السهر
يوم الثالث عشر من سبتمبر، استيقظَت إلسي مبكرًا وقطعَت الورقةَ القديمة من التقويم. وعلى الرغم من أنها كانت تتطلَّع إلى هذا التاريخ الذي كان من المقرَّر أن تعود فيه الآنسة لوفابل إلى إنجلترا، كانت سعادتُها مشوبةً بالحَيْرة. فطَوالَ ليلتِها التي قضَتها في نومٍ متقطع، كانت تُعيد النظر في مشكلتها كلما فكَّرَت في سيدتها التي تستقلُّ قطارَ كاليه.
الذهابُ إلى لندن أم عدمُ الذهاب إليها.
كان قرارها هو البقاء في المنزل وتجهيزه على مهل، ولكن كلما قرَّرَت أن تسلك الدرب الأسهل، كان ضميرها يتهمُها بالجبن. كانت نفسُها تضيق من فكرة عودة الآنسة لوفابل إلى منزلٍ مظلمٍ وفارغ، دون أحدٍ لاستقبال الطارقين على الباب ولإبعادِ الرجالِ الغرباء.
دفعَتْها ذكراها عن القمر الباعث على الكآبة والذي رأته عند الغسَق إلى أن تُمضي الصباحَ في فَورةٍ محمومةٍ من العمل، الذي كانت قوَّتُها لا تُكافِئ القيام به. وعلى الرغم من أنها كانت تعلَم أنها لم تحقِّق من هذا العمل سوى ما كانت الآنسة لوفابل ستُسمِّيه «عملًا طائشًا وغيرَ مُتقَن»، كانت ترتجفُ من الإرهاق، وحينها نزعَت عنها الوزرة وهُرِعَت عَبْر الحديقة نحو الخارج.
كان آلُ بيت يعيشون في منزلٍ كبير على الطراز الجورجي على أطراف القرية. وكانت الابنة الكبرى — واسمها أجاثا — تشذِّب الحديقة الأمامية عندما سمعَت صريرَ البوابة ورفعَت رأسَها لترى إلسي. على عكس المستوى العالي من النظافة المعتاد منها، بدَت الفتاة متسخةً ورثَّة الهيئة كما لو كانت تستغلُّ غيابَ السلطة.
سألت إلسي بنبرةٍ مرحة: «هل تودِّين دعوةَ شابَّين نبيلَين للبقاء معكِ هذه الليلة؟»
ولكن، للأسف، ضايقَت محاولتُها للتحدث بنبرةٍ مرحة الآنسة بيت.
فسألَتْها الآنسةُ بيت بصرامة: «هل تَعرِضين أن تصنعي لي معروفًا؟ إن كان الأمر كذلك، فأنا لستُ بحاجة إلى معروف، شكرًا لك.»
أكَّدَت لها إلسي بسرعة: «أوه! كلا يا آنسة. كل ما في الأمر أن سيدتي ستعودُ الليلة وأظن أنني يجب أن أكونَ في المنزل في لندن لأستقبلَها وأعتنيَ بها، لذا أطلبُ منكِ أن تتكرمي بالاعتناء بصغارنا.»
لم تتوقف أجاثا بيت لتنظُر في مزايا الأمر. كل ما كانت تعرفُه هو أن الضيوف المقترحين سيُسبِّبون مشاكلَ مع وجود كلابها القساة، بينما لم تكن تهتم بما يكفي لأمر إلسي لتُضحِّي براحة بالها.
فسألَتْها الفتاة: «هل تتوقع الآنسة لوفابل حضوركِ؟»
«كلا، ولكني أظُن أنها ستكون مفاجأةً سارة.»
«إذَن يا إلسي، ستُضطرِّين لمفاجأَتها في منزل البحيرة. لا أستطيع أن أتحمل مسئولية سكوتي وديفيد. فأنا مشغولة بالتزامٍ ما.»
ومن دون أن تنظر ثانيةً إلى إلسي، شرعَت أجاثا في تشذيب العُشب فجعلَته يُعاوِد التطاير في وابل أخضر قوي، دلالةً على أن هذه المناقشة قد انتهَت.
في واقع الأمر، كانت إلسي مرتاحةً إلى هذا القرار الذي أزال عنها نصَب القلق. فسارت ببطءٍ عائدةً إلى منزل البُحيرة؛ لأنه كان أمامها متَّسَع من الوقت بعد أن خرج الأمر من نطاق سيطرتها. فلم يكُن هناك غير الآنسة بيت تستطيع إلسي أن تأتمنه على الحيوانَين الأليفَين، ولم يكُن باستطاعتها أن تتركَهُما وحدَهما أثناء الليل.
مما يُؤسَف له أن ذهنها لم يكن يتمتَّع بثبات الرأي. فقبل أن تمُرَّ ساعةٌ أخرى، عادَت ثانيةً إلى حالةٍ من التقلُّب المزاجي. إذ جعلَها التذكير بأن عليها الاستعداد للِّحاق بقطار الثالثة وخمس وخمسين دقيقة — في حال احتاجَت الذهابَ لاستقبال سيدتها — تدخُل في حالةٍ من التنظيف والتلميع بجهدٍ كبير. ولمَّا توقَّفَت من أجل أن تُغيِّر ملابسَها، أخرجَت لسانَها إلى الهاتف.
وقالت موجِّهة كلامَها له: «ليدقَّ جرسُك كما يحلو له. لن أنزل وأنا مبتلَّة لأُجيبَ عليك …»
وبينما كانت إلسي تتحمَّم في حوض الاستحمام، كانت الآنسة لوفابل تُجري لقاءها الثاني مع ممثِّل توماس كوك في باريس. حدث هذا اللقاء في غُرفة نومها، حيث لم يكن بالفندق قاعاتٌ عمومية. على أيِّ حال، كان على الآنسة لوفابل أن تظلَّ ملازمة الفراش بأوامرَ من الطبيب. وكان الطبيبُ قد وضع ضمادةً على جبهَتها وأوصَى لها بالراحة نتيجةَ الصدمة التي تعرَّضَت لها من الضربة، بينما أشار بلباقة إلى حقيقة أنها فقدَت وعيَها جرَّاء صدمةٍ قوية لا يُستهان بها.
«كلا، يجب ألا تنهضي. ستجلسين في القطار غدًا. الأفضل أن تظلِّي راقدةً على جانبكِ طَوال الوقت من أجل تهدئة الضغط.»
كان الانصياعُ إلى العلاج السلبي بمنزلة التعرُّض لتعذيبٍ نفسي بالنسبة للآنسة لوفابل. وقد تأجَّجَت نيرانُ تمرُّدِها بعد زيارة وكيل توماس كوك؛ لأنه أحضَر معه جوازَ سفرِها المفقود وتذاكِر القطار.
أخبرها الوكيل: «وجدوا العلبة في أحد الأزقة؛ حيث كانا قد تخلَّصا منها. لقد أخذا كلَّ ما كان فيها لكنهما لم يتركا سوى هذه الأشياء. على الأرجح كانا قلقَين من استخدام تذاكر القطار خوفًا من أن يتم التعرُّف على أرقامها التسلسلية. من حُسن الحظ أنهما تركا جوازَ سفركِ. إذ يمكن لهذا أن يسبِّب المشكلات إن وقع في الأيدي الخطأ. لكن يبدو أنهما لصَّان صغيران.»
قالت الآنسة لوفابل موافقة إياه: «كان ينبغي بكَ أن تراهما. لكن بعد أن استعدتُ جواز سفري، لا يوجد ما يعُوقني عن عودتي الليلة إلى لندن وعلى وجه السرعة. فلديَّ صفقةٌ مهمة عليَّ تولِّي أمرِها صباحَ الغد.»
وشدَّدَت الآنسة لوفابل على فكرة السفر، لكن وكيل توماس كوك أقنعَها في نهاية المطاف بالعُدول عنها بحُجة أنها لن تكونَ في حالةٍ تسمح لها بإجراء الأعمال. وبعد أن أتمَّ كلَّ ترتيباتِ عودتِها في الرابعَ عشرَ من الشهر، طلبَت هي منه أن يُجريَ اتصالَين هاتفيَّين إلى إنجلترا.
كانت المكالمة الأولى إلى البنك الخاص بها لضمانِ وضعِها المالي وترتيب التغطية لقرضها؛ وأما الثانية فكانت إلى السيد لِيمون وكيل العقارات، لتطلُبَ منه أن ينوبَ عنها في المقابلة مع الميجور براند.
ونصحَت الوكيلَ بقولها: «أبلِغه برسالتكَ قبل أن يبدأَ في الكلام.»
وابتسمَت وهي مستلقية وتستمع بينما كانت أصواتُ الخشخشة تأتي من الهاتف عاليةً حتى أغلق وكيل كوك السماعة بقوَّة.
وقال: «كان يُخبرني عن زيارته الأولى إلى باريس. يبدو أن هذا كل شيء. وداعًا.»
وبينما كان يخرج من الغرفة، نادَتْه الآنسة لوفابل.
وقالت ملتمسة: «أتساءل إن كان باستطاعتك إجراء مكالمةٍ أخرى. إنها إلى منزلي. سأتولَّى أمرها بنفسي.»
كانت قد اتخذَت قرار إجراء المكالمة بعد خسارة معركةٍ شديدة مع طبيعتها الاقتصادية. في البداية، شعَرَت بالارتياح عندما أبلغ مشغِّل الهاتف أنه لا يُوجَد ردٌّ من منزل البحيرة.
فقالت: «لا بد أن خادمتي بالخارج. من فضلك انتظر. أظن أنني يجب أن أُعلِمَها. هل يمكنك أن تطلب لي رقمًا آخر؟»
ولما نجحَت محاولتُه الثانية، أعطاها الوكيل السمَّاعة وأسرع بالخروج من الغرفة قبل أن تتمكن من التفكير في طلبٍ آخر.
جالت الآنسة لوفابل بنظرها في أرجاء الشقة الفندقية التقليدية الكئيبة، بينما سمعَت صوت السيدة بوسانكيه الأجَش على الطرف الآخر من الخط. في تلك اللحظة، أدركَت المعجزة الحديثة التي ربطَتْها ببيت قسٍّ إنجليزي، لم يكن يمكنُ الوصول إليه إلا بصعود طابقَين طويلَين من الدرَج.
قالت بنَبرةٍ رزينة: «الآنسة لوفابل تتحدَّث من باريس. لقد اتصلتُ للتو بإلسي، ولكنها لم تُجِب. هل يمكنكِ أن تُخبريها أنني سأتجاوز الذهاب إلى لندن وأعود مباشرةً إلى منزل البحيرة بعد ظُهر الغد، في القطار المعتاد. يوم الرابعَ عشرَ من الشهر. هل فهمتِ ذلك؟ أنا آسفةٌ لإزعاجكِ … أوه! ربما تخبرينَها أيضًا أنني في باريس من أجل … من أجل شِراء قبَّعة.»
كرَّرَت السيدة بوسانكيه رسالتَها بأسلوبٍ عملي ومقتضب. ثم أضافت تَلومُها: «هذا توقيتُ اجتماع الأمهات.»
«كيف لي أن أعرفَ ذلك، وأنتِ ترفُضين الإقرارَ بوجودِ سكوتي وديفيد؟»
كانت السيدة بوسانكيه تضحك عندما اتصلَت بدَورها بمنزل البحيرة، وكان ضحكُها نابعًا من مشاعرَ مشوَّشة بأنه لا بد أن هناك ميزةً أكبر في إجراءِ مكالمةٍ محلية. وعندما لم تتلقَّ ردًّا، أطلَقت سُبَّةً واحدة، ولكن قويَّة. ثم نظَرَت إلى ساعتها وقرَّرَت أن هناك وقتًا يكفي لتسليم الرسالة شخصيًّا قبل اجتماعها.
وحيث إنها كانت شديدةَ الكَد والاجتهاد — وكانت ترتدي قبَّعتَها بالفعل — فقد خرجَت على الفَور متجهةً إلى منزل البحيرة ووصلَت إليه في الوقت نفسه الذي أنهت فيه إلسي استعدادَها. كانت ترتدي الفستانَ الأصفرَ الفاتح الذي اشترَتْه لحفل الحديقة وكانت تقفُ أمام المرآة تتفقَّد مظهَرَها عندما سمعَت جرسَ الباب الأمامي يدقُّ طويلًا.
ورغم أن غريزتَها كانت أن تُجيب على الجرس، فإنها ابتعدَت عن النافذة وقد اعتراها شعورٌ بأنها مخطئة ووقفَت تستمع. دقَّت السيدة بوسانكيه الجرسَ مرةً أخرى وطرقَت على الباب طرقًا شديدًا. كانت تعرف أن البيتَ لا يمكن أن يكون فارغًا؛ لأنها كانت تسمَع نُباحَ سكوتي في القاعة. ولكن عندما استدارت، نظرَت إلى النوافذ وتحيَّرَت حين لاحظَت أنها كلَّها مغلقة، وذلك على الرغم من اعتدال الجو في تلك الظهيرة الجميلة.
أطلَّت إلسي من بين ثنايا الستائر وأخذَت تراقبها حتى ابتعدَت عن الأنظار. وكان قلبُها ينبض بقوة وحلقها جافًّا عندما تسلَّلَت إلى الطابق السفلي وطمأنَت نفسها بأنها تركَت ما يكفي من الطعام والشراب للحيوانَين.
ثم واتَتْها فكرةٌ بائسة: «فلنَفترِض أن النارَ اشتعلَت في المنزل.»
لم تكن إلسي متأكدةً من الاتجاه الذي تؤدِّي فيه واجبها، حتى وهي تفعَل ما تفعَل. في الواقع، كانت تتخلى عن موقعها ومسئوليتها، رغم أنها كانت تفعل ذلك لخدمة سيدتها. كما كانت هناك مشكلةٌ إضافية تتمثَّل في أنها يجب أن تلحقَ بالقطار الذي يغادر في الساعة الرابعة إلا خمس دقائق، لكي تستلمَ مفتاحَ المنزل رقم «١٩» في ماديرا كريسنت، قبل أن يُغلَق مكتبُ وكيل العقارات.
ترك لها الاستعدادُ مبكرًا وقتًا لتقضيه في لندن، والذي كان بالإمكان استثمارُه بشكلٍ أفضلَ في منزل البحيرة.
ثم حدَّدَت ما ستقوم به قائلةً في نفسها: «سأجهِّز كل شيءٍ لأجل أن تتناول الطعام. ويُمكِنني أن أتركَه في المطبخ وأذهب إلى الأعلى وأنتظر في الردهة في الظلام. وعندما أسمع صوتَ مفتاحها، سأفاجئها … فإذا ما تعاملَت معي بعَجرفة، فسأعود إلى سكوتي وديفيد في قطار منتصف الليل. حينها لن يشغَل بالي شيء. ستكون قد وَجَدَت الترحابَ وسأعرفُ أنها في أمانٍ بالمنزل.»
ولما ارتاحت قليلًا لفكرة أنها كانت تترك طريقًا للانسحاب، قبَّلَت الحيوانَين الأليفَين بشغَف قبل أن تتسلَّل من المنزل عَبْر المدخل الخلفي.
وكانت على وشك أن تصل إلى المحطة، عندما أوقفَت أجاثا بيت سيارتها — وهي التي كانت في طريقِ عودتها من ملعب الجولف — لتنادي على السيدة بوسانكيه.
«تَبدِين في عجَلةٍ من أمركِ. أذاهبةٌ أنتِ لاجتماع الأمهات؟ سأوصِّلكِ حتى درَج الكنيسة.»
قبلَت زوجةُ القسِّ العَرضَ بالتوصيلة بسرور. وفي الطريق إلى الكنيسة، أخبَرَت الآنسة بيت عن رسالة الآنسة لوفابل وفشَلِها في إبلاغ إلسي بها. استمعَت أجاثا باهتمام ثم روَت بدَورها قصةَ زيارة الفتاة لمنزلها في الصباح.
فعلَّقَت قائلة: «ثِقي فيما أقوله. لقد انفلتَت وذهبَت إلى لندن خفية. ستنالُ عقابًا شديدًا عندما تسمَع الآنسة لوفابل بذلك. وهذا شيءٌ جيد أيضًا. فذلك وضعٌ لا أحبُّه مطلقًا؛ أن تسيطر الخادمة على ربَّتِها. ربما ستترك لها كلَّ أموالها.»
وما أثار اندهاشَها أن السيدة بوسانكيه لم تُشارِكها رضاها. إذ بدا على وجَهِها المتجهِّم أنها مستغرقةٌ في التفكير عندما تحدَّثَت إلى السيدة بيت.
«عندما تكتشف إلسي أن الآنسة لوفابل لن تأتيَ الليلة، قد تُحاوِل حفظَ ماءِ وَجهِها بالعودة على متنِ قطار منتصف الليل. إنها فتاةٌ مهذَّبة، وقد تُزعِجها الأساليبُ الفظَّة. يجب أن تذهَبي خلفَها على الفَور وتُوقفيها.»
قطَّبَت الآنسة بيت عندما نظرَت إلى مِعصَمها.
وقالت: «فات الأوان. إنها الرابعةُ إلا خمس دقائقَ بالفعل.»
فردَّت السيدة بوسانكيه: «بل الرابعة إلا اثنتَي عشرةَ دقيقةً على ساعتي.»
«ثمَّة تأخير في ساعتكِ. ولكني سأرى إذا كان بإمكاني أن أدركها. إنها مشيئة الله. يعتمد كل شيءٍ الآن على أينا ساعتُها مضبوطة.»
وبينما وقفَت زوجةُ القس تُشاهِد السيارة تختفي عن الأنظار، كان وجهُها يحمل أمارات الجدية. وعلى الرغم من أنها كانت صارمةً في التأديب والانضباط، كانت تُؤمِن بتفاني إلسي للسيدة لوفابل والذي يُبرِّئُها من شَك الآنسة بيت أنها ذهبَت خلسةً في رحلة سريعة.
فكَّرَت في نفسها: «لقد فقدَت عقلها. لنأمل أنها لن تفقدَ شيئًا آخر.»
كانت تفكِّر في موقفٍ يتجانس مع شِيَم إلسي، لأن إلسي في رأيها ليست الخيارَ المفضَّل لدى الجميع. وبينما كانت تكدُّ في صعود الدرَجات الطويلة — والتي كانت الآنسة لوفابل قد تجاوزَتْها بسهولة شديدة أثناء مكالمتها الهاتفية — امتدَّت أصابعها تبحَث عن العقدة في خيوط تثبيت قُبَّعتِها، كما لو كانت تطمئنُّ عليها.
جاءت الأمهات للاجتماع. ثم غادرن. وألقت السيدة بوسانكيه محاضرةً عليهن وقدَّمَت لهن الشاي، متناسيةً إلسي. وعادت الآنسة بيت من مهمتها، وقبل العشاء، لعبَتْ مع والدها لعبة جولف الساعة (لعبة جولف، نشأت في منتصف القرن التاسع عشر. يضرب فيها اللاعبون كرة جولف، من ١٢ موضعًا مُرقَّمًا ومُرتَّبًا في دائرةٍ كما في الساعة، إلى ثقب واحد يقع داخل الدائرة). ومع غروب الضَّوء من السماء، كان القط والكلب يلعَقان الطعامَ من طبقَيهما داخلَ منزل البحيرة، كمقدِّمة للانسحاب إلى سريرَيْهما …
حلَّ الظلامُ مبكرًا في لندن وخاصةً داخل المنزل رقم «١٩» بماديرا كريسنت؛ حيث كانت كل الستائر مُغلَقة. وكان الهواء حارًّا وراكدًا، والجو مشحونًا بالتوتُّر جرَّاء الانتظار الطويل والترقُّب. وبسبب قلة الحركة في المنطقة، أصبح لكل صوتٍ ثقلٌ غير متناسبٍ معه. وبدا أن هناك صوتَ خطواتِ أقدام تتحرك في أرجاء الطابق السفلي، كما لو أن شبَح طاهية قد عاد إلى المكان الذي كانت فيما مضى تقوم فيه بنشاطاتها الأرضية. وكان هناك صوتُ قرقعةٍ خافت قد يكون ناجمًا عن أطباقٍ خزفية — وصوت صريرِ ألواحٍ في الأفق — وصوت سقوط قطرات الماء.
وبينما كان كلارنس متربصًا في الظلام، تأجَّجَت في نفسه فَورة من الإثارة المكبوتة. كان شغفُه بالانتقام على وشك أن يتحقَّق. عندما يُوجِّه ضربته، لن تكون امرأة هي التي تنهار على الأرض، بل عدُوه هنري واتكينز. بعد ذلك، يُمكِنه قراءة الأخبار عن هذه المأساة في الصحف وإبداءُ إعجابِه بمسار العدالة الإنجليزية التي يُقيمُها القانون.
حتى الآن، كل شيءٍ كان يسير دون معوِّقات. كان يُمكِنه أن يُقسِم أن أحدًا لم يلاحظه عندما تسلَّق أنبوب الماء إلى شُرفةِ نافذةٍ خلفية في الطابق الأول. كان الزقاق الخلفي مهجورًا؛ إذ لم يرَ أيَّ وميض للضوء، ولم يسمَع ولو هَمسًا.
كل ما كان عليه فعلُه هو الاستماعُ وانتظارُ صوتِ مفتاحٍ يحتك في قفل الباب الأمامي، بعدها سيتسلَّل نحو أسفل الدرَج؛ حيث سيسقُط ضوءُ الشارع من خلال النافذة العلوية على الجدار.
سيكون الظل الذي ينعكس على هذه البقعة المضاءة هو الإشارة المنتظرة ليُوجِّه ضربتَه، بحيث يأخذ ضحيَّته على حين غِرَّة فتنهار على الأرض دونَ صِراعٍ أو صِياح.
بدا له أنه انتظر فترةً طويلةً جدًّا، لكنه لم يجرؤ على إضرام النار في عودِ ثقابٍ للنظر في ساعته. وعلى الرغم من أن منطقة كريسنت كانت هادئةً جدًّا ومنعزلةً عن حركة المرور في الشارع الرئيسي، كان عليه أن يتذكَّر وجودَ الناس في المنازل على كلا جانبَي المنزل. قد يلاحظ شخصٌ ما بالخارج في الحديقة خيطَ الضوءِ الخفيف من خلال شقٍّ في إحدى الستائر.
قال لنفسه إن القطار تأخَّر، أو إن ضحيَّته توقَّفَت في مكانٍ ما لتتناول وجبة. عاجلًا أو آجلًا، من المؤكَّد أن ضحيَّته ستأتي إلى المنزل. ودَورُه هو الإنصات والانتظار …
ولمَّا كاد صَبرُه ينفد، سمع صوتًا يأتي من الردهة بالأسفل. كان الصوتُ هو صوت إغلاق الباب الأمامي. كانت ضحيَّته قد أخذَته على حين غِرَّة؛ لأنه كان قد فاتَه الإنصات إلى خطواتِها على الرصيف، وكذلك صوت حقيبتها عندما ألقتها، لتُحرِّر يدَيها.
اكتست شفتاه بخيطٍ رفيع من الرغوة عندما أدرك أن لحظةَ انتقامِه قد حانت. ومن خلال الضباب الذي أغشَى عينيه، رأى ظلًّا مشوهًا لرأسٍ ينعكس على الجدار. خفَق قلبه بشدة عندما أمسَك بالمضرب الحديدي بشدة قبل أن يرفعه عاليًا، مستهدفًا الجسم المُعتِم الذي يقع أسفلَ منه في الردهة.
وعندما سمع صوت سقوط الجسم وشَعَرَ بعضلات ذراعه ترتجف، غمَرَه شعورٌ جامح بالانتصار.
بتلك الضربة، كان قد قتل للتوِّ رجلًا، رجلًا سيستمر في حياته بشكل طبيعي كما لو كان لا يزال على قيد الحياة.