الفصل الرابع عشر

القتل عن بُعد

كان الثالث عشر من سبتمبر تاريخًا مهمًّا لكلارنس كلوب. قبل أن يحلَّ الليل، كان يعتزم قتل عدوه — هنري واتكينز. كانت الجريمة ستُرتكب عن بُعد؛ بادئ ذي بدء لأنَّ ضحيته لن تكون لديه أي فكرة عن أنه قد اقتُلِع من عالم الأحياء. سيستمر في التصرف كالمعتاد — غير مدرِك لمصيره — حتى تحيق الضربة، التي وُجِّهَت في الثالث عشر من سبتمبر، بهدفها المحدَّد.

بعبارة أخرى، اعتزم كلوب أن يرتكب جريمةَ قتل سيُعدَم واتكينز بسببها.

كانت الآنسة لوفابل قد الْتقت بكلوب بالفعل. أثناء لقائهما، كانت قد وافقت على عرضه أن يجرِّب مكنسةً كهربائية، لا وجود لها، على سجادةِ غرفة المعيشة الخاصة بها. في ذلك الوقت، كان قد خلَّف لديها انطباعًا يصبُّ في صالحه، لكنه لم يترك أثرًا كافيًا لأنْ تتذكره بوضوح.

تذكرت بشكلٍ غامض شابًّا لطيفًا ذا وجه بيضاوي، وعينين بُنيتين ناعمتين، وفم صغير على شكل قلب. كان مظهره ينمُّ عن تهذيب ونُبل، وكانت لهجته توحي بأنه تلقى تعليمه في مدرسةٍ عمومية؛ حيث كان تنكُّره مثاليًّا على نحو غريزي، مثل العثة التي لا تُرى أمام لحاء الشجرة.

بدوره، لم يكن يفكر فيها كثيرًا. كان شاغله الرئيسي هو تحديد ظروفها ومحيطها. لو أنه كان قد الْتقى بها في الشارع بعد عشرين دقيقة من لقائهما كان سيمرُّ بجوارها دون أن يتعرف عليها. لم تكن تمثِّل له أكثر من مجرد دعامة من دعاماته المسرحية؛ شيء رخيص عديم الجدوى، كنشارة الخشب أو صوت صفير؛ كانت مثل الدمية جودي، التي كان هدف وجودها أن تتعرض للضرب على يد الدمية بانش.

كان كلٌّ من واتكينز وكلوب قد انجرفا إلى حياة الجريمة. كان واتكينز يملك متجرًا صغيرًا للتُّحف، لكن مبادئه كانت خبيثة؛ فبعد أن اكتشف أن التُّحف المزيفة تجلب له أرباحًا أكثر من التحف الأصلية، تخصَّص في الاحتيال.

وأما كلوب — الذي كان يعتبر نفسه عبقريًّا متمردًا — فكان «منحوسًا»، في مجموعة متنوعة من الوظائف، على الرغم من أن ربَّ عمله كان دائمًا أكثر نحسًا. في البداية كان يعمل مدوزن بيانوهات عندما الْتَقى بواتكينز أول مرة. ورغم أن أداءه الموسيقي كان مملًّا بما فيه الكفاية حتى يفرِّق عنه الجمهور؛ فإنه كان يستطيع تبيُّن جغرافية البيوت التي يزورها وتمييزها، إضافةً إلى اكتساب معرفةٍ بأي أشياء قيِّمة قابلة للنقل.

وقد شكَّل هو وواتكينز شراكةً مفيدة بطريقة معتدلة. فكان واتكينز يُصَرِّف الغنائم التي كان يجمعها: إما في الموقع على الفور، وإما خلال زيارة ليلية لاحقة لمقر عملائه. صحيح أنهما لم يكونا ناجحين دائمًا؛ لأن كليهما كانا يُدانان بين الحين والحين ويُحبسان لفترات قصيرة بسبب النشل والسرقات البسيطة.

لكن للأسف، كانت المعرفة بأنه مسجَّل في قسم الشرطة هي التي دفعت كلوب للمضي قُدمًا في مهنته. إذ ألهب هذا غروره وجعله يدرك إمكانيات اسمه: كلوب. وبينما كان يطمح إلى أن يُعرَف ﺑ «الآص»؛ خطَّط لعملية جريئة لسرقة مجوهرات، وطلب خدمات واتكينز ليكون شريكًا له فيها.

كان حظهما عاثرًا في مشروعهما حيث كانا يفتقران إلى التنظيم وكذلك الخبرة. ولمَّا كان واتكينز عاجزًا عن التصرف في المجوهرات ويعي أدلة الإدانة جيدًا؛ انهار تحت الضغط. وبدلًا من انتظار أن يُلقى القبض عليه، وهو الأمر الذي لا مفرَّ منه، ذهب إلى الشرطة وتعاون معهم سرًّا، على أمل الحصول على عقوبة مخفَّفة.

وكان كلوب معميًّا بغروره، ولم يكن لديه شكوك في نجاح السرقة نجاحًا كاملًا. فغضب من انفضاح الأمر وأخطأ بأن قاوم الشرطة؛ وحين نقول «قاوم» فهي طريقة لطيفة للتعبير عما حدث، وذلك بالنظر إلى ما بدا عليه الشرطي في نهاية المطاف. ولحسن حظ كلوب، تعافى الشرطي فأنقذه ذلك من حبل المشنقة؛ ولكن هذه المرة، كانت عقوبته بالسنوات وليس بالأشهُر.

ولمَّا كان كلوب يعدُّ نفسه ذا مهارة فائقة، كان يكره العمل الشاق أكثر حتى من كُرهه لفقدانه حريته. فكان يعزو كلَّ إذلال يلقاه إلى خيانة شريكه له. وبمرور السنوات فقَدَ كل إحساس بحسن التقدير وأي قدرة على ضبط نفسه؛ ومن طول تفكيره في الأمر، أصبح كرهه موجهًا نحو غاية واحدة فقط.

قرَّر أن يقتل هنري واتكينز.

توقف الزمن عن المرور ببطء وهو يخطط للجريمة الكاملة. وكان قد حسم أمره بشأن نقطة هامة؛ ينبغي أن تكون الجريمة محكمة، لأنه لا يريد أن يُشنَق جزاء جريمته. وعلى الرغم من أنه أتى ببضع أفكار ذكية ومبتكرة؛ فقد ثَبَّطَه استنتاج بديهي توصَّل إليه.

سيكون هو المشتبَه به الأول في الجريمة؛ لأنه صاح يهدِّد واتكينز من قفص الاتهام حين نطق القاضي بالحكم عليه.

كان يمكن لإبدائه هذا الشعور الطبيعي أن يُفسَّر كدافع إذا ما تزامن موت واتكينز العنيف مع خروجه من السجن.

ثم سرعان ما أتاه الإلهام. سيورِّط واتكينز في جريمة قتل يرتكبها هو وسيجعل القانون نائبًا عنه في الثأر منه.

كان كلوب يرى أن الطاقات الذهنية للشرطة دائمًا ما تكون أعلى من طاقته؛ لأنهم دائمًا ما يكونون أسبق إليه منه في الهرب منهم. وكان قد سمع من قبل أن الشرطة تعرف أساليب كل المجرمين وتستطيع تحديدها، وهكذا فإذا زرع أدلة تشير إلى واتكينز فسيتعرفون على أسلوبه المميز.

ينبغي ألَّا يكون مسرح الجريمة مليئًا بالأدلة حتى لا يساورهم الشك. كان عليه أن يثق تمامًا في فطنتهم وبُعدِ نظرهم. إذ سيستطيعون التعرف على شقٍّ صغير في قماش لوحةٍ زيتية، في غرفة صالون الآنسة لوفابل، وكأنَّ أحدهم كان على وشك أن يُزيل هذه اللوحة قبل أن يدرك أنها عديمة القيمة.

هذا هو أحد الأدلة التي تشير إلى تاجر تُحف يُزَيِّف أعمال الفنانين العِظام القدامى.

أما الإشارة الثانية فلا يمكن اكتشافها إلا بفحص دقيق للأوراق التي في مكتب الضحية. سيكون هناك كتالوج مكنسة كهربائية وسط كومة من الأوراق المتنوعة، وسيتزين غلاف هذا الكتالوج ببصمةِ إصبع متسخة.

ستجد الشرطة أن هذه البصمة تتطابق مع بصمةٍ يحتفظون بها في مجموعتهم.

أما المرحلة المنطقية التالية في تحقيقات الشرطة فستكون التركيز على تحركات واتكينز وقت وقوع الجريمة. وسيعطي الشرطة حجة غياب صادقة مفادها أنه كان بصحبة صديقته آيمي.

هنا سيشعر واتكينز بأول وخزةٍ لحبل المشنقة حول رقبته … كانت آيمي لا تزال واقعةً في غرام حبيبها السابق، كلوب، ولن تُنكِر حجة غياب واتكينز فحسب، بل ستأتي بحلية أُخِذَت من جثة القتيلة دليلًا على أنها قد تلقَّت رشوة من أجل أن تكذب. وقد خصص كلوب لهذه النقطة السلسلة المُعلَّق بها قلادة على شكل فيل ذهبي، التي كانت الآنسة لوفابل ترتديها أثناء مقابلتهما. كان كلوب يعوِّل على طبيعتها التي تؤمن بالخرافات في أنها سترتديها دائمًا حول عنقها لجلب حسن الحظ، لأن خرطوم الفيل كان مرفوعًا للأعلى.

وستتمثل اللمسة الفنية الأبرز في تحديد هوية صاحبة السلسلة من خلال شعرة ممزَّقة من شعر الآنسة لوفابل ملفوفة حول السلسلة. وكان قد أمَّن الحصول على هذه الشعرة من مشطٍ كان على طاولة المرحاض حين دخل ليختبئ في غرفة النوم.

كما ظنَّت الآنسة لوفابل، تظاهر كلوب فقط بأنه أغلق الباب الأمامي بينما كانت تتحدث إلى بكنجهام في حجرة الجلوس الصباحية. بعد ذلك، حين أصبحت وحدها في المنزل معه، أدرك فجأةً أن الفرصة متاحة أمامه لارتكاب الجريمة من دون أن ينتظر حلول الليل. لكن بينما كان يتسلل نزولًا على الدرَج، بدا أن شيئًا ما أفزعها؛ لأنها هرعت فجأةً إلى خارج المنزل.

وقد سعِد كلوب أنه حُرِم من الاستسلام لدوافعه حين تذكَّر أن واتكينز قد يأتي بحجةِ غياب قوية لا يمكن دحضها لفترةِ ما بعد الظهيرة. وقد نبَّهه هذا الأمر إلى خطورة ارتكاب الجريمة قبل أوانها، ولذلك عاد إلى شقته واتصل بآيمي يطلب منها أن تستميل واتكينز تلك الليلة.

ثم ذهب إلى المنزل رقم «١٩» بمنطقة ماديرا كريسنت ليجده خاويًا. كانت الآنسة لوفابل قد عادت إلى الريف.

ولما تأمَّل في أمر انتقامه، لم يستطع أن يرى أي احتمال لأنْ يكون مرتبطًا بجريمةٍ لا دافع لها. وقد قرَّر أنه سيعترف بأنه لا يملك حجةً إذا ما تم توجيه الأسئلة إليه. فمؤخرًا، تبدو الشرطة أكثر ميلًا للشك في حجج الغياب المثالية بنفس درجة ميلها إلى أن تضعف ثقتها في قيمة بصمات الأصابع، وذلك بعد أن عرفت أنَّ المجرمين باتوا يرتدون القفازات.

أعماه غروره عن حقيقةِ أن سلامته الشخصية مجرد وهم. فبمجرد أن يرتكب الجريمة، سيُصبح عُرضةً لهجمات الصدف والأقدار التي تتسم بالتخبط. سيصبح تحت رحمة أي شيء، ولو كان تافهًا، يتحكم في تعطيل القدَر عن العمل. فأيُّ حادثة — كقطع صغير في غشاء منطاد — يمكن أن ترسله إلى حبل المشنقة.

وقد تتغير اتجاهات الرياح وهو جاثم في الظلام فتهب ورقة تشي بمكان اختبائه. وقد يشهد العشاق المختبئون في ظلمة أزقة التجار أنهم رأوه بالقرب من مسرح الجريمة. وقد تخذله آيمي تحت وطأة الظرف.

لكنْ أيًّا كان مصيره، تظلُّ هناك حقيقةُ أنَّ أي سيدة ستدلف إلى المنزل رقم «١٩» بمنطقة ماديرا كريسنت يوم الثالث عشر من سبتمبر من دون رفقة معها ستتلقى استقبالًا غير سار تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤