الفصل السادس والعشرون

سحر

لم يرُدَّ المرشد على ما قاله له الشاب سوى بابتسامةٍ ساخرة. ثم دعا زبائنه ليجتمعوا حولَه وخطَب فيهم خطبةً صغيرة.

«سيداتي وسادتي، انتهَت الجولة الآن. آمل أن تَنتفِعوا بمَغزاها وعِبرتها وبأني لم أخيِّب ظنَّكُم باعتباري رفيقَكُم إلى العالم السفلي. آمل كذلك ألا نلتقيَ ثانية؛ في الجحيم. سيداتي وسادتي، شكرًا جزيلًا لكم.»

وبينما تفرَّق جمهورُه ليتَّجهوا نحو الحافلة، نادَى عليهم ثانية.

«لحظةً واحدة سيداتي وسادتي. على الرغم من أني لم أعُد مقرونًا بكم، ما زلتُ في خدمتكم. ربما ترغبون في زيارة أحد المستودَعات ومشاهدة بعض أعمال التطريز الصينية الأصيلة؟ لا أُخفيكم سرًّا، هذه بضاعة مهرَّبة، لذا لن يتعرَّض أيُّكم للغِش.»

كانت الآنسة لوفابل تتُوقُ للعودة إلى الفندق، لكن بقية السياح كانوا قد ابتلَعوا الطُّعم. كانت الفتياتُ يتطلَّعن إلى فرصةِ إبرامِ صفقة، وحاوَلْن أن يُشرِكنَها معهن.

قُلْن لها: «سنحصُل على أردية كيمونو وأرديةٍ منزلية في غاية الرَّوعة بنصف السِّعر.»

عاجلَتْهم الآنسة لوفابل بردها: «هناك جمارك.»

فقاطعَها المرشد: «كلَّا. سيُدَوِّن الصينيُّ على فاتورتكِ نصفَ ما تدفعين فقط. وسيُعيِّن البضائعَ على أنها تالفة.»

قالت الآنسة لوفابل: «إذن لا يُمكِن أن يكون الرجل صينيًّا أصيلًا. فالصينيون عِرقٌ صادقٌ ونزيه.»

حملَق فيها المرشد قبل أن يلتفتَ إلى بقية المجموعة.

وقال: «أخشَى أني سيتعيَّن عليَّ أن أطلبَ منكم أن نذهبَ سيرًا؛ فالشوارعُ أضيَقُ من أن تمُر بها حافلةُ الجَوْلات السياحية. لكن المكان ليس ببعيدٍ عن هنا. اتبعُوني أيها السيدات والسادة.»

فَرْقَع الرجل بأصابعه من خَلفِه إشارةً لهم أن يتبعُوه، وتقدَّمهم عَبْر مجموعة متشابكة من الشوارع الحقيرة والقَذِرة وشبكةٍ من الأفنية الصغيرة. تبعَته المجموعة كيفَما ذهب، عدا الآنسة لوفابل التي كانت تحفَظ المنعطفات بحذَرٍ غريزي.

قرَّرَت في نفسها: «لن تكونَ هناك قصةُ فتاةٍ مفقودةٍ أنا بطلتُها.»

وخلفَها تمامًا، كان الرُّباعي الأنجلو-أمريكي يتناقشون حول وَكْر الأفيون.

قال الشابُّ الإنجليزي: «على أيِّ حال، لقد أخبَرنا المرشد نفسه أن كلَّ شيء كان مزيفًا. وكان هذا هو رأيي الشخصي. كان باستطاعتكم تمييزُ وجهَين اثنَين فقط. الأزرق والأصفر. ومن السهل التنكُّر لتبدو الوجوه بهذا الشكل في ظلِّ الإضاءةِ الخافتة. تذكَّروا، لم يُسمح لنا سوى بالنظر. لم يُسمح لنا أن ندلفَ إلى الداخل ونتحرَّى الأمر.»

فسألَت الفتاةُ الأمريكية: «مَن الذي يُمكِن أن يرغَب في ذلك؟ إن نشقةً واحدةً من ذلك السُّم كفيلةٌ بأن تقضي على ظربان. كان الأمرُ كلُّه زائفًا بالطبع. كلُّ الأجسامِ الأخرى بدَت كالجُثَث، لأنها لم تكُن على قَيد الحياة. كانت مجرَّد دُمًى.»

جادَل خليلها قائلًا: «أوافقُ على أن العرضَ كلَّه يمكن تزييفُه بسهولة. في الوقت نفسه، سيكون من الأرخص والأبسط إعطاؤنا لمحةً عن الشيء الحقيقي. أنا متأكِّد من أن الأمر كان على هذا النحو. كان المرشد يَكذِب لأنه لم يرغَب في أن يُخيفَ النساء.»

استمعَت الآنسة لوفابل بغيرِ انتباهٍ للمناقشَة التي قطعَها وصولهم إلى المستودَع. وبعد المرور من خلال بابٍ في جدار غلف خلا من أيِّ شيءٍ سوى الباب، صعدوا درجًا خشبيًّا يُشبِه السلم للوصول إلى غُرفةٍ علويةٍ ضخمة. كان السقف متدنيًا، وشكلُ الغرفة غير مُنتظِم، لكن كان من المستحيل تصوُّرها بوضوح أو رؤيةُ أكثر من بضعة أمتار في أيِّ اتجاه، بسبب الكثير من الحُجُب والستائر والخزائن الطويلة التي كانت تحجُب الرؤية.

كانت الإضاءة الخافتة تأتي من فوانيس ورقية بلون العنب الأزرق، المزيَّنة بشعارات خضراء، أعطت انطباعًا بأن المكان مُضاءٌ بضَوء القمر. لم يكن هناك تهويةٌ وكان الهواء معبَّأً بروائحَ عطرية، وعطورٍ وأخشاب. كانت هناك مجموعةٌ كبيرة من البضائع الجميلة في كل مكان؛ أثاث بطلاءٍ أحمر، ولفائف سجَّاد راقية وبُسُط بيضاء بلَون الثلج، وستائر ومطرَّزات حريرية، وأكواب شايٍ خزَفية، ومصابيح رقيقة تكمُن فيها زنابق يُفتَرض أنها نادرة.

وبسبب الازدحام، انقسمَت المجموعة على الفَور إلى أزواجٍ ومتجوِّلين وحيدين بحثًا عن صفقة، حتى إن الآنسة لوفابل أخفقَت في ملاحظة أنهم لم يكونوا مجموعةً كاملة. وبعد همسة سريعة لزوجته، ظلَّ أمور متأخرًا ليتحدَّث إلى سائقِ الحافلة الرثِّ الهيئة.

ابتهلَت الآنسة لوفابل في سريرتها، وهي ضَجِرة ومُنهَكة، أن تأتيَ لحظةُ الإفراج حتى يُمكِنَها العودة إلى فُندقها. كان حماسُ الآخرين وترددهم يثبِّط تلك الرغبةَ باستمرار. كانوا كالفراشات التي لا يُمكِنها الاستقرارُ على أي زهرة؛ لأنه كان هناك الكثيرُ منها. وكان ثمَّة رجلٌ صينيٌّ بَدين يملك المُستودَع ينتظرهم في سكونٍ شرقي ريثما يحدِّدون اختياراتهم، بينما بدا أن مساعديه يدخلون في جو اللعبة.

أعطى المساعدون الانطباعَ بأنهم رجلٌ واحد فقط، ما لم يتصادف أن يظهَروا معًا؛ حيث كانوا يتجولون خلف الحُجُب ليخرجوا دائمًا ببضائعَ جديدة، كما لو كانوا تجسيدًا لرُوحِ الإغراء.

وأينما توجَّهَت الآنسة لوفابل بنظرها كانت ترى نسخةً مكرَّرة للتنِّين، مصنوعةً إما من الحرير أو الزينة الملوَّنة أو الطلاء. وبينما كانت تحدِّق، اعترَتها ذِكْرى وظلَّت تُراوِدها. وأصبح الشعور بالألفة قويًّا لدرجة أنها بدأَت تتساءل هل كانت في الواقع أميرةً خزفية في حياةٍ سابقة.

ثم انفجَرَت ضاحكةً عندما أدركَت التفسير. كان المكانُ يذكِّرها حقًّا بمسرحٍ لإحدى حلباتِ سباقِ الخيل اليونانية أو بمسرحِ الكولوسيوم؛ حيث يتَوارى الساحرُ الشرقيُّ المزعوم خلفَ حجاب لثانية واحدة ثم يعود للظهور في صورة فتاةٍ راقصة تدور حول وعاءٍ من النار.

كان سحرًا … ولكنه سِحرٌ يعمل من خلال حِجاب.

بحثَت الآنسة لوفابل عن المرشد وثبَّتَت عينَيها على معطفه الأبيض.

وقالت في نفسها: «إن غابَ عن ناظريَّ لحظة، فسيتحوَّل إلى أرنب.»

مرَّ الوقتُ ببطء، وبدأَت الآنسة لوفابل تقترب من أقصى حدود قدرتها على التحمُّل. وفي حين رفضَت أن تتأثر بالإثارة المنظَّمة لوَكْر الأفيون، كان الانطباع التراكُمي للجولة يؤثِّر بشكلٍ كبير على عقلها. فعادت ومضاتُ الذكريات من الساحاتِ الصغيرة والأزقة القذرة تتزاحَم في ذهنها؛ الرباط المتيبِّس لمُتسوِّلٍ مشلول، مثل قطعة من السمك الميِّت … الملامح الملطَّخة لامرأةٍ غارقة في البراندي وجسمها المنتفخ … وفتاة من الطبقاتِ المتعلِّمة في سنِّ المراهقة ثمِلة وترقُص في مقهًى.

كانت تلك المشاهدُ الفظيعة حقيقيةً ومنفصلة عن أي شيءٍ مزيَّف يُعنَى بتوفير الترفيه والتسلية للسياح. ولأن الإرهاق الذي ألمَّ بها جعلَها في حالة من الحساسية المُفرِطة، فقد ملأَها إحساسٌ مفاجئ بالاشمئزاز من كل ما يُحيط بها. شعَرَت الآنسة لوفابل وكأنها تركَت النظافة واللياقة وتجاوزَت حدودَ القوانين والحضارة إلى ظلام الفوضى، التي كانت نتاجَ تفكيرٍ عميق لعقل مختل لشيطان فاقد الحس.

ثم نفضَت عنها هذه الحالةَ المزاجية حين حدَّثَتها الفتاة الأمريكية الجميلة.

«أتمنى أن نستطيعَ العودةَ إلى الفندق. أريد أن أتحمَّم. فهناك حشرةٌ تقرصُني.»

جعلَت كلماتُها الآنسة لوفابل تُدرِك أن برغوثًا قد أصابها هي الأخرى.

فردَّت عليها وهي تحكُّ ساقَها: «حالي كحالكِ. ألا يُمكنكِ أن تطلبي من أصدقائكِ أن يُسرعوا؟»

لكنَّ الزوجَين الإنجليزيَّين اليافعَين كانا يُناقِشان سعر كتل من الكهرمان ويرفضان أن يستعجلَهما أحد. وبدأَت الآنسة لوفابل تؤكِّد على استقلالها وهي تشعُر بالتملمُل.

«لن أظلَّ منتظرةً هنا من أجلِ أهواءِ الآخرين. سأعودُ إلى فندقي. إن لم أستطع أن أستقلَّ سيارةَ أجرة، فسأعود سيرًا.»

سألَتْها الفتاةُ الأمريكية: «أتعرفين طريقَ العودة؟»

«أوه! أجل؛ فأنا أتمتَّع بالقدرة على تمييزِ الاتجاهات.»

«أنا حقًّا معجَبة بهذا الهدوء البريطاني. نادرًا ما يسمع المرء عن امرأةٍ إنجليزية تَفقِد رباطةَ جأشها.»

ردَّت عليها الآنسة لوفابل بعدم اكتراثها الخادع المعتاد، وهي تعي سرًّا تفوُّقَها العِرقي على بقية العالم.

«أوه! نتمكَّن من تدبُّر أمرنا بطريقةٍ ما.»

وبينما كانت تتحدَّث، أبقت عينَها مُركزةً بصورةٍ تلقائية على المِعطَف الأبيض للمرشد. تثاءب المرشد وهو ينظر في ساعته قبل أن يتحدَّث إليها.

«ألا يُوجَد ما يثير فيكِ رغبةَ الشراء يا سيدتي؟»

فأجابَتْه: نعم. لا أومن بأن يحصُل المرء على شيءٍ مقابل لا شيء. لا بد أن هناك خدعة. لا بد أن هذا الرجل الصيني يَجني العمولات التي يتحتَّم عليه أن يدفعها.»

«تقصدين أني أحصل على عمولة أو فائدة. في الواقع، أنا لا أعمل لوقتٍ إضافي من أجل صحتي.»

في تلك اللحظة، اجتذبَت انتباهَ السيدة أمور، التي كانت قد دأبَت على تتبُّع الآنسة لوفابل، لوحةٌ من الحرير الأزرق الصلب والمزيَّنة بزهور اللوتس.

«ألن تبدو هذه قطعةً مركزيةً جميلة على غطاء الفراش في الزفاف؟»

أمسكَت بها الآنسة لوفابل أمام المصباح ثم هزَّت رأسَها.

وأجابَتْها: «إنها مهترئة. ألا تَرينَ الثقوبَ التي أحدثَتْها الدبابيس؟»

«ربما كانت من طرازٍ عتيق … أوه! أين مرشدنا؟»

أدركَت الآنسة لوفابل أنها كانت قد نسيت قرارَها بألا تدَع مرشدَهم يغيب عن ناظرَيْها. فانطلقَت تتجوَّل حول الحُجُب حتى وقعَت عينُها على المعطف الأبيض وهو يغيبُ خلفَ ستارةٍ ما.

فسألَت: «أين ذهب؟»

وردَّت السيدة أمور: «إنه بجوار الباب. انظري، إنه يُشير إلينا أن نتبعَه. لا يُمكنكِ أن تلومي هذا المسكين. يتعيَّن عليه فعلُ ذلك كلَّ ليلة، أيامَ الآحاد وكلَّ الأيام.»

وبينما هي تتحدث، أحدث المرشد فرقعةً بأصابعه من خلفِ ظهرِه في إشارته المعتادة، وذلك قبل أن يخرجَ من المُستودَع.

سألَت الآنسة لوفابل: «أين الآخرون؟»

«أظنُّ أنهم ذهبوا. إنه ينتظرنا.»

في تلك اللحظة، سمعَت الآنسة لوفابل ضحكةَ فتاة.

فقالت: «كلَّا، ما زالوا هنا. يجب أن أُخبرَهُم أننا سنغادر. انتظريني هنا.»

أسرعَت الآنسة لوفابل في اتجاه الأصوات تنسلُّ خلف الحُجُب والستائر حتى وصلَت إلى كوَّة كانت فتاةٌ ورجل يتفاوضان فيها مع بائعٍ صيني.

فنادت تقول: «أسرِعوا. سنُغادر … أوه! أنا آسفة. ظننتُ أنكم تنتمون إلى مجموعتي.»

وبينما كانت تنظر إلى وجوه الغرباء المتفاجئة، راودَتْها أولى بوادر الشعور بالقلق. بدا من المتعذَّر متابعة بحثها عن الرباعي الأمريكي البريطاني في هذا المكان المربك، خاصة وأن الاحتمالات كانت تقول إنهم تغوَّلوا فيه. صحيحٌ أنها تحدَّثَت عن العودة وحدها إلى فندقها، ولكن لأنها كانت قد حفظَت المنعطَفات في شبكة الشوارع، أصبح عقلها متعبًا ولم تعُد واثقة.

فقَرَّرَت: «يجب أن أتبعَ المرشد.»

لم يكن هناك أيُّ أثَرٍ له عندما غادرَت المستودَع وأخذَت تبحث عنه في ممر مظلم كريه الرائحة. كان الممر مضاءً بإضاءةٍ خافتة في الطرف الأقصى منه بشُعلةٍ واحدة من الغاز، انبثَق منها لهبٌ طويلٌ أزرق. كانت التُّخَت بالية، وقد قرضَت الفئران إزار الجدران، كما كانت جدرانُ الجَصِّ المتدرِّجة مليئةً بالخَرْبَشات.

اقشعرَّت الآنسة لوفابل من الاشمئزاز.

وفكَّرَت في نفسها: «ما هذه الحفرة القذِرة. لماذا لا ينتظرني ذلك الشقي؟»

وإذ كانت السيدة أمور قد اختفَت هي الأخرى، بدأَت الآنسة لوفابل تركُض محاوِلةً اللحاق بها. وعندما وصلَت إلى المنعطَف ولم ترَ إلا ممرًّا ثانيًا ينعطف خارجَ أفق الرؤية، شعَرَت بوخزةٍ أخرى من الاضطراب. وعلى الرغم من إدراكها السليم، كان لديها إحساسٌ بأنها تُستدرَج بعيدًا. في تلك اللحظة، كانت عالقة؛ لأنها فقدَت المرشدَ والسيَّاح الآخرين.

ولما توقَّفَت، رأت من خلال نافذةٍ صغيرة لها قضبانٌ صَدِئة مثبَّتة عاليًا في الجدار ضوءَ القمرِ الأحدب. جعلها إيمانُها بالخرافات تشعُر بشعورٍ غامض يتألف من الخوف والريبة، كلما كان القمر في طريقه إلى الاضمحلال. بدا ذلك تحذيرًا لها … علامة لها على أن كارثةً قادمة.

حاولَت أن تقدِّم إثباتًا على الثناء الذي أثنَت به الفتاةُ الأمريكية عليها وأن تُحافِظ على رباطة جأشها بينما كانت تفكِّر مليًّا في إمكانيةِ وجودِ كارثةٍ كامنة. وحتى لو قبلَت بالتفسير المقرَّر بأن ما رأوا من إثارة مزيَّف وبقصة «الفتاة المفقودة» المختلَقة، كان عليها أن تواجه حقيقةَ أن امرأةً وحيدة وتفتقر إلى الحماية وتستكشف عالم الإجرام والفساد لمدينة كبيرة ما تزال تواجه خطرًا جسيمًا. وكانت قد قرأَت كثيرًا عن جرائم ارتُكبَت من أجل بضعةِ جنيهاتٍ فقط.

فحسمَت أمرَها قائلة: «سأعود إلى المستودَع. لا بد أن هناك أشخاصًا آخرين لُطَفاء سيريدون العودة إلى فنادقهم.»

كانت تستدير لتعود أدراجَها عندما سمعَت صوتًا خافتًا على مسافةٍ منها. كان شخصٌ ما يناديها باسمها.

في ظل هذه الملابسات، كان استبشارها بهذا النداء تقريبًا مثل استبشار الخَلقِ بالنَّفخِ في الصُّور. صاحَت الآنسة لوفابل لتُعلِن قُدومَها، فاندفعَت في الممَر وانعطفَت مع الشارع. ووصلَت في الوقت المناسب لترى رأسَ السيدة أمور تظهَر من بئرِ سُلَّمٍ متهدم.

صاحت السيدة أمور: «هلُمي. نحن جميعًا بانتظارك. أنتِ تُؤخِّرينَنا.»

وبينما توجَّهَت الآنسة لوفابل نحوهم في اضطراب — كأنها تلميذةٌ متقدِّمة في العُمر عن بقية زملائها — ونزلَت الدرَج المتهدِّم، استطاعت رؤيةَ مِعطَف المرشدِ الأبيض يلمع عَبْر الظلام تحتها. كان يُوليها ظَهرَه، ولكن عندما وصلَت إلى أسفل الدرَج، استدار بقوَّة وهو يرفع كلتا ذراعَيه كما لو كان يُسدِّد الضربة الأولى في لعبة الجولف.

ثم ضرب رأسَها شيءٌ رطبٌ وثقيل — وكأنها حلوى بودينج مربوطة في قماش — فانهارت على الأرض وظهرُها مُستندٌ إلى الجدار.

وقبل أن تفقد الوعي، مرَّت بها لحظةٌ من النفور الطاغي والصدمة القوية. فبدلًا من أن ترى ابتسامةَ المرشد المرحة، رأت وجهَ أمور المُكفهِر، وكان مشدودًا ومشوهًا بفعل ما بذل من جهدٍ مُرَكَّز.

في لحظة التكشُّف هذه، شعَرَت كأنَّ بالوعةً قد انفجَرَت أمامها فجأة، ليخرج منها جرذ مجارير …

انتزع أمور علبة المجوهرات ودسَّها في يدَي زوجته.

وأمرها قائلًا: «أسرعي. اقفزي في سيارة أجرة. سألتقي بكِ في محطة جار دو نور.»

ولم تلبث أن فتحت الباب حتى نادى عليها مرةً أخرى.

«تبًّا، تلك الخرقاءُ ثقيلةٌ للغاية. ساعديني في إرقادها في الخارج؛ اللعنةُ عليها.»

وبينما كانا يجُرَّان الآنسة لوفابل ويُزحزِحانِها على الحصى، كان هناك من يفتَقدُها في المستودَع. فعندما انتهى المرشد من التحقُّق من فواتيره مع المالك الصيني الغشَّاش، تذكَّر تأكيدها القاطع على الأمانة الفِطرية لهذا العِرق السامي.

وفكَّر في نفسه: «ليتَه كان صينيًّا بحق، وليس هذا المخادع.»

وعندما عاد إلى رعاياه، بحث عنها في المكان.

ثم سأل: «أين تلك الوردة الإنجليزية؟»

فأجابَتْه الفتاة الأمريكية الجميلة: «عادت إلى فندقها.»

«دون أن تقول لي «وداعًا». لكنها لن تتعرَّض لأذًى … تكاد تلك المرأةُ تجعلني أتطلَّع إلى الحياة الأسرية … لكن فات أوانُ ذلك الآن. نساءٌ أكثر من اللازم. لن تُفارقَني هذه اللعنة أبدًا.»

ثم أضاف وقد تغيَّرَت نبرته: «لم أعُد مسئولًا عنكم. ولكن إذا جئتم معي الآن، فسآخذكم إلى موقفِ سياراتِ الأجرة.»

بعد فترة وجيزة دخل الرجل شقَّتَه الصغيرةَ اللائقة، وعانَق زوجتَه الضئيلة وفرَك لثة الطفل.

ثم سأل: «هل خرج السنُّ بعد؟ كان لديَّ الليلةَ مجموعةٌ كبيرة من الأغبياء. واحدةٌ منهم فقط لم تسقُط. كانت صريحة ومُنصِفة. لونها كلون الورد وممتلئة دون أن تكون سمينة … كلَّا، لا تصفعيني. لم أتحسَّس جسدَها.»

جلس الرجل الضئيل السعيد لتناوُل العشاء مع زوجته المُحِبة وقد ربط مئزرًا فوق بدلَته الأنيقة …

كانت الآنسة لوفابل مستلقيةً على البلاط القذِر لفِناءٍ صغير وهي غائبةٌ عن الوعي إلى حدٍّ ما. وبين الحين والآخر كانت تُفيقُ للحظاتٍ على لمحاتٍ مروِّعة لما حولها. كان هناك صفٌّ مسنَّن من الزجاجات ناتئ على جدارٍ عالٍ. كما سمعت أصواتًا صاخبة لحفلة سُكر مُطوَّلة، وقتالٍ بين قطط؛ وكلاهما كان يدور بلغةٍ غير مفهومة لها. ثم هناك البرودة التي تسلَّلَت إليها، ورائحة القذارة — والألم النابض في رأسها المصاب.

كان أولُ ضوءٍ فاترٍ للفجر يُضيء السماء حين فتحَت عينَيها لتستقبل فريق الإنقاذ المؤلَّف من عاملِ نظافةٍ يرتدي قميص العمال وشرطي. كانا يتحدَّثان معًا همسًا وبانفعال.

وعندما رحَّب الموظَّف المسئول بعودتها إلى الوعي بسيلٍ من الأسئلة، أثبتَت كفاءةَ وعيِها في ظل الشدائد. إذ كانت لغتُها الفرنسية التي تحدَّثَت بها لغةَ فتاةٍ عادية على قدر جيد من التعليم، ولكنها كانت تفتقد للتعبيراتِ الأصلية. علاوةً على ذلك، كان اللَّبسُ يكتنفُ الموقف بينما كان ذهنُها غير قادر على تحمُّل الضغط.

ولمَّا جلسَت، بدأ كل شيء يدور حولها، ولكن قبل أن يُغشى عليها، تمكَّنَت من نطق كلمتَين سحريتَين بوضوحٍ وثبات.

«توماس كوك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤