الفصل الخامس عشر

جبال

بينما أخذ يوم الثالث عشر من سبتمبر يقترب، زاد لدى الآنسة لوفابل إدراك غير واضح بإحساسها بالإحباط والفقد. وحين رأت سلاسل الجبال البيضاء الشاهقة، بدأت تحلم ثانيةً بالجبال أثناء الليل. أثناء نومها، كانت تتسلق قممًا هائلة الارتفاع ببهجةٍ وإحساس بالحرية والإنجاز، حتى إنها دائمًا ما كانت تستيقظ على إحساس مرير بخيبة الأمل.

كانت نشوة التحرر الليلية هذه من أعراض العقل الفوضوي. فعلى الرغم من أنها كانت تستطيع كتابة رسالة واضحة لأغراض تجارية أو عملية، فإنها كانت تقف عاجزةً عن التعبير عندما تُثار في داخلها أيُّ عاطفة عميقة. وبينما تقف الدموع في عينيها عند إدراكها لحزن الآخرين، كانت تلتمس من المنكوب أن «اقبلْ تعازيَّ في مصابِك».

كانت الجبال تمثل لها بهجة — بل شغفًا — تكاد ترقى إلى الافتتان. لكنها لم تكن تتحدث عنها أبدًا وكانت تتجنب الموضوع. لم تكن تفكر بوعي فيها حتى؛ خوفًا من أن تُثقِل أوزارُ الكلمات غير المنطوقة روحها.

طاردتها جبال أوبيرلاند البيرنية الأقل روعةً في النهار، ولكنها لم تستطع الاقتراب منها. نظرت إليها ولكنها شكَّت في أنها تراها فعليًّا، بسبب المشتتات المتمثلة في الناس الآخرين. كان كل ما حولها ضجيج توافه الأنشطة الاجتماعية؛ أصوات الثرثرة والضحك الأجوف.

ومع مرور الأيام، كانت تعزي نفسها بوعد. أقسمت الآنسة لوفابل أنها ستهرب من رفاقها وتذهب بمفردها إلى ممرِّ كلاينة شايديج الجبلي.

كان جزء من شعورها بعدم الراحة يعود لمصدر أساسي أكثر من تلهفها وحنينها إلى الجماليات. فللمرة الأولى في حياتها، كانت لوفابل واعية بوجود امرأة أخرى. لم يكن هناك شك في تفوق فيفا في الفندق. إذ لم تعتمد فقط على جاذبيتها لكسب شعبيتها ولكنها كانت دائمًا لطيفة ومتعاطفة مع الضيوف الآخرين. ومع ذلك، وبينما كانت على استعداد للاستماع إلى مشاكل الخدَم بقدْر استعدادها لتقديم النصائح بشأن إصابة الأنف بحرق الجلد وتقشُّره، تمكنت من البقاء مبهمة ومنعزلة عن الآخرين.

أثار هذا التباين استياء الآنسة لوفابل، خاصة عندما لاحظت أن فيفا كانت نفعيَّة بامتياز وتمكنت من تجنب مضاعفات التواصل مع الزوار دون التعرف عليهم أكثر. وتدريجيًّا، بدأت تشعر بانبعاث روح التنافس. ورغم أن شخصيتها كانت كريمة ولطيفة بطبيعتها، مما جعل من الصعب عليها أن تعترف بمشاعر الغيرة، فإنها اعتادت أن تكون صاحبة المقام الأول ولم تكن تستسيغ المقعد الخلفي.

فكَّرت لوفابل في نفسها: «لم يكُن هناك منافسة في هايفيلد. لا يوجد هناك سوى نساء أكبر مني سنًّا. ولكنْ قبل أن أرحل، سأريها بالضبط مقامها.»

وقد فوجئتْ عندما اكتشفتْ أن أوليفيا فورس تشاركها ارتيابها اللاواعي في فيفا. إذ ذهبتا في نزهة معًا إلى فندق بير لمشاهدة حفلٍ راقص، وذلك عندما شاهدتا أمرًا لطيفًا. فجأةً أدركت فيفا، التي كانت ترقص في أحضان شاب تيوتوني جميل، أن هناك فتاة لا يراقصها أحد.

وفي غضون بضع دقائق، تدبَّرت أمر انتقال شريكها المتردد إلى الفتاة الوحيدة، قبل أن ينتهز الفرصة شابٌّ آخر كان يحوم حولها.

أقرَّت الآنسة لوفابل، قائلةً بصدق: «كم هذا لطيف!»

فقالت أوليفيا بمرارة: «لطيف للغاية. كنتُ أنا الضحية ليلة أمس. لم يلاحظ أحد أنني لا أرقص حتى سُلِّطَت عليَّ أضواء البحث. ثم قال الجميع: «كم هذا لطيف.» كنتُ قبلئذٍ سعيدة. فأنا أستمتع بكوني متفرجة.»

حدَّة صوت أوليفيا جعلَت الآنسة لوفابل تدرك مدى الإذلال فيما حدث لها. فباعتبارها ابنةً غير جذَّابة لأم كانت ناجحةً اجتماعيًّا، اكتسبت الفتاة طريقتها العدوانية لإخفاء عقدة الدونية لديها. فشعرت لوفابل برابطة تعاطف معها عندما واصلت أوليفيا الحديث.

«جعلتني فيفا أتساءل. ثمة شيء غريب بشأنها. تظنها أمي رائعة. ولكن لماذا هي مهتمة جدًّا بجميع أصدقائنا وبكل شخص أيًّا كان؟ أعتقد أن لها مأرَبًا ومصلحة. يمكن للمرء معرفة ذلك من عينَيها، فهي لا تهتم حقًّا بأحد. ربما أرسلتْها شركة ما للإعلان لها عن ملابسها.»

قالت الآنسة لوفابل لأوليفيا: «لكنها لا تذكر أبدًا من أين تشتري أي شيء. إضافةً إلى أنها تُوليني اهتمامًا خاصًّا، مع أنني لست من المجتمع الراقي.»

«هذا فقط لأن بحوزتكِ بكنجهام. هناك عدد قليل جدًّا من الرجال العُزْب هنا.»

أزعجت هذه الملاحظة الآنسة لوفابل. لقد اعتادت طَوال أعوامٍ إصدار الأوامر وعدم تقبل النصائح حتى. من الطبيعي أن يولِّد هذا النوع من المعاملة التفضيلية شيئًا من التسلط. فبينما كانت تحاول تجاهُل وجود فيفا، جاءتها فرصة لتفرض نفسها.

انضمت الآنسة لوفابل إلى السيدة فورس وأوليفيا وفيفا وبكنجهام في رحلةٍ بعد الظهر. انطلقوا بالسيارة إلى وادي إنترلاكن وانعطفوا حول بحيرة برينز بمياهها الخضراء إلى شلالات جيسباخ. وبينما كانوا يحتسون الشاي أمام الفندق، ويشاهدون النهر وهو ينحدر في سبع قفزات عظيمة من أعلى الجبل، لوَّح بكنجهام بيده من فوق الطاولة.

وقال: «هذا على حسابي.»

وفي وقتٍ لاحق، بعد عودتهم إلى الفندق، سألت الآنسة لوفابل عن ثمَن حصتها من أجرة السيارة.

قالت فيفا بابتهاج: «لا شيء. لقد تكفَّل ريتشارد بالأمر.»

أوضحت الآنسة لوفابل: «كان يقصد الشاي فقط.»

«لكننا جميعًا شكرناه، وقد راقه ذلك. من الأفضل ترك الأمر على هذا النحو. لا ينبغي أن نجعل الرجل يشعر بالحمق.»

«سأجازف.»

كانت الآنسة لوفابل في وضعٍ تجيد التعامل معه وتستمتع به وهي تستجوب الحمَّال. عرفتْ أن بكنجهام عاطل عن العمل وتوقَّعت أن حالته الاقتصادية ستتأثر بسبب نفقات غير متوقعة. وبما أن فاتورة استئجار السيارة لم تكُن قد دُفِعَت بعدُ؛ فقد دفعتْها بنفسها قبل أن تواجه النساء الأخريات بشأن حصتهن من الفاتورة.

قالت لهن: «أنا أطالبكن بحصصكن من إيجار السيارة. من الصعب على الرجل جمعها منا.»

دفعت السيدة فورس دَينها ودَين ابنتها بسحرها المعتاد. وحذَت فيفا حذوها، لكنها فعلتْ ذلك بتردد مبطَّن، كان بمنزلة تعزيز لاحترام الآنسة لوفابل لنفسها. وعندما ذهبت تبحث عن بكنجهام، شعرتْ بغريزة بدائية نحوه، تشبه بشكل ضعيف الرغبة الأولية لوحش من وحوش الغابة في حماية شريكه.

وجدته في الحديقة حيث كان يدخن متجهِّم الوجه. لم يتحدث إليها ولكنه حملق عندما وضعت حزمةً من الأوراق النقدية على الطاولة الخشبية.

وقالت: «شكرًا على الشاي.»

ولما رأت في وجهه شعورًا صريحًا بالراحة زادت جرأتها لطرح سؤالٍ غير لبِق.

«مُعسِر؟»

فأجابها: «بل أنا واعٍ تمامًا.»

«أقصد هل أنت في ضائقة مالية، بما أنك لا تستطيع فهم الكلمات القصيرة؟»

فأقرَّ يقول: «أنا موسر الآن، ولكن فقط بفضلكِ. قبل أن تدخلي مرفرفةً بجناحَيكِ من نافذتي الآن، كنت أتساءل كيف سأتدبر أمر رحلة العودة إلى الديار. فأنا سأغادر قبل بقيتكم.»

شعرت بنوبةٍ من الأسف لمَّا سمعت ذلك، بينما جلست بجانبه على المقعد.

وسألتْه بصراحة: «لماذا أتيتَ في عطلة لا تستطيع تحمُّل تكاليفها؟»

فأخبرها: «بسببكِ أنتِ.»

«أنت أحمق.»

«أنا جاد. لقد وقعتُ في حبكِ على الفور. أنا لست نبيلًا وأحببتكِ أكثر لأنكِ تملكين المال. فهذا أمر مفيد. أنا كيميائي لديه مستقبل مشرق، لكن لا أحد سيدعمني.»

تحوَّل لون عين الآنسة لوفابل من الأزرق إلى البنفسجي وهي تستمع له. لم تكن الطفرة الشعورية البدائية الخاصة بالأدغال، والتي انتابتها، إلا شرارة لحظية أتت من نار أصبحت شبه مطفأة. وقد حلَّ محلها شكل أكثر تحضرًا من الغريزة ذاتها؛ طموح امرأة للسيطرة على المستقبل المرن والطيِّع لرجل.

أخمدت الآنسة لوفابل تلك الرغبة الخطيرة وتحدثتْ برفق.

«ستحظى بفرصتك. الجميع يحظى بفرصة. لا بد أن تتزوج امرأةً ثرية لا تكبلها عقلية مثل عقليتي الغريبة.»

فرفع بكنجهام نظره إليها بسرعة.

وسأل: «هل كنتِ جادة بشأن عدم رغبتكِ في الزواج؟»

فأجابته: «كنت كذلك. وما زلت. وسأظل دومًا غير راغبة في الزواج.»

«إذَن ليس من حقكِ أن تكوني على حالكِ هذه. هذا غِش.»

تمنَّت الآنسة لوفابل لو أنه كان بوسع فيفا أن تسمعه، وكان هذا دليلًا على أنها هدأت وعادت إلى طبيعتها العملية المعتادة.

قالت الآنسة لوفابل: «يؤسفني أنك سترحل، لأنني كنت أريد منك أن تساعدني.»

وحين باحت له برغبتها في القيام برحلةٍ فردية على جبل كلاينة شايديج، أومأ لها بالموافقة.

وقال: «سيتعيَّن أن يكون هذا غدًا. فالسيدة فورس وابنتها ستزوران أقارب لهما في بِرن. وسأزيِّن أنا لفيفا فكرة الذهاب إلى قرية لوتيربرونين. وسأرافقها حتى تسفايلوتشنين ثم سأخبرها أن لي حاجة أقضيها في إنترلاكن.»

تلعثمَت الآنسة لوفابل وهي تقول: «لا يسعني أن أوفيك حقَّك من الشكر. هذا يعني لي الكثير. لا … لا يسعني أن أشرح لك.»

وبينما كانت تنظر إلى امتداد الوادي الشاسع المرصَّعة منحدراته البعيدة بأضواءٍ صغيرة، شعرت بأن الليل قد اقترب كثيرًا منهما. كان الليل يحلُّ عليهما في أمواج من الظلام — ويكتسح المكان من حولهما — لكنها لم تشعر بخوف. كانت تعرف أن بإمكانها أن تنزل الوادي دون رعدة، فتعبُر نهر لوتسكين ذا الزبَد الرمادي والأبيض، وتتجول وسط الأخشاب الساحرة للأشجار المتلألئة وبَقْبقة المياه.

ومع ذلك، في صباحٍ صيفي شمسُه مشرقة، كانت قد تملَّصت من الدخول إلى الردهة المظلمة للمنزل رقم «١٩» بمنطقة ماديرا كريسنت خشية أن يكون أحدهم في انتظارها هناك.

وبينما هي ترتجف لما تذكَّرت، كسر بكنجهام الصمت بينهما.

فقال: «لقد أخبرتِني أنكِ تفكرين في قطعِ رحلتك في لندن، في طريق عودتك، صحيح؟»

فأجابتْه: «أجل.»

«حسنًا، ماذا لو انتظرتِ قطاركِ ورافقتُكِ؟ من الكآبة أن تعودي إلى منزلٍ خاوٍ.»

«أودُّ أن تفعل ذلك.»

بهذه الكلمات الأربع، أفسدَت الآنسة لوفابل خطة كلارنس كلوب المثالية لارتكاب جريمة القتل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤