رامز صعب

هل أنقذت حياته القنبلة الذرية؟

تبدأ هذه القصة بعد أن هدمت إحدى طائرات الأميركان الدير الذي التجأ إليه نحو من مئتيْ أجنبي في مدينة جبلية في الفلبين تدعى «باغيو»، وكان من اللاجئين أصدقاء لبنانيون ثلاثة: حسني الحلبي البيروتي، ومخيبر كيروز البشراني، والكاتب وعائلاتهم.

وكان السبب المباشر لضرب الدير أن اليابانيين كثيرًا ما كانوا يخبِّئون الأسلحة والذخائر في الكنائس، والأديرة، والمدارس، والمستشفيات. ويبدأ هذا الفصل بعد احتراق الدير:

… وفي أواخر الليل مزَّق أذني صراخ نساء ثلاث؛ زوجتي، وزوجة مخيبر كيروز، وزوجة الإسبنيولي سلسمندي؛ فأفقت أسأل: ما الخبر؟! وأشعل مخيبر الشمعة التي إلى جانبه، وتبيَّن لنا أن إحدى السيدات حلمت بالطائرات تضربنا فذعرت، وساهمتها بالخوف رفيقتاها. وهدأ روعهن حالًا؛ لأننا تعلمنا من رفاقنا الأطباء أن أسرع الوسائل لتهدئة من تصيبه الهستيريا هي صفعة على الخد، وقد عقد الرجال منا ميثاقًا فيما بينهم، وفوَّض بعضهم بعضًا أن يصفعوا خدَّ أية زوجة عند الأزمة، علاج أسرفنا في وصفه والتداوي به في كثير من الأحيان.

وجثمنا في ذلك الكوخ نرتجف من البرد، ومن الرعب؛ إذ نذكر حوادث اليوم الفائت في جوار الدير المحترق الذي حسبناه ملجأً أمينًا، ومرت أمام عيني من جديد لوحاته الكئيبة: طائرة تحوم فوق الدير تقذفه بالرصاص، وفتًى إسبنيولي قتيل في باحة الدير لم يجسر على الدنو منه إلا أمه التي ركعت إلى جانبه تهز قبضتها صوب الطائرة القاتلة، وراهبات يطفن بهدوء يعالجن الجرحى، وغابت الطائرة؛ فإذا بالدير يطير في الفضاء نارًا ودخانًا، وإذا بأكثرنا — وأنا منهم — نهجم نحو المخزن محاولين تخليص مئونتنا، ونتخطَّى في ركضنا جثتي راهبتين اعترضتا طريقنا؛ إذ إن أحشاء إحداهما تجمَّعت على البلاط، وشظايا رأس الثانية التصقت بالحيطان.

كل هذه الصور امتثلت أمام عيني، ودوى في أذني أزيز الطائرة، وقرقعة رصاصها، فنزلت بي الرهبة التي طالما شلت مشاعري خلال شهور أربعة رأيت فيها الموت كل يوم، وفي بعض الأحيان مرات كل يوم.

قد يكون من حظي أن أعصابي بطيئة التجاوب في ساعة الخطر، تراني هادئًا غير مرتعب في وسعي أن أدعي الجرأة، غير أنه بعد أن تمرَّ بي الحادثة بساعات ينهلَّ عليَّ الخوف دفعةً واحدةً، فأُصاب بما يشبه الشلل.

في ذلك الكوخ الحقير بين ضجيج الأولاد والنساء وصيحات مخيبر كيروز العنترية كنتُ في شبه غيبوبة؛ لذلك لم أشترك في القرار الذي اتخذوه، وهو الابتعاد عن الدير والمدينة والفرار إلى البراري.

وللمرة الثالثة بعد ابتداء هجوم الطائرات المنتظم حملنا ما نقدر عليه من الأدوية والمآكل، وسرنا نحو البرية غير قاصدين إلى مكان معين.

وحين طلعت الشمس وجدنا أنفسنا على بعد كيلومترين من المدينة في سهل بين جبلين، قافلة ملونة من رجال ينوءون تحت أحمالهم، ونساء يحملن السلال ويرتدين المعاطف الملونة، وأولاد في ألوان الفراشات التي بدءوا يطاردونها حين حميت الشمس. وأرجع النور الأمل إلى نفوسنا والدفءَ إلى أجسادنا وأرواحنا، ورجعنا إلى الدعابة؛ فتطلع مخيبر إلى ماء يجري بين الأشجار المنتصبة في مضيق الجبل إلى يسارنا، فقال: «ما رأيكم لو «صلينا دبق» في هذه الأغصان ودققنا كبة على هذه البلاطة؟»

وقبل أن يسمع مخيبر الجواب لاح ظِلٌّ على الأرض مخيف، وتفجَّر فجأةً صوت محرك، فرأينا في الجو إحدى الطائرات، تلك المزدوجة الجسم، من معامل «الأكهيد»؛ ذلك أن من بعض حيل الطيارين أن يوقفوا المحرك فوق الغيوم؛ فتهبط الطائرة صامتةً كي يفاجأ بها العدو، وعندما تدنو من الأرض يتحرك الموتور، وتنفذ الطائرة رسالتها التدميرية.

ودارت الطائرة في دائرة مبتعدة عنا، ثم رجعت نحونا. قلت في نفسي: هذه المرة ستفتك بنا بدون ريب؛ فنحن في سهل لا مكان فيه نختبئ، وتعالت الصيحات، ثم دارت الطائرة مرةً ثانيةً، وإذا بذراع تمتد منها ملوحةً لنا، ودارت مرةً أخيرةً، والذراع تلوح. في يقيني أن ألوان المعاطف أقنعت الطيار ورفاقه بأننا سكان مدنيون لا جنود.

ومشينا متثاقلين نحو المضيق حيث الأشجار والماء، وحيث أراد مخيبر أن يصلي الدبق ويدق الكبة، وانحنينا بالشفاه نعبُّ من الماء، يقولون إن الجريح يتطلَّب الماء، وأزيد: أن الخائف كذلك.

وبعد أن سلقنا الرز، واستسغناه ترويقةً فاخرةً، انطلق مخيبر — وهو ربيب الجبال — يتكلم بطلاقة لغة القبيلة التي تسكنها ليختار لنا مأوًى نلجأ إليه، ثم عاد عند العشية يبشرنا بأنه وقع على كوخ لصديق له كان شريكه في تجارة الخشب فيما مضى، عندما كان مخيبر يقدم الجسور الخشبية للحكومة، ويقتطعها صديقه من الحرج الذي يملكه.

واستأنفت قافلتنا المسير نحو كوخ جديد، وملجأ جديد، وفي تلك الليلة بتنا — وعددنا نحوٌ من أربعين — متمددين على أرض الكوخ المبني من القصب المحبوك.

وفي صباح اليوم الثاني اقتسمنا الأعمال؛ فتولى حسني الحلبي بناء الملجأ؛ لأنه كان يدعي أنه خبيرنا العسكري؛ فضرب بالمعول ضربات ثلاث استراح بعدها، وترك لرجال القبيلة إنهاء الملجأ، ورجعت ومخيبر كيروز إلى المدينة مع رجلين، واحتملنا من أغراضنا ما سلم من الحريق والسرقة، وكان أثمن ما احتملنا أربعة صناديق من الويسكي.

هذه الصناديق كانت هديةً أعطانيها إيليا الأخرس — من حمص — وهو أعزُّ مَنْ صادقت في هجرتي؛ فحين افترقنا في مانيلا قبيل بدء المعارك بين الأميركيين العائدين لاكتساح الفلبين، وبين اليابانيين المحتلين المدافعين، ودَّعَني إيليا بقوله: «من يدري إن كنا سنجتمع على هذه الأرض مرةً ثانيةً. أُهديك هذه الصناديق من الويسكي، حذارِ أن تمسها إلا خلال المعارك والمخاوف.»

ولبثنا زهاء عشرين يومًا في حياة شبه منتظمة؛ إذ كنا ننهض في الصباح الباكر فنسلق شيئًا من الرز والبطاطا البرية فنزدردها. ثم نجتمع نحن الثلاثة؛ أنا وحسني الحلبي، ومخيبر كيروز، حول قنينة ويسكي — الساعة السابعة صباحًا — بين أشجار الصنوبر على حجر كبير، فيتغير اسم المكان بتغير الشخص القاعد على الحجر الكبير؛ فالمجلس هو إما «صالون مخيبر»، أو «مقعد الشيخ»، أو «مكتب حسني». وفي نحو الساعة التاسعة تفرغ القنينة، ويمتلئ الجو بأزيز الطائرات التي يتراوح عددها بين الثلاثة والأربعة والعشرين؛ فيدخل الملجأ الأولاد ثم النساء، ثم أنا وحسني، ويبقى مخيبر خارجًا ملاحظًا حركة الطائرات، ولا يهرع إلى الملجأ إلا حين يكون الضرب على بعد مئات الأمتار منا، أو حين تمر الطائرات فوق رءوسنا.

وكانت الطائرات تبيض قنابلها كلَّ يوم على مسافات تتراوح في البعد منا بين الكيلومتر والثلاثة، وفي كثير من الأحيان نجد أن الشظايا اخترقت حيطان الكوخ، أو دفنت في سطح الملجأ، ثم راحت الأخبار تتسرَّب إلينا عن أصدقاء ومعارف لنا قتلوا أو جرحوا، ودرسنا الحالة فلم نجد مكانًا يفوق سواه بالأمن أو الخطر فلبثنا حيث نحن، ولعلَّ سبب اطمئناننا على الرغم من تفجر القنابل حولنا كل يوم أننا في مكان مشجر، على شفا شير مشرف على مدرسة زراعية دمرتها الطائرات في أول زيارة، فقلنا لن تعود إلى ضرب منطقة ضربتها وإلى تدمير مكان دمرته.

هكذا استمرت الحياة أسابيع، أصبح الرعب والخوف والدمار والقتل من عادياتها ومألوفاتها. وكنا خلال ذلك قد نفذت نقودنا، وارتفع سعر البطاطا بحيث ساوى الكيلو نحوًا من عشر دولارات؛ فأخذنا نبيع ألبستنا وحاجاتنا، وعشنا نحن الثلاثة حسني ومخيبر وأنا حياةً اشتراكيةً نقتسم وعيالنا النقود والمئونة. أذكر يومًا ظفرنا بجدي من الماعز التهمناه عشاءً فاخرًا، وكان ذلك الجدي مبادلةً على جزمة صيد ملكها حسني، واليوم إن سألت سكان باغيو ما هو أفخر طعام في الدنيا أجابوك: «جزمة صيد.»

كنا نستبدل حاجياتنا بما نأكله غير حاسبين أن في الأمر مأساةً؛ إذ لم يمرَّ بنا يوم شككنا فيه بفوز أميركا، وبأنه في نهاية الأمر سيرتفع عنا نير اليابانيين، وأن هذه الأثواب والحاجيات أمور تافهة، غير أن الأمر لم يخلُ من مأساة. ذات يوم وجدت في البيت كيسين من الرز، وتطلَّعت إلى زوجتي فإذا الفاجعة في وجهها، وبعد تحرٍّ واستجواب فهمت أنها استبدلت بخاتم الخطبة كيسين من الرز.

لقد مرت بنا فواجع كثيرة؛ ضيق انقلب نعمةً، خمول ذكر استحال في بعض الأحيان إلى ما قد تتوهمه مجدًا. لقد محت الأفراح أكثر ما نزل بنا من آلام، ولكن السنين لم تمحُ عن وجه زوجتي بعض المصائب، ومنها أنها باعت خاتم خطبتها.

نسيت أن أخبرك أن القبيلة التي عشنا بينها لا تستطيب من اللحم إلا لحم الكلاب.

وفاتني أن أخبرك أنني تثبَّتُّ من صدق نظرية صديقي بشارة «أبو أنطوان» الجريديني من الشويفات؛ إذ كان يعظني: «يا ابني! التجارة لا تموت، الرجال تموت.» فتحت ضرب القنابل ازدهرت تجارة البيع والشراء، ومن حسن حظنا أن مخيبر كيروز تعاطى الاتِّجار بالبقر فكان حينًا بعد حين يبيع ويشتري ويقايض ويذبح، وفي كل مرة نلتهم أرباحه معلاقًا، أو قصبةً سوداء، أو كتف عجل.

وفي ذات يوم انزوى مخيبر بصحن تعالى فيه اللحم والرز المسلوق، فدعاني إلى مشاركته ففعلت، وبينما أنا منصرف سألني مخيبر: «سعيد! هل سبق لك أن أكلت لحم كلاب؟»

قلت: «لا، معاذ الله.»

أجاب مخيبر: «أنت غلطان يا ابن عمي، غلطان.» وقهقه ضاحكًا متطلعًا إلى الصحن الذي شاركته بالتهامه.

قد يعتقد قارئ هذه السطور أن حياتنا كانت مرحًا ودعابًا. هذا صحيح؛ فلم يمرَّ بنا يوم لم نواجه به الموت، كذلك لم يمرَّ بنا يوم لم نملأه ضحكًا وسخريةً وقهقهةً.

وكان حسني يصر أبدًا على أنه الخبير العسكري، واستنتج من ملاحظاته أن طائرةً برغشيةً صغيرةً تأتي منفردةً مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع، فلا ترمي القنابل، بل تتمهَّل في طيرانها وتجوُّلها على ارتفاع من الأرض قليل، وكان يعقب مجيئها قصف المدفعية، أو زيارة الطائرات المغيرة.

وفي ذات يوم جاءت تلك الطائرة فحوَّمت فوقنا وفوق المدرسة الزراعية المهدومة ساعات وانصرفت.

وعبس حسني وتشاءم.

وفي الواقع جاءت في اليوم الثاني أربع طائرات فحوَّمت فوق المدرسة الزراعية، وهي لا تبعد عنا أكثر من مئتيْ متر، وألقت بقنابل كثيرة على المدرسة وجوارها، وعند انصرافها أمطرتنا إحداها بضع ألوف من رصاصها أصاب الأشجار والكوخ، وحائط الملجأ الأمامي، ولكنه لم يصب أحدًا منا.

في صباح اليوم الثاني إذ كنا في «صالون مخيبر» نوشك أن نمتصَّ آخر نقطة من ويسكي إيليا الأخرس، سمعنا أزيز الطائرات فأسرعنا نحو الملجأ على عادتنا، وبقي مخيبر في صالونه يراقب.

ولم يمضِ بضع دقائق حتى كان مخيبر يرتمي بجسده الهائل على باب الملجأ، وإذا بهدير الطائرات يتفجَّر من داخل آذاننا.

– كم طائرة يا مخيبر؟

فلم يجب، وتطلَّعت إليه فإذا بوجهه — للمرة الأولى — بلون وجه الجثة، وإذا به يحاول بلع ريقه، وأعدت السؤال فلم أظفر بجواب، وإذا بجهنم تنفجر من السماء فوقنا قنابل، ورصاصًا، وهدير محركات، وطائرات تعصف وتقصف، وتنقض، وتأزُّ صعودًا وهبوطًا، وشظايا القنابل لها عنين وغلغلة، وأشجار الصنوبر تتقصف وترتمي، وفي الملجأ صراخ وبكاء وعويل وصلوات وشتائم.

ثم حدث ما كانوا يقولون لنا إنه يسبق الموت، فسمعنا صفير القنبلة — هذه متى سمعتها يعني أن اسمك مكتوب عليها وأنها قاصدة إليك — وعصفت بالملجأ ريح سخنة فتهدم جانبه الأيسر، وتطلعت فإذا «لودي» ابنة مخيبر — وهي في السابعة من عمرها — قد طَمَرَها التراب إلى كتفها فبان فوق التراب رأسها، وقد تقززت عيناها، وصرخت صرخةً ظننتها من غير هذه الدنيا.

وتعاونا على نبش الفتاة من التراب، فإذا هي والحمد لله سليمة.

بقينا على هذا المنوال من التاسعة صباحًا إلى نحو الرابعة بعد الظهر حين صمت أزيز الطائرات.

واحتملنا أنفسنا من الملجأ إلى الخارج، فإذا بمكتب حسني شجر مقطوع، وإذا على نحو عشرين مترًا منا هوة حفرتها القنبلة التي كادت تذهب بنا، وإذا الشمس كأنها مكسوفة والجو ملؤه غبار أحمر — لون تربة باغيو — وورق أبيض لا أدري من أين ثار، وإذا بالمدرسة الزراعية وما حولها تتطاير شبرًا شبرًا بتفجيرات متتابعة.

الظاهر أن اليابانيين عادوا فخبَّئوا الذخائر سرًّا في المدرسة المهدومة، وأن الطائرة البرغشية اكتشفت الأمر بالمنظار أو الصورة، فجاءت أربع وستون طائرةً تفرش بساطًا من القنابل إطارًا بأربعة كيلومترات مربعة من الأرض، وكاد يطيح بنا معها.

(في كتاب مقبل سأسرد كيف كان العيش بين المخاطر، من طائرات تضرب، ومدافع تقصف، وشراذم جنود يابانية مهزومة تفظع، إلى أن جاء يوم سمعنا به أن في الجبال دربًا ضيقًا بين الأحراج «شريك» كانت تستعمله القبائل فيما مضى، وهو يصلح أن يكون طريقًا للفرار إلى المعسكر الأميركي؛ فقررنا نحن الثلاثة — حسني الحلبي، ومخيبر كيروز، وأنا — أن نهرب بعائلاتنا. وكان من الأسباب التي حَدَتْ بنا إلى هذا القرار فراغ النقود، ونفاد الزاد، والاعتماد على المقدر. كل هذا سيظهر في كتاب مقبل، أما الآن فنحن في مانيلا عاصمة الفلبين مع بضعة آلاف من الأجانب في ضيافة الجيش الأميركي.)

وعاودتني الأزمة المالية، كيف لا وعلبة السكاير ثمنها دولاران، وبرحت في مظاهر الدمار؛ فالمدينة (مانيلا) أكثرها طلول سوداء، وبرمنا بحياة الخيمة في المعسكر، وقد ذهبت عنا نشوة الفرح بالنجاة، وأبواب الرزق مقفلة، ولا أخبار عن لبنان تطمئننا عن الأهل. وأكثر أحبائنا قتلى؛ إيليا الأخرس، بشارة جريديني، عبد الله الحداد … وسواهم كثيرون.

ويومًا رجعت من المدينة إلى المعسكر أجرُّ حذائي العسكري على أسفلت الطريق الملتهب، ودخلت الخيمة فإذا على مخدتي ورقة سمرت بدبوس لمحتها مكتوبة بالعربية، فتناولتها بلهف وقرأت فيها:

أنا رامز عبد الحليم صعب من الشويفات في الجيش الأميركي، لم أجدك في خيمتك، ولكن يهمني أن أجتمع بك، سأكون في البار الفلاني خلال الساعتين المقبلتين.

أخوك رامز

كان رامز في دائرة من ضباط وجنود تُعدُّ نيفًا وعشرين، غير أني عرفته حالًا لأول مرة حين رأيت عينيه السوداوين الكبيرتين ووجهه الأسمر.

وتصافحنا من غير أن نتكلم العربية تأدُّبًا أمام رفاقه الذين أخذوا يُصرُّون على أن أشرب وأشرب؛ لأن الحفلة على شرف رامز صعب وحسابه. قلت: ما الخبر؟ أجابوا: «إنه فاز بشريطة جديدة.» وتألب رفاقه عليه فانتزعوا من جيبه مرسوم الترقية، وقرأه أحدهم بصوت عالٍ: «يرقَّى الشاويش رامز عبد الحليم صعب إلى رتبة باشاويش Master Sergeant.» لأنه ورئيس دائرة التصوير الفوتوغرافي في الغرفة الفلانية اكتشفا من دراستهما لبعض الصور أن حفريات جديدة قام بها العدو حول المدرسة الزراعية في «باغيو»، وكان من نتيجة هذا الاكتشاف أن تمكَّن الطيران من تدمير ذخائر هائلة بقيت تتفجَّر ثلاثة أيام بلياليها.

وتطلعت إلى رامز وصحت: «الله يحرق دينك على دين الشويفات، هذه الشريطة كاد أن يكون ثمنها أرواحنا.»

وساد الهرج والمرج إلى أن وقف أحدهم، وقال: «من يريد أن يراهنني على أن رامز سيصبح بأقل من أسبوعين ضابطًا (ليوتنان)؟» سألته: «وما الذي يحملك على هذا الاعتقاد؟» أجاب: «لأنه اكتشف مهربًا في الجبال كانت تسير عليه القبائل في الزمن القديم، فأرسلنا دعاتنا نخبر المدنيين، وبعثنا بالأدلاء فتمكَّن من النجاة من اليابانيين مئات هربوا بواسطة هذا الدرب المهمل.»

حينئذ تطلعت إلى رامز عبد الحليم صعب، ولم ألعن دين الشويفات.

سألت رامز: «كيف عرفت بوجودي في الفلبين وأنت في الجبهة والمدينة خراب وفوضى؟» أجاب: «اسمع؛ قبل هجرتي إلى أميركا كنت أدرس في كلية القسيس طانيوس سعد في الشويفات، ومرةً في حفلة مسائية جاءنا من يُحسِن التنويم المغناطيسي، ودعا أحد التلامذة أن يتطوَّع لينومه؛ فانبرى أحد التلامذة، واسمه مالك تقي الدين، وسأله المنوم: «بمن تفكر؟» أجاب مالك: «أفكر بأخي عارف تقي الدين، وهو في الفلبين.»

قال رامز: «وبقيت هذه الحادثة عالقةً بذاكرتي، فلما رجعت من الجبهة سألت في المعسكر عن اسم تقي الدين فدلوني عليك.»

أمس كنت في منزل الشيخ عبد الحليم صعب أتحدث إليه وإلى السيدة زوجته أم رامز، فإذا هما في فرح، رامز سيرجع من أميركا في شهر آب بإذن الله.

متى وصل رامز بالسلامة، لا تنسَ أن تذكِّرني بأن أقصَّ عليك حادثة «برنيطة الجنرال».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤