الفصل الثالث
الآن نتكلم على ما للشعراء اليهود من الشعر، وما لهم فيه من البلاغة والفصاحة. ولا عجب فهم والعرب كانوا بمنزلة واحدة في اللغة وجزالة اللفظ والمعنى.
وقد تكلمنا على الأبيات التي أولها: ارفع ضعيفك، وقلنا إن التاريخ لم يذكر لنا لمن هي من الشعراء اليهود، وقلنا إن ما نطق به نزل بمثله الوحي، واستدللنا بالحديث النبويِّ أن الشاعر يهوديٌّ لا غير يهوديٍّ. وإذا كان البيتان من قصيدة، فوجب أن يكون باقي الشعر له أيضًا ضرورة صدق الشهادة.
وبيَّنَّا ما احتفظ به التاريخ من شعر سارة القريظية رثاءً للمغتالين من قومها بمكيدة مالك العجلان وأبي جبيلة ملك غسَّان، وهي الأبيات التي أولها: بنفسي أمَّةٌ لم تغنِ شيئًا.
والبيت الذي احتفظ به التاريخ أيضًا لبعض الشعراء اليهود ولم يذكر مَن هو، وهو:
وهو يؤنِّب به مالك العجلان. يقول له إنه أفنى خيار القوم من اليهود كما يتحلَّب الحالب خير اللبن من حلمة الضرع، فلم يُبقِ له من يفتخر بقيامه ملكًا عليهم وسيدًا لهم.
سعية أو شعبة
ولسعية أو شعبة أخي السموأل من الشعر ما رأَيناه بالأغاني بالجزء التاسع عشر بالوجه ١٠٠ وهو:
وها أنا أشرح هذه الأبيات بقدر الحاجة، وأسأل الله التوفيق: فهو يخاطب دار محبوبته سُعدى، ويصفها بأنها بمنضى تلعة النعم، يعني أنها أقفرت من أهلها وفارقها العزُّ والنعيم، فالمنضى: مفعل من نضا ينضو بمعنى المنشف، والتلعة: ما ارتفع من الأرض وما انهبط ضدٌّ، ومسيل الماءِ، وهذا هو المراد، يعني أن دار حبيبته أصبحت كالأرض الجافة القاحلة بعد أَن كانت غامرة بفيض النعم. والتَّلْعة في اللغة العبرية بتقديم العين على اللام، وهي في باب علا يعلو لمعنى تدفق الماءِ إلى العلوِّ؛ ولذا عُرفت في اللغة العربية بما ارتفع من الأرض والرابية. والتلع محركةً: طول العنق.
ثم هو بعد هذا يحيِّيها ويندب سلامتها ويأْسف لما أصابها، والإِقواء: الفقر والضعف والقفر، كأَنما هو يقول لها: لا كان هذا الذي أصابك.
ثم هو يعجب متأَلمًا كيف أَنَّ الدار بعد أن كانت آهلةً عامرةً أصبحت لا يُرى منها إلا السكون والسكوت، لا يُسمع منها جواب على مناداته لها ومناجاته إياها، كأنَّ بها صممًا وهو ما لا يعهده من قبل.
ثم صوَّر حال الدار في البيت الثالث تصويرًا يراها الإنسان به رأي العين، صوَّر وحشتها ووجومها وسكونها فقال إنها كإحدى حالتين: كالوحش تبصرها ساكنة هامدة يبدو عليها ما يشبه الحزن والغم، والحال الثانية ما يراه الإنسان عادةً في الدار الخراب من رماد النار نار القرى والضيافة والكرم والإكرام، فهو يرى أَثرًا بعد عين، أثرًا يزعج النفس ويوجم القلب. والقدر: واحدة القدور، والحمم: أصله الحمُّ، فُكَّ إدغامه للضرورة مرادفًا لمعنى النار قبله.
ورأَينا له أيضًا القصيدة الآتية وهي:
وقيل إن الشعر للربيع بن أبي الحقيق من بني النضير، وهو من الشعراء اليهود كما قدمنا (انظر هنا كتاب طبقات الشعراءِ لأبي عبد الله محمد بن سلام البصري صحيفة ١١٠)، وقد أوردها ستة أبيات لا عشرة، ثم هي بها مع ذلك شيء من الاختلاف وهي:
فالأغاني يقول إن الشعر كما قدمنا لسعية أخي السموأل (انظر الجزء التاسع عشر الوجه ١٠٠). وطبقات الشعراء يقول — كما مرَّ بك — إن الشعر للربيع بن أبي الحقيق، وكلاهما يهودي.
وكان معاوية يتمثل كثيرًا إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذه الأبيات من هذا الشعر، وهي:
وقوله «لا نلظُّ بالباطل» معناه: لا يتشدَّد له ولا يلحُّ به ولا يتطلبه، وفي طبقات الشعراءِ نلطُّ بالطاء المهملة، والمعنى مع ذلك لا يختلف، فلطَّ بالأمر يلِطُّ: لزِمه، وهذا هو الفعل الأصلي في نشأَة اللغة وهو في العبرية «ل و ط».
وكان عبد الملك بن مروان إذا جلس للقضاءِ بين الناس أقام وصيفًا — أي خادمًا — على رأْسه ينشده هذه الأبيات. وأورد الراوي البيت الثاني منها هكذا:
وعن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: ما جلست إلى أبَّان بن عثمان إلا سمعته يتمثل بهذه الأبيات.
فلله درُّه من شعرٍ يتمثل به الحكام حين يجلسون للقضاءِ بين الناس.
وكان سعية أخو السموأَل ينادم قومًا من الأوس والخزرج، ويأْتونه فيقيمون عنده، ويزورونه في أوقات قد أَلِف زيارتهم فيها، وأغار عليه بعض ملوك اليمن فانتسف من ماله حتى افتقر ولم يبقَ له مال، فانقطع عنه إخوانه وجفَوْه، فلما أخصب وعادت حاله وتراجعت راجعوه فقال:
ونسبة هذه الأبيات إلى سعية أخي السموأَل لم أجد فيها خلافًا، فصاحب كتاب طبقات الشعراءِ لم يأْتِ على ذكرها قط.
ولسليمان الحكيم في هذا المعنى: «يشنأُ الرثَّ هائبوه، وهائبو الغنيِّ رابون» (انظر سفر أمثال سليمان، الفصل الرابع عشر، الحكمة العشرين). أي إن الفقير يبغضه محبوه ومحبُّو الغنيِّ كثيرون.
واعلم أن «أَهب» — وهو الفعل العبريُّ هنا — هو عربيًّا «هابَ» بمعنى خاف واتقى ووقَّر وأَجلَّ وعظَّم، ومنه في التوراة: «وأَهبتَ الله» أي تهابه، والمعنى العبريُّ الشائع الحب، وهو باب آخر بلفظه هذا في العبرية كما هو في العربية، ومعناهُ الإحاطة والاحتفاء بالمحبوب والعناية بأمره، كما فيه معنى التوقير والوداد في اللغتين. ولعلَّ أهاب بالرجل في العربية دعاهُ إليه هو أيضًا من الحب والإكرام، وهو من المعاني العبرية.
وقلنا: سعية أو شعبة؛ ففي الأغاني سعية وفي طبقات الشعراء شبعة، ويدل أنهما واحد أن كليهما في الكتابين أخو السموأَل، وله في الطبقات أبيات لم أعثر عليها في الأغاني ونسبها ابن نباتة في شرحه رسالة ابن زيدون إلى السموأَل، وهي:
قوله «ماذا تريثني؟» من الترييث بمعنى التليين؛ أي إن أنواحه لن تهدِّئَ له روعًا ولا تجديه نفعًا. والمغيرة الشعواء بمعنى الغارة من كل جانب، والمضاغن: من الضغن، بمعنى الحقد والعداوة، يعني أن مُضاغنه يلقى منه أسوأ مقابلة وأشدَّ صدمة. والقِداح: جمع قِدْح، وهو السهم قبل أن يُراش ويُنصَل، يعني أن راجي الخلود في الدنيا هو كمن يحاول أن يصيب بقِدح لا نصل به. ثم قال إنه لهيبته وعظمته يصل إليه حقه بغير حاجة إلى المطالبة والمخاصمة، وإنه يدفع الضيم عن نفسه بغير مُلاحاة؛ أي بلا منازعة، يعني أنه لا يضام.
الربيع
وعلى ذكر الربيع بن أبي الحقيق نقول إنه كان من شعراء اليهود من بني قريظة، وهم بنو النضير جميعًا من ولد هارون بن عمران يقال لها: الكاهنان. وكان الربيع أحد الرؤساء في يوم حرب بعاث، وكان حليفًا للخزرج هو وقومه، فكانت رياسة بني قريظة للربيع ورياسة الخزرج لعمرو بن النعمان البياضي، وكان رئيس بني النضير يومئذٍ سلام بن مشكم.
وأقبل النابغة الذبياني يريد سوق بني قينقاع، فلحقه الربيع بن أبي الحقيق نازلًا من أطمه، فلما أشرفا على السوق سمعا الضجة، وكانت سوقًا عظيمةً فحاصت بالنابغة ناقته — أي نفرت — فأنشأ يقول: كادت تهال من الأصوات راحلتي. ثم قال للربيع: أَجز يا ربيع. فقال: والنَّفْر منها إذا ما أَوجست خلُقُ. فقال النابغة: ما رأَيت كاليوم قطُّ، ثم قال: لولا أُنَهْنِهُها بالسوط لاجتذبت. أجز يا ربيع، فقال: مني الزمامَ وإني راكبٌ لبِقُ (أي حاذق). فقال النابغة: قد ملَّت الحبس في الآطام واشتعفت (يعني انشغفت). وقال: أجز يا ربيع. فقال: إلى مناهلها لو أنها طُلُقُ (أي غير مقيَّدة). فقال النابغة: أنت يا ربيع أشعر الناس. ولنعد هنا الأبيات مرتَّبة منها الصدر للنابغة والعَجُز للربيع، وهي:
وعاتب قومًا من الأنصار في شيء بينهم وبينه بقوله:
(انظر الأغاني، الجزء الواحد والعشرين، الوجه ٦١، الطبعة غير الأميرية.)
ولعلَّ مراد الشاعر المأْثم — بالثاءِ المثلثة وحُرِّف — وهو الذنب وما لا يحلُّ مرادفًا للعقوق قبله، ومعناه الانشقاق، وضدُّ البِرِّ والصلاح، ويؤيد رأْيي هذا قول زهير بن أبي سلمى:
وحدث أن بني النضير وبني قريظة من اليهود أعملوا السيف في رقاب إخوتهم بني قينقاع؛ لانضمام هؤلاء عليهم إلى بني الخزرج، فقال ربيعة بن أبي الحقيق في ذلك يعتب على بني قريظة والنضير، ويلومهم على ما فعلوا:
الجُرْم (بالضم): الذنب. والمغرم (بالفتح): مفعل من معنى الشرِّ والهلاك، وسفه الرأي: طيشه وخفته والجهل. وتعكَّس أهل الدم يحتمل أن يكون المراد بهم القتلى وقعوا يتخبطون في دمائهم، ويحتمل أن يكون المراد أهلهم وأقاربهم ساءَت حالهم لما أصابهم. وانتشر الأمر: انتثر وانتقض وأصبح فوضى لا رئيس له، ولم يُبرم: لم ينتظم.
أبو الزناد أو أبو الذيال
واختلف الرواة في اسم صاحب القصيدة الآتية، فبعضهم — وهو الأغاني بالطبعة الأميرية بالجزء التاسع عشر بالوجه ١٠٢ — يقول إنه أبو الزناد اليهودي، وصاحب طبقات الشعراء يقول بالوجه ١١٢ إنه أبو الذيال اليهودي، وفي الأغاني بعض الأبيات دون الكل مع شيء من الاختلاف، ولنورد ما في كلٍّ من الكتابين:
فما جاءَ بالأغاني:
قوله «خفَّ ساكنها» أي ارتحل أهلها مسرعين، وباقي البيت وصف للدار أَين موقعها. والثَّمد في اللغة (محركةً): الماءُ والمسيل ومجتمع الماءِ. والبهنانة: الطيبة النفْس والريح، أو اللينة في عملها ومنطقها، والضحاكة الخفيفة الروح. والخَدَلَّجة (بالفتح مشدَّدة اللام): المرأَة الممتلئة الذراعين والساقين. والسدِم: ككتف، المهموم الشديد الحزن. والعاني: المسكين الذليل. وأُحيط موصولة بما قبلها بلا همز لضرورة الوزن. وإذا مشت فُضُلًا في الأغاني إذا ما مشت فضلًا أعني بزيادة حرف ما خطأً. والفضل (بضمتين): المتفضل؛ أي متشحةً بثوب واحد.
وما جاءَ بكتاب طبقات الشعراءِ:
أَثَّت المرأَة: عظمت عجيزتها. والأَوَد (محركة): الاعوجاج، يعني أنها ذات قوام معتدل كالغصن لا اعوجاج به. وقوله «فيها» في أول البيت بعد ذلك راجع إليها؛ أي لا يرى الناظرون أَوَدًا فيها. والنقا (مقصور): الكثيب من الرمل وكأَنه بالبهاء زهير وهو يقول:
والجرد (محركةً): فضاءٌ لا نبات فيه، يعني أن أسفلها كالنقا، وعنقها كجيد ظبية الفلاة. والمواعد: جمع موعد، بمعنى الميعاد والوعد. والقتول: الكثير القتل، كقول أبي فراس: قتيلك، قالت أيُّهم؟ فهمُ كُثْرُ. يعني أنها لا تزال تعد وتخلف، وهي بين الوعد والإخلاف يكثر قتلاها، فيا ليت تلك القتول لم تعِد. وقد وصف وعدها بالبيت بعدُ أَنه وعد خُلُف — بضمتين — أي وعد كذب لا إنجاز له. وعلال الحديث والنجد — محركة — أي بعد أن يتآنس محبها بالحديث معها سجالًا بينهما، تزيد مكانتها في عينه، والنجد: من أنجد ينجد بمعنى دلَّ وأَوضح وأَبان. وقوله بعد ذلك «تمشي إلى نحو بيت جارتها» يعني أنها مع كونها جارتها فهي تستحي وتخجل وتخاف من عين الرقباءِ أو العشاق لفرط جمالها، فتضع يدها على كبدها إشفاقًا على نفسها وهي ماشية.
وقوله «آضت» معناه عادت وتحوَّلت ورجعت، وفي الأغاني غابت، والمعنى واحد. ثم شبَّه رضابها على ذكر عناقها بماءِ الغمام يمتزج به الراح صافيًا صريحًا من الحبب مطيَّبًا بالمسك مربَّبًا بالزنجبيل ولا عين ترى ولا أذن تسمع.
ثم تأَلَّم مستاءً من الملام فقال: ولكن ربُّ عاذلةٍ لو علمت عذره ما عادت إلى لومه، وصوَّر حالها معه فقال إنها هبَّت تلومه ذات ليلةٍ على تعاطيه الخمر وذكره الكواعب الخُرُدِ — بضمتين — أي النواهد البكر، فأجابها بقوله: هوِّني عليك الأمر فلا شأْن لكِ بغيِّي أو رشدي، وإني إن لم أمت اليوم فميت غدًا لا محالة مثلي مثل غيري، فالموت لا بدَّ من وروده؛ فهو كالماءِ للظمآن، وليس في الشح والحرص على الحياة زيادة في عدد السنين، فأَقصري اللوم وارفقي بحيائي الكريم واعتدلي في القول.
ومما ورد بالأغاني ولم يرد بطبقات الشعراء لأبي الزناد أو أبي الذيال يرثي أهل تيماء، وهي ما بين خيبر وتبوك:
الخُود (بالضم): الحسنة الخَلْق الشابَّة أو الناعمة.
كعب
ومن شعراءِ اليهود أيضًا كعب بن الأشرف، وهو من طيئ، وأمه من بني النضير، توفي أبوه وهو صغير، فحملته أمه إلى أخواله، فنشأَ فيهم وساد وكبر أمره، وقيل: بل هو من بني النضير، وكان شاعرًا فارسًا، وله مناقضات مع حسَّان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج، وهو شاعر فحل فصيح، هكذا ورد بالأغاني بالجزء التاسع عشر بالوجه ١٠٦، وقتله الأنصار في داره، وقد حذرته امرأته منهم بقولها: ما طرقوك ساعتهم هذه بشيء تحبه. وبحثت عن تلك المناقضات في ترجمة حسان بن ثابت فلم أجد شيئًا. وورد له من الشعر في طبقات الشعراءِ:
السبِط (ككتف): نقيض الجعد، يعني أنه كان حسن المِشية. وأَبَّاءٌ أنِف: عفيف نزيه النفس لا يقبل الضيم ولا يرضى بالدنيئة. والذعف والذعاف: السمُّ أو سمُّ ساعةٍ، وورد في كتاب الأستاذ أبي ذئيب بالزاي فقال: كالزعف (وجه ٣٢). والمعنى واحد؛ فسمٌّ زعاف كسمٍّ ذعاف، وتخرج التمر، في كتاب الأستاذ المذكور: تمزج التمر، ولعله تحريف. وصرير في محالٍ خلَّةٍ أوردها الأستاذ المذكور بالحاءِ بدل الصاد فقال: وحرير، والمحال بالكسر: الكيدُ وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة كالمماحلة والقوة والشدَّة والهلاك والإهلاك. والخَلَّة: الطائفة من الخلِّ، وهو ما حمض من عصير العنب وغيره، وهنا أرى أن الصواب صرير بالصاد كما ورد في طبقات الشعراءِ لا حرير بالحاءِ كما ورد في غيره. والصرير: الصياح والصوت الشديد، ومنه صرير الأقلام: صوتها، فالمعنى أنه في يومه شغل شاغل وجدٌّ حافل لا خذلان للحق ولا للباطل رفق، وفي ليله سرور وطرب.
أوس بن دني
ومن الشعراءِ اليهود العرب أيضًا أوس بن دني، لم أجده في كتاب طبقات الشعراءِ، ولكنه ورد ذكره في الأغاني بالجزء التاسع عشر بالوجه ٩٣ و٩٧، وما ورد له من الشعر:
يقول كيف أن قلبه يتذكر محبوبته ويتمناها وهي عزيزة المنال لا يتيسر الوصول إليها. ثم تخيَّل في نفسه عند كلامها له الروضة يوشيها الربيع بأزهاره ألوانًا جميلةً، وليس ما حولها إلا الجدب والقحل، فقال: والله ما هي بأحلى منها في عيني. وقوله «سِيرا قليلًا يلحق الركب» أي أجدَّا وأسرعا قليلًا لندرك إخواننا، أو تمهَّلا في السير ليدركنا إخواننا. وهي كغيرها في كتاب الأغاني من الأصوات التي يُتغنَّى بها.
وكانت له امرأَة من بني قريظة أسلمت وفارقته ثم نازعتها نفسها إليه فأتته وجعلت ترغبه في الإسلام فقال فيها:
شريح بن عمران
ورد في طبقات الشعراء ولم أعثر عليه في الأغاني. وما ورد له من الشعر:
الثميل (من الثُّمال كغراب): السمُّ المنقع. والفضول: جمع الفضل ضد النقص. يوصي بمصاحبة الكرام ويحذر من اللئام.
أبو قيس بن رفاعة
وجدته في الطبقات ولم أجده في الأغاني، والذي ورد له من الشعر:
فرط حين: معناه بعد حين. وعريتُ: من عرى يعرى، استوحش وحنَّ. يقول إنه إذا ذُكرت إِمامة محبوبته استوحش إليها وحنَّ لها اشتياقًا، وتمنى أن يراها ولو بعدت دارها وشطَّ مزارها. وأكلِّفها: من كلِف بالشيء فهو كلف ومكلَّف، لهج بها قلبه واشتدَّ إليها حبُّه وأحسَّ بما دُهي به من كُلفة بعدها عنه. والحميت: الزِّقُّ. يقول فهو لتذكره إياها وشدة اشتغال قلبه بها كالزق مملوءًا شوقًا وحنينًا. والحميت في العبرية حِمِتْ بكسر الأولين ممالًا ممدود الحاءِ، ولو أنَّا قابلنا كل كلمة بأختها في العبرية لما أفلتت منا كلمةٌ، فلكل كلمة نظير. والطليح: فعيل من طلح كمنع، أعيا. ولا يئوب إليه جسمه: لا تعاوده صحته وعافيته، فلن يزال نحيلًا سقيمًا. والعاضهة: الحيَّة تقتل من ساعتها، والسم قبلها مفعول مقدم لسقيتُ. ومقيتُ: من مقا يمقو ومقي يمقى بمعنى الظفر بحجة الغلبة والفوز، يعني أنه كفَّ نفسه وترفع عن أن ينازل عدوَّه وفي وسعه أن يمقو أو يمقى مساءَته — يردُّها عليه — كما يُمقى السيف من صداه ويغُسل الطست من وسخه، أو هو «مُقيتُ» مبنيٌّ لما لم يسمَّ فاعله، بمعنى أنه كان مع كفِّهِ نفسه عن ذي الضغن نقيًّا بريئًا لا يستحق ما رآه منه من المساءَة، وفي حديث عائشة وذكرت عثمان رضيَ الله عنهما فقالت: مقوتموه مقوَ الطست ثم قتلتموه. أرادت أنهم عتبوه على أشياء فأَعتبهم وأزال شكواهم وخرج نقيًّا من العتب ثم قتلوه. والرَّهَق (محركةً): السفه والحمق والخفة وركوب الشر والظلم وغشيان المحارم. والنبيت: بمعنى المنبت والنشوءِ والأصل، يعني أنه ليس بالضعيف ولا الخامل، بل له من القوة والمقدرة ما له، فسيفه صارم قاطع أو لسانه حادٌّ زلق يستطيع أن يُصمي به كيف شاءَ، ولكنَّ آدابه وأخلاقه وحرمة مكانته في نظره تمنعه من الحمق وسفه الرأْي. ثم هو يقول بعد ذلك إنه إذا أكرم نفسه وأتلف ماله فلا يشقى؛ أي لا يحزن ولا يأْسف. ومقارشة الرماح: تداخلها في الحرب ووقوع بعضها على بعض، يعني أنه مع قوة بطشه يعفو ويصفح ويجعل نفسه فداءً ويمنع الشر لا يقابله بمثله، والبكر هنا بمعنى الكرم، يعني أنه يجعل كفَّه بكل ما فيها من المال رهينةً لجاره إذا دُهي فيه بعظيمةٍ من العظائم في حوادث الدهر. ثم هو يبين بعد ذلك أن جاره شريك له في رأْيه يقاسمه في تلاده؛ أي فيما له من أَثر النعمة ما بقي حيًّا.
ولا شك أنها مكارم أخلاق لا مزيد بعدها، وحميَّة وشهامة وحلم وسخاءٌ لا نظير له، وكأنما هي روح طاهرة تدبُّ في كل حرف من حروف الشعر تتجلى عليك في نور يفتن اللب جزالةً في اللفظ والمعنى.
درهم بن زيد
لم أجده في الأغاني وورد ذكره في الطبقات مع هذه الأبيات:
يقول إنه هجر حبيبته البيضاءَ وهجر جاراتها، وإن المشتاق قد يملك نفسه وينصرف بشوقه عنهنَّ، ثم قال إن محبوبته يمانية نازح دارها أي بعيدة المزار. وغمدان: كعثمان قصرٌ أو حصن بصنعاء اليمن لسيف بن ذي يزن، ويعرف بيَشرُخ، بناه بأربعة وجوه: أحمر وأبيض وأصفر وأخضر، وبنى داخله قصرًا بسبعة سقوف، بين كل سقفين أربعون ذراعًا. يعني أنه مع ما لمحبوبته من علوِّ المنزلة وشرف المجد فقد انصرف عنها واتصل بالملوك، ثم افتخر بأنه معطاء سخيٌّ يعطي ويكسب الفوز والنجاة والبقاءَ في الخير، وما أحلى قوله الذي لا أُهين. وأَدلج: سار من أول الليل، وشطر الملوك: جهتهم وناحيتهم، وفي معجم لسان العرب: وأطعُنُ — بالطاءِ المهملة — بمعنى يقصد، ورواه بعضهم بفتح العين. وخفق: غاب، والمجدح: كمنبر. الدَّبَران (محركة): وهو نجم أو منزل للقمر أو نجم صغير بين الدبران والثريَّا. يعني أنه يسير من أول الليل مع أصحابه قاصدًا إلى الملوك حتى إذا غاب المجدح أَمر أصحابه فنزلوا عن دوابهم فناموا قليلًا حتى الصباح، ثم يجدُّون في السير مسرعين إلى أن يتراءى لهم السراب، وهو ما تراه نصف النهار كأَنه ماءٌ، وأَفيحُ: بمعنى منتشر مالئ الأرض.
والمعنى أنه رجل جدٍّ وإقدام، يعرف الملوك ويحبون وفادته إليه، لا يعطي لنفسه راحةً إلا قليلًا من الليل، ولا يزال يجد في سيره مع رفاقه وهم تحت أمره حتى ينتصف النهار بلا كلل أو ملل، وهو مع ذلك معطاء للمال يكرم به نفسه ويكرم غيره معه.