كائن ليليٌّ
شعر بكنجهام بالذنب عندما الْتَقى بالآنسة لوفابل في الاستراحة تلك الأمسية.
وقال بطريقة دفاعية: «نسيتُ أن هناك طريقَين للصعود.»
فأقرَّت الآنسة لوفابل: «ليس خطأك. لم يكن الأمر كما كنتُ أتمنَّى. هذا كل شيء.»
«ولكنكِ تظنين أنني خذلتكِ؟»
«هل لهذا أهمية؟ أيًّا كان ما حدث، فقد انتهى الآن. الأهم لك كثيرًا أن تحافظ على وعدك.»
«يمكنكِ الاعتماد على كوني في محطة فيكتوريا يوم الثالث عشر من سبتمبر؛ لمقابلة قطار السابعة وخمس عشرة دقيقة، القادم من أوروبا. مهما حدث، سأكون موجودًا هناك.»
شعرَت الآنسة لوفابل براحةٍ كبيرة حين عرفتْ أنه قد حفظ تاريخ عودتها. وعلى الرغم من أن منطقها السليم جعلها تقرِّر أن تقمع أيَّ معتقد خرافي قد يتعارض مع الأعمال؛ فإنها كانت تعي وجود إحجام لا شعوري عن التفكير في نهاية عطلتها. وقد رأت أن هذا كان إرثًا من تجاربها في لندن؛ لأنه اختفى تمامًا بعد عرض بكنجهام بمرافقتها إلى المنزل الفارغ.
قالت له: «لم أخبرك بأننا نتمِّم بيع البيت لصهرك. ففي ظهر يوم الرابع عشر من سبتمبر لن أكون مالكةً للمنزل رقم تسعة عشر بمنطقة ماديرا. وطبعًا خُصِم الإيجار المدفوع مقدَّمًا من الشيك.»
سألها بكنجهام: «ماذا ستفعلين بالنقود؟»
«سأشتري منزلًا آخَر في المدينة، بالطبع. قد لا يكون في لندن مرة أخرى. ربما في هاروجيت أو في باث.»
«حسنًا، أنا أستسلم. كنتُ أظنكِ بسيطةً وبريئة، لكنَّ عقلك مُعقَّد جدًّا بالنسبة لي.»
وتحوَّل انتباهه إلى فيفا بتردد واضح عندما انضمت إليهما.
نادتْه فيفا قائلةً: «ريتشارد، هلَّا اكتشفتَ ما خطْب كاميرتي.»
غادرت الآنسة لوفابل المكان وتركتْهما معًا، لكنها شعرت بأن حوَّاء القديمة تتمرد في داخلها. لقد جرى الاعتداء على شعورها بالملكية. كانت مستاءة من الطريقة الباردة التي تجاهلتْ بها فيفا مشاعرَها الخاصة — إن كانت موجودة — في هذا الموضوع، وكذلك الطعنة الغادرة عندما اقترحتْ أنَّ اهتمام بكنجهام بها كان ماديًّا.
قالت في نفسها: «أستطيع إبعاده عنها بحركةٍ من إصبعي الصغيرة. أريدها أن تعرف ذلك.»
كانت السيدة فورس وأوليفيا تتناولان القهوة في الطرَف البعيد من الاستراحة، وقد أشارتا إليها لتنضم إليهما. عندما وصلت إليهما، حذَّرتها أوليفيا — التي كان وجهها مسفوعًا بالشمس، حتى أصبح لونها كتفاحة قرمزية — بفظاظتها المعتادة.
«لا تسمحي لها أن تأخذه منكِ. إنه ملككِ. رأيتُه ينظر إليكِ … إذا نظر أحد إليَّ بتلك الطريقة، سيُغشى عليَّ، «جيمس لي».»
قالت الآنسة لوفابل بغضب: «يمكنها أن تحظى به. أنا لا أنوي الزواج. أعرف متى أكون في وضعٍ جيد. أنا أبدو أصغرَ سنًّا وأتمتع بصحةٍ أفضل من معظم زميلاتي في المدرسة اللائي تزوجن ولديهن أُسَر.»
تأوهت السيدة فورس قائلةً: «ألا أعرف ذلك؟ قد لا تصدقين ما سأقوله، ولكني كنتُ رياضيةً في السابق. كنتُ فعليًّا ألعب في ويمبلدون، حتى لو لم أتجاوز الجولة الأُولى. إنجابي لأوليفيا هو ما ضعضعني بهذا الشكل.»
عجزَت الآنسة لوفابل عن أن تشعر بالتعاطف؛ لأنها كانت قد اختبرت أن السيدة الهزيلة تتمتع بطاقةٍ لا تعرف الكلل. ومع ذلك، قدَّرت رأيها كامرأة لديها خبراتٌ حياتية ومرَّت بتجارب كثيرة، وهكذا أخذتْ تستمع بانتباه حين كانت السيدة فورس تتحدث.
«حقًّا يا عزيزتي، سيكون من الجنون أن تتزوجي الآن. لقد تأخرتِ كثيرًا.»
قالت الآنسة لوفابل بغضب: «أنا في الثامنة والعشرين من عمري فحسب.»
«لم أكُن أشير إلى عمركِ. أعني أنك لا تمتلكين عقلًا مرِنًا. أفكاركِ جامدة مثل الجيلي عندما يُترك على النار كثيرًا. تحبين رفاهيتكِ وتحبين طريقتكِ الخاصة في الحياة. وقد يحطِّمكِ أن يكون لديكِ رجل يتطفَّل على حياتكِ الشخصية، ويتدخل في عملكِ، في حديقتِك. قد يرغب في زراعة البصل حينما تريدين أنتِ زراعة القرنفل.»
«لا. أنا أحبُّ البصل أكثر، وسأختاره كلَّ مرة.»
«إذَن سيرغب هو في القرنفل … إذا اتبعتِ نصيحتي فستعرفين متى تكونين في وضعٍ جيد. لديكِ بالفعل الأشياء التي تتزوج من أجلها النساء؛ لديكِ دخلٌ ومنزل.»
كانت الآنسة لوفابل قد لاحظت بالفعل وجودَ تجنُّب للحديث عن موضوع منزلَيها الآخرين. يبدو أن منزل البحيرة فقط هو المعترَف به ملكيةً حقيقية.
وبعد دفاعها عن العزوبية، ابتسمت بسخرية عندما أصبحت السيدة فورس مدرِكة فجأةً خيانتها لجنسها.
فاختتمتْ في وهن: «ومع ذلك، كل امرأة ينبغي أن تتزوج.»
فقالت الآنسة لوفابل ساخرة: «الآن صار كلامكِ تقليديًّا.»
شعرت الآنسة لوفابل بكسلٍ لذيذ وبعزوف عن أن تتحرَّك من كرسيها في حين أنها تشاهد المشهد أمامها بموضوعيةِ المتفرِّج. كانت الغرفة عارية وبسيطة مقارنةً بفخامة فنادق البحيرة وبهرجتها. كانت الستائر البيضاء الناصعة، والمنسوجة على شكل شبكة، بالكاد تغطي النوافذ، وقد كشفتْ عن الخلفية بأشجارها التي تمتد على منحدرات الجبل. وكانت أنوار الكهرباء تتدلى على شكل كئوس زهرية. وبمجرَّد أن بدأت الأوركسترا عزفها، شرع الأزواج في الرقص على المساحة الفارغة في منتصف الأرضية الشمعية.
بعدما عزَّزت نفسها بنصيحة السيدة فورس، ذكَّرت نفسها بأنها ستعود مرة أخرى إلى منزل البحيرة في غضون أسبوع، وستعود إلى الروابط المنزلية والتقاليد المحلية، وستستعيد الروتين المألوف.
قالت في نفسها: «منزل البحيرة حقيقي. إنه حياتي كلها، ويجب ألَّا أخاطر بخسارته … ولكن قريبًا، سيبدو كل هذا حلمًا. وهؤلاء الناس لن يكونوا مهمين بعد الآن.»
كان بين الراقصين فيفا، التي تسبَّب نشاطها وحيويتها في تحفيز الآنسة لوفابل على التخلص من خمولها. فعلى الرغم من أنها لم تكن متعبة كما كانت تتوقع، بدأت العضلات الخلفية لساقَيها تنقبض على نفسها. ولمَّا كانت لا تهتم بأن تبقى في الخلفية، نهضت من كرسيها المنخفض المصنوع من الخيزران وصعدت إلى غرفتها.
وبعد أن تخففت من ملابسها، خرجت إلى شرفتها لتدخن سيجارةً أخيرة. كانت كلُّ الغرف الأمامية في الطابق الأول تفتح على شرفة مشتركة؛ ولكن حتى في أثناء النهار، كان الزوار حذِرين بشأن البقاء في غرفهم الخاصة ولم يتجولوا، خوفًا من أن يقتحموا عن غير عمدٍ خصوصية الآخرين. في الليل، كان معظم الإنجليز يبقون نوافذهم الفرنسية مفتوحة، رغم أن الضيوف الأوروبيين والأشخاص العصبيين كانوا شديدي الحرص على إغلاق الستائر.
وبينما كانت الآنسة لوفابل تطالع الجبال، استعرضت خطط فيفا لمستقبل بكنجهام.
وقالت في نفسها: «لا بأس. أعطيه مجهرًا ودعيه يصنع الأصباغ وسيكون سعيدًا. ربما سيكتشف شيئًا يجلب لها ثروة، وهذا سيرضي غروره. لا بأس بهذا.»
لم تكن تعلم أنها كانت تحت المراقبة طوال الوقت الذي بقيت فيه في الشرفة. فعلى الجانب الآخر من الطريق، ومقابل الفندق تقريبًا، كان هناك نُزُل نادرًا ما كانت تلاحظه. كانت هناك امرأة تجلس أمام نافذة غرفة نوم مظلِمة، ترتدي رداءً فضفاضًا أرجوانيَّ اللون ومزيَّنًا بوريقات مهترئة لا تشبه الريش بقدْر ما تشبه حثالة الميناء وزبد الموج. وكانت المرأة تحمل نظَّارة ميدانية، في حين أنها تسلي مسامع زوجها بتعليقاتٍ فاحشة عن المراحل المختلفة لتبديل الآنسة لوفابل لملابسها.
علَّقت قائلةً: «إنها تتمتع بالجرأة، فهي لم تغلق الستائر لتبدِّل ملابسها. والآن خرجت إلى الشرفة بلباس النوم. حسنًا، لدينا رقم غرفتها. إنها الغرفة الثالثة من جهة اليسار.»
بعد دقيقة، أنهت تقريرها بنبرة انتصار.
«أطفأت الضوء وتركَت النافذة مفتوحة.»
نصحها أمور، الذي كان يرتجف في السرير، رغم أنه كان يرتدي رداءَ النوم: «تحقَّقي من الباقي».
ورغم أنه لم يسمع النبرة التي تنم عن آمالها في نجاحه المستقبلي، كان الرجل الضئيل — الذي أثارتْ حالته شفقة الآنسة لوفابل — يستعد بالفعل للمحاولة مرةً أخرى. إذا أكَّدت ملاحظات زوجته ما يتطلَّع إليه؛ فإن محاولته الثانية على شخصها وممتلكاتها ستكون مقرَّرة في الليلة التالية.
كان الناس في الفندق ينامون مبكرًا؛ لذا استطاعت السيدة أمور، بعد الثانية عشرة، العودة إلى سريرها.
قالت المرأة بابتهاج: «الأمر أكيد. هناك غرفة واحدة لم تُضَأ. من المؤكد أنها فارغة في مثل هذا الوقت من الموسم.»
قال أمور: «سأستأجرها غدًا.»
«وتتركني هنا دون وسائل الراحة الأساسية.»
«ومن الذي تعيَّن عليه الاختباء في تلك الأمطار التي استمرت طوال اليوم؟»
«ابتهِج … يا إلهي، لقد استمتعتُ الليلة ببعض الضحك. كانت هناك خادمة عجوز عانس، لكنها تركت نافذتها مفتوحة. هذا ما أسمِّيه أمرًا مبشرًا.»
ربما لم تكن السيدة أمور ستطرب كثيرًا لو علمت أن السيدة المعنية — التي كانت أخت المدير — ستلعب دورًا في دراما الآنسة لوفابل أكثر أهمية من مجرد كونه دورًا كوميديًّا خفيفًا.
في اليوم التالي، كان الزوار في الفندق مهتمين بسماع قصة رومانسية. إذ أعلن اثنان من الزوار الذين جاءوا إلى سويسرا للتسلق — كلاهما طالبان جامعيان وينتميان إلى «جماعة أكسفورد» — عن خِطبتهما، حيث كانا مغرَمين كثيرًا، لدرجة أنهما لم يستطيعا إخفاء سعادتهما.
بَدَت فيفا متحمسة بشكل خاص للأخبار. وتساءلت الآنسة لوفابل وهي تطالع حماسها: هل كانت تنتظر هي نفسها الزواج.
صاحت، وهي تبتسم للشاب الذي كان يشع سعادةً وهو يتلقى التهاني: «انظروا إلى عريس المستقبل. إنه مشرق.»
زفر بكنجهام من أنفه بازدراء.
وقال: «أيُّ شاب يتقدَّم لخِطبة في عطلة فهو أحمق. إذ من المؤكَّد أنه سيخلط بين أسلوب الفتاة في العطلة وفي غيرها. أعرف رجلًا خطب فتاةً أثناء رحلة بحرية. وفي غضون عام انتهى الزواج. وقد اعترف لي بعد ذلك أنه تقدَّم لخِطبة المشهد الرائع حينها جانبَ الفتاة؛ لكنْ كان عليه أن يتزوج الفتاة فقط، ولم يكُن معجبًا بجوانبها الأخرى.»
فسألتْه فيفا: «هل تُنَبِّهنا إلى ألَّا يحدونا الأمل، حتى تأتي لتطرق أبوابنا؟»
«لم أكُن أقصد سياقًا شخصيًّا. إضافةً إلى ذلك، لقد الْتقيت بالآنسة لوفابل في منزلها في لندن.»
تجنَّبت الآنسة لوفابل بكنجهام عمدًا طوال ما بقي من اليوم. صعدت المجموعة بأكملها إلى جبلِ بريج في فترة ما بعد الظهيرة، ومن هناك خرجوا في مسيرة شاقة. ولم يكُن هناك رقص في المساء؛ لأن التعب كان قد نال من الجميع. ولم يلاحظ أحد وجود ضيف جديد، حيث تناول الرجل الضئيل المنزوي عشاءه في المطعم ولم يظهر في أيٍّ من القاعات العامة.
ولم تضيِّع الآنسة لوفابل أيَّ وقت قبل الذهاب إلى السرير. إذ سارعتْ إلى تبديل ملابسها، وتجاهلتْ تقديم تحيتها الليلية للجبال من الشرفة. بعد وقت قصير من وضع رأسها على الوسادة، راحت في نوم عميق.
وفجأةً، فتحت عينَيها وهي تنتفض. إذ قالت لنفسها: «هناك شخص ما في الغرفة.»