الآنسة لوفابل الحقيقية
ذُهِلَت الآنسة لوفابل لمَّا رأت مستوى الأزياء والأناقة العالي نسبيًّا في الفندق. كانت قد حزمت بعض ملابسها القديمة وحسب؛ لتحافظ على خِفة حقيبتها، حتى تستطيع حملها بنفسها. وبعد أن سَبَّت الآنسة بِيت ولعنتْها بشدَّة بسبب نصيحتها المضلِّلة، خرجتْ إلى شرفتها لتتأمَّل الجوَّ العام.
وبينما تنظر إلى الجبال، استلَّت الجبال شعور الحنق من داخلها وتركتْها أخفَّ رُوحًا وأكثر ارتياحًا. بدا لها وهي واقفة تحت ظلال قمم هذه الجبال أنَّ من الغباء والحماقة أن تسمح لشيءٍ تافه كآراء الناس أن يخرِّب عليها إجازتها.
فقرَّرت: «سأرتدي سروالي القصير، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى.»
لكنها حين نزلت لتناول العشاء في ثيابها المسائية — في معطفٍ حريري عثماني أبيض ترتديه فوق التنورة الحريرية السوداء لبزَّتها — لم تستطع أن تصرف عن ذهنها إحساسَ أنَّ نشوة أول إجازة لها قد فسدت ونقصت. لاحظت أن فيفا — في فستانها الفيكتوري ذي الأهداب الشبكية — تجلس مع عائلة فورس وتتشارك معها شعورًا قويًّا بالقيم الاجتماعية. كان اهتمامهن منصبًّا على أولئك الزوار الذين يرتدون ملابس أفضل ويجلسون على المقاعد الأعلى في المأدبة، ولا شك أنهنَّ فكَّرنَ في أنهنَّ أُعفينَ من أي الْتزام تجاه رفيقتهنَّ في السفر أثناء تناول الشاي.
وطمأنَت الآنسة لوفابل نفسها بأنها محظوظة لأنها أفلتتْ من صحبتهنَّ. كانت لا تزال تشعر بأنها تهتز مع تمايل القطار، وترغب في أن تنال قسطًا جيدًا من النوم. أسرعت في تناول وجبتها لكي تتفادى ما يمثِّله بكنجهام من تهديد — والذي جعلتْه شهيته يفرط في تناول الطعام — ثم سحبتْ معطفًا، وذهبت لتتمشى عبر القرية. في البداية كانت مسرورة لمَا يتمتع به موقع هذه العطلة من حداثة؛ فالزوار يتناولون القهوة أو الجعة في الشرفات المكلَّلة كلها بالزهور، والمتاجر بمنحوتاتها الخشبية وشرائط الزينة؛ لكنها حين خلَّفت الأضواء وراءها وبدأت تتبع الطريق الجبلي المنحدِر نحو الكتلة الجليدية العليا؛ بدأت تشعر تدريجيًّا بخيبةِ أمل.
لقد فرض «القدَر» هذه العطلة للتأثير في مصيرها، وقد بدأت الأحداث، على الرغم من كونها عشوائيةً وغير مترابطة حاليًّا، تشكِّل نمطًا مهمًّا ومتماسكًا … وهكذا، ورغم أنَّ الليل قد أتى بكل ما ترغب فيه — حيث النجوم والعزلة والجبال — وجدَت الآنسة لوفابل نفسها تستسلم لبعض الدوافع الإنسانية جدًّا، بدلًا من أن تنغمس في تلك الرحابة.
ازدراها آل فورس وفيفا لرثاثة مظهرها. فأرادت أن تقدِّمهنَّ إلى الآنسة لوفابل الحقيقية التي تفوز بالجوائز من أجل أفضل الطعام والتي تملك ثلاثة منازل.
بعد أن نالت قسطًا جيدًا من النوم أثناء الليل، استيقظت الآنسة لوفابل بصحة ممتازة ورُوح معنوية عالية، لكنها كانت عازمة على إثبات جدارتها إذا ما لاحتْ لها فرصة لذلك. ثم نزلت إلى المطعم وهي ترتدي سروالها القصير مع افتقارٍ تام للوعي بالذات.
مرةً أخرى كانت فيفا تشارك آل فورس الطاولة، وبدت منهمكة في الحديث. وبعد التحية والابتسامة الساحرة — التي قدَّمتها السيدة فورس كشيءٍ إضافي ومنحة — لم ينتبه لها أيٌّ من المرأتين كثيرًا، عدا الابنة أوليفيا والتي أخذت تحملق في ساقَيها.
جلسَت الآنسة لوفابل إلى الطاولة الوحيدة الشاغرة والتي كانت تقع إلى جوار طاولتهنَّ، وبدأت تتناول إفطارها المكوَّن من القهوة وخبز البيتي بان. كان ذهنها قد عاد إلى هايفيلد، وكانت تحسد إلسي على تناوُل اللحم المقدد، وذلك حين دخل بكنجهام المطعم. جلس بكنجهام في مواجهةِ الآنسة لوفابل وهو غافلٌ عن إيماءات فيفا التي تدعوه لينضمَّ إليهن.
سألها بكنجهام: «أتمانعين إن شاركتكِ الطاولة؟ أنا لا أتحدث. فالوقت لا يزال مبكرًا جدًّا.»
فردَّت، وهي تشعر بنوع من الإثارة الأنثوية الناجمة عن الشعور بالغلبة: «يناسبني ذلك.»
وبسبب الحال الفوضوية التي كان عليها عقلها أثناء الرحلة؛ كان انطباعها عنه مشوشًا. وإذ كانت قد استعادت نشاطها بعد قسط النوم الجيد، أخذت تتأمل وجهه باهتمام. ولاحظت حينها أن صرامة تعبيرات وجهه كانت بسبب التجاعيد التي تظهر غالبًا على وُجوه الرجال بعد الحرب.
وبينما هما صامتان، وجدا نفسيهما يستمعان إلى المحادثة التي تدور على الطاولة المجاوِرة. بدأت السيدة فورس أولًا بإخبار فيفا عن ممتلكاتهما في مقاطعة سَري التي باعاها مؤخرًا، ثم وصفتْ لها شقتهما في لندن، والتي كانت تحتوي على كل الرفاهيات والتحسينات الحديثة، بما في ذلك منظر طبيعي مصطنع للريف.
وعند أول صمتٍ بينهم، حاولتْ أوليفيا فورس — التي بَدَت أكثر اجتماعية من رفيقتَيها — جذب الآنسة لوفابل إلى المحادثة.
فسألتْها: «هل تعيشين في الريف؟»
كانت هذه هي الفرصة التي تنتظرها الآنسة لوفابل؛ ولكن قبل أن تتمكَّن من الرد، استأنفَت السيدة فورس وصفها للشقة.
«إننا نستأجرها بمبلغ كبير يتكوَّن من أربعة أرقام، ولكنها في الواقع اقتصادية؛ حيث نحتاج إلى طاقمِ عملٍ أقل.»
فقررت الآنسة لوفابل عدم دخول المنافسة.
وأجابت: «نعم، أنا أعيش في الريف.»
وسَرَّها بشكل خفيٍّ أن بكنجهام تصرَّف كوكيل دعائي لها.
إذ أوضح يقول: «في الواقع، الآنسة لوفابل تملك ثلاثة منازل. واحد في لندن، وواحد في الريف، وواحد على الساحل.»
وبينما كُنَّ يَنْظُرن جميعهن بدهشة إلى الراكبة التي ازدرينها، استفسرتْ أوليفيا على عجل.
«أوه … أهي بيوتٌ للضيافة؟»
فغضبَت الآنسة لوفابل لهذا التلميح.
وأجابت: «كلَّا، إنها منازل خاصة وأمتلكها شخصيًّا. أعيش فيها بالتناوب. فأنا أحبُّ التغيير.»
وبعتابٍ لطيف، كسرت السيدة فورس الصمتَ المفعم بالتوتر الذي تلا ذلك:
«كم هذا مثير! ومع ذلك، لا أظنه سائغًا أن أمتلك ثلاثة منازل في آنٍ واحد. سأعدُّ الأمر جريمة، في حين أن العديد من الأسر الفقيرة تُضطر للتكدُّس في غرفةٍ واحدة.»
فسألتْها الآنسة لوفابل بحدَّة: «هل تستضيفين دومًا عائلةً فقيرة في الغرفة الفارغة الاحتياطية في منزلكِ؟»
علَّق بكنجهام بإعجاب: «هذا السؤال من نفس فئة سؤال «هل توقفتَ عن ضرب زوجتك؟». والآن يا سيدة فورس، إمَّا أنكِ ستدينين نفسكِ بأنكِ مناهضةٌ للاجتماعية أو ستضطرين إلى الاعتراف بأنَّ شقتكِ الرائعة ليس بها غرفةٌ احتياطية فارغة.»
فجأةً أصيبت الآنسة لوفابل بالاشمئزاز من الموقف. كانت تشعر بالعار لاستسلامها للرغبة في امتداح نفسها؛ وكذلك، بشكلٍ أكثر غموضًا، من محاولة العيش في ثلاثة منازل في آنٍ واحد. فنهضت فجأةً، وخرجتْ إلى الحديقة لتدخن سيجارة.
كانت الآنسة لوفابل تحمي عود الثقاب من الرياح عندما انضمَّ إليها بكنجهام.
وسألها: «هل أنتِ غاضبة مني لأنني أفشيتُ هويتكِ الحقيقية؟»
فأقرَّت بصراحة: «كلَّا. أنت فقط كرَّرت ما أخبرتُك به بنفسي. إنها مسئوليتي أن أحترس؛ إذ كنتُ حمقاء بما فيه الكفاية لأثرثر عن شئوني الخاصة للغرباء. إضافةً إلى ذلك، كيف تعرف أنني أملك ثلاثة منازل؟»
«لا أعرف. هل لديكِ ثلاثة منازل؟»
«أجل. هل لديكَ أخت؟»
«لِمَ لا؟ هذا أمرٌ شائع.»
«ليس شائعًا جدًّا. فأنا ليس لي أخت. كيف هي السيدة براند؟»
«الرجال لا يحسِنون معرفة أخواتهم. لقد تمكنتْ من الزواج. لا أعرف إن كان ذلك لأنها جذَّابة أم لحسن حظِّها.»
فانفجرت الآنسة لوفابل تضحك ضحكاتها العميقة المميزة.
وقالت له: «أنت غامض جدًّا حول عائلتك. كان عليَّ أن أخبرك أنَّ زوج أختك يريد شراء منزلي في لندن. أتوقع أن يتم البيع بينما أنا هنا. ولكني أعتزم العودة وتسوية أمر الأثاث بنفسي.»
«لماذا؟»
«لأنني سيدة أعمال.»
قال بكنجهام بسخرية: «سيدة أعمال؟ تقصدين أنكِ لم تكسبي قرشًا في حياتكِ. فرجلٌ اكتسب المال الذي ورثتِه ورجل آخَر نصحكِ بكيفية استثماره. ثم تزعمين أنكِ سيدة أعمال نشِطةٌ لمجرد أنكِ تقرئين تقرير البورصة لتري إن كانت أسهُم الكاوتشوك قد ارتفعت. إنَّ أي طفل على مكتب نقدية أحقُّ بهذا اللقب وأَولى.»
احمرَّت وجنتا الآنسة لوفابل.
وسألتْه: «هل تحاول أن تكون وقحًا؟»
فأجاب: «كلَّا. لقد فعلتُ أسوأ من ذلك. لقد كنتُ بالفعل وقحًا. لقد نسيت أنني أتحدث إليكِ. أنا أعتذر … الحقيقة هي أنني طوال حياتي كنت ممَّن لا يملكون شيئًا. كانت أُسرتي هم الفرع الفقير في عائلتنا. وهذا جعلني حساسًا فيما يتعلق بالمال.»
كانت نوبة التعاطف التي شعرتْ بها الآنسة لوفابل بمنزلة تنبيهٍ لها لأنْ تُقَسِّي قلبها للدفاع عن النفس بشكلٍ غريزي. كانت تُذَكِّر نفسها كثيرًا بأن بعض حظِّها يتألَّف من معرفتها بسعادتها. وبما أنها ظلَّت عزباء باختيارها، كانت تشكُّ في أيِّ تهديد مستتِر لوضعها — كعزباء.
كان الانجذاب الذي شعرتْ به تجاه بكنجهام غريبًا جدًّا عن طبيعتها، حتى إنها شخَّصته على أنه ضعفٌ في مبادئها الأخلاقية يجب أن تتخلص منه بلا هوادة. سيكون كارثيًّا زيادة تعقيد الوضع بالشفقة.
فقالت له: «أنت مخطئ في شيءٍ واحد. لقد اكتسبتُ بعضَ أموالي. فُزت بها في سَحْب.»
سألها: «بكمْ تذكرة؟»
«واحدة.»
«بآخِر عشرة شلنات معكِ؟»
«كلَّا.»
«هذه ليست حتى مقامرة.»
شهقتْ وقالت: «في الواقع! الجبال تنزع الغرور مني. لكنك كسرتَ شوكتي تمامًا.»
وعلى الرغم من أنها كانت حريصةً على ألَّا تذكُر منازلها الثلاثة مرةً أخرى لأي شخص في الفندق، كان للواقعة عواقبُ معينة ومؤكَّدة. إذ اعتبرت السيدة فورس المحنَّكة وفيفا أنها جديرةٌ بأن يتعرَّفا عليها شخصيًّا. فوجَّهتا إليها دعوةً للانضمام إليهما في رحلاتٍ مختلفة، قد تكون مكلِّفة جدًّا لها، إن لم تتقاسم التكلفةَ مع مجموعة.
عندما صارت الآنسة لوفابل وحدها، وكان بإمكانها تحليل مشاعرها، تعيَّن عليها الاعتراف بخيبة أملها المستترة. إذ لم تكُن هذه هي العطلة المثالية التي خططت لها بكل نشوة. وكانت السيدة فورس تتمتَّع بصفات الزعامة الاجتماعية وتؤثِّر على الضيوف الآخرين في الفندق. وكانت دعواتها تعتبر شرفًا؛ لذا وجدت الآنسة لوفابل صعوبةً في مقاومة الانجذاب إلى دائرتها الخاصة، والتي تضمنتْ أيضًا بكنجهام.
ذهبوا إلى بحيرة كاندرستيج الزرقاء، وممر آري ونهر الرون الجليدي. ولكنْ، على الرغم من أنها كانت تشعر بالحماسة والإثارة، فإنها كانت غالبًا ما تشعر بالضيق وعدم الرضى. فقد كان هناك كثير من الناس، فتشتت انتباهها؛ الكثير من الوجوه، والكثير من الأصوات. ما كانت تريده حقًّا هو أن تكون وحدها؛ أن تستلقي في أعلى الجبل وتشاهد الغيوم تنجرف عبر الوجوه المتغيرة لسلاسل الجبال.
لم يمضِ وقت طويل قبل أن تصبح الآنسة لوفابل شخصيةً بارزةً في الفندق. وعلى الرغم من أنها لم تكن ترغب في جذب الانتباه، فإن شخصيتها كانت قوية وصادقة للغاية، بحيث لم يكن يمكن كبتها. فعندما كانت تعبِّر عن رأي لها، كانت تصرِّح به بصدقٍ وبساطة دون اعتبار لمشاعر الذين يستمعون إليها.
وكانت سراويلها القصيرة التي ترتديها مسئولةً جزئيًّا عن الإشادة التي تتلقاها شخصيًّا؛ لأنها كانت ترتديها بلا مبالاة. كانت تلك السراويل تمثِّل تحدِّيًا لِفيفا، التي كانت تخرُج عليهم يوميًّا بزِي رياضي جديد من آخِر صيحات الموضة الحصرية.
وفي الصباح الذي نزلتْ فيه لتناول الإفطار وهي ترتدي بنطالًا بلونٍ أزرقَ داكن، لم تستطِع الآنسة لوفابل التحكم في سخطها.
فقالت لأوليفيا فورس: «لم أرَ منظرًا أكثر بشاعة من هذا. أفضِّل أن أكون عاريةً على ارتداء هذا البنطال.»
ولكي تثأر لسخطها المحتشم، صعدتْ إلى غرفتها وقصَّت إنشَين من سروال الكشَّافة الصغير الذي كانت ترتديه.