سفري إلى الفلبين
هذه المذكرات كتبت على ظهر الباخرة التي أقلتني إلى «الفلبين» في شهر أيلول ١٩٢٥. أعتقد أنني كتبت منها ما يملأ كتابًا، ولقد أعطى لهذه الصفحات القليلة من ينقذها؛ إذ حفظها بين أوراقه خلال هذه الثلاثين سنةً. أما الباقية فيحتفظ بها اليوم، ولا يريد أن يطلقها من طلق كل جميل واحتفظ بحثالات الكئوس.
جعر البابور، بل جأرت الباخرة، على لغة القاموس والقوامسة، وكانت جأرته تبعث في النفس وحشةً وريبةً.
لا أدري معنى جأر في اللغة، ولكن تصويت باخرتنا كان مزيجًا من خوار الثيران الضخم المرعب، ونعيب البوم الحاد النائح.
رفعت السلالم، وقرقعت الآلات.
دقت ساعة الهول، وتمزيق الحشا؛ فاحمرت العيون، وانكمش المسافرون في أسرتهم.
تلك كانت ساعة الوداع.
غرفة على البحر
انقضت من حياتي ثماني سنوات متتابعة في الجامعة الأميركية، وقد بقي في نفسي حسرة حين تركتها؛ لأني لم أقدر أن أسكن في غرفة تُشْرِف على البحر؛ فقد كنت كلما طلبت إلى الناظر أن يتكرم عليَّ بغرفة أرى منها البحر راح فجاد عليَّ بواحدة تشرف على البر. أما في هذه الباخرة — لله ما أطيبهم — فمن غير أن أطلب إليهم أعطوني غرفةً تشرف على البحر؛ فشكرت لحضرة الجرصون لطفه. ولكننا لم تمرَّ بنا ساعة إلا وتحققت أن غرف البابور جميعها لا تطل على غير البحر، وأن حضرة الجرصون لم يكن لطيفًا، بل إن حضرتي كنت …
من ربح الحرب
من الألفاظ ما يدل بنفسه على معناه، مثلًا لو قلنا «قرقعت» الدواليب تخيلنا معنى «قرقع»، وإن لم نكن ندري معناها من قبل، وإن من هذه الألفاظ كلمة «العلج»، فقد كنت كلما قرأت في كتب الأندلس القديمة هذه اللفظة في مثل قولهم: «وركب الأمير عبد الله في طلب العلج.» — وهم يعنون بذلك عقيد الإفرنج — كنت كلما قرأت ذلك تخيلت «العلج» رجلًا كالعجل ضخم الرقبة، هائل الخلقة، بطيخي الرأس.
كنت أرى ذلك بالخيال، ولكنني ما كدت أفتح باب غرفتي — تلك الغرفة التي تشرف على البحر — إلا ورأيت بعين الحقيقة ما كنت أراه بعين الخيال، وها هو العجل — عفوًا أردت أن أقول العلج — في سريره، وقد كان مضطجعًا، فلم أكد أدخل الغرفة حتى هرول العلج إليَّ فعرفني إلى نفسه أنه روسي، وأنه كان في الحرب جنرالًا، وما جئنا على ذكر الحرب حتى طفر الدمع في عينيه فقال: كان لي ثلاثة أولاد كلهم قتلوا في زمن الحرب، وكان صغيرهم في مثل عمرك يا ابني، قتل أولادي وعمي، وجرحت زوجتي، وتعذبت أنا، ولماذا كل هذا؟ أما والله إني لأجن كلما سألت نفسي: لماذا أشعلت تلك الحرب؟ ومن ربحها؟
قلت إن صاحبنا كان لطيفًا، ولكنه تناهى في اللطف حتى …
كلما أردت أن أحول مجرى الحديث عاد فحدثني عن زوجته: «نعم إن زوجتي شجاعة، نعم هي شجاعة هذا أمر لا ريب فيه.»
قلت في نفسي: «وكيف لا تكون شجاعةً وقد أقدمت على الاقتران بذلك العلج؟!»
طره يما نقشي
من المسائل السيكولوجية المختلف عليها «الفراغ العقلي»، وهي تختصر بهذا السؤال «هل يمكن للمرء أن يفكر في لا شيء؟» وعلماء السيكولوجيا مختلفون في الجواب؛ فالسلبيون منهم يقولون إنه يستحيل على الدماغ أن يكون خاليًا، وكنا نحن في مقام المفاضلة بين النظريتين، ولكن الثابت أن العقل الإنساني ميَّال بطبيعته إلى الافتكار بشيء، ولو كان تافهًا، ونحن — جماعة المسافرين — حين فرغت جعبة أخبارنا ومحادثاتنا قعدنا واجمين، ويظهر أن أدمغتنا أبت «الخلو» فرحنا نلعب — كصغار الأولاد — «طره يما نقشي»!
درجة واحدة
أحمد الله أنه لم يكن بين المسافرين لا بلاشفة ولا اشتراكيون متطرفون؛ إذ إنهم لو كانوا بيننا لأوقعوا الفتنة لا محالة؛ فإن بين «عفش» الباخرة نحوًا من ثلاثماية بقرة، وضعت في ما يسمونه «الدرجة الخامسة»، وبين الدرجة الخامسة والدرجة الرابعة سلم يفصل الاثنتين، وكان في الدرجة الرابعة مهاجرون من الأروام — لله من منظرهم — أربعون أو خمسون، رجال ونساء وأطفال، افترشوا ظهر الباخرة، وتدثَّروا بعباءات الرجال وناموا، يقلقهم خوار الحيوانات، وتمزِّق أنوفهم الرائحة النتنة المنبعثة من الأبقار.
سبحانك ربي! لقد جعلت سلم البشر عاليًا جدًّا، فأجلست البعض في قمة، ثم لم تجعل بين الآخرين وبين الحيوانات إلا درجةً واحدةً؛ فالأروام ركبوا الدرجة الرابعة، والبقر ركبت الدرجة الخامسة، أما تلك «المدموازال» التي عمرها ستون سنةً لا غير، والتي غضبت عليَّ حين عثر لساني فدعوتها ﺑ «مدام»، تلك المدموازال تأففت كثيرًا، وندمت على ركوبها باخرة فيها أناس من العرمط.
إني أسأل الله يا مدام — عفوًا مدموازال — أن لا يمسي «عرمط» العالم كعرمط روسيا، وإذ ذاك لا تعودين تتأفَّفين.
الشكوى والإصلاح
من أيسر الأمور عليك أن تمرَّ ببناية متزعزعة الحيطان فتقول: إن ذلك الحائط عائب، ما أشد غباوة المهندس. ولكن من أصعب الأمور أن ترسم خريطةً تُصلِح ما تداعى من ذلك البناء.
تلك هي الحال بين الشكوى والإصلاح، فهذا التفاوت الاجتماعي بين الناس الذي أشرت إليه بركَّاب الدرجتين الرابعة والخامسة هو تفاوت يسهل على الكل ملاحظته.
إلى هنا كل الناس يقرون بأن حالة المجتمع غير مرضية، ولكن ما هي طريقة الإصلاح؟
وهنا وجه الاختلاف.
فمنهم من يبتغي الإصلاح العنيف العاجل، ومنهم من يؤمنون بالإصلاح الهادئ المستمر.
طفل وعجل
في الليل الماضي زاد عدد ركاب الباخرة اثنين — طفلًا وعجلًا — تفاءلنا خيرًا — يا مرحبًا بالطفل والعجل — إن السفرة ميسرة بإذن الله.
مشكلة حقوقية!
هل ينبغي أن يدفع رسم السفر عن الطفل والعجل وقد ولدا في الباخرة بعد قطع أوراق السفر؟
تفتيش الركاب
والله إنه لذكي مفتش الجمرك في بورت سعيد؛ لم يكن لديه وقت لتفتيشنا وتفتيش جميع حقائبنا، ولكن ذلك لا يضيره، ولماذا؟ إن في عينيه أشعة إكس التي تخترق الأجسام الكثيفة. ها هو قد أدار باصرتيه، وأمر بلهجته الجازمة، أن افتحوا تلك الحقيبة.
لعله ظن أن بها حشيشًا، ولكنه وجد بدلًا من الحشيش … أحذية …
فتشوا تلك السيدة … افتحوا الجزدان إن فيه كوكايين، ولا ريب.
فتحوا الجزدان فوجدوا فيه مادةً غباريةً بيضاء ناعمةً … وليس ذلك بكوكايين يا سيدي المفتش، بل … بودرة!
ولكن أصدق نظراته كانت في أنه أجال ناظره في جيوبي المنتفخة فقال: «ذلك الفتى يهرب ذهبًا، فتشوه.»
هل تحققت أنني لم أهرب ذهبًا، بل إني هارب من أجل الذهب؟
كل جيل يلعب مع جيله
نصيحة لوجه الله: لا ترافق من هم أكبر منك سنًّا، أو أرفع قدرًا، أو أوفر مالًا؛ إذ إنك دائمًا تشعر بتفوقهم عليك، بل إن الناس يجعلونك تشعر بذلك؛ فإن تكلمت درًّا وتكلم رفيقك الكبير صدفًا، قالوا إنك مهذار، ونعتوه بأنه حكيم عليم.
وإن أنت أنفقت عليه قالوا إنك تملقه، وإن هو أنفق عليك قالوا إنك عالة عليه.
أما أنا فقد قاسيت من ذلك الأمرين، وآخر اختباراتي أني رافقت من هم أكبر مني في سنهم وعلمهم ومالهم.
ونزلنا نتفرَّج على بورت سعيد، فاكترينا عربةً، وبالطبع ركبت أنا بالقلب … فصار وجهي في عكس المخازن التي نمر بها، وكانت النتيجة أنني بدلًا من أن أتفرج على المدينة تفرجت على رفيقيَّ الكبيرين.
تفرنجنا
يفتخر الناس بأن هذا العصر هو عصر الحرية، ولكن الإنسان لم يكن — ولن يكون — حرًّا في معنى الكلمة المطلق، فهو عبد لهذا المجتمع الذي يعيش وسطه.
المجتمع قدم لك الأردية وأجبرك أن ترتديها، وهو الذي أرغمك على السلام بهز اليد أو رفعها إلى الرأس، وهو الذي يقول لك لا تدخن الحشيش.
والمجتمع المستبد هو الذي استبدل طربوشي ببرنيطة، وهو الذي حرمني من شاربي … توفاه الله في بورت سعيد على أثر عملية جراحية عند الحلاق.
مس هدسون
إيه مس هدسون! أنت بين الغادات كسميك الأوتوموبيل بين الأوتوموبيلات!
إيه مس هدسون … ولكني استعجلت، فقد جمح بنا القلم إلى الغزل قبل أن نتمم البكاء على الطلول. ألم يقل امرؤ القيس «قفا نبك» قبل أن يقول «أغرق من»؟ إذن فلنقف قليلًا على الأطلال، ثم نتخلَّف إلى مس هدسون.
غريب مسكين
للعالم رأي في بعض الناس، وبعض أصحاب المهن يصعب تفسيره؛ فهو — أي العالم — يعتقد أن المحامين يخلقون مشاكل أكثر مما يحلون، والعالم يعتقد أن الإسبانيولي متعجرف والفرنساوي سريع الغضب سريع الرضا.
وقد كانت عقيدتي قبل أن ركبت هذه الباخرة الإنكليزية التي تقلني من بورت سعيد أن الإنكليز أبعد الناس عن معاشرة غيرهم من الناس، وأنه كان من سوء طالعي أن أرافق خمسماية من الإنكليز والإنكليزيات، فلا يتيسَّر لي أن أكلم واحدًا ولا واحدةً.
ذلك كان رأيي الذي أخذته عن العالم؛ لذلك استكملت عدتي من بيروت، فجهزت نفسي بأربعة مؤلفات لأربعة من أشهر مؤلفي الإنكليز، حتى إذا وجدت نفسي بعيدًا عن رفقائي عكفت على كتبي أستقصيها الأخبار، وأستنطقها الحكم.
ولكن كتبي إنكليزية ومؤلفوها إنكليز.
تبًّا لهم! أتهرب منهم إليهم؟
ومر بي يومان في أسوأ حال.
غريب مسكين، لا عشير ولا سمير، لا كلمات ولا نظرات، وقد بدأت أشعر بوحشة وانقباض، بل وبازدراء لنفسي، وقد زاد نفسي صغارةً في عيني حادثان؛ أولهما أن رجلًا شرقيًّا مثلنا، لسانه عربي مثل لساننا، ووجهه أشدُّ سمرة من وجهنا، وقد «تبرنط وتنعم» في بورت سعيد مثلنا، ذلك الرجل مرَّ بنا مرةً ونحن منكمشون في إحدى الزوايا، فألقى علينا نظرةً شامخةً أرستقراطيةً تُشبه النظرة التي يلقيها الموظف الكبير على مرءوسه الموظف الصغير، وعند أهل لبنان من هذا علم كثير.
مر بنا شامخًا مزدريًا، ولم يتنازل إلى مبادلتنا الابتسام.
وثانيهما: أننا كنا دائمًا نمر بالقاعات أنا ورفيقاي في صف، الواحد وراء الآخر، ولكن أنا آخرهما، وقد سمعت مرةً إنكليزيًّا ظريفًا يهمس إلى رفيقه «أفسح طريقًا» فالقافلة (أي نحن) ستمر!
وحي من الله
سمعت — ولا ريب — قصصًا كثيرةً عن الوحي، وكيف أن المرء فعل بعض مرات أفعالًا من غير أن يدري لها سببًا، ثم تحقَّق بعدئذ أنها نافعة له.
وأنا لا أدري ما الذي حدا بي، وقد أعلنوا أن الليلة ليلة راقصة أن أنزل إلى غرفتي فأتطيَّب وأتزين، وأرتدي أحسن أرديتي، وأُصلح من هيأتي على قدر ما يقوى العطار أن يصلح ما أفسده الدهر.
شعشعت الأنوار والوجوه، وخفقت الموسيقى والقلوب، وأمسكت الأيدي القوية بالأكف الناعمة، وترجرجت الأمواج على الصدور، ودار الرقص الاسكوتلندي، يرافقه زقزقة الغادات تتناوب مع هدير أصوات الشبان، وأنا كالسيف عَرِيَ متناه من الخلل، منقبض مسمر إلى مقعدي.
يا وقعة الشوم، أيها اللاصق بكرسيك، إن وجودك في ليلة الفرح شذوذ غريب.
فلما استحكمت حلقاتها
وإني لكذلك — على رأي المنفلوطي — وإذا برجل كهل تقدَّم مني، وكأنه أراد أن يؤنسني وقد رآني غريبًا، فسألني: كم تظن عمق المياه هنا؟
سؤال عجيب! أهو يهزأ؟ ولكن نظراته وديعة، وعمره تجاوز سن الهزء؛ إذ إن شعره قد انسحب متقهقرًا بنظام من جبهته إلى قمة رأسه.
– كم تظن عمق المياه هنا؟
أجبته متلجلجًا: أظنها ألف ميل.
قال: أظنك مخطئًا.
فسبقتني النكتة المصرية المعروفة فقلت: إن لم تصدقني تفضل فقس العمق وأعلمني النتيجة.
فاستطاب هذه النكتة، وجلس بجانبي نتحدث عن السياسة والتجارة والاستعمار، وأقوال الجرائد الإنكليزية، وقد استفرغت علمي وجهدي وفلسفتي فوضعتها في تلك المحادثة، فكان صاحبنا مسرورًا، ولكن لماذا التواضع؟ إنه كان معجبًا، فنادى رفقاءه الخمسة، وأقبلوا عليَّ في حلقة يستفسروني ما صعب عليهم فهمه من مشاكل الشرق، فصرت أجيب بأُبَّهَة وفصاحة، ومرَّ بي حين من الدهر حسبت أن أزمة الشرق في يدي.
وكان الرقص قد انتهت دورته الأولى، فانضم إلينا سيدات أربع؛ ثلاث متزوجات، ومس هدسون؛ فوسعنا حلقتنا، وأخذت أشرح لهم أنواع الرقص البدوي، وأخبرهم عن عادات البدو، وأخذن هن يستفسرنني ويصغين إليَّ إصغاء الأولاد إلى حكايات الجن.
إي والله، لقد كانت أخباري أقرب إلى حكايات الجن منها إلى أحاديث الآدميين.
– وهذه العباءة كم تظنها تساوي يا مستر؟
– بكم اشتريتِها يا سيدتي؟
– بأربعين شلن.
– إنها لا تساوي أكثر من خمسة وثلاثين.
– وهذا الشال كم ثمنه في بلادكم؟
– بكم ابتعتِه يا سيدتي؟
– بليرة إنكليزية.
– أظن أنك مغلوبة، فنحن لا نبيعه بأكثر من نصف ليرة. وهكذا دار التثمين والتخمين حتى عزفت الموسيقى برقصة أتقنها — لا بل لا أتقن غيرها — فهلع قلبي. هو ذا في حلقتنا سيدات أربع، كلهن مشوقات إلى الرقص مع الغريب العجيب الذي يعرف الرقص البدوي، والخبير في ثمن الشالات والعباءات والنحاس والسجاد.
أنا أرقص مع سيدة إنكليزية؟
ومن هذه الطبقة، وفي هذا المجتمع؟
قلت لنفسي: «مكانك تحمدي أو فاستريحي.»
وشجعت نفسي، وانتخيت، وسألت مس هدسون الرقص؛ فمشت ومشيت، ورقصتْ ورقصتُ.
ثنِّ وثلِّث يا شاطر حسن
ومن تلك الساعة، الرقصة تتلو الرقصة، وأنا قِبلة الأنظار، ومطمح أبصار الراقصات.
دراقة
من تشابيه الإفرنج قولهم للمرأة الجميلة المشبع وجهها حمرةً وبياضًا إنها دراقة (دراقن في القاموس). إنه لتشبيه جميل وصحيح، وأرجو أن يشيع في العربية.
أليس الخد المشبع حمرةً وبياضًا أقربَ إلى تلك الثمرة الطيبة الشهية منه إلى الجسم البارد والمستدير، القمر؟
ولكن العرب شبَّهوا المرأة بالقمر، ولم يشبهوها بالدراقة.
لعل تلك الثمرة لم تكن في بلادهم، بل قد تكون سمرة نسائهم أبعدت عنهم ذلك التشبيه. فلما جئنا نحن فاستعرنا الألفاظ الأدبية ولم نستعر الروح، بَقِينا نشبهها بالقمر، ولم نستنبط لها تشبيهًا جديدًا.
ما أصدق ذلك التشبيه في الاسكوتلندية الفاتنة التي أراقصها. الآن وصلنا إلى مس هدسون.
أسرَّت إليَّ أن الرقص أتعبها، فأخذت بيدها واتكأنا على خشب الباخرة، ووجمنا صامتين.
جبل من الخشب والحديد يسير في سهل من الماء، والبحر قد استحالت زرقته إلى السواد، وجماله إلى الرهبة والخشوع. وفي الشمال يلتمع الهلال، وهو ابن يومين، وفوقه الزهرة في عز ملك الصبا جمالًا وبريقًا.
أخذ الهلال يهبط رويدًا رويدًا، فيتغير لونه؛ ابيضاضه أصبح احمرارًا كالجمر. إنه لامس الأفق البعيد، فنشر نوره على البحر بساطًا من الحمرة الموردة، وبقيت زهرة مشعشعة قبالتي، وزهرة إلى جانبي مائلةً برأسها على كتفي بشغف وطُهر.
ولبثنا صامتين إلى أن بدأت هي الحديث فقالت: أليس فاتنًا هذا المنظر؟
– بلى كان فاتنًا يا فاتنتي.
أخذنا نتبادل الأخبار، فعلمت من أمرها أنها قاصدة إلى أواسط الهند لتعيش مع أبيها الذي تركها طفلةً، وأنها ستشغل وظيفة في إحدى دوائر الحكومة.
واهًا لها!
أمثل هذه البشرة الناعمة تتعرض لشمس الهند المحرقة؟ وتلك الزهرة الندية العطرة يفوح شذاها بعيدًا عن العالم المتمدن في أدغال الهند، لينشقه من؟
لهفي عليها إذ تجلس كئيبةً في وحدتها، مجهدةً من عملها، قصيةً عن الملاهي التي أَلِفَتْها.
ملكتني هذه الحسرة على زهرتي، وهممت أن أكاشفها هواجسي، ولكن ابتسامتها الجذلة وإقدامها الجريء أجمدا كلماتي في فمي، فما تحركت الأوتار بالموسيقى حتى رجعنا إلى أزواج الراقصين، فكنا حلقةً في سلسلتهم. ولما هدأت الأوتار، عدنا فانضممنا إلى أصحابنا الاسكوتلنديين نمازحهم، ونتحدث معهم. وقد يمكنك أن تتحبَّب إلى امرأة بأن تطري جمالها، وتنقص من جمال سواها، وقد يمكنك أن تتودد إلى المغني بالتظاهر بالطرب الشديد، ولكن ليس في وسعك أن تتقرب إلى شخص بأسرع مما تتقرب إلى الاسكوتلندي إذ تطري أديبًا من أدباء بلاده؛ ذلك لأن النابغين من كتَّابهم وشعرائهم قلائل، وعلى قلتهم لا يعترف الإنكليز أنه قام بين الاسكوتلنديين نابغة، مع أن منهم «كارليل» الحكيم، و«سكوت» الروائي، و«برنز» الشاعر.
رويت لهم اليسير من نوادر حكيمهم، وتناشدنا القصائد لشاعرهم؛ فتوثَّقت بذلك صداقتنا، فدعوني إلى المقصف — مع ما اشتهر عنهم من البخل — فلبَّيْت الدعوة، كيف لا وجارتي مس هدسون؟!
الحصان الأبيض
وكان الشراب من الوسكي الشهير «الحصان الأبيض»، وأنا لم أتعود من أنواع الشراب إلا الماء والقهوة، فلما دارت الأنخاب اضطررت إلى رفع كأسي، وكنت في كل مرة أكرع أحسُّ بمرارة في فمي وحلاوة في حديثي، وصرت أضحك للاشيء، وأتخيَّل كل شيء. شعرت بالخفة في رجلي كأنهما أصبحتا مجنَّحتين، وبالثقل في رأسي كأنه تُوِّج بالحديد.
انتهت الجلسة، ونزلت السلم إلى غرفتي، بل تدحرجت عليه. قعدت في فراشي، ومرت بي مواكب الأوهام. عاودتني الهواجس في مس هدسون؛ هذه أفاعي الهند تهاجمها، فينبغي أن أحذرها منها، ها هي الشمس تمطر نيرانها، وأنا لم أَرَ في يد الفاتنة شمسيةً، بل لماذا لا أقدم لها شمسيتي؟ فتحت حقيبتي، وأخذت منها المظلة، وأنرت الغرفة، وخرجت منها والشمسية في يدي عند منتصف الليل، التقيت بالخادم فسألته عن … عن … آه … نسيت اسمها.
رجعت إلى الفراش، وكان صباح؛ فاستفقت، فإذا بالجفاف يكاد يحرق فمي، شعرت بصداع شديد في رأسي. ذراعي كالخشبة قبح الله «الحصان الأبيض» وألحقه بأدباء اسكوتلندا.
لم أذق من الشراب إلا الماء والقهوة، وسنرجع إلى الماء والقهوة. إن ربك غفور رحيم.
بحر غير أحمر
سمي البحر الأحمر «أحمر»؛ لأن الحمرة تغلب على بعض بقاعه. بلى لقد ارتكبت غلطة يستفظعها علم المنطق؛ وهي أني فسرت لفظة أحمر بلفظة مشتقَّة من حمرة، وهذا في المنطق خطأ فاضح، كأن تسأل: لماذا سميت بريطانيا «عظمى»؟ فتجيب: لأنها عظيمة. أما إذا سألت هذا السؤال عن لبنان «الكبير» فتكون قد ارتكبت غلطتين فظيعتين؛ الأولى في علم المنطق، والثانية في علم آخر.
ولكن ما لنا وللمنطق؛ فقد قيل: «من تمنطق فقد تزندق.» إنما المهم أن تعلم أننا مررنا بما يسمونه البحر الأحمر، وحدَّقنا في مياهه طويلًا، فكدنا نرى كل الألوان، من الأبيض إلى الأزرق الضارب إلى السواد، أو الأزرق الصافي. ولكننا لم نجد اللون الأحمر الذي من أجله سمي البحر أحمرَ.
صفعتان
في التاريخ صفعات تاريخية مشهورة، أذكر منها الصفعة التي لقيها النائب الألباني في مجلس المبعوثان من أحد كبار رجال الأتراك، ويقال إن النائب الألباني حين صُفِع قال: ستكلِّفكم هذه الصفعة ثمنًا غاليًا يا رجال الأتراك. وكانت اللطمة السبب العاجل في إشعال الثورة الألبانية، ثم انسلاخ تلك البلاد عن السلطنة العثمانية.
أقول إنها كانت السبب «العاجل» أو المباشر؛ فقط لأنني أعتقد أنه من الجهل أن تسفر حادثة تاريخية جلى بسبب تافه، كأن يقال إن سبب الحرب الكونية هو مقتل الأرشيدوق النمساوي.
شططنا عن موضوع «الصفعتين».
اليوم عيد الميلاد، وللإنكليز عادات خاصة بهذا اليوم العظيم، ولعل أغربها عادة التقبيل تحت شجرة الميسلتو، وهي عادة توارثوها من الأجيال الوسطى؛ إذ ينصبون يوم عيد الميلاد شجرة الميسلتو حتى إذا لَقِيتَ تحتها أي امرأة جاز لك أن تقبِّلها دون أن تستثير غضبها أو غضب رجلها.
وكان معنا في الباخرة امرأة صينية (نسبة إلى الصين لا إلى الإناء النحاسي)، وجهها آية الفن في أنه استجمع كل العاهات وكل ما يمكنك أن تتصوَّره من قبيح.
وقفت المسكينة تحت شجرة الميسلتو من غير أن تعرف العادة، فمرَّ قربها جبار أيرلندي كان جاري على المائدة.
قلت إنه جبار لأنه يسكر أربعًا وعشرين ساعةً في اليوم، ويلعب البوكر، وقد أخبرني أنه في كل سفرة يحصل «الناولون» من البوكر، وهو مع ذلك ذاهب ليشغل وظيفة مفتش بوليس في «مالاي».
رأى صاحبنا الفتاة الصينية تحت شجرة الميسلتو؛ فظن أنها تدعوه لتقبيلها، وتقدم منها وقبَّلها؛ فهاج هائج الفتاة، وصفعته صفعةً رنَّت في القاعة، وتركت على خده ماركةً مسجلةً لخمسة أصابع.
وقف الجبار يرتجف من الغضب؛ لأنه — في ظنه — لم يقترف جرمًا، ولأن الصفعة إهانة لا يحتمَّلها دمه الأيرلندي.
وقف وقال: «أيتها الفتاة! لو أن الذي صفعني «رجل» لكان له عندي غير هذا الجواب.»
وهز قبضتين حديديتين هائلتين ومضى.
يا ابن اﻟ …
أما الصفعة الثانية فقد كان صاحبها مصريًّا.
كنا في حلقة نتحدَّث، فسأل أحد الرفقاء الإنكليز رفيقًا مصريًّا كم له من الإخوة.
قال المصري: ليس لي إلا أخت.
فأجاب الإنكليزي: قل لها إني أسأل عنها.
ولم يكد يُنهي جملته حتى رنَّت الصفعة على خد رفيقنا الإنكليزي، وأشفعها بيا ابن اﻟ …
فتلافينا الأمر، وعرفنا بعدئذ أن عبارة «قل لها إني أسأل عنها» اصطلاح مقصود فيه عند الإنكليز المجاملة والتأدب، وليس فيه شر؛ فاعتذر صديقنا المصري، وانتهى الأمر.
العرض
قادتنا هاتان الصفعتان إلى التحدث عن عقلية الشرقي بشأن المرأة، وكان صديقنا الأيرلندي «المصفوع» قد هدأ ثائره؛ لأن الأيرلندي كالفرنساوي سريع الغضب سريع الرضا، فلما التقينا على الشاي استغرب سلوك الفتاة الصينية.
قلت له: «أعترف لك أولًا أنني حين تحدثني عن شجاعة الأيرلندي أحسب أن ذلك من قبيل الغلو في حب قومك. أما اليوم فقد أقدمت على تقبيل مثل تلك القبيحة؛ فقد وثقت أنكم — جماعة الأيرلنديين — قوم بواسل مغاوير، كذلك أهنِّئك على العبارة التي فهت بها حين صفعت.»
قال: «أليس في سلوك الفتاة شيء من التوحُّش؟ فهذه العادة مستحبَّة عند الإنكليز.»
قلت: «نِعْمَ ما فعلت الفتاة، وكان عليك أن تتحاشاها؛ لأنها غريبة عنكم، ومتى أصبحت عادة تقبيل النساء تحت شجرة الميسلتو عادةً دوليةً تعترف بها جمعية الأمم، جاز لك أن تُهاجم غير بنات جنسك. أما والعادة ما تزال من القوانين الداخلية، فلا تقترب من الغريبات، خصوصًا إذا كنَّ لسنَ من رعايا جلالة الملك وإمبراطور الهند. أما رأيي الخاص فإني أميل إلى الاعتقاد أن المرأة التي تصعِّر خدها في يوم العيد تصعره في أي يوم آخر.»
القاضي يتكلم
قال جارنا البعيد، وكان قاضيًا في الهند: «أنتم معشر الشرقيين مغالون في هذا التأثر السريع للشرف النسائي. جلست في كرسي القضاء ثماني سنوات في إحدى مدن الهند، وإن أول ما يتبادر إلى ذهني وأنا أعالج دعوى جنائية أن سببها ثأر لإهانة نسائية.»
قلت: «أصبت، فنحن شديدو الغيرة، وإننا نفتخر بهذا الذي تعيبوننا به.»
تاريخ اللفظة
إن لكل لفظة تاريخًا؛ مثلًا هذا القلم الذي أحمله: حينما شعر الإنسان بالحاجة إلى تدوين خواطره اخترع القلم، وأخيرًا أطلق عليه اسمًا؛ فتاريخ اللفظة يبتدئ بالشعور بالحاجة لشيء ثم وجوده وتسميته.
وكما أن عند الإنكليز لفظة «هوم»، وهي تدل على الحياة العائلية في أسمى درجاتها، كذلك عندنا لفظة غنية غير موجودة في باقي اللغات على ما أعرف هي لفظة «عرض».
لا أعني أن باقي الأمم لا يشعرون بهذا الشرف النسائي، وأن غير الإنكلوسكسون لا يتمتعون بالحياة العائلية، لا بل إن وجود لفظة «هوم» عند الإنكليز يستدل منها أنهم أسبق الأمم لتقدير الحياة العائلية، ووجود لفظة «عرض» عندنا تُثبِت أننا نقدِّس هذا الشرف النسائي أكثر من سوانا.
تاريخ العادة
أعجب أصحابنا هذا التعليل التاريخي، ولكنه لم يعجبهم هذا الإحساس الحاد، وتبرير الانتقام من أجل ما نتخيَّله انتقاصًا لشرف يظنونه موهومًا.
وكما أن الكلام يجر الكلام، كذلك التاريخ يجر التاريخ، فقصُّوا عليَّ الحادثة التي من أجلها يروى أن عادة التقبيل شاعت؛ قالوا: تحدرت هذه العادة من الأجيال الوسطى، غير أنهم كانوا يعيِّرون المرأة التي تقبَّل؛ لذلك كان النساء فيما مضى ينفرنَ من الشجرة، ويتحاشينَ أن يمررن تحتها. وكان لأحد أشراف الإنكليز — واسمه اللورد لول — امرأة تشبه صاحبتنا الصينية بأنها تخاف التقبيل، وتختلف عنها بأنها قريبة إلى الكمال كقرب الصينية إلى القبح.
وكان عيد الميلاد؛ فخافت امرأة اللورد أن تباغَتَ بقبلة، فراحت تفتش عن مختبأ، فلم تجد آمن من صندوق خشبي كمنت فيه، غير أنها لم تكد تطمئن في ملجئِها حتى وجدت أن قفل الصندوق قد أُطبِق، ولم يعد في وسعها الخروج.
ومضت الأيام والناس يتساءلون عن امرأة اللورد أين هي، وشاعت عنها أحاديث السوء، حتى اكتشفوا بعد سنوات هيكلها العظمي، وثيابها الرثة في ذلك الصندوق فعلموا الحقيقة.
ويقال إن عطوفة اللورد مات عليها غمًّا، فلما حدثت هذه المأساة قرر الناس أنه ليس من عار على تقبيل المرأة يوم العيد، بل إنه من حسن طالعها ذلك، وإن التي قبل خدها «سوكرت» رفاه العيش في عامها المقبل.
أنف طويل
قلت إن الرجل الشرقي ذا اللسان العربي تجنَّب صحبتنا في الأيام الأولى، ومرَّ بنا شامخًا مزدريًا، فلما ألفنا القوم وألفونا، وشاركناهم في جدهم ولهوهم، وأنس كل منا إلى رفيقه، لمحت من صاحبنا الشرقي رقةً لم أتعوَّدها، وأخذ يتودد إلينا. حفظنا من الأمثال العربية: «من لقينا بأنف طويل لقيناه بخرطوم فيل.» وقد لقيتنا أيها المزدري بنا أمس، المتودد إلينا اليوم، بأنف طويل؛ فخذ هذا «المنخار» طوله ميل.
هزأت بنا في يوم العزلة والاغتراب، فاسمح لنا أن نستخفَّ بك ونحن في حمى الاصدقاء وعزة الأصحاب.
من يزرع الثوم لا يقلعه ريحانًا.