المنزل الفارغ
في الصباح الباكر من اليوم التالي، صعدَت الآنسة لوفابل الدرَج الخشبي المؤدي إلى محطة السكة الحديد المرتفعة. كانت تحمل حقيبة ثقيلة ممتلئة بالأغراض، في حين كانت إلسي تحمل الحقيبة الصغيرة التي تحتوي على بقية الأمتعة والتي ستحتاج لها في الليل.
لم تتحدث الخادمة أثناء سيرهما إلا قليلًا، بينما كان وجهها يُعبِّر عن استكانةِ بحَّار مصاب بدوار البحر. ولم تبدأ الخادمة إلسي في التفاعل مع سيدتها إلا حين استقرت الآنسة لوفابل في عربة من عربات الدرجة الثالثة.
فقالت: «من فضلكِ يا سيدتي، هل يمكنكِ أن تَعِديني بألَّا تفتحي الباب لأي شخص؟»
فأشارت عليها الآنسة لوفابل قائلةً: «تمالكي نفسكِ. يجب أن أفتح الباب للرائد براند.»
«هل تعرفين شكله؟»
«كلَّا، فنحن لم نتبادل الصور.»
«إذَن كيف ستعرفين أنه هو؟»
«من الشيك. هذا دليلٌ كافٍ لي.»
أنزل الحارس الراية الخضراء، فبدأ القطار في مغادرة المحطة. وبينما كانت إلسي تركض بجانبه، استمرَّت في الصراخ:
«انتبهي للقفازات. لاحظي إنْ كان يُبقي على ارتدائها. الجُناة دائمًا يرتدون القفازات، حتى لا يتركوا أيَّ بصمات.»
«حسن … وداعًا يا إلسي. احرصي على المجيء لمقابلتي.»
«القفازات. لا تنسي القفازات.»
«واحرصي على إحضار سكوتي معكِ لمقابلتي في المحطة. سكوتي.»
«القفازات.»
كانت إلسي هي التي قالت الكلمة الأخيرة وهما تصرخان إحداهما في وجه الأخرى. ثم غاصت الآنسة لوفابل في مقعدها، لتجد أن كل شخص في العربة كان يُحدِّق فيها.
للحظة، كادت تصدِّق أنهم ينظرون إليها بتقديرٍ يليق بامتلاكها ثلاثة منازل، قبل أن تدرك السبب الحقيقي لانتباههم إليها.
فكَّرَت في نفسها بإعجابٍ وسرور: «أظنُّ أنني أبدو لهم أوروبية.»
استغلَّت الآنسة لوفابل ما أشارت إليه الآنسة بِيت في نصيحتها لها بشأن ارتداء الملابس القديمة؛ فارتدت فستانًا كان معلَّقًا في خزانة ملابسها لسنوات. كان الفستان من الساتان الأسود، صنعَتْه خيَّاطةُ ملابس نسائية، وقد اشترَتْه الآنسة لوفابل لحضور حفل زفاف، وكان أكثرَ أناقةً من أن ترتديه خارجَ سياق المناسبات. ورغم أن دورة الموضة كادت تلحق به، فقد كان قديمَ الطراز بالتأكيد، فإن التنورة الضيِّقة كانت «فضفاضة» بشكلٍ واضح.
كانت النتيجة المباشرة لحديثٍ نسائي سخيف وغير مهم جرى في الحديقة، هي شعبية للآنسة لوفابل. كانت لافتةً للغاية، حيث لم يكن يمكن تجاهلها أو إغفالها، حتى عندما نزلت من القطار في محطة تشارينج كروس. كانت تتقدَّم على رصيف المحطة وفي كلِّ يدٍ من يدَيها حقيبةٌ، وعلى كتفها معطف قديم مصنوع من وبر الجِمال، وشَعْرها الأشقر مكشوف؛ فكان الناس يلتفتون ليُلقوا عليها نظرةً ثانية.
وحيث كان التباهي والاستعراض أمورًا في غاية السهولة؛ فقد كانت سعيدةً بشكلٍ ساذج بالانتباه الذي كانت تجذبه إليها.
فكَّرَت لوفابل في نفسها: «من الحكمة أن يسافر المرء بملابس أنيقة. وما زلتُ أدَّخر ملابسي الصوفية الفاخرة.»
كان الجو في محطة الأنفاق حارًّا وخانقًا، وكانت عربة القطار تعجُّ بعُمَّال في طريقهم إلى أعمالهم أو متاجرهم؛ لكن رغم هذا الازدحام عَرَضَ عليها أحدُهم مقعدًا بمجرد أن دلفَتْ للعربة؛ تقديرًا لمظهرها وإشادةً به. كانت العيون تُحدِّق بها وتنعكس فيها مشاعر مختلفة؛ الانتقاد والسخرية والإعجاب والحسد.
وحين خرجت من محطة قطار الأنفاق إلى الشارع المزدحم، شعرَتْ بالأسف على حوض الزنابق في حديقة منزل البحيرة. فعلى الرغم من أن الوقت كان لا يزال مبكِّرًا، فقد كانت درجة الحرارة مرتفعة. وكان الهواء الفاسد مُعبَّأً برائحة الغبار والعوادم القذِرة، والأرصفة متَّسخة والمثقاب الذي يعمل بضغط الهواء يُمزِّق قطاعًا من الطريق.
لم تَسِر الآنسة لوفابل مسافةً كبيرة قبل أن تنعطف إلى طريق جانبي يؤدي إلى شارع ماديرا كريسنت. كان المكان يحتلُّ موقعًا منعزلًا وهادئًا، وكان عبارةً عن مجموعة من المنازل على الطراز الفيكتوري والتي تتَّخذ شكلَ نصف دائرة؛ منازل متينة لها أروقةٌ ذات أعمدة ودرَجٌ أمامي طويل، وتحرسها أُسود جصيَّة. وقد تم تحويل عدد قليل من هذه المنازل إلى شقق، كما كان هناك فندقان سكنيان؛ وعلى الرغم من أن المنازل فقدت بهاءها وتألُّقها، فلم تكُن الحالة القياسية لها قد تدهورت.
في الجزء الأمامي من المكان، كانت هناك حديقة خاصة مخصصة للقاطنين. في الوقت الراهن أصبحت هذه الحديقة مكانًا قَفرًا، عشبه كثيف وأشعث، وبه شجيرات دائمة الخضرة مصابة بالسناج، وإن كانت أشجارُ القصاص ونباتات الليلك تُضفي عليه في الربيع مظهرًا جميلًا مؤقتًا.
وبينما كانت الآنسة لوفابل تقترب من المنزل رقم «١٩»، توقفت ورفعت ناظِرَيها إلى زخارف الجصِّ برتقاليةِ اللون على واجهته. كان شيش النوافذ مغلقًا؛ لذا لم يتسنَّ لها أن تُعجَب بالستائر الغالية التي ابتاعتها للمنزل، لكنها شعرت بالشعور المعتاد بالفخر بملكها.
«منزلي الخاص. منزلي اللندني.»
فتحت الآنسة لوفابل الباب، ثم ترددت وهي تحدق في الظلمة داخل المنزل. فبعد سطوع الإضاءة في الشارع، كانت عيناها مبهورتَين؛ لم تستطيعا التركيز بشكلٍ ملائم ولا التعرف حتى على شكل أي شيء مألوف لها بالداخل. بدا داخل المنزل وكأنَّ به حياة يخالطها تشوُّش الظلال المتحركة، كما كان مظلمًا وكأنه أدغال.
كانت تلك هي المرة الأولى التي تدلف فيها إلى المنزل وحدها. فعادةً ما كان دخولها إلى المنزل يُمثِّل مشهدًا يختلط فيه الصخب والإثارة. إلسي تصيح بسكوتي وهي لاهية عن تحوُّل نبرتها الرسمية، وسكوتي يرغب دائمًا أن يكون «أول» مَن يدخل إلى المنزل، في حين يتقافز ديفيد وهو بداخل صندوقه وكأنه سمكةٌ خرجت من الماء.
أخبرت الآنسة لوفابل نفسها أنها تفتقد الآخرين وهي واقفة مكانها، وقد انتابها شعورٌ غريب بالتردد في الدخول. وعلى الرغم من أنها لم تكُن شخصًا واسع الخيال بطبيعتها، فإن المنزل لم يكُن يوحي بأنه خاوٍ. انتابها شعورٌ غير مريح بأنَّ بالمنزل مستأجرًا متطفلًا لا يدفع إيجارًا.
كان شخصٌ ما — أو شيءٌ ما — ينتظرها في الظلام.
ولكي تتخلَّص من هذا الانطباع، أجبرت نفسها على الدخول إلى الردهة وأغلقت الباب. لم يقفز شيء عليها من العتمة عندما فتحت الشيش الزنبركي؛ ممَّا سمح بدخول شعاعٍ من الشمس.
أظهر الضوء سجادةً مخمليةً بلونِ البرقوق، كانت مصدر فخر خاص لها. فتوقفت وفركتها بإصبعها، فظهرت بقعةٌ لونها أغمق قليلًا.
ففكَّرَت: «إنها تحتفظ بالغبار. سأضطر لمواجهة الأمر وشراء مكنسة … والآن سأُعِدُّ فنجان شاي.»
نزلت الآنسة لوفابل الدرَج إلى المطبخ الأشبه بالقبو، ففتحت الباب الخلفي الذي تكتنفه شُرفة كبيرة تُطِلُّ على المنطقة. كان هناك سَلَّة مُعلَّقة على مقبض الباب من الخارج تحتوي على رغيف خبز وزجاجة حليب.
على الرغم من أنها كانت مشغولة جدًّا في اليوم السابق، فإنها لم تنسَ إرسال التعليمات لمصنع الألبان المحلي. وفي سرور من إجادتها وانتباهها للتفاصيل الضرورية للتنظيم الفعَّال، ملأتْ غلايةً بالماء ووضعَتْها على موقد الغاز.
لكن على الرغم من أنها كانت عطشى، فإنها لم تشعر بأيٍّ من الإثارة والنشوة التي شعرَتْ بها أثناء التحضير لأول وجبة في النزهة. وبينما كان من المستحيل تتبُّع سبب شعورها بعدم الراحة؛ فإنها كانت مضطربةً وقلِقةً لسببٍ مُبهَم أثناء انتظارها أن يغلي الماء.
وجدَتْ نفسها تُفكِّر فيما كان عليه المنزل حين كان فارغًا، بورق الجدران الباهت، والنوافذ المغطاة بخيوط العنكبوت، وحواجز النوافذ الحديدية الصَّدِئة. في ذلك الوقت، تذكَّرت مسرحية «آل باريت من شارع ويمبول»، وهام فِكرُها وهي تتساءل: هل كانت جدران هذا المنزل قد شهدت مشاهد من القسوة الأبوية أو الرعب الذي يشعر به الأطفال الذين يخافون من المربيات؟ لكنَّ عُمَّال الزخرفة وفنِّيي الكهرباء كانوا قد محوا كلَّ بعبع من الحقبة الفيكتورية.
وفجأة، أدركت لماذا كانت تشعر بالاضطراب. كان السبب هو التفكير في كل تلك الغرف المظلمة في الطوابق العلوية.
ففكَّرَت في نفسها: «سيكون من الأفضل أن أفتح المنزل، وبعد ذلك أستطيع أن أستمتع بالشاي.»
خفضت الآنسة لوفابل شعلة الغاز إلى أدنى درجة ممكنة، ثم صعدت إلى الطوابق العلوية. كان البيت طويلًا وضيقًا، وكان له غرفٌ كبيرة وخزائن عديدة. في الطابق الأرضي، كانت هناك غرفة الطعام وغرفة الجلوس الصباحية؛ وفي الطابق الأول، غرفة الضيافة وأفضل غرفة نومٍ وحمام بالمنزل. وفي الطابق التالي، كان هناك غرفتا نومٍ أُخريان، إضافةً إلى خزانةٍ للبياضات وغرفة للتخزين، في حين أن الجزء العلوي من البيت قد مُنِح لسكوتي وديفيد.
تنقَّلَت الآنسة لوفابل بين الغرف بفعاليتها وسرعتها المعهودة، تضمُّ الستائر فتُصدر حلقاتها صوتًا عاليًا وتفتح النوافذ. كان فعلها أكثر دقة وشمولًا من روتينها المعتاد؛ ذلك أنها فتحت كلَّ خزانة للأدوات والملابس، ونظرَتْ خلف كلِّ باب. حتى إنها انحنت بما فيه الكفاية وانبطحت؛ لتنظر تحت الأَسِرَّة.
بحلول الوقت الذي كانت قد انتهت فيه من العمل، كانت حالتها المعنوية الطيبة المعتادة قد عادت إليها. لم يكن هناك أي أثرٍ لتلك البقايا الفيكتورية الغابرة والكئيبة في هذا القصر الرغيد، بأثاثه الجديد والمكلِّف. وكانت لوفابل تشعر بالفخر بشكلٍ خاص تجاه سجادها، وبحقيقة أن السلالم المؤدية إلى المطبخ والعلِّيَّة هي وحدها المغطاة بمشمع الأرضيات.
وحين اطمأنَّت تمامًا، نزلت السلالم وأعدَّت الشاي لنفسها. وبينما كانت تشربه، رنَّ جرس الباب الأمامي. كان الوقت مبكرًا جدًّا لأن تتوقع وصول الميجور براند، لكنها لم تجرؤ على المجازفة بإغفاله، لذا صعدت الدرَج وفتحت الباب.
كان رجلٌ يرتدي طوقًا كهنوتيًّا مستديرًا وقبعة من الصوف الناعم يقف خارج المنزل. أظهرَتْ ذقنه المائلة إلى الزرقة أنه يعاني صعوباتٍ في كبح لحيته الكثيفة، في حين أن شفتَيه المتحركتين كانتا توحيان بشكلٍ طفيف بأنه ممثل.
قامت الآنسة لوفابل بتقييمه بحُسْن تمييزها الفطري، والذي يتخلَّى عنها تمامًا حين تكون في أزمة.
«قفَّازات سوداء. جمْعُ الكتب. شيء ما يخبرني بأنك لم تكُن تنتمي من قبل إلى الرُّتَب الكهنوتية، يا صديقي.»
كانت ابتسامة الرجل جذَّابة، وعندما تحدَّث لم يكُن في حديثه نبرةٌ مِهَنِية.
«يوم مجيد آخَر. نحن محظوظون لأننا نستطيع رؤية السماء. بدافع الامتنان، هلَّا أعطيتِني مساهمةً للمكفوفين؟»
نبَّهته الآنسة لوفابل بقول: ««نحن». أنت تستطيع الرؤية بقَدْرِ ما أستطيع أنا. فما شكل ما تتقاضاه لقاءَ امتنانك؟»
ولمَّا التقتْ عينه بعينها الزرقاء الذكيَّة، قيَّمها وحدَّد خطةَ عمله.
وأجاب بصراحة: «خمسون في المائة ممَّا أجمعه.»
«آه، أستطيع دائمًا تمييز المحصِّل المحترف. بصراحة، أتمنى لو كنتُ أستطيع إعطاءك شيئًا، على الرغم من أنني مكتتِبة بالفعل. لكنَّ قائمتي للأعمال الخيرية ممتلئة وطويلة، ولا أستطيع زيادتها.»
نظر المحصِّل إلى السلسلة الذهبية السميكة حول رقبتها. كان مُعلَّقًا فيها فيلٌ خرطومه مرفوع.
فقال لها: «إذا كنتِ لا تستطيعين إضافةَ المزيد، فلماذا لا تكسبين بعضَ المال الإضافي؟ بالتأكيد سمعتِ عن التوءم؟»
«الدوءم؟ بالطبع.»
«كلَّا، توءم براونينج. تذكُرين قصيدته عن الدير المنكوب بالفقر، والذي كان به ساكنان: إحسان، وجميل. «أَعطِي» و«ستُعطين»، كما تعرفين.»
ثم بدأ يقتبس:
ثم توقف عن تلاوة النص وفتح كتابه.
وسألها: «هل كان ما قلتُه واضحًا؟ أعطيني عطيةً صغيرة وعدِّيها استثمارًا. ستستعيدينها وعليها فائدة.»
عرفت الآنسة لوفابل أنه كان يلعب على ضعفها أمام الخرافات، ومع ذلك، لم تستطع مقاومةَ طُعمه. فأخبرَتْ نفسها أن تلك بمنزلة بشارةِ خير.
ثم قالت في نفسها، حين كانت تفتح حقيبتها: «سأحصل على أكثر مما أتوقَّع من البيت.»
بعد أن ذهب المحصِّل الماهر الواسع الحيلة، بدا البيت وكذلك الحيُّ أيضًا هادِئَين بشكلٍ غريب. لم يخطر على بالها من قبل كيف كانت منطقةُ كريسنت معزولةً تمامًا عن الطريق الرئيسي، ومنطويةً كذلك على نفسها. إذ لم تكن الجدران الصلبة لكل منزلٍ تسمح للجيران بأنْ يتدخل بعضهم في شئونِ بعض. ولم تكُن الآنسة لوفابل تسمع أيَّ أصوات أو خطوات من حولها. لم يكن هناك سوى صوتِ طنين بعيد يتدفَّق من النوافذ.
وكان هناك لوحةٌ عند كلِّ مدخلٍ تُحذِّر الجمهور من التجاوز والتجول المرفوض. كما أن لوحةَ «غير مسموحٍ بالجنازات» جعلَتْ منطقة كريسنت مكانًا غيرَ ملائم للموت، إذا ما طُبِّق الأمر حرفيًّا.
حدَّثت الآنسة لوفابل نفْسَها، وهي تشعر بفخرٍ مبرَّر باعتبارِ هذا دليلًا على رُقِيِّ منزلها وانعزاله: «يمكن لأيِّ شخص أن يُقتَل هنا ولن يسمع أحد صوتًا.»