الفصل الثاني
بيَّنَّا في الفصل الماضي كيف أنَّ اليهود كانوا مبتلين بالدهر وأهله، وكيف أنَّ هذا البلاءَ أنحى على شعرائهم العرب، وعلى آثارهم في جملة إنحائه على اليهود عامَّةً.
والآن نبيِّن أنَّ البلاءَ لم يترك حتى البقية لهم من شعرائهم العرب وأشعارهم، فأَراد غرماؤهم أن يذهبوا بهذه البقية إمحاءً لنسبتها إليهم أو سلخًا لها عنهم.
فهذان بيتان اختلفت الروايات في صاحبهما وهما:
فقد ورد بالأغاني بالجزء الثالث بالوجه ١٢ أنه قيل: إن الشعر لسعية بن السموأَل، وقيل: إنه ليزيد بن عمرو بن خباب، وقيل: إنه لعامر المجنون. ثم قال الأغاني: والصحيح أنه لغريض — يعني السموأل أو ابنه سعية.
ويزعم الأب لويس شيخو اليسوعي أن الشعر من جملة قصيدة لورقة بن نوفل من شعراءِ النصرانية.
وليس أدلَّ على أنَّ الشعر ليهوديٍّ من الحديث النبويِّ؛ فعن عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله ﷺ وأنا أتمثل هذين البيتين، فقال: «ردِّي عليَّ قول اليهودي قاتله الله، لقد أتاني جبريل برسالة من ربي: أيَّما رجل صنع إلى أخيه صنيعةً فلم يجد له جزاءً إلا الثناءَ عليه والدعاءَ له فقد كافأَه.»
ومع كون الشعر ليهوديٍّ بهذه الشهادة النبوية، فقد نطق بمثل ما نزل به الوحيُ بعدُ كما ترى (انظر أيضًا الأَغاني الجزء الثالث الوجه ١٩).
وهذا السموأَل حاول الأب شيخو المذكور وغيره أَن يثبت أنه نصراني لا يهودي، فتقوَّلوا عليه من الشعر ما لم يقُلْه، وفيه ذِكر الحواريين ومتَّى والمسيح.
ولا ضرورة لأن ننقل هنا ما تقوَّلوه عليه من الشعر، ونبين فساد نسبته إليه وما ناقضوا به أنفسهم في محاولتهم إثبات نصرانيته وجحودهم يهوديته، فحسب الطالب أَن يرجع إلى نسخة ديوانه المطبوع ببيروت سنة ١٩٢٠ للأَب لويس شيخو اليسوعي، فبقليل من التمعُّن الحرِّ فيه يرى فساد ما تقوَّلوه، وبطلان ما حاولوه، ويبدو للعين مع ذلك تناقضهم وتضاربهم في القول.
وإنما نورد شيئًا من قصيدته اللامية الشهيرة تعزيزًا قويًّا على يهوديته، فضلًا عن اسمه؛ فهو عبريٌّ محض وهو شموئيل، وفضلًا عن إجماع المؤرخين العرب، ثم فضلًا عن أن الأب شيخو هو وغيره لم يتطرق كلامهم إلى سعية أو شعبة أخيه ولا إلى شعره، فبقي أخوهُ هذا يهوديًّا كما هو بلا مراء، وبقيت أشعاره يهودية مثله، وعجيبٌ أن يُفرَّق بين شقيقين لأب وأُم، فيقال إن أحدهما نصراني أصلًا والآخر يهوديٌّ أصلًا أيضًا مثله، فأَصلٌ واحد ويتضارب ببعضه.
فأولًا قوله:
فمن هم الذين يمكن أن يقال عنهم إنهم القليل؟ أَهم النصارى؟ أليس اليهود هم الأقلُّ من غيرهم أمس واليوم؟ ومتى وُصفت النصارى بالقلة؟ أو متى عيَّرهم الناس إياها؟
ثانيًا قوله:
فظاهر من هذا البيت أن الشاعر يذكر أنَّ القِلَّة إنما نشأت عما أصاب الأمَّة من الحروب والقتال وغيره، ولم تُعرَف أمَّة جاهدت في سبيل الله وسبيل القومية والوطن منذ نشأتها إلى أن باد ملكها ولقيت ما لقيت من غيرها من الاضطهاد والتشتيت والإكراه على الانفراط من سلكها كأُمَّة اليهود.
ثالثًا قوله:
أَليس يعني جبال أرض المقدس؟ أو ليست كلها جبالًا؟ وما قيل لها بالعبرية صِيُّون إلا لمعنى الصخر، ومقابل الكلمة في العربية الصوَّان أو الصوَّانة أو الصهوة، وهذه بمعنى البرج في أعلى الرابية. ومتى عُرفت النصارى بأنهم ذوو جبل أو جبال؟
رابعًا قوله:
فالشاعر يشير إلى ما أصاب الأمة من زوال الملك بعد العز والسؤدد، وما عرفنا أمَّة في أيامه أصيبت بذلك غير اليهود، وما كانت النصرانية إلا في ريعان ربيعها وشرخ شبابها، فالسموأَل من أبناءِ القرن السادس. وما أحلى احترازه بقوله: لوقتٍ؛ فهو الأمل والرجاء، وإِنَّ أمَّة فيها رمق الأمل والرجاءِ لن تموت.
خامسًا قوله:
فالشاعر يشير إلى ما كان من الحروب، وهي إنما كانت من اليهود على غيرهم جهادًا لله وتكوينًا للقومية والوطن.
وهذا ابن سهل الإشبيلي الأندلسي، قيل إنه أسلم فلم يريدوا أن يكون مثله يهوديًّا أو يكون لليهود مثله.
وقد قلت في دعوى نصرانية السموأَل وإسلام ابن سهل: