كلاينة شايديج
لم يكُن لدى أحد في الفندق ما يدعو إلى الشك في أن الآنسة لوفابل تكِنُّ شغفًا خاصًّا نحو الجبال. إذ نادرًا ما بدا عليها أنها تلاحظ وجودها إلا في الصور على بطاقات البريد، وذلك حين كانت تأخذ على عاتقها مناقشة أسعارها. وحين كان الناس يطلبون منها المعلومات، كانت تنطق بأسمائها بسرعة وكأنها فِرقةٌ من الكلاب المدرَّبة.
«إيجير، فيشيرهورن، فيترهورن …»
من نطقها لأسمائها، كان المرء يتوقع أن يراها تنتصب على قوائمها العظيمة ممتثلة للأمر الصوتي.
لذا كان من المستحيل أن يخمِّن أحدهم أن كل يوم يمرُّ من إجازتها هو بمنزلة درجةٍ من درجات سُلَّم يؤدِّي إلى الدرَّة المنشودة في تاج رحلتها والتي ستصل إليها بالسكك الحديدية الجبلية: قمَّة يونجفراويوخ. كانت في انتظار تلك اللحظة المهيبة حين كانت تبرز أمام عينَيها، من كلاينة شايديج، تلك القمم العظيمة الثلاث: إيجير، ومونش، ويونجفراو.
في الصباح التالي لمساعدتها لبكنجهام، أوفى بوعده وتولَّى أمر رعايتها. فعندما غادرت عائلة فورس إلى بيرن، غادرت فيفا الفندق برفقة بكنجهام، مرتديةً بنطالًا وكنزة بلون أزرق داكن، ووشاحًا بلون التفاح الأخضر. بعد قليل، بدأت الآنسة لوفابل رحلتها، فكانت في مظهرها الخارجي فتاةً شقراءَ مسفوعةً بالشمس ترتدي سروالًا قصيرًا ولا ترتدي قبعة، وتحمل غداءً مغلفًا؛ ولكنها، في داخلها، كانت مثل حاجٍّ متواضِع ومتحمس متَّجه إلى مكة.
كان صباحًا رائعًا بِنَسيمه وشمسه المشرِقة وغيومه البيضاء السيَّارة وسمائه الزرقاء الصافية. وقد انعكس الطقس على معنوياتها؛ فشعرتْ بالحياة تنبض في كل جزء من جسمها، شعرتْ أنها مشحونة بالطاقة ولكنها مستجيبةً عاطفيًّا ومتناغمة لأدنى تأثير. أرادت أن تستوعب كل التفاصيل، أن تخزِّنها في ذاكرتها وتحتفظ بها للأبد، حتى مقعدها الخشبي الذي دفَّأته الشمس في عربة الدرجة الثالثة والوهم البصري المتمثِّل في المباني المائلة عندما ينزلق القطار على المنحدر.
عبَرَ القطار النهرَ الصغير الصاخب، وبدأ في الزحف صاعدًا المنحدَر، مرورًا بالمروج والأشجار الصنوبرية الداكنة، وصولًا إلى المنطقة الأكثر إقفارًا والتي تتكوَّن من: صخور كبيرة، ومجاري مياه جافة، وصنوبر سيمبرا الذي امتزج فيه اللونان الرمادي والأخضر. وعندما انعطف القطار المنعطَف الأخير، ورأت العمالقة الثلجية الثلاثة، استنشقت الآنسة لوفابل نفَسًا عميقًا. خرجت من العربة تتعثر وهي لا تزال تنظر إلى الجبال الثلاثة ووقفت تحدِّق نحو الأعلى، كأنَّ المنظر أذهلها.
في تلك اللحظة، شعرتْ بالدُّوار والارتباك، ولكنها في الوقت نفسه شعرتْ بالسمو والتبجيل. كان الدم ينبض في رأسها كالماء المندفِع. كان هناك شيء قوي وحيوي ينبض بداخلها، في صراعٍ من أجل الهروب. وقد بدا جزء منها وكأنه يحلِّق في الفضاء، حتى عندما كانت أحذيتها المُسَمَّرة السخيفة المتشبِّثة بالأرض تشبه المرساة التي تجرُّها لتعيدها إلى الأرض.
جفلت الآنسة لوفابل عند سماع صوتٍ متحذلِق.
«كم يشعر المرء بالضآلة. ما أروع المشهد وأبهاه!»
وافقَت الآنسة لوفابل قائلةً: «في غاية الجمال.»
نظرت السيدة التي ترتدي عدسةً واحدة، والتي كانت قد حدثتها، إلى وجهها المحمر.
وسألتها: «هل الارتفاع يؤثر على ضغط دمك؟»
أجابت الآنسة لوفابل بفخر: «كلَّا. بل سأذهب أعلى من هذا.»
وفي طريقها إلى قطار يونجفراويوخ، عادت طبيعيةً مرة أخرى. إذ أدركت أنها تشرع نحو مغامرةٍ مثيرة ليس إلا، وأنها لا تحمل أعباء التواجد مع رفقة. لكنها لم تكَد تستقر في عربتها حتى توقفت العربة. وبعد صعود التل، غاصوا إلى نفقٍ قصير وخرجوا بالقرب من الكتل الجليدية الهائلة للسلسلة الجبلية.
وخلال التوقف في محطة إيجير جلاسير، لم تستكشف الكهف الجليدي، بل بقيتْ في الشمس في شرفة الفندق الصغير. وبينما كانت تتلكأ، كان هناك صوتٌ كقصف الرعد، ورأت كتلةً ضخمة من الجليد تنفصل عن كتلة جليدية تتدلى من جبل يونجفراو، والتي سقطتْ بعيدًا أدنى هاويةِ وادي ترومليتن. كان الانهيار مروعًا لدرجة أنها كادت تكون سعيدةً بالعودة إلى أمان عربة القطار.
واستغرق الأمر أكثر من ربع ساعة ليقطعوا النفق الذي يبلغ طوله خمسة أميال. وبعد فترة، بدأت تشعر بالملل من التحديق في الجدران الحجرية الجيرية الصلبة، وبدأت تطالع الركَّاب الآخرين. كانت تحاول تجميعَهم في مجموعات بناءً على جنسياتهم المختلفة، عندما لفَتَ انتباهها زوجان بدا وجهاهما مألوفَين.
كان الرجل ذا بشرة داكنة، وقامة قصيرة وتعبيرات وجهه تنمُّ عن المكر. وكانت ترافقه سيدة ترتدي ملابسَ باهظة الثمَن وغير مناسبة، بلون أسود، ومزيَّنة بفراء قِرد. وعندما لاحظت الآنسة لوفابل الأنف الطويل المعقوف قليلًا الذي يشوِّه وجهها الجميل، تذكرتْ أين رأتْهما من قبل.
فكَّرت لوفابل: «محطة فيكتوريا. يبدوان مجرمَين. من النوع الواثق من نفسه. ماذا يفعلان هنا؟ لن يفيدهما أن يطلبا مني أن أشير لهما إلى جبل يونجفراو. فنحن جميعًا نعرف أيَّ الثلاثة هو.»
وفي أثناء استمتاعها بطرفتها السخيفة تلك، خرجتْ من العربة في محطة إيجيرواند وتقدَّمَت؛ ليتسنَّى لها الحصول على منظر أفضل، من أحد النوافذ العالية المطلة على جريندلوالد أدنى الوادي. كان الجو صافيًا هذا اليوم، حيث كانت تستطيع أن ترى ما وراء جبال سويسرا الوسطى إلى سلاسل جبال جورا، حين كانت الغابة السوداء ظاهرةً في الأفق.
وبينما كانت تنظر من خلال المنظار، لم تكن تدري أنها هي نفسها تحت المراقبة.
سأل الرجل الصغير داكن البشرة: «هل رأيتِ تلك الشقراء من قبل؟»
أجابت زوجتُه: «في محطة فيكتوريا. كان الآص يتعقبها.»
كان كلارنس كلوب ليشعر بالفخر لو سمع لقبه هذا. كانت الإشارة إليه بهذا اللقب تقريرًا منهم باستحسانهم لمَا أصاب الشرطي؛ والذي كان قد أدَّى وصفٌ مطبوع له إلى إدخال السرور والبهجة السادية على أصاغر مَن يمتهنون هذه المهنة.
قال الرجل بازدراء: «كلَّا. ليست هي. انظري إلى سروالها القصير. إنه قديم. إنها مجرد فتاةِ كشَّافة لعينة.»
وافقته زوجته قائلةً: «هذا صحيح.»
لم يهتم الزوجان أكثر من هذا بالآنسة لوفابل، التي انتقلتْ إلى محطة إيسمير في عربةٍ أخرى؛ وبحلول الوقت الذي وصلتْ فيه إلى محطة يونجفراويوخ، كانت قد نسيتْهما. كانت تشعر وكأنها في حُلم عندما تابعتْ تدفُّق الركَّاب من خلال نفقٍ في الصخرة إلى الطابق الأرضي لفندقِ بيرجهاوس. كانت غرفةُ الانتظار بأرضيتها المدفَّأة، ومكاتب الحجز والمطعم — المكسوُّ بألواحٍ من صنوبر السمبرا — تمثِّل مفاجأةً غير معقولة، حتى إنها لم يسعها سوى أن تشهق من الدهشة.
أخذت المصعد مع السياح الآخرين، لكنها لم تتبعهم إلى غرفة الطعام التي كانت في الطابق الأول. وإنما اجتازت الرواق الذي يربط المبنى بالهضبة، حين كانت تسخر من حالتها الاقتصادية التي فُرِضَت عليها.
«أملك ثلاثة منازل — ولا يمكنني تحمُّل سِعر وجبة. هذا بغيض.»
وعندما خرجت إلى الهواء القليلِ الكثافة، كان المنظر طاغيًا. صارت الآن، ترى بشكلٍ كامل كلَّ ما كانت قد رأتْه في شكلِ أجزاء فقط من المحطات السفلى. وحولها، كان وميض الشمس يلفُّ الثلج وهي تنتقل بنظرها من المروج الخضراء والوادي على جانب جريندلوالد إلى البحر المتقطع من الكتل الجليدية وقمم الجبال.
وقررت: «سأتناول الغداء هنا.»
وبينما كانت تفكُّ حزام حقيبتها، بدأت تشعر فجأةً بشعور غريب بعدم الواقعية، وكأنَّ جسدها يتلاشى بينما يسبح عقلها في الفضاء. كان هناك ضجيج في أذنيها، ولكن لم يحدث أي انهيار ثلجي.
قالت في نفسها: «أشعر وكأن وعيي ينفصل عن جسدي.»
وفي أثناء الصمت الذي تلا ذلك، تذكرتْ تعليقَ السيدة المتحذلِقة حول ضغط الدم. ومثل معظم الأشخاص الأقوياء، ارتعبتْ من فكرة أن يهدِّدها المرض.
فقالت في نفسها: «إنه الارتفاع. إنه يؤثر عليَّ. يجب أن أنزل على الفور إلى كلاينة شايديج … ببطء. يجب ألَّا أتسرع. الأمر خطير …»
كانت الرحلة إلى أسفل الجبل مخيِّبة للتوقعات، حيث ضجرت من الجلوس بلا حركة. وتراجعتْ أعاجيبُ تحفة الهندسة الحديثة إلى المركز الثاني أمام محطة القطار في كلاينة شايديج. جلست الآنسة لوفابل في التِّراس وأمامها القهوة، وأخذت تنظر بإعجاب شديد لجبل سيلبرهورن المخروطي الشكل.
وفكرت: «يا إلهي! أنا محظوظة.»
ذهب عنها الشعور المزعِج بأنها جزءٌ من غشاء يتلاشى. لم تعُد تترنَّح مثل شعلةِ شمعة وسط النسيم، ولكنها شعرت بالراحة والتماسك كالأرض الراسخة التي تقف عليها. وبشهيةٍ مفتوحة أكلتْ كل محتويات حزمة الغداء الخاصة بها؛ من شطائر وبيض مسلوق وجبن وشوكولاتة وفاكهة. ثم أشعلتْ سيجارة واستسلمت للسعادة الكاملة.
قالت لنفسها: «كان ذلك المنظر من القمة، يشبه الطريقة التي يحاولون بها شرحَ نظرية أينشتاين عن الزمن. رأيتُ الكلَّ في آنٍ واحد … «الآن أرى كلَّ شيء … إلا إنني أحتضر» … هذا براونينج … لكني أكره أن أموت.»
في تلك اللحظة، بدا الموت بعيدًا جدًّا؛ تقريبًا بقدر بُعد يوم الثالث عشر من سبتمبر. عندما كانت الآنسة لوفابل تقضي عطلة لها، فإنها نادرًا ما كانت تفكِّر بتاريخ مغادرتها؛ بسبب قدرتها الميمونة على العيش في كلِّ دقيقة.
وبينما كانت جالسةً تدخِّن، طالعتْ كل تفاصيل المشهد المزدحم باهتمام كبير. جعلها جمع القطارات القادمة والمغادِرة من جريندلوالد ولاوتربرونن ويوخ تقارن «الممر الجبلي» مع محطة كلافام جونكشن. كان هناك تدفُّق مستمر للسيَّاح، وسمعتْ كل لغة تستطيع التعرف عليها.
وعندما وصل قطارٌ جديد من جبل يونجفراويوخ، تعرفت على اثنين من الركاب؛ كانا الزوجَين المثيرَين للرِّيبة اللذين رأتْهما أول مرة في محطة فيكتوريا. ولم يلاحظاها وهما منكبَّان على الطاولة المجاوِرة لها. بدا كلاهما أخضر اللون قليلًا، ثم طلب الرجل شراب براندي وقد بدت حاجته له شديدة.
أشاحت الآنسة لوفابل بنظرها بعيدًا عنهما واستمرت في مطالعة المشهد المليء بالحركة؛ الفنادق، والأسواق، ومكتب البريد والمظلات الملونة الكبيرة، التي تحت ظلالها كان السياح الإنجليز يشربون الشاي. وكان هناك باستمرار تجمُّع حول تلسكوبات زايس الكبيرة، حيث حاوَلَ الزوار متابعة المتسلِّقين على المنحدرات الثلجية.
وبطريقة طفولية أغلقت عينَيها بإحكام — لمحو كل شيء وكل شخص من «الممر الجبلي»، تاركةً إياه فارغًا وخاليًا — قبل أن تفتح أجفانها وتحدق في القمم البيضاء.
وقالت متهللة: «أنا وحدي مع الجبال.»
ولمَّا مرت الفكرة بخاطرتها، سمعتْ صوتَ أحدهم.
«الآنسة لوفابل. ماذا تفعلين هنا؟»
أدارت رأسها ورأتْ فيفا تقف عند باب مطعم المحطة.