قطار كاليه-إنترلاكن السريع
في البداية، كانت الآنسة لوفابل مرتبكةً ولا تستطيع التنفُّس، لدرجة أنها لم تكُن واعيةً بمحيطها. وعندما شعرتْ بأنَّها تُجَرُّ إلى مقعدٍ شاغر، شملت بشكرها جميع مَن في العربة.
فقالت: «أشكركم جزيلًا. إنه لُطف جدًّا منكم. كنت أخشى أن يفوتني القطار.»
فأتى صوت سمعتْه من قبلُ يقول موافقًا: «أنا ظننتُ ذلك أيضًا. رأيتكِ تقفزين من القطار وتركضين. لذلك أبقيت الباب مفتوحًا على أمل أن تلحقي بالقطار في اللحظة الأخيرة.»
نظرَت الآنسة لوفابل بدهشة إلى الشاب الذي أنقذ الوضع.
وشهقت وهي تقول: «أنت!»
أجاب بكنجهام: «بالطبع. قلت لكِ إننا سنلتقي مرةً أخرى. أنا ذاهب إلى سويسرا.»
نظرتْ إليه بمشاعرَ مختلطة، فكانت ممتنَّةً لمساعدته ومعجبةً بإصراره، حتى وإن كان ذلك يزعجها. ولأنها كانت من أصل ريفي، أعجبها وهو يرتدي بنطالًا مزمومًا وكنزة أكثر مما كان وهو يرتدي بزَّة المدينة. وعندما نظرتْ بفضول إلى يدَيه غير المقفَّزتَين، لاحظتْ أنهما الآن خاليتان من البقع الكيميائية أو الندوب.
فسألتْه بسخرية: «جريندلوالد أيضًا؟»
«كيف خمَّنتِ ذلك؟»
«في الفندق نفسه؟»
«حتى ذلك لن يفاجئني … يا إلهي. أعتقد أن الأمور باتت واضحةً الآن.»
كانت الآنسة لوفابل تبذل قصارى جهدها للحفاظ على كرامتها والسيطرة على شفتَيها، لكنَّ طبيعتها الطيبة فازت وشاركتْه الضحك.
سأل، وهو يخفض صوته: «هل حصلتِ على الشيك من براند؟»
«نعم. هل يجب أن أشكرك على ذلك؟»
«لقد استخدمتُ بالفعل بعضَ الضغط. وكان ضروريًّا مع هذا الشحَّاذ المتلكِّئ. إنه ينسى دائمًا تقديمَ ساعته عندما يبدأ التوقيت الصيفي، لذا لا يستطيع المجاراة أبدًا … أمَّا الآن، فها نحن ذا. كيف تشعرين؟»
وعندما تذكَّرَت الآنسة لوفابل مأزقها الشخصي، تذمَّرتْ.
وقالت: «أنا في حالةٍ من الفوضى.»
من النظرة الباردة والمجرَّدة التي سدَّدتها لها الفتاة التي كانت تجلس في الزاوية المقابِلة لها، أدركَت الآنسة لوفابل فجأةً أنَّ تنورتها كانت ممزَّقة وشَعرها مضطرب. كانت الفتاة تمثِّل نموذجًا تستاء منه الآنسة لوفابل وتغار منه سرًّا؛ نسخة مصغرة من الجمال الكامل. كانت ملامحها الصغيرة خاليةً من العيوب، وعيونها كبيرة، ورموشها كثيفة ومغبرة. كانت خمريةَ اللون، وقد أوحتْ درجةُ بشرتها بشحوبٍ طبيعي وصحي، وكان شحوبها هذا يتناقض مع شفتَيها اللتين كانتا بلونِ الكرز الناضج. كانت ترتدي زِي سفر لا تشوبه شائبةٌ من صوفِ التويد البُني، والذي يقلِّل من قيمة البدلة الحريرية السوداء التي ترتديها لوفابل إلى أن تكون مجرَّد قطعة قماش قديمة.
كوَّنت الآنسة لوفابل انطباعًا عن الفتاة.
«إنها رقيقةٌ كالجنيات. «امرأةٌ صغيرة القوام». الأزياء والموضة تُصنع من أجلها.»
كانت غاضبةً من نفسها لأنها شعرتْ بالغيرة، خاصةً أنها كانت حقًّا غير قادرة على الإعجاب بالمقاسات الضئيلة. وبعد أن أدانت نفسها في مخيلتها بالوزن الزائد والبذاءة، قامت من مقعدها.
وقالت: «يجب أن أعود إلى عربتي الخاصة.»
همَسَ بكنجهام: «لا يمكنكِ ذلك. هذا قطارٌ طويل، مكوَّن من قِطع وأجزاء.»
تجهَّم وجه لوفابل عندما لاحظتْ لأول مرة أنه لا يوجد ممرٌّ إلى العربة.
فقالت: «لقد تركتُ معطفي وحقيبتي على مقعدي.»
«يمكنكِ استعادتهما في دوفر. كلُّ شيء على ما يُرام.»
«لا، كلُّ شيء ليس على ما يُرام. لقد فقدتُ مقعدي في الزاوية.»
فجأةً، تحدثت «السيدة الصغيرة» بصوتٍ خافت ومبحوح.
فقالت: «هل ترغبين في تبديل الأماكن معي؟»
كان العرض غيرَ متوقَّع لدرجة أن الآنسة لوفابل شعرتْ وكأنها عمَّةٌ عذراء ثرية.
فردَّت مسرعةً: «كلَّا، شكرًا لكِ.»
«أنا آسفة. ظننتُ أنكِ تريدين مقعدًا في الزاوية. ما أجمل هذا الخلنج الأبيض.»
ضحكَت الآنسة لوفابل بخجلٍ عندما وضعتْ أغصان الخلنج داخل العلبة للحفاظ عليها.
واعترفتْ تقول: «هذا هو ما عُدتُ لأجله. آمل أن يستحقَّ الأمر.»
«أوه، هل تؤمنين بالحظ؟»
«أنا أومن بحظي. أنا دائمًا محظوظة.»
«يسرُّني إذن أنكِ تأتين على متن القطار السويسري كتميمةٍ للحظ. أنا دائمًا أخاف من الحوادث.»
«لا تقلقي. ستكونين آمنةً معي.»
شعرت الآنسة لوفابل أنها سعيدة مجدَّدًا عندما أدلتْ بنبوءتها. فبعد أن تعرَّضتْ للإذلال بسبب الشعور بالدونية، إضافةً إلى فقدان مقعدها في الزاوية، استعادتْ مستواها الأعلى من الامتيازات الخاصة. وفي هذه الظروف، سرَّها أن تسمح للآخرين بالاستفادة من الفيض.
استطردت الفتاة تقول: «هل يمكنكِ ضمان عبورٍ سلِس؟»
«بالطبع. أنا أيضًا سأعبر.»
تحوَّل بكنجهام إلى الفتاة وقال: «هذا يحسم الأمر. سنلازمها.»
كانت هذه هي المرة الأولى التي يُشركها فيها في المحادثة، لكن بدا وكأنها تنتظر تمهيدًا. وكانت إيماءتها وابتسامتها السريعة هي متمِّم التحالف، وذَكَّرَت الآنسة لوفابل بحماس الكلب بعد تناوله السكر.
وقالت: «حريٌّ بي أن أبتعد عن نادي الحظ. فأنا غريبة، في حين أن أحدكما يعرف الآخَر بالفعل. ولكن عندما يسافر المرء وحده، فإن لقاء أشخاصٍ لطفاء يشكِّل فارقًا كبيرًا.»
وعلى الرغم من المديح الذي تلقَّته الآنسة لوفابل، فإنها لم تكن تعيش في أوهام. كانت الفتاة من النوع الأنثوي المتوتر الذي يسعى للاستحواذ على أي رجلٍ غير مرتبط. وبينما كانت ملامح وجهها ناعمةً كطالبة مدرسة؛ أثبَتَ هدوءها أنها شخصيةٌ ناضجة ومتمكنة.
وفي غضون الدقيقة التالية، بيَّنت طبيعتها.
سألت الفتاة: «هل يمكنني أن أُصلح تنورتكِ؟ لديَّ عدَّة خياطة في حقيبتي. لا يمكنكِ فعل ذلك بنفسكِ. لكن يبدو أن القطع عنيف جدًّا.»
ألقت الآنسة لوفابل نظرة على الرفِّ ولاحظتْ أن أمتعة الفتاة تتطابق مع اختيارات ألوانها، في دليلٍ آخَر على اهتمامها بالتفاصيل. وعندما قبلت العرض وانحنَت الفتاة فوق الشقِّ الحريري الأسود، اضطرَّت الآنسة لوفابل للاعتراف بكمال طِلاء أظافرها، والبراعة الفنية في تموُّج شَعرها وانسياب رموشها الطويلة.
أوضحت الفتاة تقول: «سأسحب الحواف معًا، فقط حتى تنتهي الرحلة. وعندما تعودين، يمكنكِ أخْذ الفستان إلى مكانٍ لإصلاحه بشكلٍ خفي.»
فأومأت الآنسة لوفابل بحركةٍ نبيلة غامضة استعادت بها احترامها لنفسها.
وقالت: «سأتخلص منه عندما أعود مباشرةً.»
وعلى الرغم من أنهم كانوا مجموعةً مفعمةً بالحيوية وهم في طريقهم إلى الساحل، كانت تشعر سرًّا بخيبةِ أمل. إذ لم تبدأ العطلة وفقًا للخطة. فقد كانت تتطلع إلى السفر وهي حرَّة من الالتزام بمحادثة، حرَّة في أن تستلقي في زاويتها وتشاهد الحقول والمنازل تمرُّ بسرعة من جانبها.
وسرعان ما وصلوا إلى دوفر، فقفزت من العربة، وركضت على الرصيف. ووصلت إلى عربتها الأُولى في الوقت المناسب لأنْ ترى حامل الأمتعة يلقي بحقيبتها ومعطفها على عربةٍ لحمل الأمتعة. تجاهلَت الآنسة لوفابل عروضَ بكنجهام للمساعدة، وأمسكتْ بأمتعتها وهي مغتبطة، وصعدت على متن باخرةِ القنال الإنجليزي، وعادت حرَّة.
أثبت الخلنج الأبيض تأثيره ومزيَّته؛ لأن البحر في وقتِ الشفق كان هادئًا جدًّا، لدرجة أنه لا يمكن أن يسبِّب أيَّ إزعاج حتى لأسوأ بحَّار. واستمتعَت الآنسة لوفابل بفترة العبور القصيرة، على الرغم من أنها اضطرت لممارسة التخطيط الاستراتيجي لتجنُّب زملائها من الركاب. وعندما صعدت على متن قطار كاليه-إنترلاكن إكسبريس، رافقها حظُّها؛ لأنها وجدت فقط زوجَين فرنسيَّين هادئَين يشاركانها عربتها.
وقبل أن تضع أغراضها على الرف، سمعت صوت الفتاة المبحوح.
«هل تمانعين أن آخذ الزاوية الأخيرة؟ إنْ لم أفعل ذلك، فقد يأخذها رجلٌ سمين يشخر.»
أقرَّت الآنسة لوفابل بهذا مجازِفةً وقبلتْ بالتسوية، على الرغم من أنها في سريرتها اعتبرت أن الخلنج الأبيض لم يُجهد نفسه نيابةً عنها. ثم رافقت الفتاة إلى عربة المطعم واستمتعت بعشائها كثيرًا، حين كان القطار يهدر عَبْر الشفق الأخضر لفرنسا. ولمَّا وقفت بعد ذلك في الممرِّ وشاهدت أضواء المحطات الصغيرة تمرُّ بسرعة؛ كان كل شيء يبدو غريبًا ومثيرًا على هذا الجانب من القناة.
بعد بُرهة، عادت إلى عربتها الخاصة، لتجد الآخرين قد استقرُّوا بالفعل في زواياهم. وكانوا قد خففوا الأضواء على أملِ الحصول على قسطٍ من الراحة، حتى لو لم يتمكنوا من النوم. كانت الآنسة لوفابل قد بدأت في الاستمتاع بالشعور بالتمايُل خلال الظَّلام، عندما سمعتْ أصواتًا في الممر.
كان بعض الركَّاب يبحثون عن مقصوراتٍ جديدة. وأخذ الجميع يُنصتون بقلق، خشيةَ وقوع الأسوأ، وذلك حين أصابتْهم الطامَّة.
قال صوتٌ حادٌّ: «هناك أربعةٌ فقط هنا.»
وعندما فتحتْ عينَيها، تعرَّفت الآنسة لوفابل على السيدتَين الراقيتَين من مقهى فيكتوريا. بدَت المرأة الأكبر سنًّا في قمة الإرهاق عندما انهارت على مقعدٍ وابتسمتْ بعذوبة باهتة.
قالت بنبرةِ اعتذار: «أعلم أننا لا يمكن أن نكون موضعَ ترحيب. أنا آسفة جدًّا. لكننا مشينا كثيرًا في محاولةٍ للعثور على عربةٍ أكثر راحة.»
ثم تحدَّثت بسرعة إلى الموظف الذي كان يحمل حقائبهما.
وقالت: «ضعها هناك أيها الحمَّال.»
قاطعتْها الفتاة قائلةً: «لكن يا أمي، أنتِ تعلمين أنكِ يجب أن تجلسي في مقعدٍ بالزاوية، بسبب حالة قلبكِ.»
«حبيبتي، ستكون زاويةً في مقبرة إذا مشيت خطوةً أخرى. هل تمانعين في إخراج شراب البراندي؟»
تقبَّلت الآنسة لوفابل خفَّة دمها باستمتاعٍ وعبوس وهي تتذكَّر تفاخُر السيدة الرقيقة أمام أصدقائها. وأعطت الفتاة الخمرية دليلًا آخَر على طبيعتها غير الأنانية وهي تبتسم.
إذ حثَّت الفتاة العجوز، قائلةً: «رجاءً خُذي مقعدي.»
فردَّت العجوز: «أنتِ حقًّا لطيفة جدًّا. الناس في غاية الأنانية اليوم. وهذا يفسر حالة العداء في المجتمع.»
وعلى الرغم من امتنانهم؛ تشكَّل لدى الآنسة لوفابل انطباعٌ بأنَّ القادمتَين الجديدتَين اعتبرتا أن الفتاة تحدثتْ في وقتٍ غير مناسب. وتأكَّدت شكوكها عندما نظرت الابنة بتطلُّع إلى مكانها الخاص.
وأوضحت للفتاة قائلةً: «مقعد تلك السيدة سيكون أفضلَ لأمي؛ لأنه يواجِه النافذة. ربما لن تمانع أن تبدِّل مكانها إلى زاويتكِ في الممر؟»
فقالت الآنسة لوفابل بهدوء: «آسفة، لكني أخشى أنها ستمانع.»
ومنذ تلك اللحظة، وهما لا تُشعِرانِها بالخزي وحسب، بل أيضًا بأنها متطفلة. وبالطريقة نفسها، التي اجتاحتا بها محطةَ فيكتوريا، حوَّلَت السيدتان العربة على الفور إلى منطقةٍ خاصة تابعة لهما. وقد حسَمَتا مسألة الإضاءة والتهوية مع أخذهما تفضيلاتِ الفتاة وحدها في اعتبارهما، وذلك بعد أن أثبتتْ أنها مرِنةٌ ومراعية.
وقالت السيدة الرقيقة، التي يبدو أنها نسيتْ خطر الإغماء: «لا أستطيع النوم في القطار. لهذا أسافر في الدرجة الثانية. فالوقت يمرُّ أسرع عندما يقضيه المرء في الحديث.»
وافقتْها الفتاة الخمرية بحماس. إذ بدا أنها أكَّدت لنفسها الأهمية الاجتماعية التي تتمتع بها تلك المرأة الغريبة، بنفس الطريقة التي شكلت بها رأيها عن الآنسة لوفابل ووجدتْها أقلَّ أهمية، حين كان الأمر معنيًّا بالقَطْع في تنُّورتها. وبدَتْ أنها مستمتعة عندما بدأت في مناقشة الشخصيتَين البارزتَين في المجتمع اللندني.
وبينما كانت الآنسة لوفابل تستمع، شعرتْ وكأن قنبلة قد انفجرت في العربة باعثةً سيلًا من القصاصات من السجل الاجتماعي. وبدأت تشعر بالدوار مع تتابُع الألقاب. فقالت لنفسها لا بدَّ أن هؤلاء الناس المتعالين قد بدءوا حياتهم في القمة، وأن الأساقفة لم يكونوا أبدًا بمرتبةٍ أدنى مثل القساوسة، أو أن الجنرالات لم يبدءوا مسيراتهم كمرءوسين.
وسرعان ما اكتُشِفَت معرفةٌ مشتركة، كانت بمنزلةِ إشارة لتبادل الأسماء. فقدَّمت الأم والابنة نفسَيهما باسم السيدة فورس والآنسة أوليفيا فورس، في حين أن الفتاة أعطت لهما بطاقتها.
وقالت وهي تضحك: ««الآنسة أوكترلوني». لكن دعا عنكما هذا الاسم ونادياني باسم «فيفا» كما يفعل الجميع.»
ومنذ تلك اللحظة، أصبحت تُعرَف باسم «فيفا» عند معارفها الجدد، بينما كانت الآنسة لوفابل تفكِّر بمرارة:
«الأمر بهذه السهولة. ولكن إذا وقع حادثُ تصادم؛ عندما يسألني القديس بطرس عن ذريعتي لدخول الملكوت، سيناديني باسم «الآنسة لوفابل».»
ولأنها كانت متعبةً جدًّا، بدأت تشعر بالأسف على نفسها. وتذكَّرت أنه مرَّت سنوات منذ أن دعاها أحد باسمها الأول. كانت هي نفسها على وشك أن تنسى اسمها بعد مرور وقت قصير … وفي الوقت نفسه، كانت تشتاق للنوم، ولكن بدا من أصواتهنَّ أنهنَّ لا ينوين التوقف عن الحديث في جلستهن. كانت تفتقر إلى فلسفة الزوجين الفرنسيين اللذين تجاهلا الأمر وعادا للنوم. وفي الوقت الذي كانت تشتاق فيه للصمت، كانت غاضبةً من أنهنَّ يتعاملْنَ معها وكأنها نكرة.
بعد قليلٍ تمكنتْ من استحضار منطقها السليم لمساعدتها، عندما تذكرتْ أن هذه البليَّة ما هي إلا تجربةٌ عابرة. وفي غضون بضع ساعات، سيكون كلُّ هؤلاء الناس قد غادروا حياتها.
قالت لوفابل لنفسها: «أنا في طريقي إلى سويسرا.»
تذكرت الآنسة أوليفيا فورس وجودَها مرةً واحدة فقط، وأومأتْ لها بإيماءةٍ طفيفة تنمُّ عن عرضٍ للصداقة، عندما عرضتْ عليها مجلةً متجعدة.
«هل تودِّين قراءة هذه؟»
رفضت الآنسة لوفابل هذا المعروف الذي جاء بعد فوات الأوان.
فقالت: «كلَّا، شكرًا لكِ. لا أستطيع القراءة.»
ومع مرور الليل وتثاقُل جفونها، بدا وكأن هناك بندولًا ثقيلًا من الرصاص داخل رأسها يتحرك موازيًا للأصوات. تمايُل العربة، والصرخات العابرة للمحركات، ولطخات السخام التي تناثرت عليها؛ كل هذه كانت أجزاءً من كابوسٍ لا نهايةَ له. ثم فجأةً انتبهتْ لإدراكٍ أليم عندما طرحتْ فيفا سؤالًا:
«إلى أين أنتما ذاهبتان في سويسرا؟ هل ستنتقلان منها إلى مكان آخَر؟»
أجابت السيدة فورس: «كلَّا. فأنا بحاجة للراحة. نحن ذاهبتان إلى جريندلوالد.»
«وأنا أيضًا. أين ستقيمان هناك؟»
نطقَت السيدة فورس اسم فندق الآنسة لوفابل، ونصحت فيفا بمحاولة الحصول على غرفةٍ فيه، وذلك بسبب شهرته الواسعة.
شعرت الآنسة لوفابل بأنها تكاد تُصعَق من الصدمة، كما لو كانت صديقةُ عمرها قد خانتْ ثقتها.
سألت بدهشة: «ما الذي حدث لحظِّي؟»
ومع مرور الوقت، وعلى الرغم من أنها لم تكُن واعيةً بأنها تستسلم للنوم، كانت تعلم أنها لا بد وأنها مرَّت بفترات من الغياب عن الوعي؛ لأنها كلما انحنى رأسها إلى الأمام، كانت تسمع أن الموضوع الذي يتحدثون فيه قد تغيَّر: السيد تشامبرلين والأزمة. والت ديزني وسنو وايت. الخبز والزبدة كوسيلة للتخسيس. وهكذا دَوَالَيك.
وأثناء شعورها بعدم الراحة هذا، ظلَّت أفكارها تعود إلى السلام والجمال في منزل البحيرة؛ وبرودة سريرها الفارغ. وتخيَّلت إلسي وهي نائمة، وديفيد في سلَّة بجانبها وسكوتي يشخر على وسادته؛ وكانت تشتاق للعودة مرةً أخرى.
كانت غبطتها هذه مُهدَرة؛ لأن إلسي كانت تعاني قلقًا أكثر مما تعاني هي. كانت الفتاة تتعذَّب نفسيًّا من القلق على سلامة سيدتها. إذ بدا لها أن سيدتها في خطرٍ دائم أثناء سفرها وانتقالها؛ في المقام الأول أثناء رحلة القطار، ثم بعد ذلك من القطار الجبلي المائل ومن السكك الحديدية الجبلية ومن عبَّارة البحيرات والحافلات السياحية. وحتى لو لم تتنقَّل وتسافر، فهناك دائمًا احتمال أنْ تنهار عليها قطعةٌ من الجبل الثلجي فتُدفن تحتها.
كانت إلسي تقضي وقتها في تضرُّع لا ينقطع.
«أرجوك يا إلهي، لو أن حادثة لا بد أن تقع، فدعْني أُوقِف الحافلة …»
قُرب الفجر، بدأت الآلات تُظهر إشاراتٍ على أنها تخفِّض قوَّتها، وذلك حين قالت السيدة فورس أنها تظنُّ أنها تستطيع أن تخلد إلى النوم إذا ما قلَّلَت ابنتها الإضاءة. ولمَّا غرقت العربة في ظلام يكاد يكون دامسًا، أدْلَت أوليفيا بتصريحها البارز.
«ألَا تبعث الليلة الأُولى على الحماس؟ فهناك إحساسٌ ما ﺑ «القَدَر» ينتاب المرء حين يكون في رحلةٍ بالقطار. إجازتكِ — بل وحياتكِ حتى — يمكن أن تتأثَّر بالأشخاص الذين تلتقين بهم وهم غرباء عنكِ.»
في تلك اللحظة، توصَّلت الآنسة لوفابل إلى قرارٍ انفعالي في ذهنها.
«كلَّا. لقد أفسدتُما عليَّ رحلتي تمامًا. لكنكما لن تفسدا عليَّ إجازتي. حالما نصل إلى جريندلوالد، سأكون حرةً بعيدًا عنكم جميعًا — وسأظلُّ حرة. ولو استطعتُ أن أتجنب الحديث مع أيٍّ منكم فسأفعل ولن أتحدث إلى أحد منكم. وسأعود إلى الديار عن طريق باريس.»
وبعد عشر ساعات، كانت تقف على الشرفة الخشبية في الفندق، تنظر إلى الحاجز الجبلي العظيم. ورأت أصدقاءها القدامى، جبل إيجير وجبل ويتيرورن، قبل أن تسقط عينها على الكتل الجليدية العلوية والسفلية وتركِّز على شقِّ وادي جورجي. كانت تشعر وكأن مقلتيها هُلاميتان، لكنَّ وجهها كان غايةً في الابتهاج.
وعلى الرغم من المِحَن التي مرَّت بها أثناء الليل، فإن ذهنها كان قد خزَّن ذكرياته: القهوة وخبر البيتي بان، حين شقَّ القطار مروجًا أضاءها نور الشمس؛ سطح بحيرة ثون بألوانه الزرقاء الفيروزية، وتناوُل الغداء تحت أشجار القسطل في إنترلاكن أوست؛ الرحلة الأخيرة على الممر المحفوف بالأشجار، إلى جوار نهر لوتسكين الهائج.
لكنْ في هذه اللحظة، كانت في حاجة ماسَّة إلى الشاي. كان رأسها ينبض بالألم وشعرتْ بأن حلقها جافٌّ حين كانت تنزل الدرَج المسطَّح، وذلك حين وجدتْ موقفًا مثبطًا. من الواضح أن كلَّ مَن في الفندق قد فكَّروا في نفس ما فكَّرت هي فيه. فكانت الاستراحة تعجُّ بالزوَّار الذين استولوا على كلِّ طاولةٍ متاحة، في حين أن الموظفين كانوا حسيري النظر يهرعون من حولها بصوانٍ وأطباق محمَّلة.
ولمَّا استيأست أن تجد مَن يأخذ منها طلبها، امتدَّت يدٌ تمسك بمرفقها.
قال بكنجهام: «انضمِّي إلينا. الشاي في انتظاركِ. لقد طلبناه لكِ.»
ثم تقدَّمَها إلى الخارج في الشرفة نحو طاولة أُعِدَّت لخمسة أشخاص، حيث جلست السيدة فورس مع ابنتها أوليفيا ومعهما فيفا. كنَّ قد شرعنَ في تناوُل طعامهن، لكنهنَّ لوَّحنَ لها أن تأتي وأشرنَ إلى مقعدها الشاغر.
وفي الحال نسيَت الآنسة لوفابل سياسة الانعزال التي كانت قد قرَّرتها، ونسيت حنقها، وهرعت نحو المجموعة لتنضمَّ إليهنَّ وهي ترى تبسُّمهنَّ ترحيبًا بها.