الفصل الأول
ظاهرٌ من عنواني هذا أَني لا أَعني إلا العرب من شعراءِ اليهود، فلست أعني غيرهم من الشعراءِ في غير العربية كالعبرية وغيرها من سائر اللغات.
وربما كانت لي كلمة يومًا من الأيام على شعراءِ العبرية من اليهود؛ فهي والعربية عندي بمنزلةٍ علمًا ومعرفةً.
وشعراءُ العربية من اليهود على ما نعلمه قليلون أو أقلُّ من القليل، فغير معروف لنا منهم إِلا شاعران اثنان: السموأَل، وابن سهل.
ولكننا بالبحث والاستقراء نجد أنَّ لليهود من شعرائهم العرب شعراءَ آخرين غير هذين، هم: الربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيال أو أبو الزناد، ودرهم بن زيد، وسعية أو شعبة أخو السموأل، ثم آخرون غير هؤلاء رأينا بعض أشعارهم، ولم يذكر المؤرخون مَن هم.
ولا بدَّ لنا أن نفهم أن هذه القلَّة من شعراءِ اليهود العرب مع ذلك ما هي إلا أَثر من كثيرٍ أشبه بالأُمَّة الإسرائيلية نفسها، فقد كانت أكبر منها اليوم، وما بقي فبقية.
فكما ناوأَ الدهر وقومه اليهود مضايقةً ومطاردةً واعتداءً بالقتل وغيره، أصاب منهم ذلك شعراءَهم بالجملة.
وكأَني هنا بحضرة الأستاذ الفاضل طه حسين وهو يقول: «إِنَّ لليهود في الأدب العربي أثرًا كبيرًا جنى على ظهوره ما كان بين العرب واليهود.»
والشعراءُ في كل أمَّة ليسوا بالعدد الذي يوصف بالكثير، ومن باب أولى الأمم الصغيرة بالنسبة إلى غيرها كأمَّة بني إسرائيل.
وليس اليهود أقلَّ من غيرهم تحليقًا في سماءِ الخيال وتصويرًا للمعاني تصويرًا فنيًّا جميلًا، إِنْ لم نَقُلْ إِنهم قد يمتازون عن كثيرين غيرهم من الأمم الراقية في كثير منَ المواهب العقلية.
يضاف إلى ذلك ما يغلب على الظن من أنَّ اليهود في بلاد العرب كانوا — كما قال الأستاذ أبو ذئيب — على غير اتصال بإخوانهم في البلاد الأخرى إلى أن بادوا وبادت آثارهم معهم.
وما كان لأمَّة مُضطهَدة كبني إسرائيل يعمل السيف في رقابهم ظلمًا وعدوانًا، ويُعتدى عليهم في دورهم اعتداءً، ويُجلَوْن عن مساكنهم إجلاءً — ما كان لأمَّة كهذه أن يكون لها في مثل هذه الخطوب إفاقة فكرية، فتهتم بجمع ما يكون لديها من قصائد أو أبيات لشعرائها تأخذها معها حين الجلاء.
وما كان ليعني أمَّةً أخرى غالبة لليهود على أمرهم أن تحتفظ بذكر ما لهم من شعراءَ أو بما لشعرائهم من أشعار.
وما حفظ التاريخ لهم مع ذلك ما حفظه على لسان غيرهم إلا لحادثة مشهورة تغلَّب الدهر على نسيانها كالسموأل، أو لأنَّ الشاعر أسلم مثلًا كابن سهل، ولم نَرَ فيما حفظه لشعرائهم في الجاهلية إلا اليسير القليل، ولا يجوز أن يكون كلَّ ما لهم.
واضطهاد الأمم لليهود لا يحتاج إلى بيان أو تدليل، بل يمكن أن يقال إنَّ ما ذُكِر اليهوديُّ إِلَّا وذُكِر معه الاضطهاد إلى عهد قريب.
ومع ذلك فإنَّا نورد هنا حادثة من الحوادث يشهد بها التاريخ ولا يستطاع إنكارها بحال من الأحوال وقعت على اليهود في يثرب، وكان يقطن بها منهم كثيرون، وكانوا والعرب هنالك لغة عربية واحدة فصحى، وكانت فيهم كما كان لغيرهم ملكة الشعر حتى النساء.
إِنَّ الأوس والخزرج كانت بالمدينة في جَهْد وضيق في المعاش ليسوا بأصحاب إبل ولا شاءٍ؛ لأنَّ المدينة ليست بلاد نعم، وليسوا بأصحاب نخل ولا زرع، وليس للرجل منهم إلا الأغداق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موات، والأموال لليهود، فلبثت الأوس والخزرج بذلك حينًا، ثم إن مالك بن العجلان وفد إلى أبي جُبَيْلة الغسَّاني، وهو يومئذٍ ملك غسَّان، فسأَله عن قومه وعن منزلتهم، فأخبره بحالهم وضيق معاشهم، فقال له أبو جبيلة: والله ما نزل قوم منا بلدًا إِلا غلبوا أهله عليه، فما بالكم؟ ثم أمره بالمضيِّ إلى قومه، وقال له: أَعلمهم أني سائر إليهم. فرجع مالك بن العجلان فأخبرهم بأمر أبي جبيلة، ثم قال لليهود: إنَّ الملك يريد زيارتكم فأَعدُّوا نُزُلًا. فأَعدُّوه، وأقبل أبو جبيلة سائرًا من الشام في جمع كثيف حتى قدم المدينة فنزل بذي حُرُض.
هذه هي الحادثة أولًا وثانيًا، ومنها يُفهم كم قُتل من اليهود خيانةً وغيلةً، فقد كان بالمدينة منهم بنو عكرمة، وبنو ثعلبة، وبنو محمر، وبنو زغور، وبنو قينقاع، وبنو زيد، وبنو النضير، وبنو قريظة، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو الفصيص — وفي رواية: القصيص بالقاف.
ولا بدَّ أَن كان منهم — كما قدمنا — من كان من الشعراءِ، والمقام مقام مثول بين يدي الملك له ما له من واجب الترحيب والإكرام والمدح والثناءِ بالشعر والشعراءِ.
وقد رثت اليهودَ امرأةٌ منهم شاعرة هي سارة القريظية بقولها:
والجأْوى: الكتيبة يعلوها السواد لكثرة ما عليها من الدروع. والرداح: بمعنى الشديدة القوية؛ أي لو أنهم كانوا على بينة من الأمر لكانت لهم الغلبة والفوز من الإِرْب بمعنى الدهاءِ والنكر والخبث، أو من الإرباءِ بمعنى الزيادة والكثرة؛ أي التفوق، أو من الرَّبَا بمعنى العلوِّ والارتفاع والإشراف والعلم؛ أي لو أنهم كانوا على وجه الأرض لا في حائر منها، أو ربأوا بالأمر — علموا به — ولعلَّ هذا كان الأصل في الشعر وحُرِّف.
ولعلَّه لولا علاقة هذا الشعر بالحادثة ما ذكره التاريخ، ولا أنه لشاعرة يهودية، وإذا كان باليهود نساءٌ شاعرات كما ترى، فماذا كان حال الشعر من الرجال؟
وقال رجل من اليهود لمالك بن العجلان يؤنبه على ما فعل:
ولم يذكر التاريخ من هو هذا الشاعر في اليهود، وردَّ عليه مالك بقوله:
فلم يرَ مالك ردًّا عليه إلا كونه يهوديًّا، كأَنَّ اليهودية معرَّة، ولولاها ما عرف التوحيد، ولما جاءَ مصدقًا لها غيرها من سائر الأديان والعهد عهد الجاهلية قبل الإسلام عرف اليهود ربَّهم، ولم يعرفه غيرهم من العرب بعد.
ولم يكن اليهود مع إخوانهم العرب إلا كرماءَ أُولي فضل عليهم وإحسان إليهم، يكرمون الضِّيفان ويشبعون الجوعان، وليس أدلَّ على ذلك من شهادة العباس بن مرداس الشاعر ابن الخنساءِ، فقد قال يردُّ على خوَّات بن جبير حين هجا بني قريظة وبني النضير:
والمسغب: من أسغب يسغب، دخل في المجاعة أو مع التعب والعطش.
وقال يرد عليه أيضًا إنكاره رثاءَه لليهود: إنهم كانوا أخلائي في الجاهلية، وكانوا قومًا أَنزل بهم فيكرمونني، ومثلي يشكر ما صُنع إليه من الجميل (انظر هنا الأغاني الجزءَ الثالث عشر الوجه ٧٠).
وقد أَتيت على وصف تلك الحادثة بقصيدة جمعت فأَوعت مخاطبًا بها أبا جبيلة وهي: