المكنسة الكهربائية
خلال الساعات المبكِّرة، لم تكُن الآنسة لوفابل تنسى أبدًا أنها مالكةُ ثلاثة منازل. قد تصبح في وقتٍ لاحق من العاملين المساعدين؛ فتنجز أعمالًا أشق بابتهاجٍ وسرور، أعمالًا كانت إلسي أقلَّ قدرةً بطبيعتها على إنجازها؛ لكنَّ الآنسة لوفابل كانت دائمًا تتمهَّل وتستمتع وهي في المرحاض، وتتناول إفطارها في جوٍّ من الأُبَّهة والحظوة.
حين نزلَت على الدَّرَج المُسطَّح، كانت ترتدي رداءً منزليًّا طويلًا، لونه أصفرُ باهت، ومُزخرَف بأزهار برَّاقة. عزَّز شكلها، هذا من صفة الترف الفطرية فيها، وأوحى برخاء العيش مع السخاء. وقد أَضْفَت الشمس الساطعة عَبْر النافذة خلفها ما يُشبه الهالة الذهبية على شَعرها؛ مما جعلها تبدو كَرَبَّةٍ موسميةٍ تحمل أكاليل زَهرية، وتبدو منفتحة كذلك أيضًا على عقد صفقة في سوق الخُضَر.
وكعادتها، توقَّفَت الآنسة لوفابل أثناء نزولها الدَّرَج لتقدير جمال المنزل الأقرب إلى نفسها. فعلى الرغم من أنها أنفقَت مالًا أكثر على أثاث منزل لندن، فإنها وضعَت قدرًا كبيرًا من مالها في منزل البحيرة، بتركيبِ تدفئةٍ مركزية، وإعادة تصميم الحديقة وتأسيسها.
كان المنزل على الطراز الجورجي الجذَّاب، ومُغطًّى بألواح من الخشب الأبيض، وتصميمه ينمُّ عن رحابة مفرطة، وبه سلالم واسعة ودرَجٌ زائد عن الحاجة. وكان مُقسَّمًا إلى غرفتَي استقبال، وثلاث غرف نوم وحسب، لكنها جميعًا كانت كبيرة الحجم ومتناسقة الأبعاد. ولم يكُن أيُّ منزل من المنازل التي تملكها، يحتوي على غرفةٍ للخدَم؛ فيخفِّف من مستوى معيار الكمال لديها. فكانت هي وإلسي تختاران المكانَ الذي ستهجع كلٌّ منهما فيه، وتُغيِّرانه حسب الموسم، وهوى كلٍّ منهما.
في ذلك الصباح المُشرِق، بدا كلُّ شيء باعثًا على السرور للغاية. فكانت أرضية المنزل الخشبية تعكس ما بذلَت من «عناء» في تنظيفها. كما كانت هناك مرآة على الحائط، تعكس صورةَ مزهرية، بها أزهارٌ حديثة لنبات العائق بلون أزرق باهت. دلفَت الآنسة لوفابل، وهي تُدَندِن بلحن غير واضح، إلى غرفة تناول الطعام التي كانت أيضًا غرفة معيشة، وذلك بفضل مساحتها الكبيرة.
كانت غرفة الصالون تطلُّ على المرج الأمامي الذي تُظلِّله أشجار الزان. لم يكُن على ذلك المرج إلا القليل من الأزهار، منها البنفسج تحت النوافذ، ونباتات بصل مزروعة في العشب. لكنَّ غرفة الصالون كانت تمتدُّ بطول المنزل كله، وكان بها نوافذ في كلا طرفَيها.
ووفقًا لنظام الألوان العام، كان أثاث الغرفة باللون الأبيض يتخلَّله شيءٌ من الأخضر الباهت، كان هذا اختيارًا باهظًا، وجرى انتقاده في الأوساط القريبة منها. وكان لها مُبرِّر في ذلك بأنَّ الأثاث سيظلُّ نظيفًا وسيحتفظ بحالته الجيدة، رغم أنها كانت تُرجِع هذا إلى كدِّها في التنظيف، وليس إلى الحظ.
وبينما اجتازت الغرفة إلى حيث الطاولة، الموضوع عليها إفطارها في طبق إحماء للإبقاء عليه ساخنًا؛ أخذَت تُحدِّق إلى السجادة في إعجاب.
وقالت في نفسها: «لقد استفدتُ بالفعل من المكنسة التي اشتريتُها. ينبغي أن أشتري أيضًا واحدةً أخرى في منزل لندن. إنني إذا ما اقتصدتُ بشدَّةٍ في هذه الإجازة، ربما يكفي مالُ الإيجار لشراء واحدة.»
قطعَت الآنسة لوفابل قطعةً من الخبز وألقَت بفُتاتها إلى الطيور على المرج الأمامي قبل أن تسير عائدةً إلى النافذة الخلفية لتتأمَّل الحديقة. لقد حوَّلَتها من مكانٍ قاحل إلى حالتها السابقة، كمكانٍ ساحر من عالَمٍ قديم. وأمَّا البحيرة التي اشتهر بها المنزل فكانت قد تحوَّلَت إلى بِركة راكدة، يحيط بها سياجٌ قصير، وتُخيِّم عليها شُجيرات الصفصاف. وكما أَوْعَزَ لها البَنَّاء المَحَلِّي، مُلِئَت حفرة البحيرة بالماء، وزُرِعَت أوراق زنابق الماء في الخزانات الضحلة المغمورة، حتى إنها قامت ببعض ذلك بنفسها. كانت هذه الحديقة أيضًا تحتوي على مكان لزراعة الأعشاب، ورقعة لزراعة الورد كما يشتهر عنها، ورقعة تحتوي على نباتات مُعمِّرة، وكذلك الخضراوات التي تفوز بالكثير من الجوائز.
بينما كانت الآنسة لوفابل تنظر من النافذة، استنشقت رائحة اللحم المَقْلي الشهية، الذي كانت إلسي تُعِدُّه لنفسها على الإفطار. لم تكُن الخادمة قادرةً على مشاركة سيدتها في تناول الكلى المشوية بسبب كراهيتها ﻟ «الأمعاء»؛ الشيء الذي كانت الآنسة لوفابل تشير إليه بتفاخُرٍ غريب، كدليلٍ على ما تتمتَّع به إلسي من تهذيب ورِقَّة.
وحيث تذكَّرَت شهيتها المفتوحة، جلست الآنسة لوفابل إلى الطاولة وصنعَتْ لنفسها وجبةً كبيرة، فبدأت بحبوب الإفطار وانتهَتْ بالخبز المُحمَّص والعسل. وحين فرغَتْ أشعلَتْ سيجارة.
وجرَّاء صدفةٍ غريبة وعجيبة، كان فعلها هذا يتزامن مع فعلِ شابٍّ يافع ممدَّد في الفراش في شقَّةٍ لندنية كئيبة وقاتمة. شربَ الشاب محتويات كوبه المُتصدِّع، وشرعَ يُدخِّن سيجارة كإجراءٍ تمهيدي للقيام بالعمل.
كان مظهره يوحي بأنه شابٌّ عادي يُدرِك قيمة أن يكون المرءُ حسَنَ المظهر، ويلتزم بقواعد ذلك. وكان لحديثه لهجةٌ متداخلة، هي سِمةُ مَن ارتادوا المدارس العمومية، والتي يُمكِن لأيِّ أحد تستطيع أذنه الْتِقاط الصوائت أن يحاكيها، وحين كان يرتدي زِيَّه، كان يرتدي ربطةَ عنقٍ تُشبِه ربطات العنق المدرسية القديمة، كتلك التي يمكن للمرء الحصول عليها من مصدرها المباشِر، أو أن يشتريها من متجر.
كانت أسنانه بحالةٍ جيدة، وشَعره مصفَّفًا، وابتسامته لطيفة. وحين مدَّ يده نحو دليلِ الهاتف على الطاولة البالية المصنوعة من خشب الخيزران إلى جوارِ فراشه؛ لم يكن وجهه يوحي بالتأكيد بشيءٍ من النوايا الشريرة التي تسكن قلبه.
كان دليل الهاتف ذا غلافٍ أحمر، وقد فتحه على قِسم اﻟ «ل». تصفَّح الشابُّ الصفحات بأصابعه، ذاتِ الأظافر المُشذَّبة حديثًا، ومرَّ سريعًا على مجموعةٍ من صاحبات الاسم «لونج». كان بين الحين والآخَر يتوقَّف عند أحد الأسماء يتدبَّره ثم يرفضه، لكنَّ اختياراته لم تكُن عرَضيةً أو عفويةً كما يبدو. إذ كان خلفَ عملية الغربلة هذه هدفٌ مُحدَّد.
على الرغم من أنَّ دافعه في هذا لم يكُن شخصيًّا تمامًا، وبعيدًا عن كونه عداوة، فإن السيدة التي سيختارها لا بد أن تكون مُتمتِّعة بمؤهلاتٍ مُعيَّنة قبل أن يتَّجِه لها انتباهُه، ويقع عليها اختياره. لم يكُن ينبغي أن تكون عزباءَ أو أرملة فحسب، بل وألَّا تتمتَّع بحمايةِ أيِّ قريب ذكر. وينبغي أن تتمتَّع بأهميةٍ كافية لأنْ تكون مَطمَعًا للصوص، لكن لا ينبغي أن تكون ثرية جدًّا بأن يكون لديها عددٌ كبير من الخدَم والحشم. كما كان من الضروري أيضًا أن تكون قاطنةَ مكانٍ مُميَّز، لكنه غير عصري، تكون إنارتُه خافتةً، ولا تكثُر جولات رجال الشرطة فيه.
وعلى الأرجح أن الشاب فوَّتَ بعض المُرشَّحات المناسبات تمامًا بسبب نفاد صبره، حين انتهى من المرور على مَن كانت أسماؤهن «لونج» و«لورد»، في طريقه إلى مطالعة مَن كانت أسماؤهن «لوف».
انتبه الشاب فجأةً إلى اسم غير شائع، «لوفابل». كان الاسم يسبقه لقب «الآنسة»، الأمر الذي شجَّعه على الاطلاع على عنوانها.
كان المنزل رقم ١٩ بماديرا كريسنت، يقع في مكانٍ ما في القسم الشمالي الغربي لمدينة لندن. بدا من صورة المنزل أنه سليم، وأنَّ أمواج الموضة قد انحسرت عنه، وكان له درَجٌ فخم، وعلى رصيفه تتساقط الكثير من أوراق الشجر الرطبة.
قرَّر الشاب في تراخٍ وتباطؤ: «لا بأس بهذه. سأتبيَّن الأمر غدًا.»
في تلك اللحظة، شعرَت الآنسة لوفابل، ولسببٍ غير معلوم، بأنها قلِقة ومضطربة البال. وعلى الرغم من أنها لم تكُن تعلم مطلقًا أنها أصبحت مَدعوَّة كضيفةِ شرف إلى جريمة قتل؛ فإنها بدأت تمقُت فكرةَ تأجير منزلها في لندن.
كانت الفكرة الأساسية وراء امتلاكها لثلاثة منازل، هو أن تشعر بالملكية الشخصية. لا بد أن تكون المنازل الثلاثة شاغرةً ونظيفة ومُزيَّنة، وعلى استعدادٍ لأن يستقبلها أيٌّ منها متى شعرَتْ بأنها تريد تغييرَ المنظر من حولها.
كانت الآنسة لوفابل قد خفضت معاييرها بتأجيرها لجناحها على الشاطئ طَوال أشهُر الصيف. من ناحيةٍ، كانت فخورةً بحقيقة أن الطلب عليه كثيرٌ وبشكلٍ دائم. وكان هذا نتيجةَ سياسةٍ محدَّدة من جانبها، تتمثَّل في: تركيب ثلَّاجة، والاستخدام المترف لطلاء المينا الأبيض.
لكن مع أنه كان صحيحًا أنها لم تكُن تُعير الساحل الجنوبي اهتمامًا خلال موسم العطلات؛ فإنها كانت تشعر دائمًا بالذنب بشأن تأجيره. فقد استغلَّت بذلك شيئًا كان شخصيًّا بشدَّة لها؛ منزلها على البحر. كان الأمر تقريبًا كما لو كانت قد استفادت من تجارة الطلاء الأبيض.
وبصرف النظر عن شعورها بالعار، كانت تشعر لسببٍ غامض أنَّ هؤلاء الأشخاص السَّمِحين، الذين يدفعون لها بسعادةٍ غامرة أكثر من اللازم مقابل الإقامة المؤقتة، سيتركون لا محالة شيئًا من شخصيتهم خلفهم. لم يعُد جوُّ الجناح يوحي بشخصيتها وحدها، بل كان ممزوجًا بشخصياتِ «براون، وسميث، وروبنسون».
قطَّبَت الآنسة لوفابل جبينها في حيرة وهي تُعيد قراءة رسالة وكيل العقارات. كان الوكيل قد أشار عليها بأنَّ عميلًا يرغب في تأجير منزلٍ عائلي مفروش في ضاحية من ضواحي لندن لمدة شهر تقريبًا. وأضاف أنها إذا كانت مُستعِدَّة للنظر في العَرض؛ فإنه يعتقد أنَّ الميجور براند هذا سيكون مستأجرًا مُستحسَنًا.
مضَت دقائق حاسمة، بينما كان مستقبلها مُعلَّقًا على المحكِّ. في تلك اللحظة، كانت الآنسة لوفابل آمِنة. كانت الآنسة لوفابل، صاحبة منزل البحيرة بهايفيلد، تعيش في عالَم مختلف عن عالَمِ رجلٍ يعيش في شقَّةٍ قاتمة في شارع تشارينج كروس. وما دامت باقية حيث هي؛ فإن مسافةً هائلة كانت تفصل بينهما.
كان التهديد قاصرًا على الآنسة لوفابل التي تسكن في المنزل رقم ١٩، بماديرا كريسنت بلندن، في القسم الشمالي الغربي من المدينة.
ومع ذلك، كان هناك حدٌّ زمني لمرحلة الخطر، حتى في حالتها. فإذا زار هذا الرجل المنزل في لندن في اليوم التالي وفقًا لجدوله، ووجده مغلقًا وغير مأهول؛ فليس من المُرجَّح أن يضيع الوقت في رحلةِ عودةٍ قد تجذب الانتباه إليه. فبالنسبة لأغراضه، كانت أيُّ امرأة مثل كلِّ الأخريات؛ ودليل الهاتف كان مليئًا بأسماء أخرى.
شعرَت الآنسة لوفابل بأول النزعات نحو التنظيم، وهي ما تزال بعيدةً عنه بملايين العوالم، وآمِنةً في ملاذها ذي الألوان الخضراء والبيضاء، المتمثِّل في غرفة الطعام. كانت تعتقد أنَّ لديها موهبةً إدارية، نظرًا لحقيقة أنها دائمًا ما كانت تتخذ قرارًا سريعًا وتلتزم به، بغضِّ النظر عن العواقب.
في هذه الحالة، تبيَّنَ أنها ينبغي أن تسافر إلى سويسرا مباشرةً من لندن، من أجل توفير ثمَن تذكرة قطار مزدوجة. ولكن بينما كانت هذه الرحلة ضروريةً؛ حيث إنها لن تقبل بأيِّ مستأجر قبل أن تراه وتوافق عليه أولًا، كان من الضروري تقصيرُ مدة زيارتها قدرَ الإمكان. فهناك دائمًا نفقاتٌ إضافية تنطوي على إدارة شئون منزلَين منفصلين، على الرغم من أنه لن يكون من المُجدي لها نقلُ عائلتها إلى المدينة لفترة محدودة جدًّا.
أخرجت الآنسة لوفابل مفكرتها الصغيرة، وشرعت تحسب التواريخ. كان اليوم هو الحادي عشر من شهر أغسطس. لو أنها سافرت إلى لندن في اليوم الثاني عشر من الشهر، ينبغي لثلاثة أيام أن تكون كافيةً للانتهاء من أعمالها. من ثَم ستكون مستعدَّة لأن تبدأ إجازتها من اليوم الخامس عشر من الشهر، الأمر الذي سيسمح لها بقضاء أسبوعَين كاملَين خارج البلاد.
وعلى الرغم من أنها لم تُلزِم نفسها بأيِّ قرار، فقد بدأ عقلها يعمل بتُؤَدةٍ شديدة. أولًا، لا بد أن تهاتف وكيلَ العقارات في لندن وتطلب منه أن يدبِّر موعدًا مع الميجور براند في الصباح التالي. وحين تتسلَّم دفعة المال المدفوعة مُقدَّمًا — والتي تشترطها دائمًا — فسيتعيَّن عليها الانتظار حتى تمرِّر الشيك الذي سيُحرِّره لها إلى الفرع المَحَلِّي لبنك لندن، والذي تملك فيه حسابًا ائتمانيًّا. بعد ذلك سيكون كلُّ شيء على ما يُرام، حيث تستطيع شراء التذاكر من كوك.
بحلول ذلك الوقت، كان كلُّ شيء قد أصبح مُرتَّبًا في ذهنها بصورةٍ تامة، حتى إنها باتت تنظر للأمر وكأنه خطةٌ صارمة. وانتظرت حتى أصبحت الساعة التاسعة والربع، قبل أن تتصل بوكيل العقارات، وحينها انزعجت عندما وجدَتْ أن العاملين وحدهم هم الموجودون في المكان.
وبعد أن أمْلَت عليهم رغباتها بوضوح كما يُمْلِي زعيمٌ طاغية إنذارَه الأخير، خرجت تسير نحو الحديقة، فوجدت إلسي هناك.
ومع أن الوقت كان لا يزال مبكرًا، فإن الندى كان قد جفَّ حتى في الأماكن الظليلة، وكان الهواء الدافئ يبثُّ الرائحة المنبعثة من الخُزامَى ونباتات رقيب الشمس من رقعة النباتات المُعمِّرة. وكانت الأزهار المتفتِّحة تُسقِط بَتلاتها على الأحواض في كومةٍ مختلطةٍ من الألوان: القرمزي والأصفر والزهري. كما كان هناك بُقَع من الماء الصافي بين أوراق الزنبق في الحوض وقد انعكست عليها السماء في بريقٍ له لون أزرق مُتَّقِد.
لم تكُن الخادمة ظاهرةً لعينها، لكن كان بوسع الآنسة لوفابل أن تسمع صيحاتٍ من ضحكٍ أجَش، تختلط بنباح كلبٍ سعيد ومُتحمِّس. ولمَّا تتبَّعَت الأصوات، قادتها عَبْر ممرٍّ مُقَنطَر من خشب الصنوبر المُقطَّع؛ فوجدت إلسي تتمايل على العشب ومعها الكلب سكوتي والقطُّ ديفيد.
وبينما اقتربَتْ سيدتها، نهضَتْ إلسي على يدَيها وركبتَيها ورفعت نظرها من خلال شَعرها الذي كان يُغطِّي عينَيها وكأنه لبدةُ أسد؛ وفي لحظةٍ نهضَتْ واقفةً وعدَّلت كل خصلة من خصلات شَعرها المتموِّج، وكذلك جوربها المصنوع من الحرير الصناعي.
قالت إلسي باحتشام: «ديفيد يرقص رقصةَ لامبيث.»
فردَّت الآنسة لوفابل بتلقائية: «أوه. إلسي، أنا في انتظار مكالمة خارجية. إنْ سارت الأمور على نحوٍ مُؤاتٍ، فسنكون مشغولتَيْنِ لبعض الوقت. إذ سيتعيَّن عليَّ أن أحزم أمتعتي اليوم من أجل السفر إلى سويسرا، وسيَتعيَّن عليكِ أن تنسخي لائحة محتويات منزل لندن.»
بدا التجهُّم على وجه الفتاة، رغم أن هذه المهمة كانت مرغوبة لها؛ لأن إلسي كانت تشعر بالفخر بخطِّها المُنمَّق.
فسألَتْها إلسي: «ألن تأخذينا معكِ؟»
أجابتها الآنسة لوفابل: «نعم يا إلسي. سيتعيَّن عليكِ الانتظار في المنزل، لا تَبرحيه.»
«حسنٌ يا سيدتي. هل ستغيبين فترة طويلة؟»
«نحو ثلاثة أسابيع. لكني سأطلب من الآنسة بِيت أن تُعرِّج عليكِ وترى إنْ كان سكوتي وديفيد بخير. وسيرشدك الكابتن براون بشأن الأزهار، وإنْ كان هناك خضراوات فائضة فسيُسَرُّ الأب بتوزيعها. لن يكون لديكِ ما يدعو للقلق. وأعرف أن بإمكاني وضع ثقتي بكِ لمتابعة الأمور.»
«شكرًا لكِ يا سيدتي.»
كانت إلسي تفهم الوضع تمامًا. وعلى الرغم من أن سيدتها أعربَت عن ثقتها الكاملة فيها، فإن مُحقِّقًا من دائرة تحسين المجتمع في القرية يتمتَّع بغرائز مُدرَّبة؛ كان سيراقبها.
ألقَت الآنسة لوفابل نظرةً على وجه الخادمة المُتجهِّم، ودغدغت ديفيد على بطنه المستديرة الممتلئة.
وعلَّقَت تقول: «يقول ديفيد إن التجهُّم لن يُفضي بكِ إلى شيء.»
انفجرت إلسي قائلةً: «لا أريد شيئًا، ولكنني لا أحب أن تذهبي دون أن أكون موجودة لأعتني بكِ. كل الأمور الفظيعة تحدث في الخارج … قد تُقتَلين.»
«وقد أُقتَل في إنجلترا أيضًا، إذا كان ذلك ما تُخطِّطين له.»
«لن يحدث ذلك إذا كنتُ موجودة لأفتح الباب للغرباء ثم أصرفهم بعيدًا.»
«ولكن لماذا قد يرغب أحدٌ في قتلي؟ أنا لا أتجوَّل مرتديةً الفرو والألماس. ولا أحد يحمل ضغينةً ضدي.»
«هناك مجرمون مُختَلُّون عقليًّا. هؤلاء لا يُميِّزون.»
«ولكن على المرء أن يثير حفيظتهم أولًا. عادةً ما يتلقون دعوةً إلى المنزل من قِبَل النساء المسكينات اللاتي يسقطن ضحايا لهم.»
«ليس في الأماكن المنعزلة.»
«لن أذهب إلى الغابة بمفردي. ستتمثَّل المشكلة في العثور على مكان في جريندلوالد، لا يكون مليئًا بالسيَّاح … لا تكوني سخيفة يا إلسي. تخلَّصي من هذا الشعور.»
تحدثَت الآنسة لوفابل بنبرةٍ مُنتعِشة للغاية لتُخفي حقيقةَ أنها تأثَّرَت بولاء إلسي وتفانيها. وحين نظرَت إلى وجهها الشاحب وقوامها النحيل شعرت فجأةً بغصةٍ من فكرة الافتراق عنها.
فكَّرَت في نفسها: «لولا أنني أتدبَّر شئون ثلاثة منازل، لاستطعتُ تحمُّل تكلفة عطلة سعيدة لثلاثتنا.»
وبينما كانت في طور التراجُع عمَّا في ذهنها، سمعَتْ رنين جرس الهاتف داخل المنزل. جاءت مكالمة من لندن تخبرها أن الميجور براند سيقابلها ظُهرَ اليوم التالي في منزلها في لندن.
كانت هذه شهادةً دامغة على قدراتها في التنظيم، حتى إنها أغلقت باب قلبها أمام العواطف. فقرَّرَت مغادرة منزل البحيرة والسفر إلى المنزل رقم ١٩ بماديرا كريسنت، بلندن، في الجزء الشمالي الغربي من المدينة.