لبنانيان في استقبال الفاتحين
في بعض الأحيان تُجَابهك الحياة بوقائع ترفض أن تصدقها، حقائق تظهر أمام نظرك أكبر من الجبال فتغمض عينيك، وتأبى أن تراها. أما قوي البصيرة فيستعيد بصره بعد الوهلة الأولى، ويؤمن بما يرى، ويسير على ضوئه. وأما المكابر فتسحقه واقعية الحياة فيما هو يحاول أن ينكرها. وأما الضعيف فينهزم إلى زاوية يسكر فيها بالأوهام والأحلام ناسيًا منسيًّا. أشخاص ثلاثة ما هم بأغراب عنك تجدهم بين أصدقائك ومعارفك.
أما نحن «أولاد العرب» في «مانيلا» الفلبين، فقد طلعت علينا الحقيقة جبالًا وأبراجًا في أواخر كانون الأول سنة ١٩٤١، وأرعدت في آذاننا من الإذاعة المحلية والإذاعة العالمية، فأغمضنا عيوننا، وصحنا: «مستحيل.» ما هو بصحيح هذا الواقع؛ لأنه يجب أن لا يكون صحيحًا.
ولكنه كان صحيحًا؛ ففي ٢٩ كانون الأول ١٩٤١ انسحبت القوات الأميركية من «مانيلا» بعد أن أتلفت مستودعاتها الحربية، وفتحت عنابرها للأهالي، فأقبلت الألوف تحمل الطحين والجلد والبرَّادات واللحوم، وكل ما وصلت إليه الأيدي الرشيقة.
وقد استيقظت غريزة النهب في السكان؛ فهجمت الألوف تنهب حوانيت التجار والعنابر. غريب كيف يقفز الإنسان القهقرى فيستحيل حيوانًا بهيميًّا في الأزمات، فلقد نهبت الحوانيت وبعض البيوت في كل حي، في كل شارع، في كل جزيرة من السبعة آلاف جزيرة في الفلبين. بين ٢٩ كانون الأول ١٩٤١ و٢ كانون الثاني ١٩٤٢ مرَّت أيام خلت فيها المدينة من النظام، وقوات الأمن؛ فالأميركيون انسحبوا، واليابانيون بقيت جيوشهم مرابطةً خارج المدينة؛ لأنهم خشوا مكيدةً من الأميركان، والنهب قائم في البيوت والشوارع، وحرائق ذخائر الأميركان وأخصها الزيوت مشتعلة، والسيارات ملأى بالناس والحاجيات تفرُّ من المدينة إلى الأرياف، وسيارات بالمئات ملأى بالناس والحاجيات تدخل المدينة هاربةً من الأرياف. في الأخطار تنتبه غريزة الفرار، فيحسب الإنسان أنه ظفر بالأمن حين ينتقل بسرعة من مكان إلى مكان.
وفي مطلع السنة — أول كانون الثاني ١٩٤٢ — بدأت الاضطرابات؛ فتوجه محافظ المدينة، واسمه «فارغاس» ومدير البوليس في سيارة رفعا في مقدمتها علمًا أبيض نحو الجيش الياباني، وأخبرا القائد أن ليس في «مانيلا» قوة مدافعة فليشرف ويستلم العاصمة. ولكن القائد لم يصدق، بل أرسل مع المحافظ ومدير البوليس ضباطًا ثلاثةً تجوَّلوا في المدينة، فلما وثقوا من خلوها من قوى الجيش الأميركي، أصدروا بلاغًا وزعوه على الأهالي يعلمونهم به أن الجيش الياباني المحرر الفاتح سيدخل في صباح اليوم التالي «مانيلا» بعد أن طرد العدو المستعمر، وأن على الأهالي أن يلزموا بيوتهم والسكينة. أما الذين يرغبون في استقبال الجيش فيسمح لهم بذلك بشرط أن ينزلوا إلى الشارع لا أن يتطلَّعوا من الشبابك، فجيوش جلالة الإمبراطور هي أقدس من أن ينظر إليها أحد من علٍ.
وفي الصباح بدأت الجنود تدخل المدينة، وكانت الشبابيك على الشارع الرئيسي — تافت أفنيو — حيث مرَّ الجيش كلها مقفلةً، ولم يخفَّ إلى لقاء الفاتحين إلا عشرات من الناس، وقد مثل «أولاد العرب» في هذا الاستقبال لبنانيان؛ أحدهما بطرس عواد من بحرصاف بكفيا، شقيق المحامي الدكتور إبراهيم عواد، والثاني يوسف أبو رجيلي من كفر زبد البقاع، وهذان الفتيان أعزبان كانا يعيشان في غرفة واحدة في لوكندة، دأبهما الدعاب والمرح في أشد ساعات الخطر. وحين فتح الأميركان عنابرهم للأهالي كانت حصة بطرس ويوسف بضعة صناديق من الويسكي المعتقة لعلها كانت سبب المرح والشجاعة.
بعض من يعظم شأنه يحاول أن يطمس ماضيه؛ يوسف أبو رجيلي ما هو بخطير الشأن، ولكنه غني يصارحك أنه كان في لبنان فقيرًا، فيتحدث عن جمل وحمار رافقهما سنوات، ويذكر اسم امرأة في جديدة مرجعيون لا تزال مدينةً له بثمن ثلاثة أرطال عدس، وحانوتي في معلقة زحلة أعطاه ريالًا ممسوحًا لا يزال يحمله، ويقول في حرارة واقتناع إن ابن آدم لا يؤاخَى، وإن الحيوان خيرُ مَنْ يُصادَق. ولا يتحسَّر من فرقة «الوطن القديم» إلا على الحيوانات، وأخصها الحمار.
أما بطرس عواد فهو فتًى جبلي، فوار الحيوية، عنيف الود، عنيف البغضاء؛ فالناس إما أحباؤه أو أعداؤه. وعلى رغم أن ليس في نفسه شيء من الشر؛ فإنه يستشعر من المصائب والانقلابات وحالات الطوارئ شيئًا يستهويه ويطرب له.
ورحبنا ببطرس وبيوسف في ظهر يوم ٢ كانون الثاني حين جاءا إلينا، وكنا خمس عائلات قابعين في بيت من ضواحي المدينة لا نعرف ما يجري حولنا من حوادث.
قال يوسف: «لقد شهدت الجيش الياباني، أطول واحد فيهم لا يقبلونه بوليس في بيروت، ولو أن في جيبه عشرين كارت توصية من عشرين نائب. أسلحتهم — عندنا في كفر زبد بواريد أحسن منها، فرقة المواصلات — كميونات محطمة.»
وهنا قاطعه بطرس قائلًا: «إنما في جيشهم فرقة ليست عند الأميركان!» وقهقه الاثنان؛ ذلك لأنهما رأيا في فرقة المواصلات نحوًا من ثلاثين حمارًا، أعتقد أنها جاءت من كوريا.
ومن غريب ما حدثنا به الزائران أنهما عرفا بين الضباط عددًا غفيرًا من التجار اليابانيين الذين كنا نتعامل معهم، فهذا خادم في خمارة رجع بسيف طويل وبدلة كولونيل، وذاك بائع بوظة جاء يتهادى ببزة كابتن بحري، وكان يركب في بعض الكميونات أشخاص من الفلبين كانوا — ولا ريب — قبل الحرب يتجسَّسون لحساب اليابان.
وانصرف يوسف وبطرس قاصدين بيوت «أولاد العرب» لينشرا أخبار دخول الجيش الياباني.
في تلك الليلة أصغينا إلى الراديو فسمعنا أوامر أصدرها الجيش الياباني، منها أن على الأجانب المقيمين في مانيلا أن يحضروا في اليوم التالي فيسجلوا أسماءهم لدى الجيش في الفندق الفلاني.
نسيت أن أخبرك في أية حالة عصبية كنا. ما هو بالشيء الهين أن تكون أبيض الوجه غريبًا في بلاد السمر والصفر — الشرق الأقصى — وكل أقاربك زوجة مريضة، وطفلة دون العاشرة، وكل مواطنيك عائلات أقل من العشرين، عدا كلهم مثلك قابعون في بيوتهم رعبًا، وكل أموالك نحو من عشرين ريالًا، وفي المدينة جيش ياباني فاتح سبقته أخبار همجيته، وتفظيعه بالنساء والأطفال، والفاتح الياباني بهيمة كاسرة تدعو لسحق الأجانب المتغطرسين الملاعين، وتتودد إلى شعوب الشرق الأقصى باضطهاد كل من ابيضَّت سحنته.
يسألني الكثيرون: أحقائق هذه التي أرويها؟! أجيب: بل هي حقائق ملطفة، بعضها لا أذيعه؛ لأني أنا — وقد مرت بي — أجلس اليوم وأتساءل: أحقيقة كانت؟ أم هي حلم مرعب؟
لذلك لن أخبرك كيف بتنا ذلك الليل هلعين لا ندري ما الذي يريده الجيش بنا، تسجيل أم تقتيل وتشريد.
لن أبوح لك بأنني اشتريت السم، وتعاهدت وزوجتي أن يأتي هلاكنا نحن الاثنين وطفلتنا على أيدينا، إنْ وضح من ظواهر الأمور أن اليابانيين سينزلون بنا ما أنزلوه في الأجانب في الصين.
ليالٍ مريرة مخيفة قلقة مرَّت بنا خلال الحرب، من أشدها قلقًا كانت تلك الليلة.
يقول الناس: إن جفونهم لا تغمض في الليالي السوداء، الحمد لله أنني في الليالي الفاجعة أنام ملء جفوني.
وفي الصباح الباكر نهضت حائرًا فيما ينتظرنا، وماذا عساي أن أفعل!