طوربي
انتصب على ظهر البابور عابسًا كأنه تمثال النقمة، وجمد لحظةً ليتحرَّك من جديد، ثم قبض بيديه على قضبان الحديد التي سورت الباخرة، وشدَّ عليها كأنه يريد أن يلويها.
كل ما في الدنيا معكوس. إنه في المكان المغلوط، وفي البلاد المغلوطة، وفي مهنة يمقتها، ولم تروضه الحياة لها. ها هو في باخرة، ولكنها في حقيقة الأمر قارب كبير. إنها تمخر نهرًا، وما هو بنهر، بل هو بحر. إنه رجل أبيض يتكلَّم العربية، وكل من حوله زنوج، أو شبه زنوج، يثرثرون مصرعزين كزمرة من نور. في جيبه تحارير من بلاده، وعلى سريره صحف بيروت كلها تذكره بدنيا سلخ عنها إلى الأبد، فردوسه المفقود. وهؤلاء المسافرون ما الذي يضحكهم؟ ما هذا المرح الذي يسيطر عليهم؟ إنهم — برغم عريهم ومظاهر الفقر — في ضجة الفرح، أو سكوته؛ في الليالي يرقصون ويغنون، ويلعبون القيثار، وينامون لا هَمَّ، لا شكوى، لا عبوس، لا مشاكسات. إنهم والقدر في صلح دائم، وهذه المواشي والخنازير في بطن الباخرة تخور وتموء وتصوت، وتنشر الروائح، إنها لا تزعجهم. يتقوقعون على أكياس جوز الهند، وصناديق السمك المقدد، وسلال البيض. كيف له أن ينفلت من هذا القفص العائم الذي يحبسه مع هؤلاء البهائم؟ وهذا المسدس على جنبه لماذا يحمله؟
هي ذي التماسيح تتشمس على الشاطئ، وتثب لتقنص عنزةً أو خنزيرًا، ثم ترجع إلى النهر فتغوص. هذه الجزر الصغيرة من الرمال في وسط النهر تجثم عليها الطيور، أو تحوم مئاتٍ ألوفًا، بيضاء عالية الأرجل، صفراء المناقير تلعاء الأعناق.
ما شأنك في جهنم هذه الدنيا يا يوسف رستم؟ كيف وصلت إليها؟ وما تبغي منها؟ إلى أين؟
وتقدم منه خادم الباخرة فهرهر كلمات بلهجة سؤال، وبحركة عفوية رفع يوسف حاجبيه، وهذه في بلاده معناها «لا»، أما في هذه الدنيا المعكوسة فمعناها «نعم». وهرول الخادم فحمل حقائب ثلاثًا كانت مكومةً قرب سرير المسافر، ولكن يوسف لم يَرَ ذلك، كل ما رآه من غير مرآة هذه الدنيا التي قذف إليها، وهو مسمر فيها أسيرًا خائبًا.
وصفرت الباخرة، واستدارت في النهر فروعت طيورًا كانت جاثمةً على جزيرة قريبة، فنهضت أسرابًا من غيوم بيضاء، ولسبب لا يدريه تناول يوسف مسدسه، وأطلق نحو السرب خمس طلقات، ولم تنطلق السادسة؛ فخلع الفرد غاضبًا، وانتزع الخرطوشات. كل ما في حياته مغالط، ولم يرفه عنه ضحك المسافرين من الرصاصات الطائشات، وهم لم يروا طيرًا يقع. وكأن الطيور أرادت أن تساهم بالسخرية، فحومت فوق الباخرة صارخةً زاعقةً مقعقعةً، وحين أتمت الباخرة دورتها أطلَّت بلدة «بطوان»، وعادت الباخرة تصفر بقوة من جديد، وترامت السلاسل فإذا بمراسي الباخرة الأربع تُثِير الوحول من قاع النهر، وتدلى قاربان من الباخرة أنزلوا فيهما المسافرين وحوائجهم، وفيهما حقائب يوسف رستم، وانطلقا في النهر يبتعدان عن الباخرة ببطء نحو الضفة — نحو بلدة «بطوان» — حيث تجمهر جمع من السكان.
أما يوسف رستم فثاب من نقمته، وهرع إذ رأى حقائبه لم تعد قرب سريره، فلقد كانت في هذه الحقائب كل شباك الصيد: من جواهر زجاجية، وأقلام حبر ملونة لا تكتب، وأقراط زجاجية نقش عليها أنها ألماس، وساعات هي والوقت على غير موعد، وخواتم وأساور خدعت الناظرين إذ تلفلفت بإشاعة كاذبة صفراء.
بهذه الحقائب كان يوسف رستم يضرب في الدنيا المعكوسة وتضرب فيه؛ ليقنص الثروة التي كان يحلم بها.
إنه خشي أن تسرق حقائبه، ولم يكن له من سبيل ليلحق بالقاربين، غير أنه أبصر صبيًّا في نحو العاشرة يركب زورقًا، لعله أول زورق بناه الإنسان ليقهر الخِضَمَّ؛ فقد كان خشبةً سميكةً مجوفةً فقط لا غير، ولكن الغلام تبوَّأ طرفه واثقًا من نفسه، وراح يجذف بكفيه من غير مجذاف. فلما بلغ الباخرة تطلَّع نحو الرجل الأبيض، وصاح: «تركو! تركو! أونا بياهي سنكو سنتافوز» (السفرة بخمس نحاسات). وراح يضحك بوجه الرجل الأبيض ويدعوه إلى ركوب الزورق متملقًا متحديًا مهدئًا من مخاوفه، مؤكدًا له أنه بحَّار ماهر، ويعود ليغني: «تركو، تركو، سنكو سنتافوز، براتو، براتو.» أي «ما أرخص السفرة! الشاطئ بخمس نحاسات.»
ونهضت النقمة في صدر يوسف من جديد، وتطلع فإذا بالزورقين — وفيهما كل ثروته وآماله — يكادان يبلغان الشاطئ؛ فلم يشعر إلا وهو في قارب الغلام البحار والقارب يتراقص على مياه النهر، ودار الغلام معاكسًا التيار، وراح يجذف بيديه صعدًا، حتى إذا هو ابتعد عن الباخرة نحوًا من خمسين مترًا انقطع عن التجذيف، فحمل التيار القارب بسرعة هائلة نحو الزورقين فارتطم بأحدهما، فإذا بالمسافر الغريب يوسف رستم يتخبَّط في مياه النهر الموحلة، ولكنه كان سباحًا ماهرًا؛ فبلغ الضفة ببضع ضربات ليستقبله الناس بالقهقهات، واجتمع حوله الأولاد يضجون ويضحكون ويهزءون.
أما يوسف فغضب، وأمسك بأحد الأولاد وشدَّ على ذراعه، فصاح الولد متألمًا: «خنزير.» كلمة عربية لفظها الولد شتيمةً مشددًا على حرف الخاء، وكشح يوسف الماء الموحل عن عينيه، وتطلع بهذا الولد الأبيض، الأزرق العينين، بين ذلك القطيع من الأولاد السود، وسأله بالعربية: «من أنت؟» ولكن الولد انهزم مبتعدًا، وصاح من جديد: «خنزير.» وانفلتت من بين الجمع امرأة تجعد وجهها على الصبي، فهي عجوز شابة، ذات بشرة بيضاء وعينين زرقاوين، وخاطبت يوسف بعربية فيها غنة كسروانية من لبنان معتذرة: «إن هذا الشيطان هو ابني حنا!»
فأجاب يوسف: «إني قد بت من الشوق إلى لغتنا حتى لتطربني لفظة خنزير!»
وَدَعَت المرأة مواطنها إلى بيتها، فقبل الدعوة من غير تردد، وسارا معًا يتقدمهما من حمل الشنتات.
أما البيت، فكان غرفًا ثلاث من قصب، حيطانه من الحصير، وسقفه من أعشاب كثيفة مستطيلة. هو «فيلا» طابقها الأسفل زريبة لبضعة خنازير، ودجاجات يحميها كلب اختفت شجرة عائلته في غابة لم تكتشف بعد.
وأعدت المرأة ماءً حارًّا، وضعته في إناء كبير في المطبخ، ودعت الضيف أن يستحمَّ ويبدِّل ثيابه، ثم أعدت له عشاءً من أرز مسلوق، وبعض السمك المجفف يسبح في سائل شيوعي اللون ديناميتي الطعم.
وجلس يوسف يحادث «أم حنا»، فعلم منها أن زوجها مات منذ سنوات، وأنه كان سكيرًا، وأنها كانت معه على خصام مستمر، وكانت أبدًا تدعوه «خنزير»، وهذه هي اللفظة العربية الوحيدة التي يعرفها ابنها لكثرة ما سمعها تنادي بها أباه. وعلم منها أنها شديدة الفقر تتجر بالخنازير وبالسمك المقدد، وأن زوجها اقتلعها من قريتها وأهلها، حين رجع من مغتربه، وكانت هي في السادسة عشرة من عمرها لا تعرف ما الزواج، وما الحب؛ فأوهم المغترب أهلها أنه رجل ثري، فلم تشعر إلا وهي زوجته ترافقه إلى المغترب. أما حياة زوجها فكانت عبارةً عن سكرة مستمرة بعصير يستلونه من أوراق شجر جوز الهند الطرية، وكان يقضي نهاره مقرفصًا مع تنابل أمثاله يلاعبون الديكة، ويراهنون عليها. وذات يوم راح للنهر ثملًا ليملأ سطلًا، فلما غمس السطل بالنهر شده التيار، وبقي الزوج متعلقًا بالسطل إلى أن اختفى في مياه النهر. واعترفت الزوجة أن مصرع «أبي حنا» على كسله وسكره قد تركها في وحشة وكآبة وحزن عميق.
أما يوسف فأفرغ بين يديها كلَّ نقمته على الدنيا، وبغضائه لها، وأخبرها كيف رماه القدر في هذه البلاد النائية، وكيف هو يتَّجر بالحلي المزيفة، وكيف أنه يبغض كل شيء وكل شخص، وكيف أن غايته أن يثري، وأفاض بنقمته على البلاد التي هو فيها. تلك البلاد التي تمطرها الطبيعة ثروات تتدلى من أشجار جوز الهند، وتنبت أرضها من غير عناء، سخاء من قصب السكر والقنب والبن والتبغ. وأكد يوسف أنه مستعجل في الحصول على الثروة، وأنه سيظفر بها، وأن الدنيا التي هو فيها لا يسكنها إلا اللصوص يتخاطفون الثروة من الطبيعة السخية، ثم هم يتخاطفون ما اختطفوا. وحين شاخت السهرة تطلع بالمرأة من جديد، فنعم صوته وارتجف، ولمعت عيناه، وبدأ حديثه يجنح نحو الرمزية والوجودية؛ فأجفلت «أم حنا»، وأشارت من جديد إلى البيت في الحي المجاور حيث يرحبون بالغريب ضيفًا يدفع أجرة البيت، ولكنها أصرَّت عليه أن يجعل من بيتها مقرًّا له يتجر فيه، ويشاطرها فيه طعامه، وانصرف الضيف بشيء من الخجل، وبكثير من التوق والحسرة.
أما هي، فقد تمددت على فراشها أَرِقَةً يشرئب الصبا في صدرها ويمور، وذكرت زوجها فضحكت من نفسها، وأخرست هواجسها: «وهذا رجل آخر إنه رجل … إنه خنزير.»
واستمرت إقامة يوسف في البلدة، وتطوافه في المزارع المجاورة نحوًا من شهرين، فكان يغيب ثم يعود إلى «بطوان»، وألف الناس مرآه ومعاملته، وكانت النساء يقبلن على البيت فيتفرجن ويشترين، وكانت «أم حنا» تساعد الضيف التاجر في تصريف المجوهرات؛ إذ إنه لم يكن يتقن لغة البلاد.
أما الغلام «حنا»، فقد استهوته ساعة صفراء دقاقة، وكان كثيرًا ما يحاول أن يختطفها من الشنتة، ولكن أمه كانت تردعه بعنف، فيما كان يوسف يطيِّب خاطره ويعده بساعة أكبر وأجمل يرسلها إليه من «مانيلا» عاصمة البلاد حين يرجع إليها.
وأخيرًا كادت الحقائب أن تفرغ، ورجعت الباخرة من سفرتها، فاستعد يوسف للرحيل، وشكر مضيفته، وعرض أن يدفع لها ثمن ما أكل وعمولة على ما باع، فرفضت المرأة وشكرته، وأكدت له أن إقامته لونت حياتها بزهو، وأنها لم تتكلم العربية ولا لقيت مواطنًا من بلادها منذ أن مات زوجها، فكان مجيئه المفاجئ نفحةً من بلادها أرجعها إلى قطعة من فردوسها المفقود. وكاد يوسف أن يترك البيت، ولكنه تذكر فجأةً أمرًا، فقال لأم حنا إنه بحاجة إلى شيء من المال لصفقة يعقدها في بلدة قريبة، وإن تلك البلدة مثل «بطوان» ليس فيها مصرف يقدر أن يستبدل فيه شيكًا بنقود، فإن كان لدى أم حنا نقود فهو يعطيها شيكًا بالمبلغ، فأجابت المرأة: «حبًّا وكرامةً.»
ولكن كل المال الذي جمعته بلغ ٢٦٤ ريالًا، نقدته إياها فأعطاها شيكًا بالقيمة، وافترقا.
وكرت الشهور، وكرت الأعوام، وحياة «أم حنا» خنازير تحبل وتلد وتباع، وسمك مقدد يأتي في باخرة بالصناديق، ويباع بالكيلو والغرامات، وفي قعر صندوقها يتجمَّع المال ريالًا بعد ريال، وذهبيةً بعد ذهبية، وشيكًا بمئتين وأربعة وستين ريالًا موقعًا من يوسف رستم، ومعادًا من البنك في مانيلا ومطبوعًا عليه: «أن ليس في المصرف مئونة لتغطية الشيك، وأن صاحب الشيك السيد يوسف رستم أقفل حسابه في اليوم الذي فتحه.»
أما المرأة فقد غلبت عليها — بسبب الشك المرفوض — الحسرة لا النقمة، واخترعت لضيفها ومواطنها الأعذار، وبقي ضيفها طيفًا مرَّ بها في لمحة من العمر مستحبة، وهي بعد أن أوغلت في العمر كثرت صلواتها، وكثر تردادها على الكنيسة، وعمق تعبدها، وكانت في كل يوم تضرع لله أن يوفق يوسف رستم، ويدر عليه الثروة، وأصبح كل همها في الحياة وحيدها؛ أن ينشأ مثقفًا مهذبًا ليصيب نجاحًا في الحياة. وأقبلت على تربيته بحمية الأم تريد أن تسجل بابنها النجاح الذي خابت بتحقيقه لأبيه. وما خيب الابن آمالها، فكان مبرزًا في دروسه محبوبًا محترمًا، عثليت الجسد. وتمكَّنت أمه بجهدها واجتهادها أن توفر له الثقافة من المدرسة الابتدائية إلى الثانوية حتى دخل الجامعة في مانيلا، وأنهى سنتين في الحقوق، وإذ هو في الفصل الثاني من السنة الثالثة فاجأ حنا أمه برسالة يقول لها فيها إنه أحب فتاةً جامعيةً، وإنهما سيتزوجان بعد شهر، ورجا أمه أن تأتي لمانيلا فتحضر عرسهما، وألح بالدعوة.
أما الأم فشعرت بما تشعر به كل أم من فرح بزواج ابنها، وأنانية؛ يحزنها أنه سيصبح وليًّا لامرأة سواها، ولكنها عزمت على أن تلبي الدعوة، فباعت الخنازير والسمك المقدد، واحتملت كنزها مما وفرته من مال، وسافرت إلى «مانيلا».
وهنالك لقيت ابنها وخطيبته، وعلمت بشيء من الذل أن الفتاة فقيرة مثلها، وأن ابنها في شيء من الحيرة، فهو لا يقدر أن يبتاع لخطيبته خاتم الزواج ولا أثواب العرس.
غير أنها في الصباح التالي عدَّت ثروتها من جديد، فلم تجد نفسها معدمةً؛ إذ بلغ مجموع نقودها ما يناهز أربعماية ريال، وهذا مبلغ محترم، بل هو ثروة؛ فلبست الأم أجمل أثوابها، وزيَّنت نفسها، ونزلت إلى سوق الصاغة، وقصدت إلى المحلِّ الأكبر والأفخم؛ فدخلته وجالت بعينيها فوقع بصرها على خاتم زواج من البلاتين، أبيض صيغ بشكل قلب، وفيه ألماسة بيضاء مزرقة مضلعة ما اشتهر أنه «قطع باريس»، وخط على العلبة المخملية الخضراء أن الثمن ٦٠٠ ريال، فلما وقعت عيناها على الرقم — ٦٠٠ — وثب قلبها إلى فمها وغصت. وسألت البائع أن يهديها إلى صاحب المحل، فأجابها وقد تحقَّق من شكلها أنها ريفية: «هنا السعر محدود لا مساومة.» وتحرك صاحب المحل من خلف الطاولة كهل بدين مترهل مغبر الشعر، فواقفت عيناه عينيها، وماج في نفسها شيء دهشت له فحدَّقت بصاحب المحل والتفتت إلى الاسم المنقوش على الطاولة، فإذا هو: «خوسه أنطونيو روستمبرج».
فتقدمت إليه مرتعشة الصوت محمرة الوجه، وقالت له بالعربية: «أتذكرني؟» فتطلع بها وابتسم، وخاطب أحد مستخدميه: «ماذا تقول هذه المرأة؟ بأي لغة هي تتكلم؟» ولكن الأم لم تجزع، بل فتحت منديلها، وانتزعت ريالاتها، وخاطبته بالإسبانيولية: «أريد أن أشتري هذا الخاتم، هذه ٣٣٦ ريالًا، وهذا الشيك ﺑ ٢٦٤ ريالًا»، فاستوى يوسف في كرسيه، وابتسم كأنه تمثال من ظفر في الحياة وزهو، وتطلع في المرأة، واستأنف كلامه بالإسبانيولية: «هذا الشيك عملة مزيفة، وبضاعتنا أصيلة يا سيدتي، نحن لا نبيع ألماسًا أصيلًا بشيكات زائفة، بالإسبانيولية نسمي من يقبل هذا الشيك «طوربي» (أبله). ما ترجمة هذه اللفظة باللغة التي تتكلمينها؟» فأجابت المرأة وقد جمدت بدورها تمثالًا من كبر: «لقد تركت بلادي منذ سنوات عديدة، لا أذكر اللفظة التي تصف من يقبل هذا الشيك، ولكن الذي يوقعه نسميه «خنزيرًا»!»