معاقل سوف ننسفها
أخي سعيد
هذه الرسالة موجهة إليك، وليس الذنب ذنبك أنك قد تحتاج إلى من يقرؤها عليك، ولكني واثق أنك تفهمها وتستوعبها بأكثر من الكثيرين الذين يكتبون ويقرءون ويَنْظِمون.
أؤكد لك أني حين كنت أسطر بياني وأعلن إيماني، كنت أنت والكثيرون من إخوانك وإخواني ماثلين أمام عيني، ولم أكن أخشى ما قد ينتظرني من حرمان واضطهاد ونقمة، بل أخاف الخوف كله من أن تؤلم وثبتي أمثالك.
لقد نشأت وإياك، وستبقى لي أخًا، وسيبقى كل أخ لي أخًا، أية جريمة اقترفت حتى تبعد عني أو أبعد عنك؟!
غير أني حريص أن لا تتألم؛ لأني أودك وأحترمك. ومما يحببك إليَّ — ولا يعيبك — أنك رجل منسي وفقير وغير شهير.
لقد عرفتك وفئة من إخوانك فتيانًا في الحرب الأولى يتخطون الجبال، ويقاتلون عصابات البدو، ودوريات الأتراك، تتسللون في الليالي الكالحة تحت الأمطار وفوق الثلوج لتوفروا لمواطنيكم لقمة عيش لو لم تقتنصوها لمات الكثيرون جوعًا.
وأذكر سنة الثورة كيف وقفت وأخوك، وأخوك الآخر، وابن عمك، ورجال لا يبلغون العشرين عدًّا؛ وقفتم حول نسيب الداود في «حلوى»، وقاتلتم حتى هزمتم ثلاثمائة جندي فرنسي، ثم كانت لك معارك غيرها انتهت بك وبسواك من الأبطال — هذه كلمة سخفوها اليوم — إلى صحراء «الأزرق».
وأذكر أنك كنت بين الأربعة عشر مقاتلًا الذين اختارهم القاوقجي حرسًا خاصًّا له؛ فبقيت في الجهاد — هذه كلمة ثانية سخفوها — سنواتٍ تسعًا، وخبروني عن موقف لك في بيروت كنت تزغرد فيه للمروءة وتثأر للعزة.
ولكني أريد أن أقول لك إنك لم تكن في «حلوى»، ولا راشيا، ولا في الأزرق، ولا في فلسطين أشدَّ رجولةً منك في الصيف الماضي حين قبلت أن تصافحني واقفًا باليد الواحدة بدلًا من أن تنحني مسلمًا بالاثنتين، ولم تظهر في حياتك إذ تقحم المعاقل بطولة أعظم من بطولتك منذ شهرين حين ارتضيت أن تقحم الباب فتتقدمني في الدخول إلى بيت لتتصدر مجلسًا فرضت التقاليد أنه كان لأبي، ووجب أن يبقى لي ويستمر وقفًا على أولادي، فيما حرم منه أبوك، وأقصي عنك، ليبتعد عنه أولادك.
يوم نزلت أنت إلى المعركة لم تكن مدفوعًا، ولا مأجورًا، ولا أنانيًّا، بل كانت لك حوافز هي اليوم زادك الروحي؛ لذلك قلت لك في مطلع هذا الكتاب إنك تفهم رسالتي هذه وتستوعبها، لقد سمعت أنت الناس إذ ذاك يصيحون، ويتقوَّلون عنك «شو بدو؟» «شو صاير عليه؟» «لماذا لم يستشر إخوانه وأصدقاءه؟» أنت تعرف الأجوبة أكثر من سواك.
أنت لم تشترط أن تصبح قائد الثورة حين «مترست» في حلوى، ولا ساءلت نفسك من يغضب ومن يرضى، ولا همك أن تخسر أو تظفر؛ فإنك شعرت بالقوة إذ تجمهر جيش في قلبك، فرأيت الجيش المهاجم برغشة. الدنيا اليوم أراها كما كنت أنت تراها؛ برغشة.
لم يسبق لي أن طلبت منك ولا من إخوانك شيئًا، ولن أطلب من أحدكم شيئًا، ولكني تعلَّمت منكم، وتثقَّفت على أيديكم، وكانت اجتماعاتي بكم الكهرباء التي تعبئ بطارية روحي، إني من أجلكم خطوت هذه الخطوة، أمامنا معاقل يجب أن ننسفها، نريد أن نصهر نفوسنا بالعقيدة القومية التي صهرت الإقطاع والطائفية، نريد أن نعيش في بيت لم تحجز مقاعد المخمل فيه على عائلة، وكراسي الخيزران على عائلة، فيما بقي أفراد سائر العائلات وقوفًا أو خارج الدار. نريد أن نوقظ العزة في نفس المواطن العادي. نريد الدين عبادةً وروحانيةً، وتقوى، فقط لا غير. نريد الجبان يصبح جريئًا والشجاع لا يهدر بسالته في السخف، نريد نظامًا حزبيًّا حديثًا، ليست المشاكسة والتزريك والبغضاء من عناصره.
أريدك أن تبقى صديقي، ويصبح ابن عدو أبيك وعدو أبي رفيقًا لك ورفيقًا لي.
ونريد فوق كل هذا أن يحيا مواطنونا، ومنهم القادة والأحزاب ما به يبشرون.
لقد ألفت فيما مضى رواية «نخب العدو»، وكل ما أفعل هو أني أعيش ما بشرت به، على عقيدة انطلقت آفاقها.
أكثر الناس يهمهم أن يتقدموا سواهم، ولكني يا صديقي أشعر بكبر حين أُمْسِي في صفوف المشاة.
يهمني جدًّا أن أعلم أنك وإخوانك غير عاتبين وغير متألمين، ويشوقني أن أرجع إليكم، فأشعر فيما أنا بينكم أني أحد جنود قضية هذا الشعب الذي لن يقهر، وفيه أمثالك.
لك أُخُوَّتي.
يدي إلى قلبي.