«حين تنام»
ذُهِلَت الآنسة لوفابل من تعاطُف رفيقَيها الممتزِج بالسخط. بدا عليهما القلق كما لو كان الحادث شأنهما الخاص. ورفضَت الآنسة لوفابل العرض العاجل من الرجل الضئيل أن يعودوا إلى الفندق ليأتوا بقهوةٍ جديدة؛ لكنْ، وبسبب ذلك، لم تستطِع الشعور بالانزعاج عندما دخلا عربتها. كان القطار غير مكتظٍّ في محطة أوست؛ ولكنْ، حتى في هذه المرحلة لم يكن بمقدورها أن تتوقع أن تحصل على عربة لها وحدها.
وبما يتمتع به المسافرون عامةً من أنانية، رتَّبا أغطيتهما وأمتعتهما على المقاعد لخلق انطباع بأنَّ العربة ممتلئةٌ عندما يتوقَّف القطار في إنترلاكن. وقد حقَّقت استراتيجيتهما النجاح؛ لأن أحدًا لم ينضمَّ إليهم عندما غادر القطارُ المحطة.
أنزَلَ أمور قبعته على عينَيه وأغلق شبَّاكه.
وقال: «سأتظاهر بالنوم.»
وقالت زوجته: «وأنا أيضًا. لن نتمكن من الاستلقاء في وقتٍ لاحق إذا ما امتلأت العربة.»
لم تَحذُ الآنسة لوفابل حذوَهما؛ لأنها أرادت الاستمتاع بالمناظر الطبيعية حين كان ضوء النهار لا يزال موجودًا. وقد هنَّأت نفسها؛ لأن رفيقَيها ممَّن يفضِّلون النوم، عندما قارنت صمتهما بما دار من محادثةٍ مشتِّتة في رحلة الذهاب. وعندما تطلَّعت إلى الطبيعة الخضراء الزاهية؛ كان وجهها هادئًا كمياه بحيرةِ ثون الزرقاء الزجاجية أدناهم.
كان جوُّ العربة دافئًا أكثر من اللازم، ولكنها لم تحبَّ أن تُخفِض النافذة؛ لأنها كانت متأكِّدة من أن رفيقَيها غير المزعِجين لا يشاركانها حبَّها للهواء الطلق. وعندما نظرتْ إلى جسدَيهما الواهنَين وصدرَيهما النحيلَين؛ شعرت بالأسف عليهما.
وفكرت في نفسها: «وكأنهما نباتات تنمو في قبو.»
كان من المستحيل تجنُّبُ مقارنتهما بقوة نموِّها وتطورها، أو عدم الشعور بالامتنان للهواء والشمس اللذين ترعرعَت الآنسة لوفابل عليهما. ولم يكُن هناك في قلبها كِبر أو خُيلاء، عندما سلَّمت بأنها تمثِّل عيِّنةً مثالية؛ باستخدام مصطلحات البستنة.
واعترفتْ تقول: «ربما أكون متقيِّدة بالأصيص قليلًا.»
فتحَت الآنسة لوفابل الباب بحذرٍ وهي تُحكِم قبضتها على علبة المجوهرات، واندسَّت إلى الممر لتدخِّن سيجارة. فانفتح على الفور زوجان من العيون الداكنة حيث استفاق النائمان. وقد لاحظت تلك العيون كيف كانت الآنسة لوفابل تقبض على العلبة؛ إذ حشرتْها تحت إبطها أثناء إشعال سيجارتها.
ومع أنها استشعرت انتباههما، كانت في تلك اللحظة تفكِّر في تعاطفهما ولطفهما.
فقررت في نفسها: «سأكون لطيفةً معهما. فهذه عطلة لهما أيضًا، أولئك المساكين الصغار.»
وعندما عادت إلى العربة، كانا، حسب ما بدا لها، يغطَّان في النوم؛ لذا قررت الاستفادة من الهدوء الراهن في أن ترتاح. فلفَّت وشاحًا حول شعرها ومالت مستندةً إلى زاوية، وأخذت تشاهد الحقول وهي تمرُّ ببطء مزيَّنة بزهور الزعفران الخريفية ذات اللون البنفسجي الباهت.
وتدريجيًّا، امتدت الحقول الخضراء في خطٍّ متواصِل، حيث اندمجت المراعي معًا. ولمَّا هدأت الآنسة لوفابل بفعل الدفء والحركة، بدأت تشعر بالنعاس. فشعرت كأنها تنزلق إلى بحرٍ استوائي دافئ، في حين أن العشب استمر في الاندفاع أمام جفنَيها الناعسَين. وساد شيء من التناغم بين صوت المحرك المنتظِم والأنفاس الباعثة على النوم داخل العربة …
فجأةً، سقط رأسها إلى الأمام بِرَجَّة فاستيقظتْ بانتفاضةٍ عنيفة. كان قلبها فزِعًا من وهمٍ خاطفٍ داهَمَها. كادت تُقْسِم أنها في تلك البرهة القصيرة بين النوم والوعي رأتْ وجهًا خبيثًا مشوهًا؛ كأنه رُوح شريرة لا جسد لها تحوم قرب وجهها.
لكن لم يكن هناك أحد سوى رفيقَي السفر اللذين كانا يغطَّان في النوم كلٌّ في زاويته. ولمَّا كانت ترتجف لشدةِ واقعية ما رأت من خيالها، حاولت أن تحذو حذوَهما. لكنها كانت محاولةً غير مجدية؛ لأنها كلما وصلت إلى حافة النعاس الحلوة وكانت على وشك الغوص في النوم؛ بدا لها كأنَّ جرس إنذارٍ يدقُّ داخل رأسها، فيعيدها صوت صلصلته إلى الواقع.
وبطريقةٍ ما، راوَدَها انطباع بوجود دخيل؛ كأنَّ هناك أعداءَ في العربة. شعرتْ كأنهم كانوا يتقدمون نحوها، ثم ينطلقون بعيدًا عنها كلما تحركت. وفي مرةٍ من المرَّات انكمشتْ وتمسَّكت بالعلبة بشدة كأنَّ هناك أصابع تحاول لمسها؛ ولكنها عندما نظرت حولها لم تتمكن من اكتشاف أي سبب للارتياع والجفول.
عادت تقف بجوار النافذة المفتوحة في الممر وتركَت الهواء البارد يتدفق على وجهها.
لم تكُن الآنسة لوفابل مخدوعةً في تمييزها للإحساس بوجود انتهاك؛ لأن الأفكار الشريرة شيء حقيقي. إذ تولدت فكرةٌ بشِعة في الأعماق المعتِمة لعينَي المرأة وانطلقتْ منها، مثل أفعى قاتلة، إلى ذهن الرجل.
فعلى الرغم من فشلهما في عملهما، فقد كان هناك تواصُل عقلي حقيقي بين الزوجَين. كان كثيرًا ما يفهم أحدهما الآخَر دون حاجة إلى الكلمات. وكان واضحًا لهما أن خادمة الليدي بونتيبول تحرس كنزها بشدة وكأن أصابعها قد اندمجت مع جلد العلبة. والأسوأ من ذلك أنها كانت تنام مثل القطة، في حين أنه لن تسنح فرصة أخرى لتخديرها.
وبما أنهما لن يستطيعا المخاطرة بكشف أمرهما أو القيام بعملٍ أهوج آخر، فقد كان يجب إسكاتها على نحوٍ فعَّال. فقد مضى الآن وقتَ التأنيب. سيترجلا من القطار وبحوزتهما ما يبتغيان في أول فرصةٍ محتمَلة عندما يتوقف القطار في الطريق إلى باريس. وحين يقوم الحارس بجولته لاحقًا، لن يلاحظ سيدة بلا حراك مغطاة ببطانية؛ لأن معظم الركَّاب سيكونون نائمين أيضًا.
مالَ أمور إلى الأمام وهمَسَ لزوجته.
«بعد محطة بونتارلييه.»
فأومأتْ برأسها وقالت: «هذا صحيح. عندما تنام.»
عندما عادت الآنسة لوفابل إلى العربة نظَرَا إليها بشيءٍ من شعور بالذنب، وبدآ في إخلاء المقعد من أمتعتهما، كما لو كانا يتعديان على مساحتها. ولكي تُبعِد عنهما شعورهما بالدونية، ابتسمتْ لهما بودٍّ حقيقي.
وسألتْهما: «هل هذه أول مرة تسافران فيها إلى الخارج؟»
أجابتْها السيدة أمور: «أول مرة نزور فيها الريف. لقد ذهبنا إلى برلين وبودابست وباريس، وإلى كل المدن الكبيرة. تعلمين، أنا أعمل في مهنةٍ تتطلب السفر كثيرًا. فأنا مساعِدة ساحر. أُعطيه أدواته، وأجتذب انتباه الجمهور كي لا تُلاحَظ خُدعه، وما إلى ذلك. كما أرتدي زيًّا خليعًا؛ سروالًا قصيرًا وسُترة خفيفة.»
فحثَّها زوجها بقوله: «حافظي على التهذيب. أخبري السيدة أنكِ ترتدين حذاءً … هل يمكنني أن أسألكِ يا آنستي إذا كنتِ تعملين في وظيفة؟»
قاطعتْه السيدة أمور: «لا تكُن أحمقَ. ألَا تري أن السيدة تميل للانعزال؟»
لم ترغب الآنسة لوفابل في إقامةِ حاجزٍ بينها وبين رفاق السفر؛ فتوصلت إلى حلٍّ وسط بأن قدَّمتْ إجابةً صحيحة من الناحية الفنية.
فأجابتْ، وهي تفكِّر في عملها الشاقِّ في كلٍّ من المنزل والحديقة: «بالطبع لديَّ وظيفة.»
«أهي وظيفةٌ مرموقة يا آنستي؟»
«نعم، يمكنك أن تصفها بذلك. أنا سيدةُ نفسي.» ولكي تُغيِّر الموضوع أضافت: «ربما نلتقي في باريس؟ سأقضي هناك ليلةً واحدة.»
فسألها أمور: «في أيِّ فندق ستنزلين يا آنستي؟»
ثمَّ هزَّ رأسه عندما ذكرَت الاسم.
وقال: «إنه أفخر ممَّا نستطيع تحمُّله. آمل ألَّا نلتقي يا آنستي. لأننا إذا الْتقينا؛ فسيعني هذا أن الحظ قد جانَبَنا في عملنا. لكنهم يقولون: «حاولْ مرارًا».»
انفجرتْ زوجته في صرخةٍ حادة من الضحك، ثم أخرستْها فجأة. وعندما نظرت إليها الآنسة لوفابل ارتجفتْ للحظة، لأنَّ النغمة الحادة تزامنتْ مع نوبةٍ من النشوة التي تلألأتْ على وجه المرأة. كما تسبَّب الضوء العلوي في زيادة طول الأنف المُعوَجِّ وأحيا ذكرى كابوس لوجهٍ مشوَّه كاد يلامِس وجهها.
وزال الانطباع عندما تكلَّم أمور.
«نحن نقترب من بِرن. عظيم؛ لن يمتلئ القطار بالكثير من الركاب. إذَن هي جلسة ارتجال معتادة … وأنا لا أقصد الموسيقى.»
نظرت الآنسة لوفابل إلى أسطح المنازل الممتدة وإضاءات المدينة حين كان القطار يبطئ من سرعته. وعندما دخل القطار المحطة ورأت الرصيف المزدحم، أطلقت صرخةً تنمُّ عن الانزعاج.
وقالت: «يبدو أن نصف سكان البلاد يتجهون إلى باريس. إذا وقفنا عند الباب والنوافذ، فقد نخدعهم بأنَّ العربة ممتلئة.»
في البداية، بدا أن الحظ حالفهم في استراتيجيتهم. كانت الآنسة لوفابل دائمًا شخصية لافتة للنظر، وقد شكَّلت حاجزًا باهرًا وهي تحرس مدخل عربتهم. مرَّ الركاب في الممرِّ ولم يحاولوا الدخول، وعندما بدا أن كل الخطر قد زال؛ اقتحمت عائلةٌ فرنسية العربة.
كانوا ستة أفراد، يمثلون ثلاثة أجيال، وكانوا جميعًا في حالةٍ من الاضطراب والإثارة. كان الكبار يتحدثون ويضحكون بصوت عالٍ، حين كان الأطفال يلتهمون الطعام ويمرحون في الحيز المحدَّد. وقد أوقعوا فُتات الخبز وقشور الموز على الأرض، ومسحوا أصابعهم في تنورة الآنسة لوفابل، وداسوا على أصابع قدمَيها حتى شعرت بالاضطراب.
لم يمثلوا لها سوى متطفلين مزعجين؛ لأن عينَيها لم تريا أنهم كانوا نصف دزينة من الملائكة الحارسة. وبينما كانت تكابد الضجيج، تساءلت إن كانت إكرامية في يد الحارس ستؤمِّن لها مكانًا أكثر راحة. بدا أنَّ تغيير مكانها قبل الوصول لبونتارلييه لا يستحقُّ العناء — حيث سيتعين عليهم المرور عبر الجمارك — لذا خرجتْ بصعوبة إلى الممر، وما لبث أن انضم إليها الزوجان أمور.
همس الرجل الضئيل قائلًا: «هناك مقصورةٌ درجةٌ أُولى فارغة في العربة التالية. هل تودَّان الانتقال إليها؟»
فهمتْ زوجته إشارته، فهزَّت رأسها نفيًا.
«لا. سيجعلوننا ندفع.»
«أوه، كوني لطيفة. نحن بريطانيون، أليس كذلك؟ لا ينبغي أن نقبل بأنْ نُعامل أسوأ من أسماك سردين ميتة.»
رفضَت السيدة أمور المغامرة، حين ظهر تفكيرٌ عميق على ملامح وجه الآنسة لوفابل. كانت تفتخر بالشجاعة العقلية والمنطق السليم اللذين أكَّدا لها أن من السخف أن يجلسوا في مكانٍ مزدحِم في حين أن هناك عربات فارغة في القطار.
قالت: «سأخاطر. ألَا ترغبان في الانضمام؟»
فصرَّح الرجل الضئيل: «يجب ألَّا أترك زوجتي.»
ساعَدَها الرجل في جمع أغراضها، لكنه لم يرافقها إلى العربة التالية. منذ تلك اللحظة لم يعُد يرغب في أن يُرى برفقة الآنسة لوفابل. كانت هي ومعشرها موصومين بشيءٍ خطير يمتدُّ تأثيره حتى آخِر شخصٍ احتكَّ بها.
عادا إلى عربتهما المزدحمة، وكانا ودودين مع العائلة الفرنسية؛ حين كانت الآنسة لوفابل تهنئ نفسها على الراحة والهدوء في عربتها من الدرجة الأُولى. قررتْ أن تحاول أن تُبرم صفقةً مع الحارس أو جامِع التذاكر؛ حتى تتمكَّن من البقاء في مكانها لبقية الرحلة. وما كان من المسئول الوحيد، الذي لاحظ وجودها، إلا أن أبدى عدمَ اكتراثٍ بشأن تجاوُزها؛ إذ هزَّ كتفَيه فحسب، ومرَّ دون اعتراض.
بعد فترة قصيرة، بدأت الأضواء تومض عبر الظلام وتوقَّف القطار في بونتارلييه. حملت الآنسة لوفابل أمتعتها وانضمت إلى المتدافعين نحو الجمارك. وقررت أن تعود بشجاعة إلى عربة الدرجة الأولى — التي أصبحت لها بحقِّ الاستحواذ — وأن تَبيتَ فيها ليلتها مباشرةً بعد أن تتجاوز الإجراءات الرسمية المزعِجة.
وصلتْ في لحظةٍ مواتية؛ إذ كان الموظفون يكدِّسون الأدلة ضدَّ شخصٍ أبلغهم أنه ليس لديه ما يُفصِح عنه. وعلى الرغم من أنها اضطرَّت للانتظار حتى ينتبه إليها أحدهم؛ فإن حقيبتها لم تُفتَح ووُضِع عليها خطٌ بالطباشير.
بدا كلُّ شيء يبشِّر بأن الرحلة إلى باريس ستكون ناجحة. واشترتْ خبز بيتي بان وشوكولاتة من البوفيه، وعادت مبتهجة إلى القطار. وهُيِّئ لها أن القطار ازداد طولًا أثناء غيابها، لكنها أرجعت هذا الانطباع إلى خيالها. ولمَّا حدَّدت مكانها مسترشدةً بالقلنسوات الصفراء للأطفال الفرنسيين من نافذة إحدى العربات، صعدَت الدَّرَج الحاد ودلفتْ إلى الممر.
ومن فورها أدركتْ أن شيئًا ما قد تغيَّر. كان أول ما لاحظته هو معطف السفر الذي كانت قد تركتْه في عربة الدرجة الأُولى لتحجز به مكانها. كان المعطف الآن مكوَّمًا وملقًى على الرف.
ولمَّا مدت ذراعها وكانت على وشك أن تسحبها؛ انتبهت إلى شيءٍ أكثر خطورة. لم يعُد هناك ممرٌّ موصل إلى العربة التالية.
وبينما كانت تحدق في الحاجز الخشبي الغُفْل الذي يعيق طريقها، فسَّر لها الفرنسي الأمر.
«فُصِلَ ذلك الجزء، وانضمَّت إلينا بعض العربات الممتلئة. سيكون القطار شديدَ الازدحام. لا يُهِم. ستكون العربة أدفأ وستبعث على النوم.»
حاولت الآنسة لوفابل التسليم بفلسفته خلال ليلةٍ من المشقة الشديدة. إذ أخذت العربة تتمايل والمحرك يزعق حين كان القطار يشقُّ الظلام. كما كانت هناك توقفات مزعِجة في محطاتٍ مختلفة استقبلوا منها المزيد من الركَّاب. وعلى الرغم من أن أمور طاف القطار كلَّه، لم يتمكن من العثور على عربةٍ فارغة يمكن أن يباغت فيها السيدة في خصوصيةٍ وعزلة عن الجميع.
بعد فترة، ورغم ضيق التنفس وانضغاط الأجساد، نامت الآنسة لوفابل. واستيقظت على ضوء الفجر؛ كان الفجر رماديًّا وملوَّثًا كما لو كان نافذةً متَّسخة بالمطر. كان الضجيج والحركة كثيرين من حولها، حيث كان الناس يستعدون لمغادرة القطار. كانت باريس تقع عند نهاية السكة؛ على مسافةٍ قصيرة فحسب.
كان اليوم هو الثاني عشر من سبتمبر.
وعلى الجانب الآخَر من القناة، في لندن، استقبل كلارنس كلوب اليومَ بارتياحٍ غير متحضر.
قال وهو يستنشق الهواء بسرعة: «غدًا. غدًا سأتصل بإيمي.»