كابوس
عندما رفعت نفسها على مرفقٍ واحد وحملقتْ في الظلمة، أدركت الآنسة لوفابل أن أنفاسها كانت تتسارع في حين أن ساعدَيها يخزانها، كما لو كانت تقف في مواجهة عاصفة رعدية. ولكنْ، على الرغم من أنها شعرت بالقلق والارتياب، فإنها كانت مرتبكةً لا خائفة. لم تستطع أن تفهم لماذا راودها هذا الانطباع بوجودِ دخيل. فمهما كان السبب — صوت خشخشة، أو زفير، أو حركة في الهواء — فإنه كان غيرَ محسوس على الإطلاق، ومجرَّد حيلة من حيل الخيال.
أضاءت الآنسة لوفابل المصباح ونظرت في أرجاء الغرفة. كانت الغرفة غير مرتبة جدًّا؛ لأنها تعجلت الخلود للنوم فألقتْ بملابسها على الأثاث والأرضية، ممَّا أعطى انطباعًا بأن الرياح قد عصفتْ بحبل غسيلها. ولكن بصرف النظر عن الفوضى، لم تستطع اكتشاف أيِّ شيء غير عادي.
فقالت في نفسها: «لا شيء هنا. ما الذي جعلني أجفل بهذا الشكل؟ أتساءل إن كان تأثير الارتفاع قد بدأ يظهر عليَّ مرة أخرى. أنا على ارتفاع حوالي ثلاثة آلاف قدم.»
كانت النافذة الفرنسية المفتوحة تعرض منظرًا يتألَّف من سماء الليل والجبل. ففكرت لِلحظة في إغلاق الستائر، ولكنها نبذت الفكرة. فكلُّ الزوار الذين تطل غُرَفهم على الشرفة كانوا فوق مستوى الشبهات، بينما كان الباب الخاص بها، والذي يؤدي إلى الممر، مغلقًا.
وتساءلت في نفسها: «هل ينبغي أن أنهض وأفتِّش الغرفة؟»
كان هناك مكانان فقط يمكن لأي شخص أن يختبئ فيهما؛ داخل خزانة الملابس وتحت السرير. عندما تخيلت نفسها منحنية لأسفل لتبحث عن رجلٍ؛ استحضر ذهنها دعابات المسارح الموسيقية القديمة، حتى إنها بدأت تضحك على الفكرة في حد ذاتها. وبينما كانت تحاول بذل الجهد لمغادرة فِراشها الوثير، بدأتْ أهدابها ترتخي وشرعت في التثاؤب.
وأنذرت نفسها: «إذا لم أستلقِ مرةً أخرى في حين أنني ما زلت أشعر بالنعاس؛ فسيبدأ عقلي في العمل، وبعد ذلك سأظل مستيقظة لساعات.»
فأطفأت المصباح وأغمضتْ عينَيها وأرخَت عضلاتها. ولكنْ قبل أن تروح في النوم، كان عليها أن تطرد اثنين من الأوهام. الأول كان شعورًا بأنها لا تستطيع تذكُّر أنها فتحتْ حقيبتها أو أيَّ درْج، بما يتناقض مع الأدلة، وذلك رغم أنها لم تُعِد تجميع ملابسها المتناثرة؛ بل تركت كلَّ قطعة ملقاة حيث سقطت. أما الثاني فكان تذكيرًا غيرَ سارٍّ بغرفة فارغة تفتح أيضًا على الشرفة. كان باب هذه الغرفة على الممر مغلقًا؛ ولكن ربما سرق أحدُ موظفي الفندق المفتاح وخرج يبغي السرقة.
تطفُّل هذه الأفكار على ذهنها حرَمَها من الراحة الحقيقية. فمنذ أن جاءت إلى جريندلوالد وقد اجتمع العمل الجسدي الشاق مع هواء الجبل فجعلاها تنام نومًا عميقًا. لكن الآن، كانت سبعةُ أثمان حواسِّها مغمورةً تمامًا مثل جبلِ جليد؛ أمَّا الحاسة الوحيدة الباقية — والتي كانت يقِظة ومتحفزة — فكانت تقاوم النوم.
وبعد حلمٍ مُربِك وغير مريح بأنَّ هناك مَن يتتبعها ولا تستطيع رؤيته، استفاقت فجأةً على وقْع أصابع تلامِس وسادتها. كان هناك شخصٌ ما يميل عليها في الظلام. تحولت صدمتها إلى ردِّ فعل فوري حين أدركت حقيقةَ الموقف. إذ صرختْ صرخة تلقائية، ووجَّهت ضربة للجسم المعتِم بكل ما اكتسبتْ من قوة عضلية من تلميع الأرضيات.
أتعبها هذا الجهد الذي بذلتْ وآلمتْها يدها. وبينما كانت تتنفس بصعوبة من الألم والغضب، أضاءت المصباح. لكنها كانت متأخِّرة جدًّا؛ فلم ترَ الرجل، ولكنْ عندما اندفعت إلى الشرفة، اصطدمتْ ببكنجهام.
كان شعره أشعث ويرتدي رداءً داكنًا. وقبل أن يتمكَّن من الكلام، صفعَت الآنسة لوفابل وجهه بقوة.
وقالت: «هذا سيُعَلِّمك ألَّا تدخل إلى غرفتي.»
فأمسك بيدها عندما كانت على وشك تكرار الصفعة.
وصاح في سخط: «ليكنْ جزائي الشنق لو كنتُ قد دخلتُ إلى غرفتكِ. لقد سمعتُ صرختكِ وظننتُ أنكِ قُتلتِ. لكن يبدو أن الأمر غير ذلك.»
«أوه … آسفة. لم … لم أكن في كاملِ وعيي عندما صفعتُك. ولكنْ، حقًّا، كان هناك رجلٌ في غرفتي.»
«هل رأيتِه؟»
«لم أرَه تمام الرؤية. كان الظلام يلفُّ المكان.»
بحلول الوقت الذي انضم فيه الضيوف الآخرون إليهما في الشرفة، بدأت الآنسة لوفابل تشعر أنها جعلتْ نفسها تبدو بمظهر الحمقاء. وقد أضافوا إلى ما بها من ارتباك، بالدخول إلى غرفتها الفوضوية والبحث فيها، لإثبات أنها كانت ضحيةً لكابوس وحسب. وقبل أن يعودوا إلى غرفهم كانت شِبه مقتنعة.
لم يكُن جميع الضيوف موجودين في الشرفة. بين الغائبين كانت السيدة فورس، والتي أرسلت كشَّافتها أوليفيا لإبلاغها بالمستجدات، في حين أنها كانت تحفظ أسرارها الخاصة. بقيت أيضًا أخت المدير في سريرها وتحملت الفوضى في صمت وتجهم. كانت تحتل موقعًا هامًّا في العالم الأكاديمي، وجاءت إلى سويسرا للتعافي بعد فصل دراسي شاق.
وبينما مرَّت الفتيات بنافذتها المفتوحة وهنَّ في طريقهن إلى غرَفهن، سمعتْ تعليق فيفا لأوليفيا.
«لا يمكنكِ أن تلومي رجلًا يجعل من نفسه أضحوكةً إذا كان يتوقَّع ترحيبًا.»
سجلت السيدة التعليق في ذهنها للرجوع إليه في المستقبل.
سرعان ما أصبحت الشرفة فارغة وهادئة مرة أخرى. ولكنْ كان هناك شخصٌ لديه نظر ثاقب — تصادف أنه كان ينظر في الاتجاه الصحيح — رأى شخصًا يتسلل من حديقة الفندق وعبَر الطريق إلى النُّزل المظلم.
كان الشخص المراقِب السيدةَ أمور، تعود إلى غرفة نومها في الطابق الأرضي عبر نافذتها.
في صباح اليوم التالي، تحت ضوء الشمس الساطع والهواء الجبلي المنعش، الْتَقت السيدة أمور بزوجها في مخبز صغير على الشارع الرئيسي. جلس الزوجان على طاولة مطليَّة على الرصيف، وكانا يشاهدان تيار السيَّاح المتضائل، حين كانا يرشفان شراب التوت الأحمر، للحفاظ على تقمصهما شخصيةَ المتنزِّهَين المسالِمَين. كانت المرأة لا تزال ترتدي رداءً من نسيج الجورجيت الأسود، مزينًا بفرو القرد، وصندلًا بكعبٍ عالٍ مكشوف الأصابع، كاشفةً عن أظافرَ قرمزية، لكنْ كان يبدو عليهما التعب والاستياء من فشلهما.
اشتكت السيدة أمور قائلةً: «كنت مزروعة في تلك الحديقة اللعينة، منتظرةً زمنًا طويلًا أن تُسقِط الأشياء. ما الذي حدث؟»
فأجاب أمور متذمرًا: «استيقظَتْ ولكمتْني في كِليتي.»
«ولماذا لم تحاول مرةً أخرى؟»
«لكي تكون في انتظاري بالقضيب الحديدي في المرة القادمة؟ مستحيل.»
«حسنًا … متى سننفذ؟»
«الليلة. ومن المؤكَّد أنها ستأخذ حذرها. كانت العلبة تحت وسادتها … لن تشكَّ فيَّ. وأنا سأتوارى. لقد طلبتُ أن يجلبوا قهوتي إلى غرفتي هذا الصباح.»
حكَّت السيدة أمور أنفها وهي تفكِّر.
ثم قالت متوقِّعةً: «ستغلق نافذتها الليلة، إلا إذا كانت مجنونة.»
فوافقها زوجها يقول: «من الآمِن أن تفعل ذلك. لكنني لن أدخل من النافذة. غرفتها بجوار غرفتي، وبينهما بابان موصلان. كلاهما مغلق بالطبع، والمفاتيح غير موجودة. سأتحصل على سلك معدني هذا الصباح، وإذا لم أستطع فتحَ تلك الأقفال سأطرح كل شيء وأنضم إلى الكنيسة.»
ثم لمعتْ عيونه بشراسةٍ وهو يُضيف: «سأحضر أدواتي معي وأقوم بالمهمة الليلة.»
نظرت السيدة أمور إليه بدهشة؛ لأنهما كانا لصَّين يتسمان بالجبن، لا يجازفان أو يخاطران، بل يفضِّلان استغلال الفرص التي يوفِّرها الآخرون، الذين يكونون قد قاموا بالفعل بالمخاطرة الأولية.
فحذَّرته: «قد يتطور الأمر ليصبح قتلًا غير عَمْد.»
«وقد لا يحدث. لقد درستُ الأمر. إنها تنام نومًا ثقيلًا في البداية. لقد تأخرتُ الليلة الماضية.»
«هل تشخر؟»
«كلَّا؛ لكنها تتنفس بعمق. ينبغي أن أعرف الليلة. سأضربها بهراوة قبل أن أبدأ المهمة … إنها آتيةٌ بصحبة رجل.»
أدارا كلاهما رأسه، وراحت عيونهما ترقُب نافذة متجر المعجنات، حيث مرَّت بهما الآنسة لوفابل وبكنجهام. لم يلاحظ أي منهما الزوجَين؛ إذ كانت الآنسة لوفابل تثبِّت نظرها على الجبال، حين كان بكنجهام يُشعل غليونه.
وبينما كان أمور يحملق فيها، كانت نظراته على ظهرها القوي وساقيها المستقيمتَين المُسْمَرَّتَين تنمُّ عن غيظ. لم تكن ترتدي قبعة، وكان شعرها يتلألأ في ضوء الشمس. وجَّه أمور في خياله ضربةً لذلك الرأس الجميل … ورآه وهو ملطَّخ ببقع الدم واستنشق نفَسًا عميقًا ينمُّ عن الرضا.
لم تُظهِر الآنسة لوفابل أيَّ أثر لمَا أصابها من اضطراب ليلة أمس وهي تصعد بسهولة على المنحدر الحاد. كانت عيناها الزرقاوان هانئتَين وسعيدتَين، تعكسان انتعاش رُوحها. كانت قد تناولت الإفطار مبكرًا لتجنُّب تشهير غير مرغوب فيه.
وقالت تعترف لبكنجهام: «أشعر أنني كنت حمقاء جدًّا ليلة أمس. يبدو أن كل مَن بالفندق يظنون أنني كنت أحلم.»
فقال يصحِّح لها: «نصف الفندق فقط. فالنصف الآخَر يظن أنني اقتحمتُ عليكِ الغرفة.»
«حمقى.»
«ما رأيكِ أنتِ فيما حدث … إن كنتِ قد كَوَّنتِ أيَّ رأي؟»
قطَّبت الآنسة لوفابل جبينها وهي تفكِّر، حين تجول ببصرها في الأفق.
وأجابته: «أظن أنه كان هناك الْتِباس. أخبرني أحد أولاد وارتون، هذا الصباح، أنه يوجد رجل في الغرفة المجاوِرة لغرفتي. وصفه بأنه ضئيلُ البنية. من المحتمَل أنه تجول في الشرفة، لينظر إلى القمر أو الجبال، وأخطأ بابي المفتوح ببابه. إن كان قد فعل ذلك، فقد ذكَّرتُه بالمكان ونبَّهتُه بعنف. فقد ضربتُه بجنون.»
لم يشاركها بكنجهام الضحك. إذ كان يستمع بتركيز وهي تتحدث.
«الأمر الغريب هو أنني استيقظت قبل ذلك، وظننتُ أن هناك شخصًا في الغرفة. أتعرف ذلك الشعور، عند الشعور بأن في المكان أحدًا ما؟»
أومأ بكنجهام برأسه في حين أن الجدية بدت على شفتيه.
وقال لها: «عديني أنكِ ستُغلقين النافذة الليلة.»
سألته: «تقصد خزانة اللحوم تلك؟ لا أستطيع النوم دون هواء.»
«إذن بدِّلي غرفتكِ.»
«كلَّا، لا عليك. سأضع كرسيًّا أمام النافذة، وسأضع أجراس البقر الخاصة بي. إذا حاول أحد الدخول، فسيوقظني الضجيج.»
«ليست فكرة سيئة. ومع ذلك، كنت أتمنى ألا أغادر الليلة.»
علَّقت الآنسة لوفابل: «سيبدو الحال غريبًا من دونك.»
شعرت لوفابل بالذنب من شعورها بالراحة؛ لأنها كانت ترحب بفرصة العودة إلى سياسة الانعزال التي تتبعها، وفكاكها من التورط العاطفي. وعلى الرغم من أنها وعدتْ بعدم الكشف عن هوية فيفا مبكرًا؛ فإنها لم تستطِع مقاومة طرح الموضوع. في الوقت الحالي، كانت تشعر بالامتنان لفيفا بسبب طريقتها الماهرة في إزالة أبرز ما كان ظاهرًا للناس عندما اقتحم الضيوف الآخرون غرفةَ نومها الفوضوية بشكل مخزٍ ليلة البارحة.
فسألتْه: «أصحيح أنكَ لا تحبُّ سيدات الأعمال؟»
أجاب بكنجهام: «أنا لا أعرف سيدةَ أعمال.»
«ستعرف … ستعرف. كيف ستشعر إذا تزوجتَ سيدة أعمال وكانت شابَّة وجذَّابة وقد عملتْ على تأسيس عملٍ رائع بذكائها وجهدها؟»
«سأعتني بها. وسأعتني بدفاترها وسجلاتها. لا ينبغي أن يكون هناك أسرار بيننا. أهي أنتِ؟»
«كلَّا.»
«إذَن لماذا تسألينني؟»
«لأن المرء لا يعرف ما يخبِّئه له حظه.»
ثم سارا قليلًا في صمت كسره بكنجهام.
إذ سألها فجأة: «ما اسمكِ؟»
صُدِمَت الآنسة لوفابل قليلًا من السؤال المفاجئ. كانت قد اعتادت أن تفكِّر في نفسها من حيث اللقب، وحتى عندما أخبرتْه به شعرت بالشك في هويتها.
فارتسم على وجهه تعبير ينمُّ عن استياء.
وقال معترضًا: «كلَّا. كلَّا. سأدعوكِ «فلورا».»