الفصل الخامس والعشرون

العالم السُّفلي

فكَّرت الآنسة لوفابل في نفسها مليًّا: «هذه هي مجاري باريس. أنا أرى الحياة.»

لم تكُن تشير إلى أعمال المرافق العامة في مدينة «النعيم والسعادة المطلَقة»، ولكنْ إلى الفساد المحلي الذي كان يُعرَض للسيَّاح مقابل مبلغٍ كبير من الفرنكات لكل سائح. كانت الآنسة لوفابل تتجول في العالم السفلي لباريس برفقة بعض الغرباء اللطفاء.

كانت هذه الرحلة مختلفةً عن الرحلات التي تنظِّمها الوكالات الرسمية لمشاهدة الحياة الليلية للمدينة. كانت وسيلةَ ترفيه متخصصة، يُراد بها إثارة الرعب والنفور من أجل الإبهار، من خلال قوة التباين. في هذه الرحلة، يمكن للأرانب السمينة والمُتخمة أن تنظر من خلال ألواحٍ زجاجية وتشاهد الثعابين الجائعة وهي تتلوى.

وعلى الرغم من أن الآنسة لوفابل بذلت قصارى جهدها للهيمنة على انفعالاتها، لم تتمكن من أن تُجبِر نفسها على الشعور بالإثارة. لم تكن لتعترف بالهزيمة، لكنها كانت متعبة تمامًا. الحقيقة أنها كانت شرِهة جدًّا في محاولتها لاستيعاب العاصمة الفرنسية في مرةٍ واحدة. كان كعبا قدمَيها يؤلمانها، ورأسها ينبض بالألم، وفي أحشائها إحساسٌ بالدهشة … لكنها كانت تعي شعورًا بخيبة الأمل والاشمئزاز أكثرَ من أي شيء آخر.

عندما وصلت إلى باريس في السادسة صباحًا، أخذت تتجول في أرجاء محطة القطار بانتظار أن تُفتَح المتاجر، بدلًا من الذهاب إلى فندقها والحصول على قسط من النوم. وبما أن غرف الانتظار كانت قيد التنظيف، لم يكن هناك حتى مقعد واحد يمكنها أن ترتاح عليه. كان عليها أن تتجول على الأرصفة وتشاهد وصول قطارات الصباح الباكر، مع المشهد غير المعتاد للعمَّال الجاثمين على المقاعد الخارجية.

في ذلك الوقت، كان المحيط من حولها يثير حماستها وكانت مبتهجة بشعورها بالحرية. كانت سعيدة أنها عادت وحدها مرة أخرى حيث تخلصت من الزوجين أمور. كان أمامها الآن يومٌ كامل، وقررت ألَّا تُضيِّع دقيقةً منه، بل ستتشرَّب هذه الأجواء الغالية بروح الحرص على التعلُّم.

تناولت الآنسة لوفابل الإفطار في أحد المقاهي، حيث جلست على الرصيف وشاهدت قدْرًا ضئيلًا خاملًا من الحياة الباريسية، عوضًا عن الرحلات القصيرة البهيجة التي يُروَّج لها. هبَّت ريحٌ بغيضة نفخت الغبار في عينَيها وألصقَت القُمامة بكاحلَيها، لكنَّها لم تنتقل إلى داخل المقهى. كانت هذه سمةً أساسية من الحياة الفرنسية؛ أن يتناول المرء الطعام في الهواء الطلق، وأن يُميل قبعته على إحدى عينيه أثناء تدخين سيجارة.

ولم يمرَّ وقت طويل حتى جذبت بعض الانتباه الذي لم تقابله بالمثل. وبعد أن دفعت المعجب الشاحب بعيدًا عنها حرفيًّا، ذهبت إلى مكتب توماس كوك وحجزت أكبر عدد من الرحلات المصحوبة بمرشد، والتي يمكن أن تُتخم بها وقتها المحدود.

قضت الآنسة لوفابل بقية اليوم في نزهةٍ حافلة بمشاهدة المعالم. كانت تمد عنقها لتحدق في الواجهات الخارجية للمباني الشهيرة — وتبعت المجموعة في وداعة بين أرجاء المعارض الفنية والمتاحف — واشترت بطاقات بريدية مصوَّرة بتدبير اقتصادي وحُسن انتقاء، فكتبت عليها أسماء جميع الأشخاص المشهورين الذين ذكَرَهم المرشِد. وبفضل صفاء ذهنها، استطاعت أن تفلت من مزيج الانطباعات التي تتشكل لدى السائح العادي، ولكن عندما عادت إلى فندقها، شعرت أنها نجحت في تحقيق إجهاد عقلي وجسدي شديدَين.

وكانت لطيفةً في التعامل مع الزوجين أمور عندما الْتَقت بهما بعد العشاء في المطعم الخافت الإضاءة بالفندق.

قالت السيدة أمور: «يا إلهي، تبدين مُتعَبة.»

أخبرتْها الآنسة لوفابل: «ينبغي أن تري الآخَرين. اسأليني ما الذي لم أره!»

«هل ذهبتِ مع مجموعة من السياح؟»

«نعم. أفضِّل التجول وحدي، ولكن الكثير من الرجال الفرنسيين يريدون تعليمي الإنجليزية.»

تبادَلَ الزوجان النظرات. ثم سألها الرجل الضئيل باحتشام: «هل ستعتبرين الأمر اجتراءً إذا طلبنا منكِ أن تأتي إلى مَلهى فولي بيرجير معنا الليلة؟ هذا عرضٌ يجب ألَّا تفوِّتيه، إذا كنتِ تستطيعين تحمُّل شيء من المجون.»

ترددت الآنسة لوفابل.

أقرَّت الآنسة لوفابل: «أودُّ أن يكون بوُسعي لاحقًا أن أقول إنني ذهبت إلى هناك، لكنْ عليَّ أن أرى الحياة الليلية في باريس. مكتب توماس كوك يقيم جولةً سياحية. ولا يمكنني أن أجمع بين الأمرَين.»

أخبرها أمور: «بلى، يمكنكِ ذلك. سنُريكِ العرض «الحقيقي» لاحقًا.»

لم تستمتع الآنسة لوفابل بالأداء في ملهى فولي. كان الجوُّ خانقًا جدًّا، كما أنَّ العرض أزعجها. وزاد شعورها بالملل الشديد من تصرفات العارضة العارية، حتى إنها كانت تتوق لأنْ تُسقِط العارضة وشاحها، فقط لكسر الرتابة.

وتذمَّرت قائلةً: «دائمًا ما أسأم من رؤية المنظر نفسه.»

وعندما خرجوا من المسرح مرةً أخرى، قررتْ أن تنهي يومها. فهزَّت رأسها بالنفي عندما أشار أمور إلى حافلة حمراء كُتب عليها بالفرنسية «الطريق إلى الجحيم.»

وأوضحتْ: «سأعود إلى الفِراش.»

فقال لها: «لن تنامي. فالضجيج هنا لا يتوقف. ستكون حركة المرور قد توقفت لدى عودتنا.»

وضعت الآنسة لوفابل حجته في اعتبارها، فرغم أنها كانت مرهقة، كانت حماستها أكبرَ من أن تشعر بالنعاس. وبما أنها لن تغادر باريس حتى بعد ظُهر يوم غد، فبإمكانها أن تبقى في السرير طوال صباح اليوم التالي، بدلًا من شراء قبعة. وقد تلاشت رغبتها في زيارة صانع قبعات الليدي بونتيبول بعد أن رأت مرَّات عديدة انعكاساتِ بدلتها الساتان السوداء بوضوحٍ في نوافذ المتاجر الباريسية.

وبينما كانت متردِّدة، انضمَّ إليهم مرشِد جولة إنفرنو تور. كان يرتدي معطفًا وقبعةً بيضاء أنيقَين، مثل السائق الذي كان يبدو رثَّ الهيئة، مع أشرطة من الجلد الأسود اللامع. أسرَّ هذا المرشد الآنسة لوفابل بابتسامته الماكرة. كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة بقدر طلاقته في استخدام لغة العوام في السب، وكان مظهره يوحي بشيطان صغير وشجاع كان قد خرج من دائرة اجتماعية أرقى.

سألها المرشد: «هل تودِّين أن تصنعي معنا معروفًا؟ لا يمكننا بدء هذه الجولة دون العدد الأدنى، وإلا سنجريها مع تحمُّل الخسارة. هناك بعض الأشخاص الساحرين المتحمِّسين جدًّا لزيارة عالم الجريمة. أستطيع أن أرى بالطبع أن الرذائل والنقائص لا تستهويكِ.»

فوافقتْه: «هذا صحيح. فمظهري لا يوحي بالرومانسية وزهور الكاميليا البيضاء، أليس كذلك؟»

نظر إليها المرشِد بإعجابٍ حقيقي.

وقال: «أنتِ تذكِّرينني بالورود الإنجليزية وجعة وورثينجتون. من فضلكِ كوني بريطانية وجربي الأمرَ ولو مرةً واحدة.»

بحلول هذا الوقت، انضم العملاء المحتملون الآخرون إلى المجموعة. كانوا يمثلون رباعيةً أنجلو-أمريكية جذَّابة؛ زوجَين إنجليزيين شابَّين وفتاة أمريكية جميلة مع خليلها. كانت المرأتان ترتديان فستانَي سهرة تحت معطفي فرو قصيرين، وكان الرجلان يرتديان سُترات سهرة.

أُعجِبَت ميس لوفابل بهم من النظرة الأُولى. كانوا يمثِّلون تغييرًا منعشًا بعد عدم التوافق الذي كان بين أمور وزوجته؛ فلم ترغب في تخييب أملهم. وبينما كانت تتجاذب أطراف الحديث معهم وتتبادل الانطباعات، دخل بعض السياح الآخرين الحافلة، فلم تكن بحاجة للبقاء؛ ولكن بحلول ذلك الوقت، كانت قد بدأت تستمتع بالمغامرة.

في البداية، شعرت بالرومانسية وهم يمضون بالحافلة عبر الظلام الذي يتخلَّله لونُ الزعفران الذهبي لمصابيح الغاز. وقد تحولت أفكارها بشكلٍ مربِك إلى الشرق؛ إلى الزنابق والفوانيس والموسيقى الغريبة الحلوة. وتذكرتْ بكنجهام وتمنَّت لو كان بجوارها عندما لاحظتْ أن الفتاة الأمريكية وعشيقها كانا متشابكَي الأيدي.

لكن مع استمرار الجولة، تلبَّدت سماء حالتها المزاجية بغيوم الخيبة، فلم تستطِع الانضمام إلى ما يحظى به رفاقها من استمتاع. إذ بدا الفساد المقدَّم واهنًا ومبتذلًا في ظاهره. كما زاد إنهاكها من الحرارة والوقوف والهواء السام في الأوكار المختلفة التي زاروها. أمضوا وقتًا طويلًا في كشكٍ فاسدٍ جدًّا، حيث جرتْ تسليتُهم بشيء من الغناء والرقص الغريب؛ فاتَهُم منه جزءٌ كبير، أو بالأحرى، جزء سيئ.

تناولوا العشاء في مطعمٍ صيني، حيث تناولوا أطباقَ الشوب سوي، وزعانف القرش، والبودل، والدجاج مع الأناناس، وشربوا الشاي بنكهة براعم الأقحوان. وبينما كانوا يتناولون الطعام، جاء المرشد إلى طاولتهم ليُدلي بإعلان.

فقال: «سنقدِّم لكم الآن ما يعدُّ قمةَ الإثارة في برنامجنا. سنريكم وكرَ الأفيون. في حالته الخام … ولكنْ أولًا، يجب أن أقدِّم لكم تحذيرًا. يجب على السيدات ألَّا يدعنَ الرجال يغيبون عن ناظرهنَّ، أو أن يسمحنَ لأنفسهنَّ أن يستميلهنَّ أحدهم بعيدًا ولو لثانية واحدة.»

فسألت الفتاة الأمريكية: «لماذا؟»

غمز المرشد غمزةً طفيفة للغاية لأحد الشباب.

وسأله: «هل أُخبرهم؟ أم أن هذا سيُخيفهم كثيرًا.»

قرر الشاب: «كلَّا، بل أطلِعْهم على كل شيء. يجب أن يكونوا حذِرين. أخبِرهم.»

قال المرشد بابتسامة: «قبل بضع سنوات، قام شابٌّ إنجليزي وأخته بجولةٍ مثل هذه، ولكن ليس معنا. شاهَدا العروض، وتناولا الطعام وفَعلا كل شيء. تمامًا مثلكم. في الواقع، قد تكون ليلتنا هذه مشابِهة تمامًا لتلك الليلة. وعندما كانا في وكر الأفيون، دُعي الشاب إلى الباب لرؤية رجلٍ كان لديه شيء مثير جديد. ولما عاد وجد الغرفة فارغة. كانت أخته قد اختفت.»

سألت الآنسة لوفابل: «إلى أين ذهبَت؟»

«الرب وحده يعلم. فقدَ الشاب عقله. أخذ يُهرَع من غرفةٍ إلى أخرى. لكنه لم يجد أحدًا. ثم استدعى الشرطة. داهموا المكان. لكنهم لم يجدوها مطلقًا … ومع مرور الوقت، ركنت الشرطة إلى الاعتقاد بأن الفتاة الإنجليزية لم تكن حقيقيةً وإنما مجرد وهم. لأنها لم يُرَ لها أثر مرةً أخرى مطلقًا.»

«ماذا حدث لها؟»

«من الأفضل ألا تفكري في ذلك.»

فانفجرت الآنسة لوفابل في الضحك.

وقالت: «إذَن أنت في ورطةٍ أيها المرشد، سأتعلق بك ولن أدعك تغيب عن ناظِرَيَّ لحظة. لن أُشيح ببصري عن هذا المعطف الأبيض. إذ يجب أن أعود إلى إنجلترا غدًا؛ لأن لديَّ بعض الأعمال المهمة.»

تبادل الزوجان أمور نظرات ماكرة. خمَّنَّا طبيعة تلك المهمة، التي كانت إعادة الجواهر إلى الليدي بونتيبول.

اتجه الجميع إلى كهف الأفيون في جوٍّ من الشك والتمرد؛ ولكن عندما برزوا من حول الزاوية إلى غرفةٍ مظلمة ومتدنية السقف، لم يكونوا مستعدين للرعب الذي كان ينتظرهم. أظهرت بعض الأضواء الخافتة أرائك قذرة، وكان عليها أكوام من القُمامة، كأنها تنتظر عربة جمع القُمامة. كان هناك شخصٌ ما يبدو كأنه جثة تأخَّر دفنها كثيرًا؛ إذ كانت بشرته زرقاء مبرقشة ومشدودة بإحكام على وجهٍ برزت العظام منه؛ وكان هناك شخصٌ آخر ملامحه بلا شكل ومصفرة، مثل دُمية شمعية تُركَت في الشمس.

كان الجو معبَّأً بمزيج من الروائح التي اتحدت في رائحة واحدة نتنة وطاغية؛ رائحة عرق بشري متبخِّر من شدة الحرارة، ورائحة طعام … طعام نتن، ورائحة صرف صحي … رائحة قذارة، ورائحة فئران، وغازات، وبانجو، وتنباك، ورائحة الأفيون الكريهة.

كان الصوت الوحيد المسموع في المكان هو صوت هسهسة خشنة مستمرة، وكأنه صوت رئتين ترشحان آخر ما فيهما من هواء.

كسرت الفتاة الأمريكية حاجز الصمت.

فقالت، بنبرة محمومة: «لنذهب. أكره هذا المكان.»

وبينما كانوا يتبعونها جميعًا نحو الخارج، بدأ الشبان يضحكون.

وقال الشاب الإنجليزي: «بيتي مرتاعة. من الأفضل أن نقر بالحقيقة … اسمعوا يا قوم. كل ما رأيتموه الليلة زائف، من البداية إلى النهاية. كل شيءٍ معدٌّ خصوصًا للسُّياح. وتلك الحكاية عن الفتاة المفقودة مشابهة لقصة «السجين الإسباني». كل شيءٍ زائف.»

وربَّتَ على كتف مرشد النزهة.

وحثَّه قائلًا: «أخبرهم بما أخبرتني به. أخبرهم أن الخدعة انطلت عليهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤