الفصل الثالث عشر

النموذج المثالي

بدا منزل البحيرة فارغًا لا حياة فيه دون وجود الآنسة لوفابل. فعندما كانت في المنزل، كانت تجوبه كإعصارٍ نشِط. كانت تصيح، وتعاتب، وتثير الغبار؛ لكنها أيضًا كانت تهوِّيه، وتنظفه وتُضفي عليه البهجة. ولأنَّ الآنسة لوفابل — صاحبة المنازل الثلاثة — كانت تعدُّ نفسها محظوظة؛ فقد كانت سعيدة، وبما أنَّ الآخرين يستفيدون مما تجود به رُوحها المرِحة؛ فإنهم يشاركونها حظَّها بشكلٍ غير مباشر.

وكان لديفيد وسكوتي ردُّ فعلٍ على هذا الركود الذي أصاب المنزل. إذ أصبحا متقلِّبَي المزاج، ومن الصعب إرضاؤهما فيما يتعلق بطعامهما، فقط لإظهار أنهما يعترضان على ولاية إلسي. وليزيدا الأمور عليها سوءًا، اكتسبا عادةً مزعجةً تتمثَّل في الاستلقاء على سرير الآنسة لوفابل والنوح مثل المؤبِّنين في الجنازات. كانا يقومان بهذا العرض لأجلها؛ لأنهما كانا يتسللان مبتعدَين نحو الحديقة ويمرحان بصخبٍ فورَ غياب المراقبة عنهما.

وكانت إلسي تشتاق إلى الآنسة لوفابل من الصباح وحتى الليل، فضلًا عن تلك الساعات التي تستيقظ فيها لتتذكر أن سيدتها لم تكن تنام تحت السقف نفسه. وقد وجدت نفسها تتسمَّع باستمرار لصوت خطواتها الصارمة وضحكتها الصاخبة. وفي الرسائل اليومية التي كانت ترسلها إليها، كانت تحرص على كبْتِ ملاحظاتها الشخصية.

انتهجت هذه الرسائل صيغةً معينة. كانت تتحدث عن الطقس، والأخبار، والوجبات، والعمل وتقرير الآنسة بِيت عن صحة الحيوانات الأليفة. وكان ديفيد وسكوتي يمثلان بندَ المفاجآت بتصرفاتهما، في حين كانت مساهمات إلسي في الخطاب تتمثل في التحذير والتنبيه.

ويجب الإقرار بأن الآنسة لوفابل لم تلعب اللعبة بشكلٍ صحيح مع إلسي. فلو كانت حرَّة تمامًا، ربما كانت ستحقِّق بعض الاستفادة من العطلة. إذ تسببت موجة حَر أخيرة في جعلها تتوق إلى ارتداء ملابس السباحة والاستلقاء تحت الشمس في خصوصية الحديقة الخلفية. فإذا كانت جميع الأعمال قد أُنجِزَت، فليس هناك من سبب يمنعها من الاسترخاء والراحة، باستثناء أنها كانت تحتاج إلى الاستعداد لزيارات مجموعة الأمن الأهلية.

بعد أن تأكدت إلسي من أن أي انحراف عن معايير السيدة لوفابل العالية ستُبلَّغ عنه، كانت تغيِّر يوميًّا فستانها القطني الأرجواني الصباحي إلى زِيها النظامي المسائي المصنوع من صوف الألبكة الرمادي. ولم يحدث أن وجدها أيٌّ من زوَّارها غير مستعدَّة، أو تفتقر إلى الاحترام، رغم أنهم كانوا حريصين ألَّا يأتوا في وقتٍ محدد — وفقًا للتقاليد المحلية.

وقد انتهكت الآنسة بِيت قواعد اللياقة بدخول المنزل مباشرةً بعد أن ضغطت على الجرس. وأزعجت إلسي أكثرَ بتوجيه حديثها إلى الحيوانات الأليفة وكأنها غير موجودة.

فكانت تسأل: «ماذا تناولت على العشاء اليوم يا سكوتي؟»

وعندما قدَّمت إلسي الجواب لها، كانت تصرُّ دائمًا على لمس ديفيد وتحسسه؛ لمعرفة إن كان يُفرِط في الأكل. كان هذا الأمر يمثِّل إهانةً مباشرة لإلسي، التي كانت تضطلع بضبط النظام الغذائي، لا للآنسة لوفابل؛ ومع ذلك، نجحتْ إلسي في التزام الصمت.

كان هناك سبب لمَا تحلَّت به من دبلوماسية. إذ إنَّ تعاوُن الآنسة بِيت سيكون ضروريًّا، في حالة ذهابها إلى لندن في الثالث عشر من سبتمبر، لتفاجئ سيدتها في منزل لندن.

لكن، كان من الصعب السيطرة على استيائها عندما نهب الكابتن براون الحديقة. وقد أخذت تملأ كلَّ وعاء للزينة وكلَّ مزهرية بالمنزل؛ من أجل تخفيف المئونة على ساكنيه، على الرغم من أن هذا الأمر ألقى على عاتقها عملًا إضافيًّا.

وقد سألها، عندما سبقته وبادرت بقصِّ زهور الأقحوان الأولى التي كان قد خصَّصها لحفل عشاء زوجته: «ماذا تريدين من هذه الزهور كلِّها في حين أن سيدتكِ خارج المنزل؟».

فأوضحتْ: «إنها لديفيد. إنه يحبُّ أن يستخرجها من الماء.»

«لماذا إذَن لا تعطيه زهورًا ذابلة؟»

«كلَّا، فهو يحبُّ أن تكون الزهور كبيرةً وملونة.»

ابتسم الكابتن بتكشيرة، وقال: «الطبيعة البشرية»؛ فكان هذا تعليقًا أساء إلى حِس اللياقة لدى إلسي.

وعلى الرغم من أنها كانت تخشى زوجة القسِّ وتبجلها أكثر، فإنها كانت دائمًا تقف وتشاهدها عندما كانت تقطع الكرنب وتقطف الفاصوليا؛ من أجل تسجيل مدخلات مجهولة في دفتر الملاحظات.

وقد أوضحتْ ذلك بقولها: «سترغب سيدتي في أن تعرف مدى إسهامها في مساعدة الأبرشية والمستشفى الريفي.»

قالت السيدة بوسانكيه بسخرية: «هراء. يمكنكِ أن تُحصي التفاح، لكنكِ لا تستطيعين وزنَ الفاصوليا دون ميزان.»

ألمحتْ إلسي في تجهُّم: «أتحقق من الحديقة قبل العمل وبعده. أنا أعرف كلَّ شيء في الحديقة. لو أن ورقة عشب واحدة فُقِدَت لعرفتُ إذا … إذا سرقها البستاني.»

«شكرًا لكِ يا إلسي. من الجميل أن نعرف أنكِ لا تشكِّين فينا. سيدتكِ محظوظة لأنَّ لديها هذا النموذج المثالي.»

عندما غادرت زوجة القس، بحثت إلسي عن الكلمة في القاموس. لكنها كانت ستشعر بامتنانٍ أقل تجاه هذا المديح لو عرفت أن أصدقاء الآنسة لوفابل ما كانوا ليقبلوا بها كهدية، رغم أنهم يطلقون عليها لقب «النموذج المثالي». إذ كانوا يعتبرونها مُدلَّلة بشكل ميئوس منه ومناسِبة فقط لأداء الخدمات المتخصصة، حيث كانت سيدتها تقوم بكل العمل الشاقِّ.

وفي الوقت نفسه، كان هؤلاء أحيانًا يغارون من ولاء إلسي؛ وذلك لأنَّ الطُّهاة والخادمات كانوا يتركونهم مقابل أجور أعلى، بعد أن يكونوا قد تدربوا على أيديهم. من بين السيدات المحليات، كانت الآنسة لوفابل هي وحدها التي لا تعرف شيئًا عن أسعار الإعلانات الصغيرة أو رسوم مكتب التسجيل.

ومؤخرًا، اتخذ تفاني إلسي منحًى غير عادي. إذ اعتادت كل يوم عبور الطريق أمام سيارة قادمة. وعلى الرغم من أنها كانت تعبُر الطريق على نحوٍ خطير، فقد كانت ماهرة بما يكفي لأنْ تقفز نحو برِّ الأمان؛ ولكنها كانت سببًا في إلهام السائقين العصبيين كثيرًا من الألفاظ البذيئة، والتسبب في العديد من الصدمات لهم.

لم يعرف أحدٌ أن هذا الأمر هو التكملة البديهية لصلاتها الليلية: «إن تحتَّم أن يقع حادث، فدعْه يحدث لي أنا بدلًا منها.»

واستنادًا إلى مبدأ «السلامة أولًا»، واصلتْ إلسي إرسال إشعار يومي إلى جريندلوالد. وقد قرأت الآنسة لوفابل الملاحظة الخاصة بأحدث رسائلها على مسامع بكنجهام عندما كانا يقفان معًا في الشرفة، وينظران إلى أضواء محطة جبل إيجير.

«استمع إلى هذا. تقول إلسي: «من فضلكِ سيدتي، كوني حذرةً عندما تعبرين الطريق واحذري من تلك الانهيارات الثلجية البغيضة.»»

وتوقفت الآنسة لوفابل عن الضحك لتُضيف: «دائمًا ما تحذِّرني من شيء جديد. يجب ألَّا أتعرَّض لِلَسعات البعوض. يجب أن أغلي الماء قبل الاغتسال. يجب أن أرتدي أحذيةً ذات مسامير لتسلُّق الجبال.»

نصحها بكنجهام قائلًا: «من الأفضل ألَّا تذكري لها أسد لوتسيرن.»

وكبَحَ تثاؤبه في حين أن الآنسة لوفابل كانت تسرد أدلةً جديدة على تفاني إلسي.

«أعتقد جازمةً أنها مستعدةٌ للتضحية بحياتها لإنقاذ حياتي. هي لا تحب أن أكون وحدي في المنزل دون أن تكون موجودة لتحميني. والطريف في الأمر أنها يمكن أن ترعِب متشردًا يزن ضِعف وزنها.»

قال بكنجهام: «يجب أن يوجد رجلٌ في المكان.»

«لماذا؟»

«ليضطلع بالأعمال الشاقة.»

«أنا أتولى الأعمال الشاقة. أنا أحفر في الحديقة وأقطع الخشب. فهذا مفيد لقوامي.»

«حسنًا، وماذا عنكِ أنتِ نفسكِ؟ أنت تتعرضين للمخاطر. كنت تستضيفين شابًّا غريبًا في غرفة نومكِ عندما الْتقيتُ بكِ في لندن.»

صححت له الآنسة لوفابل، قائلةً: «بل في غرفة المعيشة. كان الشاب المسكين مثل الزهرة البائسة. ولا تنسَ أنك كنت شابًّا غريبًا في ذلك الوقت.»

كانت كلماتها اعترافًا غير واعٍ بنمو صداقتهما. وقد فقد صوت بكنجهام لهجته اللامبالية عندما طرح عليها سؤالًا.

«ماذا ستفعلين عندما تتزوج إلسي الوفية؟»

فأجابتْه الآنسة لوفابل: «لن تتزوج. وأنا أيضًا لن أتزوج. لذا نحن شريكتان مدى الحياة.»

زمَّتْ شفتيها في تصميم شديد، حتى إنه نظر إليها بدهشة.

وسألها: «هل أنتِ جادة؟»

أخبرته الآنسة لوفابل: «لم أكُن أكثر جديةً حول أي شيء من قبل. لماذا يجب أن أتزوج؟ لديَّ كل ما أريد. حياتي سعيدة تمامًا. لن أخاطر بالتغيير … لماذا تنظر إليَّ؟»

ولمَّا لم يردَّ، ألقتْ برأسها للخلف لا شعوريًّا وبسطتْ كتفَيها كما لو كانت تتحدَّى نظراته.

وقال وهو يضحك: «لقد خمَّنتِ السبب. كنتُ معجبًا بقوامكِ. إنه رائع وأنتِ تعرفين ذلك. لكنه يجعل التبايُن باعثًا على المزيد من الأسى. أي امرأة ترفض الزواج عمدًا يجب أن تكون غير طبيعية عقليًّا. أرى أن عقلكِ غريب كغرابة عِجلٍ ذي ثلاث أرجل».

ابتسمت الآنسة لوفابل بسخرية لتُظهِر له مدى ضآلة اهتمامها بانتقاده.

وعلَّقت: «لديك لمسةٌ رقيقة.»

ومع ذلك، أزعجتْها كلماته حتى إنها لم تستطِع إبعاد تأثيرها عن عقلها. ولو عرفتْ إلسي، ربما كانت ستُضيف خطرًا آخَر إلى قائمتها التي أعدَّتها، والتي تشمل كلَّ الظروف والحوادث التي تتميز بها منطقة الألب.

لكنها لم تكُن تشمل السيد كلارنس كلوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤