من مغترب عاد للبنان
السيد شمدص جهجاه، المعروف بالاسبنيولي باسم:
عزيزي شمدص
عسى تصلك رسالتي هذه والأشغال عندك على قدم وساق وفخذ.
كلمة صدق تريد أن تسمعها؟ إنك لم تخطر على بالي كثيرًا في الأيام الأخيرة. في هذه اللحظة أذكر فراقنا على ظهر الباخرة وكلانا نصف سكران، وأنت تنهال عليَّ بالقبلات، وتوصيني بألف وصية، هذه أكثرها لم أقم بها؛ فإني لم أقدر أن أقبل شوارب الكثيرين الذين أوصيتني بتقبيل شواربهم؛ ذلك لأن أكثر الناس صاروا بغير شوارب، وبعض الذين دمعت عيناك لذكراهم لا يذكرونك، كذلك لم أوصل بعض الهدايا لأصحابها خشية أن يشمئزوا من تفاهتها، لبنان تغيَّر منذ تركته يا شمدص، ثلاثون سنة هي وقت طويل.
حين رست الباخرة في مرفأ بيروت، نزلنا إلى الكمرك؛ ذلك المكان المرعب الذي طالما سمعنا أخبارًا مخيفةً عنه، لا تصدق الأراجيف فالكمرك منظم هنا، ورجاله أولاد حلال. وكان يوسف ابن عمنا قد اتَّصل بصديق له في الأمن العام أو البوليس — لا أذكر — وهيَّأَ لنا الأمور، ولم نتأخر هناك تأخرًا غير عادي، كذلك لم ندفع ضريبةً على كم صندوق سيكار، ولما تركنا البناية كان أكثر أهل الضيعة — المديلبه — في انتظارنا في بوسطتين — يعني باصين — وقد وضعوا في كل بوسطة يافطةً — يعني آرمةً — مكتوبًا عليها: «أهلا بالمغترب الكبير الأستاذ عوسج شنديب.» وهنا لا تستغرب هذه الكلمات، فكلنا في لبنان «كبير»، والأستاذ هو لقب يُعطَى لمن ليس له لقب، شرط أن يكون في لبسه شيء من الأناقة، ومظاهره تدل على أنه لا يشتغل بيديه، أو أنه على شيء من الثقافة، «الثقافة» كانت تعرف في أيامنا ﺑ «العلم».
وتراكض أهل البلد من حمل شنتاتي، وانطلق الفتيان بالحداء، وضرب الدربكة، وتحمس يوسف ابن عمنا فتناول مسدسه وأطلق رصاصاته في الفضاء، وبعد قليل علت الضجة بينه وبين بعض البوليس، فنظموا به ضبطًا وأخذوا منه الفرد. وخرجنا فطفنا بيروت، فوجدتها مكتظةً، ضيقة الشوارع، ولاحظت كأن بيوتها كانت في قبضة جبار رمى بها في عجل على الرمال؛ فانتشرت وتراكمت فوق بعضها غوغاء من حجارة وحديد.
ربما تستغرب بلاغتي يا شمدص، ولكن الناس هنا كلهم بلغاء وفصحاء، بل إنني في الثلاثة الأشهر الأولى فتنت ببلاغة المواطنين كلهم؛ مثلًا جاء بيروتي إلى الضيعة فقالوا لي إنه جاء يستجمُّ، هذه على أيامنا كانت أبسط بكثير، كنا نقول ليرتاح، أو ليشم الهواء.
بلى، صرت أفهم البلاغة، بل أتقنها. ذكِّرني أن أرسل إليك قصائدي الزجلية (الزجل في أيامنا كان اسمه قرادي).
ورحنا نمشي في أسواق بيروت، ووجدت أن النساء صرن يتجولن بحرية، والحق يقال إن شعبنا يحترم النساء في الأسواق احترامًا عجيبًا؛ فلا تصفير، ولا غمز، ولا تسميع كلام. ثم اقتربت من بائع كعك بسمسم، وأخذت كعكعة، وكان يدغدغها بيديه، وحالًا سألني متى رجعت من أميركا يا خواجه؟ الله ما أذكى أفراد شعبنا! ثم جمع أصابعه على زعتر وقال «صحتين»، مثل الأيام القديمة بالتمام. واكتشفت أنه ليس معي عملة لبنانية؛ فدفع عني يوسف ابن عمنا، وأبى أن أعيد له الربع ليرا بعد أن بدلت ورقة العشرين دولار بالعملة الوطنية. ثم ركبنا البوسطتين وانطلقنا، فلما وصلنا إلى فرن الشباك أوقفنا كومسير البوليس هناك، وأرجع الفرد ليوسف ابن عمنا، وأعطاه الضبط قائلًا: «مسح به جزمتك، ولعيون أسعد بك.» وقيل لي بعدئذ إنه كان لهذه الحادثة أهمية كبرى في أنحاء البلاد.
كذلك كان لنا في «المديلبه»— قريتنا — لقاء حافل، وسمعت الخطب والقصائد، وبقيت أكثر من أسبوع أودع جمهورًا، واستقبل جمهورًا، وأرسلت مع يوسف ابن عمنا حوالةً بمئتي دولار ليصرفها لي في بيروت، فتأخر بالعودة، ثم رجع بعد أيام ومعه قصص. كيف أن الصيارفة منتظرون وصول علم من بنك نيويورك، كذلك قطع يوسف ابن عمنا رجله عن دارنا، وسمعت أنه يلعن أميركا ومن أتى منها، ويقول إنني قليل الشئمة؛ إذ إن يوسف ابن عمنا نظم لي استقبالًا في بيروت، ووقع بسببنا في «مشكل» — وهذه لفظة جديدة عليك سأشرحها لك في فرصة ثانية — وإن كعب صرمايته العتيقة يقطر دولارات.
وحقًّا شعرت بزهو كثير لمظاهر الاحترام والخشوع والتعظيم التي تحيط العائد إلى لبنان؛ فهو شبه بطل راجع من معركة ظافرة، والناس يظنون أننا كلنا عباقرة في المهجر، متفوقون، وتراهم يعتذرون لي عن بعض العادات والأخلاق والإدارات البلدية.
بل ولكن — هذا التعبير من أدوات البلاغة — حضرت حفلةً خطابيةً، وصلت إليها متأخرًا، فدخلت قاعةً مكتظَّةً بأصناف البشر، وقد وقف على المسرح أستاذ يخطب عن أحد أنواع البشر، وينعتهم بالنبوغ، والوطنية المثالية، والسخاء المدهش، والجد، والقيام بالمعجزات، وكان الأستاذ ينفعل والناس تصفق والكلمات البليغة والحمم والبخار تموج في بلعوم الأستاذ، ثم تنفجر، وتنطلق فتلهب القاعة، فسألت جاري بمن يتغنى الأستاذ؟ فأجاب: بالمغتربين طبعًا، فوضعت يدي على فمي، وركضت من القاعة إلى الخارج أضحك لأنه خطر على بالي … و… و… و… سلم عليهم جميعًا.
قل لفارس أن يستحي فيرسل إلى أبيه كم دولار، ليس من الضروري أن يرسل الواحد منكم حوالةً ضخمةً، مسكين أبو فارس فهو في أيام الصحو، وحين يبتسم له الحظ يشتغل على حماره بنقل البحص من النهر إلى الضيعة — سفرة كيلومترين — والنقلة بثمانين قرشًا، إلا تزال «هوانيتا» زبونة فارس أم هو رجع إلى «أنيتا»؟
المعيشة رخيصة جدًّا في لبنان، لا تصدق أقوال الجرائد عن الغلاء، إجمالًا تقدر أن تعيش هنا بأقل بكثير مما تنفقه هناك بشرط أن لا تطلب الزعامة وألا تصدق نفسك بأنك مغترب كبير، وبشرط أن لا تطلب أكل العنب في شباط بدلًا من أيلول. المعيشة هنا رخيصة، الكنفشة غالية، بليرا تصل إلى بيروت في أوتوموبيل ثمنه عشرة آلاف ليرا من غير أن تدفع عشرة آلاف ليرا ثمن أوتوموبيل.
أكثر ما تنشره الجرائد هنا صحيح، وعلى ذكر الجرائد فإني أشكرك على أهدائك إياي جريدة «الأورينتي»، هكذا يتسنَّى لي تتبع أخباركم، وأنا حين أقرأ «الأورينتي» الأرجنتينية، و«الأوريان» اللبنانية، أرى التعليق والأخبار تقريبًا هي هي، الأسماء والأماكن مختلفة. على كل حال يا شمدص متى رجعت، وهذه هي الوصية الكبرى التي أوصيتني بها، أي أمر رجوعك إن كان من الحكمة أولًا، فأنت تريد العودة للعيش لا للوعظ ولا للإصلاح ولا للقيام بالثورات الاجتماعية أو السياسية. فإذا مررت وزوجتك بشوارع بيروت، ورأيت بعض الرجال يبللون الحيطان فلا تقترب من الرجل وتؤنبه، بل قل للمدام أن تدور بوجهها إلى الجهة المعاكسة، وإن اتفق أن كان هناك أيضًا رجل آخر واقفًا قبالة الحائط، قل للمدام ترى لماذا هذا الرجل يحدق بالحائط؟ وإن ركبت تاكسي ادفع للشوفير نصف ليرا زيادةً، فقولة «الله يعوض عليك.» لم نكن نسمعها في الأرجنتين يا شمدص، وهي تساوي أكثر من نصف ليرا. ومتى أردت أن تستبدل حوالةً مائة دولار رح بنفسك إلى الصراف لا ترسل يوسف ابن عمنا.
عدم المؤاخذة لم أذكر شيئًا عن فلسطين؛ فإني أعلم أنكم هناك تهتمون بها، إن الناس يفوهون بأقوال، ويكتبون مقالات عن اليهود الأعداء، لو أنها قيلت أو كتبت في أي بلدان الدنيا عن أعداء تلك البلدان، لهاجموا القائلين والكاتبين، وأحرقوهم في الشوارع.
في الأسبوع الماضي زرت مخيمًا قرب طرابلس، وجدتهم — رجالًا ونساءً وأولادًا وأطفالًا — على الأرض، بدون فرش ولا أغطية، ورأيت غلامًا راجعًا إلى الخيمة فرحًا؛ إذ إنه وجد كسرة جرة يستعملها لجلب ماء الشرب من النهر. هل ممكن أن تجمعوا شيئًا هناك لهم، وهذه المرة ننتقي شخصًا أو منظمةً توصل المال إلى مستحقيه.
البناء في بيروت — شأنه في أكثر بلدان الدنيا — على قدم وساق وفخذ. سمعت أن قصرًا شُيِّدَ حديثًا زينوا أحد جدرانه بالذهب المذوب. أعتقد أن هذا مبالغة، إنما قصة كسرة الجرة قرب طرابلس — وحياة شرفك وشرفي — إنها صحيحة.
ثم لا تقلقوا عما قد تقرءونه في الجرائد عن المشاحنات والقتل والضرب، هل تذكر حينما كنا نخشى في الأرجنتين وقوع حرب أهلية في لبنان؟ إن هؤلاء الذين يتناظرون ويتطاحنون، يقضون أكثر السهرات سوية بين ضحك ودعاب ولعب بوكر. ذكرني أن أرسل لك مكتوبًا آخر عن اللعب في لبنان، فإن لاحظتم من مقالات الجرائد أن ستقع الواقعة هنا خففوا من مخاوفكم، واذكروا أن ما تقرءون هو كلام أساتذة فقط.
- (١)
لا ترجع بأقل من عشرة آلاف دولار إن كان هذا المبلغ متيسرًا، فمن الهين أن تبدأ أعمالًا كثيرةً تسوكر لك مصروفك. أما من معه أكثر من عشرة آلاف دولار، فلا يحتاج إلى نصيحة أحد.
- (٢)
شعبنا مع كل نقائصه أشرف وأحسن وأكرم وألذُّ شعوب الدنيا. في وسعك اختيار شلة من الأصحاب تعيش معهم في هناء، من الآن إلى عندما.
- (٣)
لا ترجع بفكرة أنك ستصلح الحكومة أو البشر، وابتعد عن الحكومة ما أمكنك.
- (٤)
اجلب معك — عدا عن العشرة آلاف دولار — عقلك ورصانتك؛ لأنك إن انتفخت خربت.
- (٥)
لا تجلب معك إلا القليل من الثياب، هنا الرجال يتأنَّقون في اللبس كثيرًا، وأعظم خياطي الأرض في بيروت.
- (٦)
لا تجلب معك هديةً لأحد، لا تفتح ها الباب. أما ما كنا نتخيله عن مناظر لبنان ومناخه وفاكهته ومآكله، فهو أقل بكثير من الحقيقة، الجنة هنا يا شمدص.
قرأت أن حكومتنا عيَّنت عندكم سليمان الحلبي قنصلًا فخريًّا، لا بأس بسليمان، دون سلمون. ولكن يا ليتهم عيَّنوا نجيب رافع، زره عني، وسلم عليه، وقبل يده، بطنها وقفاها، وقل له إنني لا أنسى جميله ما حييت. على هذا الرجل ينطبق خطاب الأستاذ شولح الذي تغنَّى بالمغتربين.
على فوقه: هل جمعت لي شيئًا من الدين القديم الذي تركته بين يديك؟ ثم بعد كتابة ما تقدم جاءنا يوسف ابن عمنا معتذرًا وفي يده صك بيته يريد أن يرهنه ليؤمن لي المئتي دولار. ألم أقل لك إن أفراد شعبنا أشراف؟ بل ولكن، يجوز أنه يقصد أن يستدين من جديد، والصك تمهيد، ثم قل ﻟ «ريمندو» ابني حين يكتب لي أن لا يخاطبني ﺑ «بابا»، فبعض مكاتيبه ضاعت، كذلك يمكنك أن تدفع للمحامي «أميليو تيرونا» لا أكثر من خمسماية دولار شرط أن يمزِّق ورقة زواجي من سجل البلدية، الكلام بسرك أريد أن أتزوج هنا من جديد. جميلة؟ سي سنيور!