علبة المجوهرات
خيبة الأمل التي أبدتْها الآنسة لوفابل في البداية تبعها شعورٌ بالغضب من بكنجهام. لقد أخفق في أن يفي بوعده. وقد كلَّفها الأمر عناءَ أن تُخفي امتعاضها وهي تتحدث إلى فيفا.
قالت الآنسة لوفابل: «كنت أظنُّ أنكِ ذهبتِ إلى لوتيربرونين.»
فردَّت فيفا: «لقد فعلتُ. لكني وجدتُ نفسي دون أي ارتباط، ولا أدري ماذا أفعل بعد أن غادر ريتشارد. بالطبع ذهبتُ إلى شلالات تروميلباخ. وقد غادرتُها وأنا في قمة انبهاري. لكنْ يجد المرء في نفسه رغبةً في أن يتشارك هذه التجارب الرائعة مع الآخرين. وأرى أن من الأنانية أن يكون الإنسان وحيدًا. لذلك أتيتُ إلى هنا من الجانب الآخر عن طريق قطار فينجنالب، على أمل أن أقابل شخصًا أعرفه. وأنا سعيدة أنني الْتقيتُ بكِ.»
فقالت لها الآنسة لوفابل في جمود: «يؤسفني أن أقول إنني أنانية. لقد أتيتُ إلى هنا لرؤية الجبال وحدي.»
وفي الحال بدا على وجه فيفا تعبيرٌ يشي بالرهبة والذهول وهي تحدق في سلسلة الجبال الثلاثة. وكانت الآنسة لوفابل تعرف ما ستقوله فيفا ولم تكن منبهرةً به.
قالت فيفا: «هذه الجبال تجعلني أشعر بالضآلة.»
فذكَّرتها لوفابل قائلة: «بإمكاني أنا أيضًا أن أجعلكِ تشعرين بذلك. هذا لا يتطلب الكثير من الجهد.»
فألحَّت فيفا متجاهلةً تهكُّمها: «لكن لا شك أنها تجعلكِ تشعرين بالضآلة أيضًا، صحيح؟»
أدركت الآنسة لوفابل إدراكًا خافتًا لصوتٍ يتحدث إليها بداخلها.
قال الصوت بداخلها: «كلَّا. بل تجعلني أشعر بالعظمة. إنها تذكِّرني بأنني جزء من الأزل والدهر. أنا أحبها. بل أقدِّسها. أنا أشعر بالأمان في ظِل حمايتها.»
وحين أجابت سؤال فيفا، حملتْها غريزة الوقاية على إخفاء مشاعرها الحقيقية.
«لم أجد الأمر على هذا النحو. لكنها تمثِّل منظرًا رائعًا. يتعيَّن عليَّ أن أشتري بضع بطاقات بريدية.»
«سآتي معكِ … لكن أولًا، لا بد أن أطالعها كثيرًا حتى تقرَّ عيني. دائمًا ما تجعلني الجبال أشعر وكأني في كنيسة. بل ويزداد فيَّ شعور الورع في حضرتها أكثر؛ لعدم وجود صلوات وأشياء تشتت انتباه المرء … هل معكِ سيجارة؟»
وبينما كانت الآنسة لوفابل تفتح حقيبتها، قالت لنفسها بمرارة إن سياسة المشاركة لدى فيفا قد بدأت تعمل.
قالت فيفا: «أعواد ثِقاب.»
«لا أحمل أيًّا منها.»
صُدِمت الآنسة لوفابل من الكذبة التي تلفظت بها. كانت طبيعتها أنها سخية جدًّا لدرجة أن قدرتها على الشعور بالامتعاض من شيء تافه أثبتتْ أن نفورها المستتر من فيفا قد أصبح كُرهًا فعليًّا.
ومع أنه كان من المستحيل بالنسبة لها أن تستطيع الإشارة إلى موضع محدَّد من الفظاظة؛ فإن التأثير التراكمي لإهانات متناهية الصغر تمثَّل في انطباعٍ — قاصر على رأي فيفا الخاص وحسب — بأنها وضيعة المنزلة. والآن تكدَّر صفو يومها المثالي. وعلى الرغم من أنها كانت تنوي الهرب، فقد كانت حريتها ستكلِّفها ساعات عزلتها الثمينة.
هبَّت الآنسة لوفابل مبتعدةً عن الطاولة.
وقالت لفيفا: «لا بد أن أذهب. سأسيرُ نزولًا إلى جريندلوالد.»
«من الأفضل ألَّا تفعلي. فالسير نزولًا عن التل هذه المسافة كلِّها سيرهق عضلاتكِ كثيرًا. وستؤلمكِ ساقاكِ لأيام بعدها.»
«أعرف هذا. وأتوقَّع أن أعود بهما معي. كنوع من التذكار.»
بدا من تعبير فيفا الذي كان ينم عن الازدراء أنها لم تكن مستمتعةً بما يجري. هذه المرة كانت الآنسة لوفابل هي التي شعرت بالضآلة، على الرغم من أن لحظة انتصارها كانت قد شارفت على الحلول.
كان قطارٌ قد وصَلَ للتوِّ من جبل يوخ، وكان يفرغ حمولته من السيَّاح. وحين وقعتْ عين الآنسة لوفابل على امرأة جميلة لا تشوب جمالها شائبة، أشرق وجهها بالحماسة والإثارة. وتذكَّرت أن تخطف علبتها؛ حيث إنها كانت تحوي مالها وجواز سفرها الضروري من أجل تمديد تذكرة الدخول للمنطقة، لكنها تركت العلبة التي تستخدمها الآن، كحقيبةِ يدٍ خاصة بها، على الطاولة خلفها، وهرعت تتقدَّم نحو المرأة.
وصاحت تقول: «ليدي بونتيبول، هل تذكرينني؟ من حفل هايفيلد في الحديقة.»
تعرَّفت عليها الليدي بونتيبول على الفور؛ وذلك لمَا كانت تتمتع به من سِحر لطيف وذاكرة تحفظ الوجوه، هما ما جعلاها امرأة اجتماعية شهيرة.
«بالطبع، أتذكركِ. كيف حال الأخت مونيكا العزيزة؟ أخبريني عنها. وعنكِ أيضًا.»
قالت الآنسة لوفابل: «السيدة بوسانكيه في أفضل حال كالمعتاد. إنها تتسلط على خادمتي المسكينة في غيابي.»
ضحكت الليدي بونتيبول.
وقالت: «ما زالت تعاملني كمريضةٍ لها؛ ومريضة شقية جدًّا. لقد أُعجِبتُ كثيرًا بعسل الخلنج الذي بعتِه لي في مهرجانكم. هل ستشترين القبعة كما قلتِ من باريس؟»
وبينما كانتا تتحدثان، أخذت الآنسة لوفابل تسترسل في سرد التفاصيل في دفء حضور الليدي بونتيبول الودود.
قالت لوفابل تذكِّرها: «قلتِ إننا قد نلتقي. ومن الرائع أننا الْتَقينا. لقد صعدتُ إلى جبل يوخ، وقد بدا رائعًا جدًّا. هل كنتِ تقيمين هناك؟»
«أقمتُ لِليلة واحدة. هربتُ من الجميع، بما في ذلك خادمتي. لا يُفترض أن أذهب إلى مكانٍ مرتفع جدًّا. لا تخبري الأخت مونيكا. سيارتي تنتظرني في لوتيربرونين.»
وبينما كانتا تتبادلان أطراف الحديث، تكدَّر استمتاع الآنسة لوفابل بذكرى جعلتْها تشعر بخجلٍ شديد. كل هذا الوقت كانت تحمل علبة مجوهرات ليدي بونتيبول. على الرغم من أن الليدي بونتيبول كانت قد تخلصت منها، تذكرت لوفابل أن السيدة بوسانكيه حذرتها من الكشف عن التويج، في حين أنها في الواقع كانت قد اقترضت علبة المجوهرات فقط من أجل رحلتها.
دسَّت لوفابل العلبة خلف ظهرها وهي تشعر بالذنب بينما حاولت تغطيتها بكنزتها الصوفية. جذبت حركاتها الخفية انتباه الزوجَين اللذين كانا يجلسان على الطاولة المجاورة لها.
قال الرجل، الذي كان اسمه أمور، معلقًا: «فتاة الكشافة تُخفي شيئًا.»
وافقته السيدة أمور قائلةً: «ربما كان الآص يخطط لشيء في نهاية المطاف.»
راقب الزوجان الآنسة لوفابل وهي ترافق ليدي بونتيبول إلى قطار لوتيربرونين ولاحظا الطريقة المحترمة التي أصرَّت بها على حمل علبتها وكاميرتها. وعندما عادت إلى طاولتها، أخذا يختلسان النظر إليها، لكن فيفا أظهرت فقط اهتمامًا طفيفًا.
وسألت لوفابل: «أهي من قريتكِ؟»
كانت غريزة ردِّ الصاع لِفيفا قويةً جدًّا؛ فلم تستطع الآنسة لوفابل مقاومتها. فرفعتْ صوتها.
«ألم تتعرفي عليها؟ تلك كانت الليدي بونتيبول.»
سمع اللصان ذلك. وخلال ثانيتَين، كانا قد جعلا الآنسة لوفابل فريسةً لهما. أشعل أمور سيجارة على الفور وأسقط العود المشتعِل على الأرض. وعندما انحنى لالتقاطه، مدَّ رقبته ليلقي نظرةً متفحِّصةً على التويج على حقيبة الآنسة لوفابل.
أكدت هذه النظرة شكوكه. كانت هذه المرأة تحمل المجوهرات الشهيرة لليدي بونتيبول. استرق الرجل السمع أكثر؛ فتمكن من سماع أجزاء من المحادثة التي تدور على الطاولة المجاورة.
كررت فيفا بصوتٍ مضطرب: «الليدي بونتيبول؟»
كانت هذه المرة الأولى التي رأتْها فيها الآنسة لوفابل وقد خانتْها مشاعرها. بدت من ناحيةٍ متوترةً من الإثارة ومن ناحيةٍ أخرى مذهولةً من المعلومة.
قالت: «بالطبع. كان ينبغي أن أعرفها. إنها تشبه صورها تمامًا. لكنني … لكنني لم أكن أعرف أنها صديقةٌ لكِ.»
وعلى الرغم من سعادة الآنسة لوفابل بظفرها، فإنها كانت أكثر تحريًا للصدق من أن تدَّعي لنفسها هذا الشرف.
فأوضحت قائلةً: «إنها ليست صديقة. أنا فقط أعرفها … لقد بدأت الغيوم تتجمَّع. يجب أن أتحرك. أراكِ لاحقًا.»
في الوقت نفسه، فرقَعَ أمور بأصابعه لينادي على النادل ليدفع ثمَن مشروب البراندي. وبينما كانت الآنسة لوفابل تنزل المنحدر الأول للمسار، صعد هو وزوجته على متن قطار جريندلوالد. وعلى الرغم من أن عربتهما في الدرجة الثانية كانت فارغة؛ فإنهما جلسا أحدهما بالقرب من الآخَر، وتحدثا همسًا.
قالت السيدة أمور: «تلك كانت خادمتها. سمعتُ أنها ضخمة وشقراء. وهذا يفسر ما كانت ترتديه في محطة فيكتوريا. وقد قلتُ لنفسي حينها: «لم تكن هذه البزَّة مصنوعةً لكِ. هذه البزة كانت من أفضل الأزياء في وقتها، لكنَّ وقتها هذا مرَّ قبل فترة طويلة، والموضات التي عفا عليها الزمن كالجثث، لا ينبغي نبشها ومحاولة إحيائها.» بالطبع، كانت هذه البزَّة واحدةً من المزايا التي حصلتْ عليها.»
زمجر أمور قائلًا: «أغلقي فمكِ. كان الآص يتبعها ويخطِّط لشيء ما. علينا أن نتوصل إليه.»
كانا قد قرآ في الصحف أن الليدي بونتيبول تتجول بسيارتها في القارة الأوروبية، وأنها كانت قد ارتدت مجوهراتها في الأوبرا والحفلات الراقصة في عواصم مختلفة. وبما أنهما كانا مجرد لصَّين متواضعين، لم يكونا مُهتَمَّين كثيرًا بالأمر؛ لأنهما كانا يعرفان أن النخبة في مهنتهما يغطون كلَّ تحركاتها.
لكن بدا الآن أن إحدى عادات المرأة قد ألقتْ بفرصة العمر بين أيديهما. ففي مناسبةٍ سابقة، كانت مجوهرات الليدي بونتيبول قد سُرِقت أثناء رحلةٍ بالقطار في أوروبا. وربما كان من المحتمَل أنها قررت العودة وحدها عبر سويسرا وإرسال خادمتها مع المجوهرات إلى باريس. ومع أن اللِّصين لم يلاحظا الْتِقاء السيدتَين الفعلي؛ فلا بد أنهما كانتا قد الْتَقتا في موعد سابق بمثل هذا المفترق الصغير المعزول. فضلًا عن ذلك، كانت الطريقة الخفية التي حاولتْ بها الخادمة إخفاء علبة المجوهرات ذاتَ دلالة كبيرة.
لم يكُن هذا تشخيصًا عبقريًّا، فمصيرهما دائمًا ما سيكون عدم الارتقاء في مهنتهم، لكن كان لدى أمور أسلوبه الخاص، وكان ذا صلة بالنساء الوحيدات والحقائب اليدوية.
أخبر أمور زوجته: «عودي إلى الفندق واحزمي الأمتعة واستعدي للمغادرة. سأنزل في ألبيجلين وأنتظرها خلف الصخور والأشجار بالأسفل. سأطرحها أرضًا وأختطف العلبة وأهرب. سآخذها على حين غِرة.»
اعترضت زوجته: «سيتعيَّن عليك أن تُفقِدها الوعي أولًا. إنها بحجم اثنَين من عيِّنتك.»
«لكنني لم أحضِر أدواتي معي.»
«لا بد وأنك سمكري … هاك وِشاحي. ابحث عن حجر معقول الحجم والاستدارة ولُفَّه بداخله. سيتأرجح جيدًا حين تمسكه من الأطراف.»
بدا أمور مترددًا قليلًا؛ لأنه كان معتادًا على العمل على السيدات الكبار، اللاتي كنَّ يصفِّفن شَعرهن تصفيفات مرتفعة، ويرتدين فوقه قبعاتٍ مزخرفة.
ثم قال: «افترضي أن جمجمتها من الجماجم الرقيقة وضربتُها أنا بقوة كبيرة. إنها لا ترتدي قبعة.»
علَّقت زوجته قائلةً: «إذن سنتأسف عليها كثيرًا.»
وبينما كانا يستعدان لأخذها على حين غِرة، بدأت الآنسة لوفابل تقفز نزولًا إلى المسار الوعر. كان الأمر صعبًا، لكن روحها المعنوية كانت مرتفعة. وقد صدح صوتها بأغنية سعيدة وهي مبتهجة بالمناظر الطبيعية والعزلة.
كانت تعتقد أنها تقفز بخفة كالغزلان، وذلك عندما سمعت صوت حصى يتدحرج على المسار خلفها.
نادتْها فيفا: «توقفي. أنا أيضًا قادمة.»