الخلنج الأبيض
شعرت الآنسة لوفابل بأول نشوةِ ترقُّب عندما وصلتْ إلى محطة فيكتوريا ظهيرة اليوم التالي. حتى ذلك الحين، كان الفراق ثقيلًا عليها، منذ اللحظة التي استيقظتْ فيها في عتمة الفجر. ولمَّا كان ما بها من توتُّر أكبرَ من أن يدعها تستلقي في السرير؛ نهضتْ ونزلتْ إلى حديقةٍ غير مألوفة.
كان كلُّ شيء يبدو جامدًا وعديم اللون كما لو كان في صورةٍ فوتوغرافية. كان الفِطر الشاحب ينمو في مجموعاتٍ بين العشب. وفي الهواء طفتْ خيوط العنكبوت الطويلة الواهنة النديَّة. كانت هناك برودة في الجو جعلتها أكثر اكتئابًا وهي واقفة ترتعش في ثوب كيمونو من القطن.
فكرت الآنسة لوفابل، في لحظةٍ نادرة تحرَّر فيها خيالها: «قد يرجع تاريخُ هذا المكان إلى ما قبل أقدم الحقب التي سجَّلها ويلز في «موجز تاريخ العالم». بلا ضوء، ومنعزل بشكلٍ فظيع. أشعر أنني لم أولد بعد.»
ولاحقًا عندما مارَسَ شروقُ الشمس سحرَه التحويلي، وأعادها تناوُلُ الإفطار إلى حالتها الطبيعية، ملأها جمالُ أحواض زهورها بندمٍ عقيم.
اعترفت قائلةً لسكوتي: «ما يحبطني هو معرفة أنني «دفعتُ أموالًا» لتركِ كلِّ شيء. كلما أسرعتُ في الذهاب وأنهيتُ الأمر كان أفضل.»
ولحُسن الحظ، عندما لحقتُ بالقطار المبكِّر، لم تكن هناك مشاهد مؤلمة للوداع. إذ استجمعتْ إلسي شجاعتها لتودعها بتحمُّل ولا مبالاة، بينما اعتبرَت الحيوانات الأليفة مشاعرها ضعفًا وحاولت قيادتها إلى خزانة اللحوم. ولكن ظلَّت طوال الطريق إلى لندن تشاهد كلَّ مَعلم بعينَين مولعتَين كمَن يُساق إلى المنفى.
فقالت تذكِّر نفسها وتعزِّيها: «بعد خمسة عشر يومًا سأرى كلَّ هذا مرةً أخرى.»
وعلى الرغم من أن الجوَّ في لندن كان أكثر برودةً ممَّا كان عليه في زيارتها الأخيرة، فلم تسقط أيُّ أمطار لتغسل الشوارع. وبدَت المباني متسخةً، وكان متجر الشاي الرخيص الذي تناولت فيه وجبةَ غداء خفيفة مكتظًّا بالزبائن ويعاني من نقصٍ في العمالة.
وبعد محاولةِ إضاعة الوقت في المعرض الوطني، قرَّرت الانتظارَ في محطة فيكتوريا. وعلى الفور تقريبًا، تغيَّرت حالتها المزاجية استجابةً لمَا يحيط بها. المسافرون المتعجِّلون، والروايات الجديدة في أكشاك الكتب، وعربات الشاي، وعربات النقل المكدَّسة بالأمتعة؛ كلُّ هذه الأشياء أثَّرت فيها مثل النغمات الأُولى لاستهلالٍ موسيقي. ولمَّا أثار الضجيج والازدحام حفيظتها، بدأت تتطلع إلى عطلتها بتلذُّذٍ شديد.
كانت على وشك أن تحظى بأشدِّ محفِّزات التغيير: وجوه، وطعام، ولغة، ومناظر؛ كلُّها مختلفة. كانت سترى مرةً أخرى تلك الجبال المغطاة بالثلوج، والتي كانت تطاردها في أحلامها. وعلى الرغم من أن وقتًا طويلًا كان قد مرَّ، فإنها ما زالت محتفظة بذكرى غامضة؛ منظر بانورامي لسلسلة من القمم البيضاء والتي تُرى من قمة جبلِ شنيج بلات.
استطاعت الآنسة لوفابل أن تشعر بالتقدير مرةً أخرى تجاه حظِّها الخاص؛ ولكن، رغم أنها كانت تجلُّه باعتباره قوةً حميدة، فإنها كانت واقعيةً وتؤمن بضرورة مساعدته من أجل أن يؤدي وظيفته.
وقد فكرت في نفسها: «أتساءل إن كان بإمكاني شراء بعض الخلنج الأبيض من أجل الرحلة.»
وممَّا بعث في نفسها السرور أنها وجدتْ عدَّة أغصان في متجرٍ للزهور داخل المحطة. وبعد أن سألت عن سعرها، حثَّتها النزعة المقتصدة في عقلها على تأجيل الشراء، في حالِ أنْ تمكنت من الشراء بسعرٍ أقل من بائعٍ متجول في الشوارع. وكانت في طريقها إلى أقرب مَخرج عندما بدأت تشعر بالعطش.
ولمَّا كان أمامها الكثير من وقت الفراغ، قرَّرت أن تشرب الشاي، بدلًا من انتظار أن يُقدَّم لها في القطار. ولدى دخولها أقرب مقصف، وجدتْ أن أكثر مَن فيه من الركَّاب الذين يستعدُّون للسفر على متن القطار «كونتيننتال إكسبريس». جلست إلى طاولةٍ مفروشة، وبينما كانت تدخِّن سيجارة، لفَتَت انتباهها مجموعة كانت تجلس بعيدًا عنها نسبيًّا.
ومع ذلك، كانت تستطيع سماعَ كل كلمة ينطقونها، حيث كانوا يتحدثون عن شئونهم الخاصة بأعلى أصواتهم ويعاملون بقية الموجودين كأنهم غير موجودين. ومن مظهرهم، بدا أنهم أثرياء ويتمتعون بمكانةٍ اجتماعية. وكان من الطبيعي أن تنتبه الآنسة لوفابل أكثرَ إلى الاثنتَين اللتين كانتا متأنقتَين لأجل السفر خارج البلاد، كما بدا من تعليقاتهما.
بدا من ملامح المرأة الأكبر سنًّا بينهما أنها كانت جميلةً فيما مضى، وأنها لا تزال تمتلك جاذبية هشَّة ولكنها عقيمة؛ كانت تعلو وجهها تعبيراتٌ تنمُّ عن الحزن، وعيناها الواسعتان الداكنتان توحيان بالمعاناة. وكانت ابنتها أقلَّ جمالًا؛ إذ كانت ذات شعرٍ أسود — صفَّفته بطريقةٍ تعود إلى العهد الإدواردي — ووجهٍ ذي حمرةٍ شديدة، وأسنان بيضاء بارزة.
دخل سائق بزيٍّ أنيق إلى المقصف، وتقدَّم نحو طاولتهم. كان يحمل حقائبهم الخفيفة وجاء ليتبيَّن التعليمات بشأن الأمتعة الثقيلة. وبعد أن أشار بصوتٍ عالٍ إلى سيارة جديدة — من طراز رولز رويس — حاولت الآنسة لوفابل التوقف عن الاستماع إلى أصواتهم، عن طريق الاستماع إلى محادثة مَن كانوا على طاولتها؛ لكنَّ انتباهها اتجه إليهم مرةً أخرى رغمًا عنها.
احتجَّ صوتٌ ذكوري قائلًا: «تعني أنك لم تحجز في عربةٍ للنوم؟»
فقالت السيدة الضعيفة العجوز: «الأمر لا يستحقُّ هذه التكلفة. إضافةً إلى ذلك، يجب نسافر على متن الدرجة الأُولى، ونحن نسافر على متن الدرجة الثانية. لكن لا يهم. سيكون الحظ حليفي. إنه دائمًا كذلك.»
فصرَّحت الابنة: «أجل، يكفي أن تبدو أمُّنا مثيرةً للشفقة؛ فيأتي أحدهم دائمًا ليقدِّم المساعدة.»
هنَّأت الآنسة لوفابل نفسها على حجزها مقعدًا في الزاوية على متن قطار كاليه-إنترلاكن. لم يَرُق لها الناس؛ فأسرعت في الانتهاء من شرب الشاي حتى تعود إلى المحطة.
كانت حيوية المشهد قد زادت في غيابها؛ لأن قطار كونتيننتال إكسبريس كان قد وصل الآن. وكان من السابق لأوانه أن تركبه، لكنَّ الآنسة لوفابل عبَرَت الحاجز لتبحث عن عربتها. وبينما كانت تسير على الرصيف، جذبت الانتباه إليها، في حين أن أصوات ركاب الدرجة المميزة كانت تتعالى في المقصف، كأنهم يعتدون صوتيًّا على المحيط من حولهم.
كانت الآنسة لوفابل ترتدي الفستان الحريري الأسود غير الملائم، حيث كانت مقتنعةً أن ما مرَّت به في لندن يبرِّر نصيحة الآنسة بيت المؤسِفة. وكان قضاؤها الصيف من دون أن ترتدي قبعةً، قد حوَّل بشرتها إلى درجةٍ داكنة أكثر — إذ لم يكُن شَعرها الذهبي مغطًّى — وكانت عيناها شديدتَي الزُّرقة تشعان تألقًا وبهاءً. تقدَّمت الآنسة لوفابل برأسٍ منتصب وحقيبة ثقيلة تتمايل أثناء سيرها، وكأنها تجابه عراقيلَ تمنعها عن تحقيق غايتها المنشودة.
سرعان ما وجدت مقعدها في عربة بولمان. وقد راق لها المقعد كثيرًا؛ حيث كان إلى جوار النافذة وكان مزودًا بطاولة، مما يوفِّر راحةً أكبر. وبعد أن رفعت معطفها وحقيبتها على رفِّ الأمتعة، قفزتْ إلى خارج العربة وبدأتْ تذرع الرصيف جيئةً وذهابًا. وبدورها أخذتْ تراقب الركَّاب الآخرين، متسائلةً في نفسها: أيُّهم يتَّجه إلى سويسرا؟ وكانت تنتقي الناس المميزين من بينهم.
وكانت قد اطمأنت لمَّا رأت أن السيدتَين الأرفع مقامًا، اللتين كانتا تجلسان في المقصف، قد ذهبتا إلى قسمٍ بعيد من القطار، ولن تكون هناك فرصةٌ أو مجال للحديث معهما على الإطلاق، وذلك حين تحول انتباهها إلى زوجين.
كان الرجل نحيفًا، وذا بشرةٍ داكنة، وشاربٍ خفيف، وشَعرٍ داكنِ اللون مصفَّفٍ بالشمع. كان مظهر الرجل يوحي بأنه ينتمي لمجموعة متنوعة من صنوف الناس؛ إذ رأت أنه قد يكون أحد النبلاء الأجانب، أو مصفِّفَ شَعر، أو قائدَ فرقة أوركسترا. أمَّا رفيقته على الجانب الآخر فكانت مميَّزة.
كان وجهها جميلًا حين تطالع أجزاءه على حدة. فعيناها الرقيقتان الداكنتان المائلتان وشَعرها اللامع كانا رائعَين، كشفتَيها السليمتَين من أيِّ عيب والحمراوَين بلونِ زهرة إبرة الراعي وكذقنها البيضاوي الأبيض بلون زهرة الماجنوليا. لكن للأسف، كان نصفا هذا الوجه يجتمعان — أو بالأحرى ينفصلان — عند أنفٍ طويل للغاية ومعقوف قليلًا.
فكَّرت الأنسة لوفابل في نفسها: «وكأني أنظر إلى وجه أحدهما في مرآة مكسورة. هذه سمات الباريسيين. لا شك أنهما محتالان.»
لم تكُن تدري أن أحد أقدم الأحداث الدرامية تجري حولها؛ أن يكون المراقِب تحت المراقبة. فبينما كانت تتفرَّس في ملامح الزوجين، كانت هي أيضًا تحت ملاحظة أحدهم. كان شخص ما يراقب تحركاتها باهتمامٍ بالغ وهو يتوارى بين الحشد.
كان الرجل شابًّا حسَنَ الهِندام من النوع الذي ارتاد المدارس العمومية، له أسنان مثالية وابتسامة لطيفة. وكان ينسلُّ خلف الأعمدة والركَّاب وعربات النقل المكدَّسة بالأمتعة، مستترًا باستمرار في حين أنه يتبعها بعينَيه. وفي حالتها، كان أسلوبه ناجحًا، لكنه سرعان ما جذَبَ انتباه المرأة ذات الأنف المعقوف.
همست المرأة إلى رفيقها بحماسٍ بالغ: «انظر. أترى ما أرى؟»
شهق الرجل وقال: «عجبًا، إنه هو. لم أعرف أنه خرج. الآن ستزداد الأمور إثارة … أهو في إثر أحدهم؟»
«يبدو أنها تلك المرأة الشقراء الطويلة.»
«إذَن لا شك أنه في إثر أمرٍ ما. ما ظنُّكِ في ذلك؟»
«أظنُّ أنه إن كانت هذه إحدى عملياته؛ فمن الأفضل لنا أن ننأى عنه.»
«بالتأكيد. ولكن إن كانت الشقراء تستقلُّ قطار باريس، فلا ضرر لو ظللنا على مقربة.»
تحدث الرجل بحزن؛ لأن الزوجَين كانا مجرمين وَضيعين — إذ كانا دائمًا ما يتراجعان ويستتران، في حين أن الآخَرين يتحملون المخاطر والمجازفات، ويصطادون الطريدة — وكانا يكتفيان بالفُتات. كانا كزوجٍ من الضباع، لا يتقدَّمان إلا في ظلِّ نمر.
ثم رمقت المرأة ساعتها بنظرة.
وقالت: «حان الوقت للعودة إلى عربتنا.»
كانت الآنسة لوفابل بالفعل في مقعدها. كانت تتوق للانطلاق؛ كانت تريد تسريع الوداعات الطويلة. وبينما كان المحرك ينفث دخانه والجو من حولها مفعمًا بالأمنيات الطيبة والنصائح؛ كانت هي ملجومة، كمَن يقف على شفا جرف.
سرعان ما أشار الحارس بالعلَم الأخضر، وأخيرًا ستبدأ عطلتها … فجأةً ظهَرَ على وجهها الهلع عندما تذكَّرت الخلنج الأبيض الذي لم تتمكن من شرائه.
قالت لنفسها: «فات الأوان الآن. لا تكوني حمقاء. إنها مجرد خرافة.»
ومع ذلك، وفي أعماق عقلها، كانت تعلم أن أغصان الخلنج ستُحدث فرقًا كبيرًا في سعادتها. ولو أنها شرعت في ذلك، فلن يمكنها السفر بثقة حقيقية.
ألقت نظرةً خاطفة على الساعة، ثم قفزت من القطار. هرعت الآنسة لوفابل على طول الرصيف ممسِكةً بعلبة الليدي بونتيبول، والتي تحتوي على تذاكرها وأموالها وجواز سفرها، إضافةً إلى بعض مستلزمات التزيين، ثم اجتازت الحاجز وعادت إلى متجر الزهور. كانت غير قادرة على التحدث لأنها كانت تلهث؛ فاقتنصت باقةً من الخلنج الأبيض، وألقَت بنصفِ كراون وركضتْ بعيدًا، دون أن تنتظر أخذ باقي مالها.
كانت انطلاقتها وهي عائدة إلى القطار تمثِّل أداءً باهرًا للمشاهدين المذهولين، لكنها لم تكُن تخلو من الخطر. فبعد أن اصطدمت بالموظف عند الحاجز، سمعت صوت انقطاع تنُّورتها وشعرت بحُريةٍ جديدة في الحركة. وبينما كانت تركض بسرعة أكبر، اندفعت مارَّةً بنهاية الخط في نفس اللحظة التي كان فيها القطار قد بدأ في مغادرة المحطة.
كانت عربتها أبعدَ بكثير عن محاولتها للوصول إليها، لكنها تمكنت من الإمساك بمقبض باب العربة الأخيرة. وقد انفتح الباب وأمسك بها شخصٌ ما وجرَّها إلى الداخل.
فقالت وهي تلهث: «يا لحسن حظِّي.»