الفصل الثامن عشر

القيمة الظاهرية

كان وجه الآنسة لوفابل مكفهِرًّا وهي تغرس كعبها في المسار الزلق وتنتظر فيفا. كان تصرُّفها ذا رمزية؛ حيث إنها وصلتْ إلى آخِر حدود صبرها، وكانت تعتزم اتخاذ موقفٍ حازم في مواجهة أيِّ تجاوُزٍ آخَر. وقد ذَكَّرَت نفسها بأن لها الحقَّ في الاستمتاع بعطلتها بطريقتها الخاصة؛ لذلك كانت تنوي توضيح الأمر رغم مجازفتها بأن تكون غير مهذَّبة.

وبينما كانت تبحث عن الكلمات التي ستوضح الموقف بأقلِّ قدرٍ من الإساءة، بدأت فيفا تتكلم.

«هل تمانعين أنْ آتي أيضًا؟ أريد أن أتحدث إليكِ حديثًا خاصًّا … لديَّ اعتراف أريد أن أعترف به لكِ.»

لمعت عينا الآنسة لوفابل باهتمام.

وسألت بفضول: «ما هو؟»

«سأخبركِ ونحن نمشي. أريد أن أمرِّن نفسي بعض الشيء.»

«إن النزول شاق.»

«سأستقل القطار من محطة ألبيجلين.»

قالت الآنسة لوفابل في سريرتها إنها ستتحرر من صحبتها في نهاية المطاف، بينما تقدَّمت فيفا الطريق — وكانت تقفز بخفة بين حُطام الحجارة والأشجار، حيث حوَّل انهيارٌ أرضي مسار الطريق. وعندما استوى المسار نسبيًّا مرةً أخرى، كسرت فيفا الصمت بينهما.

فقالت: «لا تدعي الحماس يطغى عليكِ. ليس الأمر عن جريمة قتل أو شيء مثير مشابِه. إنه أمر محرِج فحسب. الحقيقة أنني أعطيتكم جميعًا انطباعًا خاطئًا. تظنون أنني فتاة من عِلية القوم. لكن ليس لي ذنب في ذلك. لقد أخبرتُكن باسمي في تلك الليلة الأُولى في القطار. كنتُ أظن أنه لا توجد امرأةٌ لا تعرف «فيفا».»

بدأت الآنسة لوفابل ترى بصيصًا من النور.

فسألتْها: «هل أنتِ سيدة أعمال؟»

«بالطبع، أنا كذلك. أنا أملك صالون التزيين الرائد في منطقة وست إند. أنا مشهورة. عملائي يشملون العائلة الملكية، إضافةً إلى قادة المجتمع وعِلية القوم. كنتُ ببساطةٍ «مذهولة» عندما لم تتعرف أيٌّ منكنَّ على اسمي.»

كان صوتها ينمُّ عن حنق، حتى إن الآنسة لوفابل حاولت تهدئتها.

فقالت: «أنا آسفة. أنا نفسي غير مطلعة على كل هذه الأمور.»

تجاهلتْ فيفا اعتذارها.

وتابعتْ: «كنتُ أظن أنني إن شرحت لكُنَّ الأمرَ حينها قد يقع بيننا حرج؛ لذا تركتُ الأمر على حاله. كان من المبهج أن أكون خارج الأضواء. بالطبع، عندما قلنا «وداعًا» كنت أعتزم أن أعطيكنَّ بطاقات عملي وأقدِّم لكُنَّ عروضًا مخفَّضة، أو معاملةً مجانية مقابل تقديمي لعملاء جُدد.»

بدأت الآنسة لوفابل تشعر أنها دفعتْ ثمنًا باهظًا لإشباع فضولها.

فعلَّقت بنبرة صريحة: «لكننا لم نقُل «وداعًا» بعد. لماذا لحقتِ بي الآن؟»

فصاحت فيفا بأنفاسٍ متقطعة: «بسبب الليدي بونتيبول. لم أستطِع الانتظار لتقديم عرضٍ لكِ. كما ترَين، لم يكن لديَّ أدنى فكرة أنها صديقةٌ لكِ.»

«إنها ليست صديقتي.»

«أوه، بل هي كذلك. كنتما تضحكان معًا وسمعتُها تطلب منكِ أن تبلغي تحياتها إلى أختها، مونيكا. أرجوكِ لا تراوغيني. هذا أمر ذو أهمية بالغة لي.»

«لماذا؟»

«أريدكِ أن تُقنعي الليدي بونتيبول بأن ترعى صالوني. سأدفع لكِ نسبةً على كل معاملةٍ وصفقة. سنحدد الشروط لاحقًا، ولكن أعدكِ أنها ستكون سخية.»

كان صوتها متحمسًا، لدرجة أن الآنسة لوفابل شعرت بالذنب لأنها رفعت طموحاتها دون قصد.

وقالت بقسوة: «كلَّا. لا أستطيع أن أفعل ذلك. لقد سبق وأن أخبرتكِ أنها ليست صديقةً لي.»

كان من الواضح أن فيفا لم تصدِّقها؛ لأنها أصرَّت على تأكيد الفكرة.

«ستكون تلك منفعة متبادَلة. الليدي بونتيبول جميلة جدًّا، ولكنها تفتقر إلى الجاذبية المتخصِّصة. يمكنني أن أفعل الكثير لوجهها. إن وجه دوقة مولبري أحد أعمالنا. كما صنعنا الوجه الذي حصلتْ به لينا ليومينستر على أفضل عَقد لها … أنا دائمًا في حالة تأهُّب للأفكار المستقاة مباشرةً من الطبيعة. في الواقع، أنا لا أرى وجهًا دون أن أقوم بتفكيكه في ذهني ثم أعيد تجميعه على النحو الصحيح.»

بينما كانت الآنسة لوفابل تستمع، فهمت ما كان يربِكها سابقًا. كلمات فيفا شرحت تلك النظرة المبهَمة التي كانت تعدُّ الإنسان مشكلةً تجميلية. كما كانت كلماتها أيضًا مبيِّنة لإيثارها في احترام الآخرين، والذي بدا بمعزلٍ عن اللطف الأصيل، الأمر الذي كان غريبًا جدًّا.

فكرت الآنسة لوفابل: «بالطبع، لا بد أن تقديم الخدمات للعملاء مهارة طبيعية لديها.»

وضحكت لا إراديًّا، ولكنَّ مرحها توقَّف عندما انتقلت فيفا من الوجوه عمومًا إلى مظهرها الشخصي.

إذ وعدتْها قائلةً: «يمكنني أن أحوِّلكِ تمامًا. فأنت تتمتعين بشيء رائع. ولكنكِ تقليدية للغاية. سأُضفي عليكِ طابعًا مائلًا قليلًا — الحاجبَين، والشفتَين، والعينَين. وشَعركِ متموج جدًّا وخضِل. يبدو وكأنه بحالته الطبيعية. إنه يحتاج إلى علاج بالطلاء التشكيلي؛ ليجعله يبدو أكثر كثافةً، وكأنه معدني.»

فأسرعت تقول الآنسة لوفابل: «هذه ليست أنا، شكرًا. قد يبدو هذا تعجرفًا، ولكنْ ثقةً، أنا أحب وجهي على هذا النحو. فهو نظيف على أي حال. يمكنني أن أنظِّف مدخنة دون أن يبدو مظهري قذرًا.»

فأقرَّت فيفا برحابة صدر: «صحيح، صبغتكِ رائعة ومظهرك جميل. ولكنه طبيعي … والطبيعة لا يمكنها التنافس مع الفن. فهي لا تملك التنظيم ولا الموارد. ونحن لدينا مجموعة متنوعة ولا نهائية من الألوان لندمج بعضها ببعض.»

فعاجلتْها الآنسة لوفابل بسؤالها: «مثل …؟»

كان السؤال ماكرًا، حيث إنها لم تكن مهتمة بمستحضرات التجميل. كل ما أرادته هو تشجيع فيفا على الإسهاب في موضوعها الخاص، حتى تتمكن من تكريس اهتمامها للاستمتاع بمشهد الجبال المتراكمة.

وذكَّرت نفسها: «سأتخلص منها في ألبيجلين.»

بحلول هذا الوقت، كان القطار الصغير قد وصل إلى ألبيجلين وفقَدَ راكبًا. إذ انسلَّ أمور من عربته دون أن يلفت الانتباه وبدأ ينزل على الطريق الذي يحيط بقاعدة جبل إيجير. ورغم أنه كان يرتدي أحذية مخصصة للسير في المدينة، كان تقدمه سريعًا؛ لأنه كان واثق الخُطى ويتمتع باتزان كمَن يجمع بين مهارات الراقصين وقليلٍ من مهارات اللصوص.

وكان كلما سمع أصواتًا حَرصَ على الاختباء خلف شجرة أو صخرة. كان قد تعلَّم من خلال التجارب المريرة أهميةَ عدم الخلط بينه وبين تلك الشخصية الشريرة التي — وفقًا للشهود — دائمًا ما تكون ملحوظةً في محيط مكانِ وقوع الجريمة.

إضافةً إلى هذا الاحتياط، كان عليه أن يلتقط أداةً مناسبة لهجومه على خادمة الليدي بونتيبول. كان هذا الجزء من العمل يزعجه؛ لأنه كان يكره الأدوات المؤقتة والبديلة. ومع ذلك، سرعان ما وجد حجرًا بالوزن والشكل المطلوبَين. وبعد أنْ لفَّه بعناية بجوربه، ربطه داخل وِشاح زوجته وبدأ في التدرُّب على ضربته.

وبعد أن ضرب أشجار الصنوبر بضع ضربات، شعَرَ أنه أتقن الأسلوب بما فيه الكفاية لاختيار مكان الضربة. وبعد أن نزل مسافة على منحدر الجبل، اختار موقعًا بين الظلال الكثيفة لأشجار الصنوبر المتكتِّلة، حيث يمكنه الاختباء بين الصخور الكبيرة التي تتدلى فوق المسار. كان المنحدر شديدًا للغاية، بحيث إذا أمطرت السماء — كما كان الجوُّ يوحي — فسيكون المسار زلقًا بالطين.

فكَّر أمور في نفسه: «ستسقط بضربةٍ قوية كهذه، لدرجة أنها ستظنُّ أنها انزلقت واصطدم رأسها.»

كان من الممكن حتى وهي في حالة التشوش هذه، أن تتعثر فتسقط نحو الوادي دون أن تدرك ما فقدت. وفيما بعد، عندما تعود للبحث عن حقيبتها، قد تكون مشوشة جدًّا فلا تستطيع العثور بدقة على المكان الذي سقطت فيه، أو قد تستنتج أن ما فقدته قد وجده في أثناء ذلك شخصٌ غير أمين.

وبينما كان أمور يجثم على الأرض اللزجة وهو يستند إلى الصخور الداعمة، كان يمضغ العلكة؛ لأنه كان يخاف من أن يُدَخِّن. كان يقدِّر ذكاء خدعة الليدي بونتيبول؛ لأنها فشلت في تضليل ذكائه الأعلى مقامًا. في اعتقاده، بدا من البراعة والمكر أن ترتدي الخادمة ملابس تنزُّه وتجعلها تمشي إلى جريندلوالد — بما يؤيد شخصيتها — مع إخفاء آلاف الجنيهات تقريبًا في حقيبتها القماش القديمة، بينما كانت الأشياء الأثمن تتبع سيارة سيدتها.

كان أسوأ جزء في هذه العملية الانتظار الطويل وغير المريح. فعلى الرغم من التشنجات التي أصيب بها، فلم يجرؤ أمور على الاسترخاء؛ خوفًا من أن يغفو ويفوته صوت الخطى. فلكي يشنَّ هجومه، كان عليه أن يلحق بقطار منحه وقت انتظار طويل جدًّا، ذلك لأن الآنسة لوفابل كانت لا تزال على مرمى البصر من المحطة الصغيرة.

أعلنت الآنسة لوفابل في طرب: «ها هي محطة ألبيجلين».

كانت الآنسة لوفابل مرتفعةً فوق بحر من قمم الأشجار؛ ومع ذلك، ستنخفض أكثر وأكثر، وسترى السقف الأخضر مفروشًا عند قدمَيها. وقد امتلأت نفسها بشعورٍ بالسعة والحرية من منظر الوديان الواسعة والممتدة. كما شعرتْ بالنشاط بفضل الهواء النقي؛ فكانت متحمِّسة بفعل الرياح التي أخذتْ تصفرُّ وهي تدفع الغيوم الممطرة أمامها. ولمَّا كانت تتوقع أن تكتمل فرحة الحرية، تحدثت إلى فيفا بنبرة دافئة بحقٍّ.

«هنا نفترق. لن تضطري للانتظار طويلًا حتى يأتي القطار. من اللطيف أنكِ أخبرتِني عن نفسكِ. أنا ممتنة لذلك.»

فسألتْها فيفا بحماس: «إذن، هل ستأتين معي إلى الليدي بونتيبول؟»

«كلَّا. وهذا حقًّا قرار نهائي. وداعًا. سأفكر فيكِ خلال مسيري. أنتِ رائعةٌ حقًّا، تبدين كطفلة صغيرة في حين أنكِ سيدة أعمال مشهورة.»

«أنتِ لم تعرفي القصة بالكامل بعدُ. انتظري حتى أخبركِ كيف بدأتْ. لم يكن لديَّ أموال أو نفوذ. لكنَّ رجل أعمال قدَّم لي رأس المال؛ لأنه كان يثق بي. كان العرض دون أي شروط وسدَّدت له ماله في غضون ثلاث سنوات.»

ومما أثار استياء الآنسة لوفابل أن فيفا تجاوزت المحطة دون أن تتوقف وتقدَّمت على المسار الهابط. وقد بدأت تُدرك أن محاولتها لتخفيف رفضها بمجاملةٍ كانت سياسة فاشلة؛ حيث إنها أطلقت لسان فيفا في سرد قصة نجاحها.

ناشدتها الآنسة لوفابل: «من الأفضل ألَّا تحاولي المشي إلى جريندلوالد. فالمنحدر يزداد انحدارًا في الأسفل.»

قالت فيفا بتفاخر: «لن يؤثر ذلك عليَّ. أنا لا أتعب أبدًا. فأنا من أعضاء رابطة الصحة والجمال، كما أمارس التزلج والسباحة وغير ذلك. وأترك لسكرتيراتي حضور كل اجتماعاتي.»

«لكنها ستمطر.»

«جيد. سيمكنني هذا من أن أعطي بشرتي صدمة.»

على مضضٍ تقبلت الآنسة لوفابل أن تتحمل مداخلةً طويلة من فيفا حيث استعرضت الأخيرة المراحل المتتالية لتحسُّن تقدُّمها العملي. ورشَّت الرياح وجهيهما بأُولى قطرات العاصفة، ثم بدأ المطر يتساقط باستمرار. في البداية لم تدركا سوى صوتِ الرذاذ الناعم فوق رأسيهما؛ لأنهما كانتا في حِمى الأشجار، لكن مع تزايد المطر، توقفت الأشجار عن العمل كمظلات. وأصبح المسار زلقًا وتحوَّل بعد قليل إلى طين يلتصق بأنعُل حذاءَيهما.

قالت الآنسة لوفابل بتطلُّع: «من الأفضل أن تعودي إلى ألبيجلين. سوف تتشبع ثيابكِ بالماء.»

سألتْها فيفا: «ماذا عنكِ؟»

«أنا أحبُّ المطر.»

«وأنا أيضًا. لا يمكن أن نصاب بالبرد أثناء المشي.»

«لكنَّ بنطالكِ لن يعود كما كان مرةً أخرى.»

«إنها مجرد ملابسِ عطلة. عبَّأتْها خادمتي، ولم أكن أعرف ما وضعتْه. أنا أثق بذوقها تمامًا. هي تعتني بكل ملابسي.»

وبينما كانت الآنسة لوفابل تستمع، قررت ألَّا تأتي على ذِكر خادمتها إلسي، التي لم تكن قادرة حتى على تلميع أرضية في المنزل. حاولت أن تنسى رفيقتها وتتقبل تحدي العاصفة، حيث أرجعت رأسها إلى الخلف وشهقت شهيقًا عميقًا. وبفعل الرياح، اصطدمت قطرات المطر بوجهها وأغرقت شعرها وسالت على رقبتها.

أحبَّت الآنسة لوفابل ذلك كله؛ احتكاك الملابس المبللة على بشرتها، والهواء المنعش، والروائح الترابية والصمغية التي بثَّها في الجو هطولُ المطر. واجتذب المطر شيئًا آخَر غير لطيف؛ بزَّاقات سوداء كبيرة أخذت تزحف على المسار. صرخت فيفا عند رؤيتها، لكنَّ الآنسة لوفابل ضحكتْ فحسب.

وعلَّقت قائلةً: «مظهرها أفضل من بعض الأشخاص الذين يذكِّرونني بها. من النوع الرطب الداكن. كان هناك عيِّنة مثالية منها في شايديج. كِدت أتوقع منه أن يترك أثرًا رطبًا خلفه بينما يمشي.»

بحلول هذا الوقت، كانتا قد وصلتا تقريبًا إلى المكان الذي كان أمور ينصب فيه كمينًا. كان في وضعٍ بائس؛ لأنه لم يجرؤ على التحرك وكان محميًّا جزئيًّا فقط بواسطة الصخور التي كان يقبع خلفها. ورغم ملابسه المبللة والعضلات التي كانت تؤلمه، كان يتعيَّن عليه أن يظل متأهبًا ومتيقظًا؛ حتى لا يفوِّت أول أصوات اقترابِ ضحيته.

وبعد إنذار أو إنذارَين كاذبَين، حينما كان مختبئًا خلف الصخور لتجنُّب أن يراه أحد؛ سمِعَ خُطى الآنسة لوفابل، تنزلق وتخوض في وحلِ المسار. كانت متقدِّمة بمسافةٍ معقولةٍ على فيفا التي كانت قد توقفت عن الثرثرة، حيث كانت الرياح تحمل كلماتها خلفها. وبينما كان أمور يراقبها، فوجئ بمدى براعتها في تأديتها لشخصيتها كمتنزِّهة؛ فقد كانت تبتسم ولم تُظهر أيَّ علامات على الضيق.

فقال جازمًا: «لا بد أنها فتاةٌ سويسرية لعينة.»

وفي الثانية التالية، تغيَّر وجهه واستشاط غضبًا وخاب أمله عندما ظهرَتْ عند المنعطف شخصيةٌ ثانية، نحيلة وترتدي بنطالًا. لم يتوقع أن تتعقد الأمور بوجود رفيقة، في حين أنه كان ينتظر امرأةً وحيدة. فأخذ يسبُّهما في حين أنه يتوارى بين الصخور ويتسلل تحت غطاء النباتات المبللة بجانب الطريق.

أجفلت الآنسة لوفابل، ثم أمسكت بدعامةٍ من شجرة صنوبر حين كانت تمسح المطر عن عينَيها.

وصرخت في فيفا: «أنا أرى أشياء. أكاد أُقسم أنني رأيتُ رأس رجل ذي شعر أسودَ لامع هناك. لكنها مجرد قطعةٍ من الصخر.»

أصبح الطريق الآن شديدَ الانحدار لدرجة أنه كاد يصبح مسارَ سيلٍ جارف، وكان يتعيَّن عليهما التبديل بين جذوع الصنوبر من أجل الحفاظ على توازنهما. وعندما وصلتا إلى المروج الرطبة الإسفنجية وأول الأكواخ؛ شعرتا أنهما عادتا إلى البيت تقريبًا، على الرغم من أنه كانت لا تزال أمامهما مسافةٌ يتعين عليهما قطعها.

نبَّهت فيفا الآنسة لوفابل قائلةً: «لا تخبري أحدًا بما أخبرتكِ. أظنُّ أن السيدة فورس قد تُعَرِّفني على بعض الأشخاص المفيدين إذا ما تحدثتُ معها بالطريقة الصحيحة.»

فوعدتْها الآنسة لوفابل: «لن أذكر شيئًا أمامها. لكني ما زلتُ مذهولة. كنت أنظر إليكِ باعتبارك أنثوية جدًّا، وأن كل ما تريدينه هو الزواج فقط.»

«استمري في التفكير بهذه الطريقة. فأنا هكذا فعلًا، وهذا هو ما أريده.»

«تقصدين أنكِ قد تتخلين عن مهنتكِ من أجل رجل؟»

«مستحيل.»

«إذَن قد تقدِّمين الدعم لزوجك؟»

«هذا هو آخِر شيء يمكن أن أفعله. ما أريده هو دمج زواجي مع عملي. أن أجعل زوجي يؤدي نصيبه من العمل وأحقِّق له فائدة مشتركة، وإلا فقَدَ احترامه لنفسه، وحينها لن أستطيع أنا احترامه. يجب أن تكون لديه شخصيةٌ قوية مستقلة. ترَين، أنا أوفَرُ منكِ حظًّا. فالرجال لا يحتاجون للزواج مني من أجل مالي.»

فجأةً بدأت المحادثة تكتسب أهميةً عند الآنسة لوفابل.

فسألتْها: «أي مهنة؟»

فأجابتْها فيفا: «كيميائي. يمكنه القيام بأعمالٍ بحثية. لقد توصَّل العلماء لاكتشاف طبي مهم من خلال التجارب على الأصباغ. ألَا تظنين أن هذا سيكون مثاليًّا، خاصةً مع وجود العديد من الشباب الأذكياء الذين ينتظرون فرصةً حقيقيةً فقط أو نقطةَ بداية؟»

«أتمنى أن تحققي ما ترغبين فيه.»

«عادةً ما أفعل.»

كان صوت فيفا هادئًا وواثقًا لدرجة أنَّ الآنسة لوفابل أدركتْ وللمرة الأولى أنها تمتلك شخصيةً قوية وحيوية.

كانت صامتة في طريقهما إلى النهر الذي كان مليئًا بالمياه الجليدية ومغطًّى بغطاء كثيف من البخار المكثَّف. وعندما فكرت في الموضوع بواقعية، اعترفت أن تحالف بكنجهام مع فيفا سيكون حلًّا مُرضيًا للصعوبات التي يواجهها؛ خاصةً أنها هي نفسها لم تكن ترغب في الزواج منه.

كانت الآنسة لوفابل ترى أن الناس ينبغي أن يتزوجوا وهم شباب يافعون، وإلا فلا ينبغي يتزوجوا على الإطلاق، إلا لأسبابِ العِشرة أو لاعتباراتٍ نفعية. لقد ذاقتْ هي نفسُها، في بواكير شبابها، نشوةَ الحب وألمَ عدم اكتماله. كان «ديفيد» هو اسم الشاب الذي لم يبادلها حبًّا بحبٍّ، وقد خَلَّدَت ذكراه بتسميةِ أكثرَ من حيوانٍ أليف محبوب باسمه.

ومنذ حققت الاستقلال الاقتصادي، صارت سعيدةً تمامًا. كانت طبيعتها عملية لا عاطفية، وكان لديها عقل منظَّم. لم تُصَب بأمراض مطلقًا، ولم تشعر بالملل قَط ولا بالوحدة. من ثَم، في هذه الظروف، سيكون حسدها بكنجهام على فيفا إظهارًا منها لطِباع البخل والأنانية.

وحين انفصلتا في الفندق تحدثت إلى فيفا.

وقالت لها: «حظًّا سعيدًا.»

بخطوات حذرة على الدرَج الخشبي المصقول، وصلتْ إلى غرفتها وأعطت ملابسها المبللة للخادمة. وبعد الاستحمام بالماء الساخن، شعرتْ بانتعاش وبسلام مع العالم، وهي تقف عند نافذتها تدخن وتشرب الشاي. وبالمقارنة مع ما تستمتع به من راحة، كانت الآن تستطيع أن تقدِّر بشكل أكبر عظمةَ العاصفة وهي تجتاح الوادي بأمطارٍ غزيرة.

وبعد قليل ومن خلال النافذة المبللة، رأت ظَهْر رجلٍ حين مرَّ بالفندق. لاحظت أن كاحلَيه كانا عاريَين وهو يعرج في حذاءٍ جلدي مبلل. كانت ملابسه المبللة تلتصق بجسده النحيل؛ فبدا متداعيًا مثل فزاعة من العام الماضي، في حين أنه ترك خلفه آثار رشح الماء عنه.

أثَّرت كآبته في قلب الآنسة لوفابل الحنون. فرفعت كُوبها، وشربت نخبًا لأمور الذي لا يراها.

وقالت جهرًا: «اليوم ليس يوم حظِّك. نحن في القارب نفسه أيها الرجل الضئيل الجسم. حظًّا أفضل في المرة القادمة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤