقابة ومتابعة … أو تحييده إلكترونيًّا … بزرع شرائح لا يمكنه نزعها وحده تمكنهم من سماعه، هكذا ظل «أحمد» يلوم نفسه حتى اقتربت الشمس من المغيب … فقام بالاتصال برقم «صفر» وأخبره أن العملية كلها قد تتعرض للإلغاء … وحكى له عن سبب قلقه … وقبل أن يبدي رقم «صفر» رأيه فيما رواه له … كان «برقوق» يقف أمامه ويحييه تحية عسكرية شعر «أحمد» منها أنه نجح في إتمام مهمته … فأبلغ رقم «صفر» بذلك … فطلب منه إعادة الاتصال لاحقًا … وتمنى له التوفيق.
اصطحب «أحمد» «برقوق» إلى غرفة خاصة شديدة الهدوء قليلة الأثاث … مُضاءة جيدًا … فأجلسه أمامه على مقعد مقابل لمقعده … وكانت بينهما مائدة وُضع عليها جهاز تسجيل إلكتروني في حجم عُلبة الكبريت … وقد ظنه «برقوق» محمولًا متطورًا.
وبدأ يسأله «أحمد» قائلًا: هل قابلتهم؟
برقوق: نعم!
أحمد: كم كان عددهم؟!
برقوق: اثنان!
أحمد: ولماذا تأخرت؟
برقوق: لأنهم كانوا في «القاهرة» ولم يحضروا إلا في منتصف النهار.
أحمد: واتفقتم؟
برقوق: لا … فالاتفاق سيكون مع أحدكم … وسيكون الحديث عن ملايين الدولارات.