نقطة المباراة
لم يرَ المدير أخته في ذلك اليوم حتى الْتَقيا لتناول الغداء. وقد لاحظ على الفور العلامات المألوفة للأرق في ملامحها، التي كانت تنم عن الإرهاق، وعينَيها الغائرتَين.
فسألها: «ألمْ تنامي جيدًا؟»
أجابته: «كلَّا. كان هناك الكثير من الأحداث المثيرة في الليل.»
على الرغم من أنها كانت تشعر بالتعب والانفعال، فإنها حاولتْ أن تعطي أخاها تقريرًا غير متحيز عمَّا حدث.
فأخبرتْه: «لا ينبغي ألَّا تستنتج أنني أُلقي بأي تعليق على شخصيةِ الفتاة. فهي تبدو لطيفة جدًّا. لكنْ للأسف، يبدو أنها تجذب انتباهًا غير مرغوبٍ فيه. قد تكون لهاتَين الساقَين العاريتَين علاقةٌ بذلك؛ وليس معنى هذا أن هناك أيَّ ضرر في ارتداء السراويل القصيرة.»
فارتسمت ابتسامة على وجه المدير الصارم.
وقال: «كنت أشعر بالخجل بشأن ساقاي عندما ارتديتُ الجوارب أول مرة. والآن أنسى أنني لا أرتدي سروالًا. ربما اعتادتْ ارتداء السراويل القصيرة لدرجة أن الأمر لم يعُد يثير انتباهها … ومع ذلك، لا أحب فكرة قضائكِ الليالي في نومٍ متقطع.»
وافقتْه أخته، قائلةً: «ولا أنا. لا تقلق. أنوي اتخاذ بعض التدابير في هذا الشأن.»
جرتْ مقابلة السيدة مع مالك الفندق بعد الغداء. بينما كانا يتحدثان، نزلت الآنسة لوفابل الدرَج المسطَّح إلى الصالة محدِثة قعقعةً أثناء نزولها.
فتقدَّم المالك لِلقائها.
«يُحزنني بشدة أن أعرف أنكِ تعرضتِ للإزعاج الليلة الماضية. لم يحدث أن وقع مثلُ هذا الأمر من قبل في فندقي. لا أستطيع أن أفهمه على الإطلاق.»
وافقَت الآنسة لوفابل بنبرةٍ صارمة: «ولا أنا. مثل هذا الأمر لم يحدث لي من قبل في أي فندق.»
رأت أخت مدير الفندق أن الوقت مناسبٌ للتدخل.
فقالت: «لا بد أن الأمر غيرُ مريح للغاية. الأمر المهم هو تجنُّب تكرار هذا الإزعاج. يتساءل أخي إنْ كنتِ تشعرين براحة أكثر في غرفته. إنها في الخلف وليس بها شرفة. إذا راقت الفكرة لكِ، فسيبدِّل غرفته معكِ.»
شعرت الآنسة لوفابل للحظة أنها تميل لرفض الاقتراح. إذ كان التغيير يعني فقدانها لمنظر الجبال. ولكنْ، بينما كانت مترددة، أدركتْ فائدةَ القدرة على النوم دون ترقُّب متسلِّل محتمَل.
فقالت: «شكرًا لكِ. سيسرُّني أن أقبل عرض أخيكِ. بصراحة، سيكون الطرف الأكثر استفادة من الصفقة؛ لأن غرفتي تطلُّ على منظر ساحر. لكن يهمني أكثر أن أنام نومًا عميقًا.»
وافقتْها أخت المدير بنبرةٍ جافة وقالت: «هذا رأيي أنا أيضًا.»
وحيث كان كلٌّ من المدير والآنسة لوفابل يحوزان الحد الأدنى من الأمتعة، سرعان ما جرى تبديل الغرفتَين. لم يعرف أمور شيئًا عن ذلك، حيث كان يأوي إلى النُّزل خلال النهار، خوفًا من أن تتعرَّف عليه الآنسة لوفابل وتشكُّ في أنه قد تبعها. وكان قد ابتاع كلَّ حاجاته ولوازمه واستلقى على سريره يدخن حتى يخلو له الجو فينسلُّ عبر الفندق ويعمل على فتح أقفال غرفة النوم.
وبوصف زوجته ضابطةَ استخباراته، كانت تجلس عند النافذة تراقب الفندق من خلال نظاراتها الميدانية. وفجأةً صاحت صيحةً رفيعة.
وأعلنت: «أنا متأكدة أنها بدَّلت غرفتها. لم أرَها ولو مرَّة واحدة. والآن هناك قسٌّ يقف عند نافذة غرفة نومها. يدخن الغليون أيضًا.»
فسأل أمور بعد فاصل من الألفاظ البذيئة المناسبة: «إذَن ما العمل؟»
قالت زوجته على الفور: «لقد انتهى عملك بالفندق. لا شيء تفعله هناك. ستوصد بابها، ولا يمكنك المخاطرة بأن يُلقى القبض عليك في الممر … لكنها ستحمل المجوهرات معها. فهي لن تتركها على طاولة الزينة لتنظفها عاملة تنظيف الغرف بالمسحوق.»
فقال أمور موافقًا: «في حقيبة حول رقبتها. أو في جيوب سرية في سروالها. سيتعين علينا تتبعها عندما تكون وحدها.»
بدا هذا الاحتمال بعيدًا جدًّا عن الآنسة لوفابل. كان يومها مضطربًا بسبب رحيل بكنجهام إلى إنجلترا. ولم ترغب في الخروج في نزهة منفردة — إذا كان ذلك ممكنًا — حيث كان الوقت المتاح له قصيرًا جدًّا. وعندما عادت إلى الفندق لتناول الغداء، كانت هناك رسالة جعلتها تشعر باضطراب أكثر. كانت من إلسي، وعندما قرأتها قررت أن تجعل عودتها قريبة جدًّا.
«توقف الكابتن براون عن عمليات القتل [هكذا كتبت الخادمة] التي كان يرتكبها. يقول الآن إنه يريد أن تكون الحديقة مليئة بالزهور من أجلكِ. وقد نبَّهتُه إلى أنني أريد ملء مزهريةٍ في المنزل بالزهور ترحيبًا بكِ، وأنكِ إذا وجدتِ أن شيئًا ليس على ما يرام فستعرفين ما ينبغي فعله.»
ابتسمَت الآنسة لوفابل من الإشارة إلى أنها تُستخدَم في تهديد الكابتن براون والسيطرة عليه. ثم ظهَرَ الحنين في عينَيها عندما قرأت الملاحظة المذيَّلة.
«زجاجات الماء الساخن في سريركِ. وهناك اثنتان أخريان خارجه. يمكنكِ تخمين أسمائهما. إنهما يُرسلان إليكِ أشواقهما.»
فقررت الآنسة لوفابل: «حان الوقت لأعود إلى البيت. لم تكُن هذه عطلةً سعيدة، لكنني لن أنهزم. سأعود مرةً أخرى، قبل الآخرين.»
وبينما كانت أفكارها تجنح بها إلى إنجلترا، كانت إلسي تعيد قراءةَ آخِر رسالة لها على مسامع جمهور متضجِّر يتألَّف من سكوتي وديفيد. كانت هناك نبرة حسم في الرسالة، تبدو كأنها تقرِّب سيدتها من العودة إلى البيت.
«ستكون هذه آخر رسائلي [هكذا كتبت الآنسة لوفابل]. ولا تراسليني بعد اليوم. سيكون عنواني غيرَ محدد؛ فقد أذهب إلى باريس. لكن انتظروني لتناول الشاي معًا في منزل البحيرة في الرابع عشر من سبتمبر. أتمنى لو كان بوسعي أن آتي إليكم مباشرةً. تذكري أن يكون سكوتي وديفيد حاضرَين لاستقبالي. أريد ترحيبًا حقيقيًّا بعودتي إلى البيت. أعلم أنني أستطيع الاعتماد عليكِ.»
وبينما كانت إلسي تبتسم، سمعتْ صوت الباب الأمامي يُفتَح، ووقْع خطوات ثابتة. وللحظة، تصورت إلسي أن الآنسة لوفابل في المنزل. لكن، حين كانت تنتظر صوت الضحك — الذي كان كالموسيقى لعقلها الكئيب — أعلن صوت الآنسة أجاثا بِيت عن وصولها.
فكرت إلسي: «إنها مصرَّة على أن نكون جميعًا هنا. إذا ذهبتُ إلى لندن، ستكشف أمري. لن أقول شيئًا للآنسة بِيت، في نهاية المطاف.»
لم تكُن الأمور تسير بشكلٍ جيد بالنسبة لجريمة قتل السيد هنري واتكينز المؤجَّلة. إذ قررتْ إحدى السيدتَين إلغاء زيارتها إلى المنزل رقم تسعة عشر بمنطقة ماديرا كريسنت، في حين أن الأخرى رتَّبتْ لجلب صديقها؛ لتولِّي أمرِ أي اهتمامات شخصية …
كان بكنجهام سيغادر سويسرا بواسطة القطار الليلي من إنترلاكن، فكان الشاي هو آخِر ما يتناوله في جريندلوالد. وعندما انتهى، طلب من الآنسة لوفابل أن ترافقه في زيارة وداعٍ سريعة إلى الوادي. سارعا الخطى طوال الطريق حتى تجاوزا المنعطف الأخير، حيث انحنيا على الحاجز وشاهدا تيار الماء وهو ينجرف فوق الصخور.
قال بكنجهام، وهو يفتح محفظته: «كنت أجمع العناوين. وعلى الرغم من همجيتي الكامنة، فقد طلب الناس مني أن أزورهم. وأنا ذاهب الآن لزيارتهم.»
ثم ألقى بحفنة من بطاقات الزيارة في النهر.
وعلَّق يقول: «يؤسفني جدًّا أنكِ لستِ في المنزل.»
سألتْه الآنسة لوفابل وهي تشير إلى دوامة من الزبد: «هل آل فورس هناك؟»
فأجابها: «كلتاهما. لقد أبقيتُ على بطاقة واحدة فقط. بطاقة فيفا. أنوي أن أزورها.»
«هل تروقك؟»
«بالطبع. فهي تتمتَّع بصفاتٍ تروق معظم الرجال. لم أرَها منزعجةً أو حادة الطباع … وبالمناسبة، أنا قادم إلى هايفيلد. هل يمكنني أن أعرِّج عليكِ؟»
«نعم. تفضل.»
قالت الآنسة لوفابل ذلك بحرارة وودٍّ. أرادت لبكنجهام أن يراها في بيئتها الخاصة، حيث تكون معزَّزة ضدَّ أي هجوم من المشاعر. كان منزل البحيرة يمثِّل مملكتها التي لم تكُن تنوي مشاركتها مع زوج.
وأضافت: «ستلتقي سكوتي وديفيد.»
«ديفيد؟»
«قطي الفارسي الأزرق. لماذا تضحك؟»
فأوضح لها قائلًا: «اسمي «ديفيد».»
«أليس اسمك «ريتشارد»؟»
«عُمِّدتُ باسم «ريتشارد». لكنَّ أمي كانت تقلِّد الآخرين. لم يكُن أمرًا ممتعًا لها أن تكون قريبةً فقيرة؛ لأنها كانت تريد الكثير، مثل ابنها الغالي. لكنَّ تقليد العائلة الملكية لم يكُن يكلِّف شيئًا، لذا تم تغيير اسمي تيمُّنًا باسم أمير ويلز.»
تأثَّرت الآنسة لوفابل بهذه الأخبار تأثرًا غير متناسب؛ لأن امرأة غجرية كانت قد رسمت حرف «د» في راحتها ذات مرَّة، وأخبرتها أنه الحرف الأول من اسم الرجل الذي ستتزوجه.
فقالت باقتضاب: «ستُفَوِّت قطارك.»
ركضا طَوال الطريق عَبْر الغابة الباردة والرطبة التي تتخلَّلها المياه الجارية، ولكنْ بعد أن عبرا جسر نهر لوتسكين، أبطآ وتيرةَ خطوهما ليتمكَّنا من صعود التل.
وقال بكنجهام: «أنهيتُ أموري في الفندق، وحقائبي تُنقَل إلى المحطة. ينتظرني العمدة ومعاونوه في المحطة لتوديعي رسميًّا … لن أقول لكِ «وداعًا»؛ لأنني سألتقي بكِ قريبًا في قطار فيكتوريا. هذا يذكرني بأمرٍ ما. واتَتْني فكرة.»
سألته الآنسة لوفابل: «ما هي؟»
فقال: «فكرتي كالتالي: لن نتناول العشاء في الطريق إلى المنزل. فَلْنشترِ الطعام ونأكله في منزل ماديرا. إذ يمكننا أن نطبخ بعض الطعام. كالنقانق والبطاطا المهروسة.»
قاطعتْه الآنسة لوفابل: «كلَّا. سمكًا مدخنًا.»
فقال: «ما دُمنا سنحافظ على الرقي واللباقة، سأقبل بأي شيء. وسأصنع القهوة.»
«إن تجرأتَ على لمس موقدي …»
«سأغسل الأطباق إذَن.»
«وتعبث بحوضي؟»
فقال: «هذه هي الفكرة. أريد أن أراكِ تعملين … يا فلورا.»
فجأةً أدركت الآنسة لوفابل كيف يسهُل للمداعبة الرائعة بينهما، أثناء إعداد وجبتهما، أن تكون مقدمةً لحياة زوجية. وقد أعجبتْها الفكرة؛ لأنها كانت من مناصرات قضاء شهر العسل في اللعب والشجار بالوسائد، حيث كانت ترى العلاقة العاطفية أمرًا صاخبًا يبعث على الفرح.
كانت تحبُّ المزاح وتبادُل المشاكسة التي تستطيع فيها أن تردَّ الضربة بالضربة. فتخيَّلتْ مطاردةً مجنونةً صعودًا وهبوطًا على الدرَج، وفي أرجاء المنزل، حيث تلعب دورَي الصيَّادة والفريسة. وتذكرتْ أن «ديفيد» السابق — بعدما قبَضَ عليها — أفقدها توازُنها فأسقطها وقبَّلها.
كانت هذه الخطوة الأُولى — التي ستؤدي إلى الخطوة الثانية الحتمية — عندما يهدِّد بكنجهام حديقتها الصغيرة.
فجأةً أصابها الخوف وهربتْ للاختباء في الزاوية المحتجبة في عقلها. ومع أنها كانت صادقة بطبيعتها، فإنها أُجبِرَت على الكذب.
وإنْ كان صحيحًا أن الآنسة لوفابل كانت تحميها قوة حميدة خيِّرة — كانت تشارك في مباراة لحمايتها من مصيرٍ خبيث — يبدو أنَّ حظها قد فاز. إذ كانت محمية من الهجوم على شخصها بنقلها إلى غرفة نوم لا يمكن اختراقها؛ كان ثمَّة حارس شخصي قوي يحميها من هجوم على حياتها.
لكن تبيَّن أنها هي عدوة نفسها، وكانت مدفوعة في ذلك بحافز مُهلك.
إذ قالت، وعيناها تتوسلان في مواجهةِ طغيان إرادتها: «أودُّ ذلك. لكنني غيَّرت خططي. سأقضي الليلة في لندن، حتى أتمكَّن من قضاء يومٍ إضافي هنا. سأكون في فيكتوريا في الرابع عشر من سبتمبر.»
بحلول هذا الوقت، كانا قد وصلا إلى المحطة، حيث كان هناك حشد جليل من الفندق ينتظر لتوديع بكنجهام. ولم يتحدث بكنجهام مع الآنسة لوفابل حتى بدأ قطاره يتحرك مغادرًا.
فصاح بالفرنسية: «إلى اللقاء» ثم أكمل جملته بالإنجليزية: «حتى الرابع عشر من سبتمبر.»