سنة ١٩٥٢: قِطَعٌ طَفَتْ منها على الزمن
تصدر صحف هذا الصباح وهي تحمل نبأً خطيرًا، معلِنةً أن عامًا مضى، ثم تؤكد جازمةً أن أمرًا ثانيًا مهمًّا كذلك قد حدث، وهو أن سنةً جديدةً بدأت، وإن أنت مررت بساحة البرج فرأيت فارس الخيل والليل يطارد باعة الجرائد، فطمئنْ بالهم؛ إنه المتنبي ينهض من قبره في مطلع كل سنة يتحرى في الصحف عن صدر بيته: «عيد بأية حال عدت يا عيد!»
كاتالوج
وإن الذي يريد أن يستعرض الأشهر الاثني عشر الفائتة يجب عليه أن لا يفتح كاتالوجها أو يسرد وقائعها حادثةً حادثةً. إن القمم لا تغيب عن الأفكار، وما غار في وادي النسيان فهو لا يستحق الذكر، وفي ضباب السنة التي انسابت إلى عتمة الماضي، ما الذي لا يزال يلمع ويشع؟
غرق وإنقاذ
من غير تردد أقول إن أهم ما حدث هو غرق «شامبوليون»، ونجاة سمعتنا في الدنيا. إن البلطجي لم ينقذ أرواح مسافرين، بل أنقذ صيت أمة، هذه الأمة التي لا يكفر بقدرتها إلا الخونة والمخنَّثون. من الصعب على الجمهور أن يؤمن بكلمات ويفقه معناها حتى تتجسَّد أعمالًا. اليوم يفهم الكثيرون ما معنى «إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ.» لقد خط المجذاف في شاطئنا سطرًا من المجد جديًدا؛ إنه درس في البطولة الإيجابية يلقى علينا وتتلقَّنه ناشئتنا، يا للصورة الرائعة إذ ينبري القارب اللبناني، فيقوم بالمعجزة التي انخذل عنها الطراد البريطاني، ومعداته، والطائرات، وإذ نتغنى ببطولة «البلطجي»، فنحن نُشِيد برفاقه ورجاله، وبليغ أن يكون بينهم فلسطينيون، فندرك أن ليس بين خنوع اللاجئ ووثبة البطل المنقذ إلا زوبعة تستثير.
والكسليك؟
أما الرجل الذي انتحر، رهين الكسليك، فقد يقال أنْ ليس من المروءة الطعن في جثته، ولكن بشارة الخوري لا يزال حيًّا، بل هو لا يزال حيًّا وفعالًا، ولا يهمنا من أمره إلا ما فعله أمس، وما يفعله اليوم، وما قد يفعله غدًا، وما نقوله الآن فيه هو أقل عنفًا مما سمعه منا وقرأه لنا أيام سيادته وسؤدده.
قد يكون كل الذين يتبجَّحون بأنهم ساهموا بخلعه صادقين، ولكن الحقيقة الراهنة التي يجهلها الناس هي أن بشارة الخوري لم ينته أمره إلا حين قرر المعسكر الغربي التخلي عنه. لقد كان رئيس الجمهورية اللبنانية زلمة الأجانب، ولقد نبذوه كما ينبذون كلَّ من تنعدم منفعته لهم. إن أردت أن تسجل تاريخ قرارهم باستدباره، فقد كان شهر حزيران ١٩٥٢ حين تحققوا أن عهده بلغ نقطة اللارجوع في الفساد، وأن استمراره ينشر الفوضى والشيوعية.
على أن الأجانب، وهم لا «يتزوجون» أحدًا، كذلك هم لا «يطلقون» أحدًا، لا أدري إن كان بلغك أن الأميرال مونتباتن حين جاء بيروت زائرًا، منذ أسابيع جلس إلى مائدة مع الأستاذ بشارة خليل الخوري، وقائد الجيش الجنرال شهاب، رهين الكسليك، رجل ساحر الكياسة، إنه اليوم يتستَّر بأقنعة كثيفة حاكتها اختبارات الحياة، فالتف بها ساترًا عن الناس نفسه، أقنعة لا تطل منها حقيقته إلا في لحظات مرح، وهو اليوم مَرِح يتأنَّق بلبسه، شأن من يزهو بظفر، أو من يريد ترميم معنوياته، وهو في غير ساعات المرح يقف مذعورًا، وعيناه كقبضتيْ ملاكم؛ إحداهما امتدَّت لتضرب، والثانية حذرة متوترة تحرس وجهه وجسده.
والجريمة؟ إنه لا يعترف بها. من الذي مجد السخف في هذه البلاد، وزركش الحكم بالترف الشرقي والفخفخة؟ من الذي نهب الخزينة، وسجن الأبرياء، وأطلق سراح المجرمين؟ من ألبس السرقة والخداع والفساد ثوب الاحترام؟ من رسَّخ المحسوبية، وجعل من هذه الدولة مدينة ألعاب؟ بشارة الخوري؟ إننا نجور على الرجل إن قلنا إنه سبب الكوارث كلها، وهذه المخازي، ولكننا نجور على الحقيقة إن قلنا إنه لم يلعب الدور الرئيسي في تمثيل هذه المأساة.
بشارة الخوري هو رجل له ثقافة القرن العشرين، وكياسة رجل القرن الواحد والعشرين، والتحسس الاجتماعي لرجل القرن الثامن عشر، إنه يؤمن بالإقطاعية سلبًا وإيجابًا، فهو ينحني أمام العائلات الإقطاعية، ولو أنه يرجع إلى الحكم في غد لما استعان إلا بالأشخاص أنفسهم الذين تعاون معهم فيما قبل. إنه ما كان ليوافق على إعدام أنطون سعادة لو أن اسمه الشيخ أنطون سعادة، إنه يزدري الرجل العادي، ويرفس اسمه بشفتيه. وفخامة الرئيس الشيخ بشارة الخوري أراد أن يحكم دولة بعقلية مختار ضيعة هي بطبيعة حالها حزبان؛ فمن وسائل تسيير الأمور فيها النكايات والتنكيل والمحاباة، وهو صاحب عقلية تمجيد «الشاطر حسن» لا جبران خليل جبران، ولا شارل مالك. إنه في قعر نفسه كان يحسُّ أنه ملك مطلق، أو متصرف تركي، أو الأمير بشير، كل شيء فهو ملكه، وما يتسرب إلى الشعب فهبة منه إليه.
لقد «أعطى» الحزب رخصةً كأنْ ليس للحزب حق برخصة، إنه «عفا» عن فلان، كأنما ليس من حق البريء أن لا يُسْجَن، كل قرية «أعطاها» تليفونًا، و«منحها» مدرسةً، «جاد عليها» بطريق.
إنه لا يشعر ولا يعترف بجرائم عهده، ولا هو مقتنع بأنه أجرم. الحكم في نظره هو دق طاولة. الصفقات، السرقات، الفوضى، هذه ألفاظ ليس لها في ضميره لسعة التعنيف. الفلوس التي طارت في المطار تكفي لبناء عدة مستشفيات، ليس له ضمير اجتماعي يوبخه، لقد كان يلعب دق طاولة، وخسر البرتيتة، على حدفة. أتاه «بنج جهار» فخسر، لو أتاه «بنج دو» لربح. خذها مني: هذا الرجل سيعود إلى مسرح السياسة اللبنانية إلا إذا أصابت نفوذه اليوم ضربة قاضية كمحاكمة أو إبعاد، وإلا إذا طغت موجة وعي قومي اجتماعي على هذا الشعب فنبذ أمثاله، وسيرجع نافضًا يديه من أقاربه، متنصِّلًا من بعض حلفائه، متحالفًا مع بعض أخصامه، وستكون «الطائفية» نفير هجومه. إن المحامي بشارة الخوري أخذ يعدُّ دفاعه عن الرئيس بشارة الخوري منذ اللحظة التي وقَّع فيها وثيقة الاستعفاء، وقد بدأ يدوِّن لائحة الاتهام منذ أن توجَّه خلفه إلى منصة البرلمان ليلقي خطبة الرئاسة. إنه يجنِّد كل ناقم على هذا العهد، وكل نقمة ثارت أو ستثور، إنه يعبئ الأنصار، ويختزن العتاد ليوم الزحف، وقد يكون سواه حامل العَلَم.
إن الرجل الذي انتحر رهين الكسليك قد يبعث حيًّا.
وقائد الجيش؟
قام الجنرال شهاب بخدمة عبر واجبه، ندر أن أداها جندي. أما لماذا لم يستلم الحكم فلأنه يعتقد — كما صارحني في أواسط آب الماضي — «أن الجيش اللبناني إن تداخل بأمور الحكومة اللبنانية فسد الجيش اللبناني، وفسدت الحكومة اللبنانية.»
قائد الجيش يستحق تحية من سنة ١٩٥٢.
قواصو الآلهة
لا أدري إن كان على وزارة الخارجية أن تشير على ممثلي الدول الأجنبية بمنع القواصين ارتداء هذه الأردية الطاووسية التي ترجع موضتها إلى العهد الإنكشاري، والتي تحقر الكرامة الوطنية والإنسانية. لعل بقاءها مفيد إذ يذكرنا أن النفوذ الأجنبي الذي طغى في العهد التركي لا يزال بيننا. إن الإنكليز سجلوا انتصارات عديدةً في العالم العربي في العام الفائت، كاد العراق ينفجر بين أيديهم فتداركوه، حاولوا إشعال الفتنة بين إمارة قطر والمملكة السعودية فتلافاها السعوديون بقبلات الأخوة العربية القبائلية، وبهدايا الكاديلاكات تحمل السجاد الثمين. تطلع إلى تلك المنطقة في سنة ١٩٥٣ وترقب، فقد تسمع هنالك دويًّا. أما في الكويت فلا يزال الإنكليز يستأثرون بأكثر من مائة مليون دولار من حصته السنوية، فيما هم يُوهِمون الدنيا أنهم يعطونها للكويت. ولقد شددوا حكمهم على تلك الإمارة بعد خسارتهم إيران. غير أنهم ليسوا بمسرفين بالضغط، ولا يستغرب أن تشهد هذه السنة إنشاء قواعد حربية هناك، وعلى شواطئ الخليج الفارسي. الذي يصد الإنكليز عن تحويل الكويت إلى مستعمرة إن تقاربا جديًّا حدث مؤخرًا بين العراق والكويتيين.
أما الفرنساويون ودولتهم ففي تفكك وانهيار؛ فقد اختنق صوتهم الداوي في لبنان، وأصيب نفوذهم بصدمة عنيفة، وخفت إلى نأمة وهمهمة، فاقتصر نفوذهم على ما يستطيع عمله تطوعًا بقايا الكوميسارية من موظفي الحكومة، وآخرون من الذين يؤمنون بأنهم أبناء الأم الحنون.
وإن شئت السؤال عن الأميركان، فأنت تدخل ساحة السمك في أشد ساعات الزحام، فهناك الصخب، واللغب، والعراك، وهناك بعض السمك البائت ينادى عليه: «طازة يا سمك.» لقد مثَّل الأميركان بيننا في السنة التي فاتت الحياة الأميركية الحقيقية؛ فالأميركي رجل خير وإحسان ومروءة؛ لذلك تدفقت مئات ألوف الدولارات على الجامعة، وهذا رئيسها يطوف الولايات المتحدة متسولًا عشرة ملايين، وها هي مؤسسة «فورد» للإحسان بيننا منذ شهور تدرس بصمت وهدوء كيف ستنفق ملايين الدولارات في سبيل البر. والأميركي أبلهُ سياسةً؛ فأنت تلقى منهم كلَّ معتوه يحاول درس الأحوال خطفًا واختزالًا، محاولًا أن يمشي على الماء، مفسرًا كل ظاهرة بفلسفة سمعها من جار له حول مائدة عشاء، أو فقرة من كتاب قرأه على طائرة تقلُّه من واشنطن إلى أوكلاهوما، وليس بينهم من لا يطمح بأن ينشر كتابًا عن هذا الشرق وطلاسمه. والأميركي كرجل تجارة وأعمال يؤلِّه الكسب، ويستبيح في سبيل الوصول إليه كلَّ رذيلة. لقد مثل رجال الأعمال من الأميركيين في لبنان دورًا مجرمًا دنيئًا بدأ اليوم يتكشَّف وتفوح روائحه، والأميركي اكتشف أن له في لبنان عملاء وسماسرة، ولكن ليس له أصدقاء، خصوصًا في الأوساط الحكومية؛ فهذه النقطة الرابعة، وهو مشروع إنساني والقائمون عليه فتيان أشراف يقرعون الأبواب متوسلين أن نتناول منهم ثلاثة ملايين دولار تنفق على مشاريع إنماء دُرِسَتْ درسًا علميًّا، فلا يجدون من يسهل أعمالهم.
مسرحية مستر لوك
نحن شعب عاطفي تسيِّرنا صحافة سطحية. إن لوك ما أقيل من منصبه لأنه انتقد حكومته بسبب موقفها من اللاجئين ومن الدول العربية. إن لوك انتقد حكومته وانفجر ودًّا وعطفًا وحبًّا مناصرًا الدول العربية لأنه أقيل من منصبه. لقد كان لوك يتكئ على صديقه الوحيد في واشنطن الرئيس ترومان، فلما خسر هذا الانتخابات تحقَّق لوك أنه منصرف عنا، فعصفت تصريحاته، ومحاضراته، وحفلاته، وأوسمته؛ أملًا منه أن تتوطد شعبيته بيننا، فتجد الرئاسة الجديدة في واشنطن أن لا غنى عن خدماته فيعود إلينا.
ليس لنا ما نأخذه على لوك إلا أنه يعطي «شيكات» من وعود ضخمة ليس لها مئونة في بنك التنفيذ، ولقد كنا أشدَّ احترامًا له لو أنه ثار في زمن صديقه ترومن.
أما جورج حكيم
حين تجددت المفاوضات في هذا العهد، كنت — وهذا ثابت — أول من قال إن الوحدة الاقتصادية لن تتحقق لأسباب؛ أحدها يكفي، وهو أن دمشق لا تريدها، وهذا قول أريد أن أردده الآن، مثبتًا إلى جانبه أن أشهى ما لديَّ أن أكون مخطئًا.
ولعل ظهور جورج حكيم في الحكم ظاهرة فريدة؛ فهو رجل علم وإخلاص، لا تدعمه قوة سياسية. هذه أمور يعرفها الناس، أما ما لا يعرفونه فهو أن هذا الفتى الأملد صلب الروح، هكذا يشهد له رفقاؤه في السجن، وكان جورج حكيم مريضًا يشكو قرحة في معدته، وكان من أصلب المساجين على العذاب؛ لذلك لم يأتِ موقفه من شركات الزيت مفاجئًا للذين يعرفون الوزير حكيم، وإنه من الجريمة أن نحاول إغناء الخزينة اللبنانية بصرف صغار الموظفين، فيما نحن لا نتخذ خطوةً حاسمةً لإغناء الخزينة بجباية عائدات معقولة من شركات عقدت اتفاقياتها مع عهد فساد.
إن الملايين تنصبُّ على الخزينة اللبنانية، لو أعلن الشعب صرخةً: «اقفلوا الأنابيب.» وماذا يصير إن أقفلنا الأنابيب؟ وحياة شرفك سنسمع صرخات التأييد من شعوب الولايات المتحدة وبريطانيا.
بيضة الديك
وفي سنة ١٩٥٢ سجَّلنا انتصارًا واحدًا في منظمة الأمم، لم يكن انتصارًا حقيقيًّا؛ لأنه لم ينفذ شيئًا إيجابيًّا، بل رد محاولة إيقاع ظلم بنا جديد. ولقد استعجل اليهود في تقديم مشروع المفاوضة المباشرة بيننا وبينهم قبل أن يستلم أيزنهاور الحكم؛ لأنهم يخشونه. وفي التصويت وقفت أميركا وبريطانيا الموقف المجرم المعتاد إلى جانب إسرائيل، وناصرتنا روسيا لنفس السبب الذي من أجله وقفته ضدنا في التقسيم؛ مصالحها.
خلع الخليع
وفي مصر انتحر عاهل آخر بصورة نهائية. لسنا في معرض اجترار الحوادث ولا إعادة نشر ما هو منشور، فليقتصر التعليق على القول إن محمد نجيب — وقد يشمل اسمه الضباط التسعة الذين يقال إنهم يسددونه — أثبت للمعسكر الغربي أن حركةً وطنيةً إصلاحيةً ليس من المستحيل قيامها في العالم العربي من غير أن تستمد قوتها من عناصر رجعية أو معادية للغرب، بل يشوقها أن تتعاون مع الغرب على صعيد الكرامة والمساواة.
أما المشاكل التي تواجه رجل مصر، فهي اقتصادية أكثر منها سياسية، وجاء تدهور أسعار القطن يقيم أمامه مصاعب جديدةً، وليست مشكلة السودان كما يتوهم الناس مشكلةً قوميةً أو سياسيةً، فمصر تقبل — وقد تفضل — أن تقوم في غد دولة سودانية مستقلة لولا معضلة المياه. إن النيل ينقص عن حاجات مصر، يجب بناء الخزانات الهائلة لا لتؤمن الري في وادي النيل على نطاقه اليوم، بل على نطاق أوسع بكثير، وإلا فلا رجاء للنهوض بالفلاح المصري من هوة تعاسته. وكان قد سبق لبريطانيا أن أعلنت في الماضي البعيد أن مياه النيل من نبعه إلى مصبه هي ملك لمصر، فعلت ذلك لا حبًّا بمصر، بل دفعًا لمطامع استعمارية أوروبية، كألمانيا وفرنسا، من السطو على هذه المياه أو البلدان التي تمر فيها، وقد عنت حينئذ بلفظة «مصر» المستعمرة البريطانية التي كانت آنذاك إنكلترا موقنةً أنها باقية فيها إلى الأبد. فإن استقل السودان اليوم فمن الطبيعي أن يذيع فورًا أن إعلان بريطانيا فيما مضى عن ملكية مياه النيل لا يربط الدولة السودانية المستقلة، فتقع مصر إذ ذاك في مشكلة حيوية، وإن بقي السودان تحت سلطة إنكلترا بقيت مصر كذلك تحت رحمة الإنكليز، وقد تعقدت الأمور — بل قد تكون بريطانيا قد عقَّدتها — حين بنت الإنشاءات الكبرى فرفعت بحيرة فكتوريا — منبع النيل — أقدامًا ثلاثًا، ودرست مشاريع، وبدأت بتنفيذ مشاريع سدود تبلغ قيمة أكلافها مئات ملايين الدولارات.
غير أنه وقد راق الجو بين الدولتين البريطانية والمصرية، ووضح أمامهما أن المصلحة في التعاون، فلن يطول الأمر حتى يجد الخبراء وسيلةً لتوزيع المياه، واستغلال الموارد والحلف العسكري.
ولقد تساءل المخلصون حين حدوث الانقلاب المصري عن سبب تأييد محطة اسرائيل لمحمد نجيب فور استلامه الحكم، وارتفعت حواجب هؤلاء المتسائلين تستغرب زياراته لكنيس اليهود وتودده لهم. واليوم بدأت محطة إسرائيل تهاجم محمد نجيب، وبدأ يتَّضِح أن تودده لليهود كان سببه أنه أراد أن يوضح للرأي العام الدولي أن حركته تحررية، وأنه ابتغى من تلك التصريحات والزيارات أن يطمئن أصحاب الرساميل في مصر — وهم غير مسلمين — بأنه لن يضطهد حتى اليهود؛ فلا مبرر لفرار الأموال من وادي النيل.
ولمحمد نجيب مأثرة يجب أن نتغنَّى بها، إنه جنَّد ستة آلاف لاجئ فلسطيني.
ماذا في تركيا؟
من مجهولاتنا الواسعة ما لا نعرفه عن جارتنا تركيا. إن عناصر القوة الذاتية في هذه الدولة ما زالت كما كانت منذ القدم؛ فلاحها، وجنديها. وتركيا اليوم — كما كانت تركيا مصطفى كمال، وكما كانت تركيا السلاطين — لا تزال شرقيةً في روحها ونزعتها. إن الفتاة في تركيا إن مَشَتْ وحدها في الشارع بكمٍّ قصير سمعت ما لا تحب، والفلاح لا يزال كما كان، حتى أولئك الذين جاءتهم التراكتورات هباتٍ يركبونها للنزهة نحو المدينة. أما الجندي فلا يزال ذلك القادر الجبار الشجاع، ولكن العصر الحربي هو عصر آلات، والتركي كأكثر الشرقيين لا يحسن تسيير الآلة ولا العناية بها. لم يكن في الجيش التركي — حتى منذ شهرين — فرقة مظليين، فالجندي التركي الذي أثار احترام الدنيا ببطولته في كوريا، والذي قهر الروس خلال التاريخ أربعة عشر مرةً، له من القوة المعنوية ما يحفز به إلى الإيمان بأنه يقهر الروس في المرة الخامسة عشرة، وهو يهرع بلذة وضراوة إلى جبهة القوقاس في غد إن دوى النفير. ولكن المطَّلعين يعلمون أن قوة الجيوش تتمركز حول الآلة، والتركي لا يملك الآلة ولا يعشقها.
ويثبت النظرية القائلة بأن التركي لم يتغير بعد انبعاث حركة رجعية. لو أن ساستنا جبابرة لما بقوا أغرابًا عن حركة هذا البعث التركي.
أما سبب انكماش الأتراك فيفسره أنهم لم يكونوا عبر التاريخ مثلنا متفتحين على الدنيا، ولا أرسلوا مئات ألوف المغتربين إلى المهاجر، وصهرهم عداء جيرانهم وعدوانهم إلى كتلة متماسكة تطرد عنها كل ما هو غريب.
ألمانيا – إسرائيل
وفي السنة الفائتة ساق الحلفاء بكرباج الإرهاب ألمانيا الغربية إلى إعطاء إسرائيل ثمانماية مليون دولار كتعويض عما أنزله هتلر باليهود. ولقد نجح ساسة الدول العربية بأن استثاروا الرأي العام الألماني ضد حكومتهم التي خنعت للضغط الأميركي البريطاني.
آلات الموت والحياة
واستفادت بريطانيا الكثير من صيتها العسكري كدولة حربية رئيسية حين نجحت بتفجيرها القنبلة الذرية الأولى. وأذاعت السلطات الأميركية أنها اخترعت سلاحًا سريًّا يشلُّ أعمال الغواصات، وروسيا تملك من الغواصات العدد الفتاك المرعب، وثبت أن أميركا توفقت بإنتاج القنبلة الهيدروجينية، وبصنع مدفع ميدان يطلق القذائف الذرية؛ اختراعات يدعي الروس أنها آلات دمار وعدوان، ويقول الغرب إنها أسباب قوة تمنع العدوان الروسي.
الرجل الذي هرم
واستعاد تشرشل رئاسة الوزارة، ولكنه جاءها هرمًا رجعيًّا يذكر الناس كيف أن العظيم يصبح في بعض الأحيان رمادًا قبل أن تذروه رياح الموت.
والشيوعية
أما رايات الماركسية فقد تكاثرت في لبنان، وهي تخفق عارية حمراء في عتمة الدهاليز، وفي العلانية تظهر متنكرة بمختلف الألوان. ولقد تفيأها الكثيرون ممن خابوا في محاولات وطنية توهموا أن أداتها بعض المنظمات التي انتموا إليها فانهزموا عنها يتفيئون الشيوعية مطمئنِّين إلى خدر في النفس تُشِيعُه هذه العقيدة. إنه من الخطل أن كل الشيوعيين في لبنان خائبون، أو فقراء، أو مأجورون. إن أشد الناس احترامًا لحق المواطن باعتناق أي عقيدة، حتى العقيدة الشيوعية، هم القوميون الاجتماعيون الذين يقاتلونها. إن الشيوعية كمبادئ نظرية تطبع في كتاب هي إنتاج ذهني يستثير التفكير، ويبعث الجدل، ولكنها بخلقها للطبقية بين أفراد الأمة الواحدة تخلق الفتن، وتستنفر البهيمية، وهي في هدمها أسوار القومية بين الأمم ترمي بالضعيفة منها إلى براثن الاستعمار، وهو اليوم روسي، وقد يكون في غد غير روسي.
ولعل من أمضى أسلحتها في الدعاية الهجوم على الأميركان والإنكليز. والشيوعيون يلجئون في ذلك إلى الأسلوب الصهيوني الذي نجح في خلق إسرائيل؛ فلقد كان اليهود ينادون في الدنيا «أن انظروا كيف اضطهدنا هتلر؛ إذن فأنصفونا بأن نأخذ فلسطين.» والشيوعيون اليوم يصيحون: «هاكم الاستعماريون الأميركان والإنكليز، أليسوا أشرارًا؟» إن الأميركان والإنكليز هم أشرار، وهم أفاضل. ولو سلمنا جدلًا أنهم يمارسون نظامًا رأسماليًّا نخاسيًّا، فأي منطق يربط هذا باعتناقنا الشيوعية، وهو المبدأ الذي فشل في كل بلد نُفِّذَ فيه، وخسر كل بلاد ربحها بالاحتلال، وهو المبدأ الذي في أساسه يجعلنا خونةً ننتقض عن ولائنا لبلادنا التي يجب أن يكون لها منا أبدًا ودائمًا الولاء الأول والأخير.
إن الشيوعية سجَّلت في لبنان في العام الفائت نصرًا كبيرًا؛ لم يعد أحد يخجل بأن يقول إنه شيوعي، بل صارت الموضة أن يعترف بشيوعيته بعض المواطنين بشيء من الغنج والخيلاء.
ويستحيل أن تذكر الشيوعية في لبنان من غير أن تذكر حالًا نقيضتها العقيدة القومية الاجتماعية. ولبنان الذي شهد في مختلف الظروف حلفًا بين الإخصام والعقائد المتضاربة لم يشهد بعد لا حلفًا ولا تقاربًا بين هاتين القوتين برغم أن شهر أيلول كاد يحشد في معسكر واحد كل القوى اللاخورية.
وقد سجلت العقيدة القومية الاجتماعية نصرًا كبيرًا في السنة الفائتة بما كسبته من عدد وفير أقبل على اعتناقها، وبموجة من الود والإعجاب انطلقت من كل الأوساط المدركة، غير أن هذا الظفر يجب أن يستمر ويتضاعف حتى يقضي على أباطيل النظام — بل الأنظمة — التي أضعفت وشلت قوى مجتمعنا.
ونحن نعلم أن العهد الماضي — وقد كان في خدمة المفوضيات — كان يعتبر أن القومية الاجتماعية لا الشيوعية هي عدوة الأجانب رقم واحد. إن الأجانب لم يحسبوا فيما مضى أن الشيوعيين يُؤْبَهُ لهم ما دام أمرهم إن اشتد يتأزَّم في مظاهرة يفرقها بوليسان أو ثلاثة، ولكن الأجانب — وهم ذوو مصالح — يخافون قوة عقيدة نبتت من هذه الأرض لغرض واحد، وهو خدمة أمتها، فهم إذن يُؤْثِرون أن يعظم أمر المنظمات التي لن يكون لفعلها تأثير عام، ويفضلون تقوية الأشخاص الذين يباعون ويشترون، ويرضخون للوعيد، وتُغريهم الوعود، ولا تدعمهم منظمة تسيرها مبادئ. وما دام الأجانب يفهمون الاستقرار في أن يستمر ضعف الدولة الصغيرة، فسيبقى القوميون الاجتماعيون هدفًا لاضطهادهم يتنازعون والشيوعيين المكان الأول كأعداء للأجانب.
برغم مظاهر السذاجة في القوميين الاجتماعيين، فهم يفهمون هذا الموقف، ولهم في كل يوم عليه برهان قاطع.
أيزنهاور يفوز
إن أميركا ستلعب في عهد أيزنهاور ورقتها الأخيرة في العالم العربي، فإن لم يعكس عهده اتجاه عهد ترومان، فكل انحراف، وكل عمل عدائي نحو أميركا يصبح مبررًا. ولكنا نُسرف بالتفاؤل لما سنلقاه على يديْ رئيس الولايات المتحدة الجديد لولا الضربات التي لقيناها في عهد سلفه.
دروس من بلاد الشاه
وفي السنة الفائتة لف الأسد البريطاني ذنبه بين رجليه، وانهزم من إيران. من بلاد الشاه انطلقت هذه الدروس: (١) تحالف الشيوعية مع الحركة القومية في يوم حاسم هزم به الأجنبي. (٢) لم يفهم العقل الغربي مدى عاطفية الشرقي الذي لا يهمه أن يفقأ عينه اليسرى نكاية باليمنى؛ فالفقر لم يخضع الإيرانيين. (٣) أفلست أساليب القرن الفائت الاستعمارية؛ فمن أسباب هزيمة الإنكليز عجرفة ممثِّلهم فى إيران الذي لا يزال يعيش بعقلية القرن الفائت.
سلسلة قمم
وكشَّر الروس في وجه صهيون، وانفجرت كينيا، وثار المغرب الأقصى، ونشأت دولة ليبيا، وماتت إيفا بيرون، وتوفي ملك إنكلترا، وجن طلال، وجرت الانتخابات البلدية في لبنان حيث سجَّل القوميون الاجتماعيون ١٢ بالمائة من مجموع الأصوات، وأثبتوا أنهم أكثر عددًا من أية وحدة انتخابية.
صرعزة
وغار في العالم العربي أتلانتيك الكلام … عزام!
عفوك يا عام!
يطلب اللبنانيون المغفرة من السنة التي انقضت؛ إذ لا يزال من أبطالهم القوميين الاجتماعيين عشرات من مساجين ومبتعدين، هؤلاء لا يستعطفون، بل يصبرون وينتظرون، أنهم لا يبتهلون، ولا يتضرَّعون؛ فالذين قاتلوا من أجل الحق لا يستجدونه.