أشيائي المفقودة والمردودة
أقولها بلوعة المفجوع: «لقد فقدت إيماني بالله.»
إن كانت هذه العبارة تصنِّفني كافرًا فعزائي أن كفري لا يتقنَّع بالرياء. ترى كم واحدًا بين جموع المترددين على المعابد من مختلف الطوائف، كم من الذين تسري على ألسنتهم كلمة الله، وبه يحلفون، هم في حقيقة الأمر مؤمنون؟ أكثرنا يخاف أن يصارح الناس، أو يصارح نفسه، بأن قلبه فارغ من الإيمان برب في السماء يعبده، فالصلوات والزكاة ومظاهر التقوى هي — في أكثر الأحيان — ضريبة الخوف، يدفعها من يوظف في المجهول مالًا أو وقتًا أو جهدًا اتقاءً لشر أو طمعًا بمغنم قد يكون هناك.
وإن بعضنا — من أدعياء المعرفة — يعلنون بخيلاء أنهم كفرة، مزدهين بهذا القول ببطولة مزيفة، أو بعلم هو في الصحيح غي؛ فإن من الواضح أن الكون بنظامه الدقيق العجيب وروعته وغموضه، وتفتُّح أسراره، يستحيل أن يكون وليد صدفة، أو أن يكون قد وجد لغير غاية، فالعلم — وما أقل ما أصبنا منه! — لا يقدر أن يثبت وجود الله، ولكنه بلا ريب ينفي عدم وجوده.
أقول لقد فجعت بإيماني؛ لأنني ربيت في بيت تعلمت فيه التقوى؛ فأنا منذ أن نَمَوْتُ عن طفولتي ألهج بذكر الخالق، ويملأ اسمه سمعي: «حرام أن ترمي دجاجةً بحجر، حرام أن يقع الرغيف على الأرض، حرام أن تشتم، أبوك يرجع من منفاه متى أراد الله، فرسنا الشقراء ماتت لأن تلك كانت مشيئة الله.» فما كانت التقوى في مشتلنا العائلي طقوسًا بقدر ما كانت سلوكًا، وحين تعلمت فك رموز الأبجدية اطَّلَعتُ على كتب الدروز، وسهرت الليالي في «الخلوة» أقرأ من كتبنا، وأستمع إلى تجويدها ومواعظ الشيوخ ولشروحهم لها. وبعد ذلك طالت وتعددت سياحاتي المدرسية، ولكنها انحصرت في مدارس كلها تبشيرية من راهبات الكاثوليك، ورهبان الموارنة، والمبشرات والمبشرين بالبروتستنتية، وهممت ذات يوم بأن أعتنق الدين المسيحي إثر موعظة خطابية سمعتها من قسيس استهوتني منبريته، ولكنه استمهلني أسبوعًا، أرجع بعده إليه لأثبت له عزمي، وما رجعت.
ولقد تثقفت بالقرآن الكريم على يد شيخ معمم أزهري، وعبر السنين كنت — ولا أزال — أقرأ في المصحف الشريف، كما أكثر من … كدت أقول دراسة الإنجيل المقدس والتوراة.
ولكن ذلك اليقين بأن في الوجود — أو عبر الوجود — قوة مسيرة تحاسب وتعاقب وتكافئ وتستمع للابتهالات تلاشى من نفسي، وخلَّف فيها فراغًا من الحسرة؛ فأنا اليوم أحسد وأغبط كلَّ من اعتقد بالعزة الإلهية، وإن من الجريمة أن يسعى أحد لهدم هذا المعتقد في نفس مؤمنة به، كما أنه من الجهل والتضليل أن نعتبر الطقوس وأقذار الطائفية هي بعض عبادة ذلك الشيء العظيم الذي اتفقنا على تسميته بالله.
أما الشيوعية، وهي أداة تهديم المجتمعات والسيطرة الاستعمارية على الشعوب، فقد وجدتْ أنَّ أفعل السبل لتقويض الأنظمة وإثارة البلبلة، هي في أن تطرد الإيمان من قلوب البشر، فما قنعت بإفراغ الأفئدة من اليقين، بل زادت على الإلحاد الاستخفاف بالمؤمنين والهزء بهم وبعقيدتهم، ممهدةً بهذا العمل التخريبي الفردي للتهديم المجتمعي الشامل.
وحين انضممت إلى الحزب القومي الاجتماعي كنت أصبو إلى أن تعيد عقيدته إلى نفسي اليقين بغيبية شردت عنها، وكنت أتوق أن يزودني الحزب بمعتقد سماوي جديد يملأ الفراغ الذي أحدثه شرودي، وسبَّبَتْه حيرتي، ولكنني وجدت مبادئ الحزب تنصب، وتقتصر على بناء المجتمع دون أن تُعْنَى بأي موقف إيجابي أو سلبي من الغيب، وفكرة الله، والثواب والعقاب، بل إن مبادئ الحزب تصون للفرد حرية معتقده الديني فلا تدفعه إلى أي دين. ولكن حيرتي الكبرى زالت، وامَّحى التساؤل من غير أن أدري، وما عدت أستشعر بقلق ولا فراغ؛ إذ اعتضت بالعمل المجد المثابر في سبيل تحقيق شيء عن دراسة نظرية للتحقق من شيء.
يقولون أن ليس في أزمات الخوف من ملحد. إن اختباراتي الشخصية تنفي هذا القول؛ لقد واجهت أخطار الموت مرارًا لا عدَّ لها، في العواصف البحرية والزوابع الهائلة على اليابسة، في السجن، وفي حرب طاردتنا خلال سنواتها قنابل طائراتها. كنت أشتهي في أزمات المخاطر — وأنا أسمع صلوات سواي وضراعاتهم — لو أنني أقدر أن أنطق — بصدق — بكلمة فيها تعبُّد أو بصلاة أو ابتهال أو استسلام لرب العباد.
والحياة — وقد نهبت مني نعمة الثقة بالله والتطلع إليه والاتكال عليه — هل ردَّتْ لي من هذا الشيء المفقود ما أعتاض به عن السعادة التي حرمت منها؟
الجواب: نعم!
لقد فلسفت سلوكي؛ فانتهيت إلى الاعتقاد أن الله — إن ثبت وجوده — لن يحاسبنا على المظاهر — وهذه هي طقوس الأديان — بل على ما نوفره أو نجدد توفيره لسوانا ولأنفسنا من خير، وقد تحتشد في لفظة «الخير» هذه معاني القوة والسعادة والجمال. وما دمت أتوهم أو أدَّعِي أو أثق أني ساعٍ أبدًا للخير، فحسابي مع الله مسدد سلفًا؛ فما بي لوعة وما أنا بالمفجوع.
هذه السنوات الموغلة بي في العمر أفقدتني العاطفية لا العاطفة، والعاطفية هي ضعف وتخاذل، ولكنها شيء جميل؛ بحيرة دافئة تغتسل فيها الأرواح. ما استردت من الحياة بديلًا عن هذا الشيء الذي فقدت؟
استللت من الحياة قوةً، وفي القوة نشوة وجمال. قد تكون الكآبة والوحشة والحسرة أشياء نبيلة، ولكن القوة هي كذلك شيء جميل نبيل. من يدري أن لا تكون القهقهة كبرًا تصغر عندها الآهة والدمعة. قد يكون الله — الذي ننفي وجوده — يغير لعينيك النظارات كلما ضعف بصرك أو زاغ؛ فالأشياء المردودة والمفقودة هي هي، غير أن المنظار الذي يستر عينيك هو الذي يتبدَّل، ولا أدري إن كانت هذه الفكرة فلسفةً أو سفسفةً، ومن يدري أن لا تكون الفلسفة سفسفةً لبست ردنكوت ومونوكل، وفي عروة سترتها شارة نيشان، وكل أهميتها أننا نخاطبها بصاحبة المعالي.
وفي هذه السنة — هذا المقال يكتب بمناسبة عيد رأس السنة — فقدت صحتي، فقلبي، كذا يقول الطبيب، وكذا تسجل آلته، قد عطب فلا شفاء من علته، فمداواته تنحصر في مداراته. إن طريقي نحو الموت سلك قادومية. ذُعِرْت وخِفْت بادئ ذي بدء، غير أن الحياة وهي تسير بك — وهذه السنة اندفعت بي نحو الموت — كيفتني لملاقاة الموت، ليس في نفسي اليوم من خشية أو ذعر، أقولها من غير مبالاة ولا مباهاة، لو أنني تحقَّقت وعلمت سلفًا أنني سأقع ميتًا بعد خمس دقائق لما تهيبت ولا هلعت ولا حزنت. سنة الحياة أن تمنحك شيئًا حين تنتزع منك شيئًا، إنها حين تهم بأن تقبض منك الروح تهبك الجرأة للتخلي عن الروح. لعل كل هذا هو الله الذي نتحدث عنه، لعله هذه الحياة المستمرة المبهمة السخية، هذا اللغز الأخَّاذ الجميل الشائق. قد أكون في حقيقة غير كافر؛ لأني أومن بالحياة؛ بجمالها، بخيرها، بعظمتها، بعدلها؛ إذ هي «تضرب باليمين، وتسند باليسرى». أشياؤك المردودة توازي أبدًا أشياءك المفقودة؛ لأن غنى الحياة هو أبدًا في النفس، وفي المواقف النفسية من الأحداث. الحياة هي شيء ذاتي لا موضوعي، فثق إذن أنك أنت بخير في كل عام من غير أن تسمع من أحد يتمنَّى لك «كل عام وأنت بخير».