جرعة شراب
قلنا إن نجاح خطة كلارنس كلوب لتوريط هنري واتكينز في الجريمة، كان يعتمد على تعاون صديقته إيمي. وعلى الرغم من أنَّ هذا الإدخال للعنصر البشري حرَمَ المسألة من أن تكون مضمونة، لم يكُن لدى كلوب أيُّ خوف على سلامته الشخصية. لم تكن إيمي أسيرةَ سحره وولائه الثابت فحسب، بل كانت أيضًا تعدُّ الأيام حتى اجتماع شملهما.
كان لحقيقة أنها لم تغيِّر اسمها إلى «آيمي» بعض الدلالة على خصالها. فقد وُلدت في الريف لوالدَين محترمَين وكانت نادلةً في نُزُل القرية عندما اقترح رجل يمتهن التجارة أن تسمح له بالعبث بالسجل النقدي. ولأنها كانت متساهلة وكسولة، إلى جانب سرعة تأثُّرها بالنفوذ الذكوري؛ فقد أبقتْ على الأمر حتى اكتُشِف العجز.
وإحقاقًا للحقِّ، لم تكن إيمي طمَّاعة. فهي نفسها لم تحصل على شيء من الأمر، باستثناء المغامرة العاطفية وفقدان حريتها لثلاثة أشهُر.
بعد أن خرجتْ من السجن، انجرفتْ إلى مهنة كانت منجذبةً مِزاجيًّا لها؛ ولكنْ، على الرغم من أنها كانت عالقة في دائرة شريرة، فقد ظلَّت بمنأًى عن طائلة القانون وعملتْ فقط مضيفةً اجتماعية لمَن يقدِّمون لها الحماية. بهذه الصفة، لم يكن هناك الكثير من الاختلاف بينها وبين مدبِّرة منزلٍ عادية. كان الإهمال من عاداتها، لكنها كانت تتسم بالاتزان، والصدق والإخلاص لأيِّ مجرم من المجرمين الذين يتولون دفع إيجارها.
ولأن كلوب كان عشيقًا خبيرًا، شعَرَ بالثقة في سلطته على إيمي. فحين أخبرها أن عليها أن تتوقَّف عن زيارته في السجن؛ لأنه سيتخلى عنها لصالح هنري واتكينز، استجابت له بإذعان. وعلى الرغم من أن هنري كان — بعبارة مُلَطَّفة — رجلًا ساذجًا جدًّا، فقد حققت أقصى استفادةٍ من هذه الصفقة السيئة؛ واعتبرَت الأمر بصفة رئيسية أساسًا لشراكةٍ مستقبلية مع كلوب.
ولكي يحافظ كلوب على الصورة الخادعة بأنه انفصل تمامًا عن إيمي، لم يلتقِ بها بعد إطلاق سراحه من السجن، بل أظهر أنه يلتقي بحسناواتٍ أخريات. وكانت محادثاته الخاصة معها تجري على الهاتف، حيث كان يعطيها التعليمات التي من شأنها أن تحكم ضبط حجة غياب واتكينز.
وحين هاتفها صباح يوم الثالث عشر من شهر سبتمبر، تحمستْ لمَّا سمعتْ همسه وبدتْ عليها السعادة الغامرة لإمكانية اجتماع شملهما سريعًا.
قال لها: «قومي بعملكِ الليلة. عليكِ أن تُبقي على واتكينز برفقتكِ. وتذكري، الوقت الحاسم يقع بين السابعة والتاسعة، لكن أبقي عليه معكِ طوال الليل، في حال لم يستطِع الطبيب أن يحدِّد الوقت بدقة.»
كرَّرت إيمي: «من السابعة إلى التاسعة.» ثم أضافت: «سيرغب في أن يذهب إلى الكلاب.»
«إذن ضعي له مخدِّرًا في شرابه. تصرَّفي.»
كانت هذه هي لعبتها. كانت إيمي خبيرةً في خلط المشروبات، وكثيرًا ما دسَّت المخدِّر في شراب زوار مزعِجين.
فوافقتْه قائلة: «لا بأس. متى سأراك ثانية؟»
«ليس قبل أن يُصبِح من الآمِن أن نلتقي. ابقي بعيدة عني حتى أرسل في طلبكِ. سأرسل لكِ قطعة المجوهرات تلك الليلة.»
«هل سيكون عليها … دماء؟»
«كلَّا — سيكون عليها شعرة فقط. لا تعبثي بها.»
كانت إيمي شاردةً تفكِّر حين وضعَت السماعة. لم تكن تتحلى بمخيلةٍ خصبة، لكنها احتفظت بحسِّها السليم وكذلك بصحتها. كان الأمر قد استغرق منها وقتًا طويلًا حتى استقرت في نفسها حقيقةٌ معينة، لكن في ذلك الصباح، أدركت أنها على وشك أن تُصبح شريكةً في جريمة قتل.
قالت لكلبها من فصيلة البكيني: «لا يروقني هذا الأمر.»
لكن بما أن سيدها ومولاها قد أمر — وكان مقدرًا لها أن تطيع — ذهبت إلى المطبخ الصغير، حيث تحتفظ بعلبها وزجاجاتها من أجل الاطمئنان على المقادير والمكوِّنات الأساسية.
وفي ساعة متأخِّرة من بعد الظهيرة، عاد واتكينز إلى رفاهة الشقة المظلِمة والمهمَلة.
سألتْه إيمي وهي تفكُّ رباط حذائه: «أكان يومك طيبًا يا عزيزي؟»
أومأ لها واتكينز.
وقال: «قدمت عرضًا في أحد المنازل في ميدان إيتون. مصارع النوافذ بالية وهناك شرطيان على الأقل.»
فكرَّرت، بنبرة تنمُّ عن الارتياب: «على الأقل؟ شرطيان؟»
«كلَّا، لا تقلقي. كان وجودهما صوريًّا. كانا من العجَزة. ربما ألتقي بهما ثانية.»
وبينما أراح واتكينز قدمَيه، أخذت إيمي تفكِّر بإمعانٍ فيه وفي الموقف. كان شعره غثًّا وساقاه متقوِّستَين وعيناه حادَّتَين؛ لكنه كان يتمتع ببعض الفضائل المنزلية. كان ينهض في الصباح ويعدُّ لها كوبًا مبكِّرًا من الشاي. وكان يعامل الكلب البكيني بحنوٍّ. وكان إنفاقه للمال منتظمًا، عوضًا عمَّا لقيتْه مع كلوب من شحٍّ أو إفراط.
وكانت الحياة مع واتكينز تشتمل على امتياز الزواج، إضافةً إلى ميزة الدخل الثابت. على الجانب الآخر، كان كلوب يقدِّم لها الرومانسية؛ لكنْ كانت همساته لا تزال تتردد في أذنَيها.
«ضعي له مخدِّرًا في شرابه.»
كتمتْ إيمي تنهيدة، وجلستْ على ركبة واتكينز وفركتْ وجهها بوجهه بدلالٍ مصطنَع.
وقالت: «يا إلهي، وجهك مليء بالبثور. إنه يشبه كعكةَ الكراوية. دعني أمزج لك شرابًا سريعًا، أو سأضطر إلى التوقف عن تقبيلك.»
وبينما كان يعترض على قيامها، كانت قد انسلَّت مبتعدةً إلى المطبخ الصغير المظلِم. سمع صوت ملعقة تصطدم بالزجاج، تلاه هسهسة مِمصِّ مياه الصودا، قبل أن تعود بكأسٍ مُزبِدة.
قالت له: «جرعة واحدة سريعة. اشربه يا عزيزي. لن تشعر بطعم الأملاح.»
ظهر بريق في عينَيها عندما ابتلع القطرة الأخيرة؛ بريقٌ اختلط فيه الخوف بابتهاجِ الظفر. الآن كان أوان التراجُع قد فات، مهما كانت مغبَّة عملها.
ومع مرور الوقت، دون ظهور أي نتائج من شرابها، بدأت تشعر بالقلق. لم يُظهِر واتكينز أي علامات على النعاس، بل على العكس، أصبح متوترًا ومتهيجًا. بدا أن حرارة الشقة وصخب الموسيقى الحماسية من الراديو يزعجانه بشكل لا شعوري، بقدر ما كان الذباب يزعجه.
ألحَّت عليه الرغبة في الخروج لتناول الشاي، وبصعوبة كبيرة نجحت إيمي في تحويل انتباهه عن غرضه. بعدها كان الكلب البكيني مريضًا فشكَّل ذلك مصدر إلهاء مستحسنًا، وحينها أثبت واتكينز، كالعادة، أنه لطيف ومتعاون؛ ولكنْ عندما نهَضَ من على الأرض، لاحظتْ أن جبينه كان متعرِّقًا.
فقالت: «أنت تتصبَّب عرقًا. هل هناك خطبٌ ما يا عزيزي؟»
أجابها: «آلام في البطن. ربما أُصِبتُ ببردٍ طفيف … لا أستطيع البقاء هنا. أحضري حذائي. سنشرب مشروبًا آخَر ونذهب إلى الكلاب.»
نظرت إيمي إلى ساعتها وهي مذعورة. كانت الساعة السابعة وخمس دقائق — وكان كلوب قد أخبرها أن الساعات الحاسمة من السابعة إلى التاسعة. بللت إيمي شفتَيها بتوتر، واندفعتْ إلى المطبخ الصغير وأضاءت المصباح.
ثم ما لبثتْ أن أطلقت صرخةً حادة.
وصاحت تقول: «ليس خطئي. إنها تلك الفتاة مجددًا. لقد نقلَت العلب. لقد خلطَت الشراب في الظلام. إنه حادث.»
ترنَّح واتكينز باتجاه المطبخ الصغير وكان وجهه قد صار شاحبًا من وخزةٍ مفاجئة في بطنه.
وقال وهو يبتلع ريقه بصعوبة: «ماذا أعطيتِني؟»
أجابتْه بأنْ مدَّت يدها بعلبة تحمل صورة قارضٍ ميِّت على مُلصقها.
وقالت وهي تجهش بالبكاء: «كانت العلبة الخطأ. استلقِ يا عزيزي. لا تقلقْ. ستستعيد عافيتك.»
وبينما كان الرجل المرتعِب ينهار على كرسي، سمعها تصرخ لمالكة العقار من بَسْطَة الدرَج:
«النجدة! أحضري الطبيب. لقد تناول واتكينز سُم فئران.»
سرعان ما اقتحمَت الغرفة مجموعةٌ من النزلاء المنفعِلين. كان المكان يعجُّ بالأصوات؛ مَن يصيح في الهاتف، ومَن يعطي الأوامر وينادي بالنصائح في ظلِّ صخب الراديو الذي لم يتذكَّر أحد إيقافه. وخُلِطَ الخردل والماء، لكن واتكينز، الذي كان يجاهد الذعر الذي تملَّكه، سكبه على السجادة.
حين بلغت الفوضى مبلغها؛ وصل الطبيب ومعه جهاز غسيل المعدة. ومنذ ذلك الحين، بلغت حرارة الحاضرين ذِروتها بفعل ما بهم من فضولٍ وارتباك. ولمَّا طُرِد النزلاء من الشقة، تجمعوا في الردهة يحاولون رسمَ الصورة الدرامية المؤلِمة لمَا كان يحدث على الجانب الآخَر من الباب …
قُرب الساعة الثامنة والنصف، أعرب الطبيب عن ارتياحه للحالة وغادَرَ المنزل. وبمجرد أن رحل، توجَّهت إيمي إلى السيدة المالكة ودسَّت في يدها ورقةً مالية بقيمة جنيه.
وهمستْ لها قائلة: «يتحتَّم عليَّ أن أخرج. الْزمي جانبه ولا تتركيه دقيقةً واحدة، حتى تأتي الممرضة. قد ينهار وتتدهور صحته، لذا كوني مستعدة بشرابِ البراندي.»
ولمَّا ارتاحتْ إيمي إلى ترتيبات السلامة للمريض، ارتدَت قبعتها ونثرتْ مسحوق التجميل على أنفها ونزلتْ في المصعد إلى مستوى الشارع. وبمجرد أن خرجتْ من البناية أوقفتْ سيارة أجرة.
وقالت للسائق: «إلى سكوتلاند يارد.»
عندما وصلتْ إلى المبنى وصرَّحتْ بأن ما جاءت من أجله خاص ومهم، لم تضطر إلى الانتظار طويلًا قبل أن تتلقى انتباهًا رسميًّا. كان هذا التعامل الخاص ناتجًا عن حقيقة صداقتها المعروفة مع بعض السادة الذين كانوا محلَّ اهتمام الشرطة.
وبينما كانت تجلس في المكتب، لم يبدُ عليها شيء يوحي بأنها صديقةُ رجل عصابات تقليدية. فلم تكُن تمضغ العلكة، أو تدخن السجائر، أو ترفع تنورتها الضيقة لتجلس واضعة ساقًا فوق الأخرى. ورغم أنها كانت حمراءَ الشعر، كانت تفتقر إلى الاتقاد الذي يُفترض أن يكون مُميِّزًا للصهباوات. كانت شفتاها الحمراوان ناعمتَين ولينتَين، وعيناها زرقاوَين ضاربتَين في البياض. وترتدي بدلة سوداء بمقاسٍ مناسب، وكنزةً بيضاء شفافة من نسيج الأورجاندي وقفازًا أبيض نظيفًا.
عندما نظر إليها المفتِّش، تذكَّر صورة مشوَّشة لأرنب كان يحتفظ به في صباه.
سأل: «حسنًا يا إيمي، مَن هو خليلكِ؟ كلوب؟»
أجابت بلا مبالاة: «كان خليلي. أمَّا الآن، فهو هنري واتكينز.»
«هكذا سمعت. كيف حال تجارة المكانس الكهربائية؟»
«لا يحالفه الحظ.»
«مؤسف جدًّا. من الأفضل أن تحذِّري هنري أن الوقت قد حان ليحقِّق عملية بيع. يجب ألا يُهمِل الأعمال حينما يتعرف على مخططات منازل الناس.»
«ليس لديك شيءٌ ضدَّه.»
«ليس بعد … حسنًا، ما الذي جئتِ من أجله؟»
بدأت إيمي تسوِّي تجعدًا في قفَّازها لتثبت أنها لا مبالية.
قالت بنبرة تحدٍّ: «جئتُ لأبرِّئ هنري واتكينز. كان باستطاعتي أن أفعل ذلك بنفسي، إلا أنني لا أستطيع أن أثق في أن الشرطة ستصدق الحقيقة؛ لكوني صديقته. ولكن في السابعة مساءً هذا اليوم، أصابه المرض في الشقة. كان الطبيب يعالجه بجهاز غسيل المعدة وقد كانت حالته غايةً في السوء.»
سأل المفتش: «تأثير سُم؟»
«أخبرتُه أنه سُم فئران. وأظهرتُ له علبةً فارغة؛ فقط لأخدعه. ولكنَّ كل ما أعطيتُه حقًّا كان شرابًا. شيء غير ضار، ليمسك عليه أمعائه قليلًا ويجعله يتقيَّأ.»
«لماذا؟»
«لأقدِّم له حجةَ غيابٍ في ذلك الوقت بالطبع. الآن صار لديَّ شهود يُثبتون أنه لم يرتكب جريمةَ القتل.»
فجأة ظهر الاهتمام الشديد على وجه المفتش.
سأل بحدة: «أي جريمة قتل؟»
أجابت إيمي بإبهام: «الجريمة التي يخطِّط كلوب لتلفيقها لهنري. سيرتكبها هو بنفسه. امرأة ما. من المقدَّر أن تعود لمنزلها الفارغ وهو ينتظرها هناك. لكن لدي شهودي لإثبات …»
«ما عنوان المنزل؟»
أصابها الارتباك بسبب نبرة المفتش؛ فنظرت إليه، في حين أن عينَيها كانتا غائمتين من الكرب الشديد.
وقالت وهي تتلعثم: «بئسًا، لقد نسيتُ أمرها تمامًا. ظللتُ طوال الوقت أفكر في كيفية توفير حجة غيابٍ لهنري …»
«ما العنوان؟»
«لا أعرف. أوه، أمهلْني دقيقة. لقد جَعَلْتَني أنساه.»
تمكن المفتش من السيطرة على نفاد صبره حينما كان ينظر إلى وجهها الناعم المرتجِف. كان يعرف أنَّ أي محاولة لتحفيز ذاكرة إيمي لن تؤدي إلا إلى زيادة ارتباكها. فأشعل سيجارة، ووضعها بين شفتَيها، ثم رَبتَ على كتفها بطريقةٍ أبوية.
وقال: «خُذي وقتكِ. ستتذكرينه.»
وأبقى عينَيه مثبتتَين على الساعة حين تمرُّ اللحظات الثمينة التي قد يتم فيها إنقاذ حياة امرأة. أخذ ينقر بأصابعه على الطاولة ثم قرَّب يده من الهاتف استعدادًا. وقد فاتته اللحظة التي أشرق فيها وجه إيمي حين تذكَّرت.
قالت بنبرةٍ ظافرة: «تسعة عشر، ماديرا كريسنت، شمال غربي المدينة. كنت أعرف أني سأتذكَّره …»
قاطعها المفتش: «متى يُتوقَّع أن تصل المرأة؟»
«في الواقع، وصل قطارها إلى محطة فيكتوريا بعد السابعة بقليل. قال كلوب إنها ستأتي بقطار الأنفاق وستكون هناك في الثامنة على الأكثر. لقد أمَّنتُ حجة الغياب ولديَّ شهود …»
لم يسمعها المفتش. وبينما بدأ يتكلم في الهاتف، نظر مرةً أخرى إلى الساعة.
كانت الساعة التاسعة وعشر دقائق.