القفازات
بينما كانت ساعة الكنيسة تُقرع معلِنةً الثانية عشرة، دقَّ جرس الباب الأمامي مرةً أخرى.
فكرت الآنسة لوفابل: «شكرًا للربِّ؛ إنهم يعلِّمونهم الدقة في الجيش. لم يَضِع مالي هباءً.»
كان من المعتاد من عقليتها أن تنسى أن أحدًا غيرها يدفع الرسوم وضرائب الدخل.
ركضت صعودًا على درَج المطبخ في حماسٍ لاستقبال الميجور براند؛ ولكنْ عندما فتحت الباب، لم يبدُ من مظهر الرجل الذي كان يقف بالخارج أنه عسكري. كان أصغرَ سنًّا مما كانت تتوقع، وطويلَ القامة، ونحيلًا ومهندمًا؛ بدا رجلًا إنجليزيًّا متعلمًا عاديًّا، باستثناء أمارات الفطنة في عينَيه البُنيتين وتعبيرات الإحباط على وجهه.
وقد اختفى هذا عندما ابتسم، كاشفًا عن أسنانٍ ممتازة.
سأل: «هل الآنسة لوفابل موجودةٌ في المنزل؟»
فأجابته: «أنا الآنسة لوفابل.»
نظر إليها الرجلُ بدهشة.
«لكن، لا يمكن أن تكوني صاحبةَ هذا المنزل؟ أنتِ بعدُ فتاة صغيرة.»
انبهرَت الآنسة لوفابل لجِدَّة الوصف. ولكن، على الرغم من أنها سعدت باكتشاف أنها لم تكُن مسبوقة خارج دائرة معارفها في امتلاك منزل؛ فإن ما حمله التعبيرُ من ألفةٍ، أساء لاعتدادها بنفسها.
قالت بصرامة: «بل أنا بالتأكيد صاحبةُ المنزل. هل أنت الميجور براند؟»
«كلَّا، بل أنا شقيق زوجته. لقد ذهَبَ لصيد الأسماك في ويلز. لكنه يريد مكانًا تنزل فيه أُسرته مؤقتًا؛ لذا عرضتُ أن أعاين منزلًا، وأن أتولى ترتيب الأمور.»
نظرَت الآنسة لوفابل إليه في استياء من النبرة العفوية، ولم تُخفِ حقيقةَ أنه كان يخضع للتحري في أمره. ولاحظَت الآنسة لوفابل أنَّ بدلته كانت أنيقةً وحَسَنة التصميم وإنْ كانت قديمة، وأنَّ حذاءه الباهظ الثمَن بدأ يتشقَّق.
كما لاحظت أيضًا أنه يرتدي قفازاتٍ جلدية قابلة للغسل.
وتدفَّق تحذير إلسي إلى عقلها وهي تهزُّ رأسها وقد ساوَرَها الشك.
فقالت: «لستُ واثقة من أنني يمكن أن أرتِّب أيَّ شيء مع طرَف ثانٍ. فمنزلي حديثُ الفرش والزخرفة. لذا من الطبيعي أن أكون نَيِّقةً بشأن مَن أُؤَجِّره له. أنا آسفة، ولكن يجب أن أقابله شخصيًّا.»
«لماذا؟»
«لأشكِّل انطباعي الخاص.»
مرَّت ابتسامة عابرة على وجه الرجل الغريب.
وسألها: «هل تفعلين ذلك حقًّا؟ بفرض أنني عميلٌ محتمل، بدلًا من شقيق زوجتي. هل يمكنكِ من خلال النظر إليَّ فقط أن تقرِّري إن كنتُ أرمي السجائر المشتعلة على السجاد أو أخرِّب ورق الحائط؟»
فأجابته: «أنا لستُ قلِقةً بشأن هذا الجزء. سيتعيَّن تعويض جميع الأضرار واستبدال كلِّ ما هو مفقود. لقد جلبتُ نسخةً من قائمةِ جرد الموجودات ليتحقق منها الميجور براند.»
«أنتِ ذات عقلية عملية. بالمناسبة، يمكنني أنا أيضًا أن أقيِّم الناس. هل تسمحي لي أن أخبركِ بشيءٍ آخَر عن نفسكِ؟ أنتِ ذات طبيعةٍ مرتابة. فأنتِ تُبقينني خارجَ المنزل على عتبة الباب.»
احمرَّ وجه الآنسة لوفابل غافلةً عن عزمها على عدم السماح له بالدخول.
وأسرعَتْ تقول: «تفضَّلْ بالدخول.»
وأنَّبَتْ نفسها على هذه الزلَّة عن قواعد الذوق حين كانت تتقدَّمه إلى غرفة الجلوس الصباحية. كان هذا الزائر ذو القفازات، على الأقل، فوقَ مستوى الشك؛ لأنه كان ممثِّل الميجور براند. وحقيقةُ أنه كان يعرف كلَّ شيء عن مقترَح الوكيل تؤكِّد أن زيارته كانت تنفيذًا لمهمةٍ حقيقية.
كانت قد بدأت بدايةً سيئةً، وهذا لم يكن من الحكمة، إن كانت ترغب في الاستفادة من درس «توءم» براونينج. لذا يجب أن تعوِّضه بهدوء قبل أن تتطرَّق معه إلى مناقشة الشروط.
وبصرف النظر عن الاعتبارات المالية، كانت سعيدةً بأن أُتيحَتْ لها فرصةٌ نادرة لعرض روعة منزلها في لندن. لم يكُن فيه طلاء أبيض، ولكنْ كان به أثاث من خشب الماهوجني الأحمر الداكن، وألوان داكنة غنية توحي بأنها من الزجاج المعشَّق، لتتناسب مع الأثاث الضخم وتنسجم معه. ومما أثار سعادتها أنَّ تأثير ذوق المنزل لم يَضِع هدرًا على الشاب الذي أثنى على ذوقها بحماسٍ غيرَ مُكرَه.
قال الشاب: «سأعترف لكِ. كلُّ هذا مختلف اختلافًا شاسعًا عن المنازل العادية المفروشة. هذا هو لوني المُفضَّل.» مدَّ يده يلمس ستارةً من البروكار الدمشقي، لونها أرجواني ضارب إلى الحمرة. «كما أنني أعشق سجادكِ. لا بد وأنَّ هذا هو ذوق الفارسيِّ الذي بداخلي.»
ابتسمَت الآنسة لوفابل بابتهاجٍ وقالت: «أيُعجبك حقًّا؟»
في تلك اللحظة، كانت تشبه في الواقع فتاةَ مدرسةٍ متقدِّمةً في السن، أشادَتْ مُعلِّمتُها بعملها.
«يعجبني فعلًا. بصراحةٍ وبغير تحفُّظ.»
«هذا يسعدني جدًّا. تفضل بالجلوس. أتمنَّى لو كان لديَّ شيءٌ لأقدِّمه لك، ولكن لا يوجد شيءٌ في المنزل. لقد وصلتُ للتوِّ.»
«ألَا تعيشين هنا؟»
«أحيانًا. لقد جئتُ توًّا من الريف.»
بذلَت الآنسة لوفابل جهدًا حقيقيًّا لمنع نفسها من إعطاء تفاصيل عن منزل البحيرة.
قالت الآنسة لوفابل في نفسها: «لا أريد أن أتباهى. خاصة أنه لا يبدو محظوظًا جدًّا … أتساءل إن كان من السابق لأوانه ذِكْر الشروط.»
وبينما كانت تجلس في صمت، وعيونها الزرقاء الداكنة ذاهلة، أخذ الرجل يتأملها ويلاحظ البنيةَ العظميَّة الممتازة لوجهها والبريق الأصفر في شَعرها. كما لاحظ أيضًا قِصَر أصابع قدمها في الحذاء، والتصميمَ القديم لملابسها.
ثم نظر حوله إلى ما بالغرفة من رفاهيات فاخرة وسجاد سميك وكراسي عميقة مُبطَّنة ببطانات ناعمة. كان الجو دافئًا جدًّا والنوافذ قاتمةً بفعل ستائر شبه شفافة، لونها أرجواني ضارب إلى الحمرة، تحجب منظر «الجهات الخلفية» المقابلة. وفي هذا الضوء الخافت، حين ساد الصمتُ بينهما، بدا أنهما عالقان في واحةٍ بعيدة عن صخب الحركة في لندن.
قال الرجل: «المكان هنا هادئ جدًّا.»
وافقَتْه بحماس، قائلةً: «صحيح. هذه ميزةٌ عظيمة جدًّا.»
«يتوقف هذا على ذوق المرء … هل أنتِ وحيدةٌ هنا؟»
«نعم.»
«ألَا تشعرين بالخوف؟»
فانفجرَتْ ضاحكة.
«ممَّ سأخاف؟ أنا لا أحتفظ بأيِّ شيءٍ ذي قيمة هنا. لا صحون، ولا مجوهرات، ولا نقود. اللصوص دائمًا يعرفون … هلَّا تحدثنا عن الأعمال؟»
«هذا ما جئتُ من أجله … ما اسمكِ؟»
«لقد أخبرتُك. الآنسة لوفابل.»
«أعني … اسمكِ الأول.»
وبينما ظلَّت الآنسة لوفابل صامتةً بشكلٍ لافت، واصل هو الحديث.
«هل اسمكِ «فلورا»؟ ينبغي أن يكون كذلك. بالمناسبة، اسمي «بكنجهام». أنا شقيق السيدة براند. اربطي اسمي باسم القصر إذا نسيتِه.»
«إذَن، ماذا عن الشروط، يا سيد بكنجهام؟»
«سأترك هذه للوكيل العقاري. ولمصلحة زوج أختي، يجب أن أخبره أن يخفضها قدْرَ الإمكان. ولكن إذا كنتُ سأناقشها معكِ مباشرةً، فسيكون الأمر على العكس تمامًا.»
عضَّت الآنسة لوفابل شفتها في خيبةِ أمل. وبدأت تتساءل إذا كانت قد أفسدت المقابلة. إذ كان ينبغي عليها أن تستحثَّ الشاب بدلًا من ازدرائه.
سألَتْه: «هل تعرف اليوم الذي يريد الميجور براند أن يسكُن فيه؟»
أجابها: «نعم. يريد أن تنتقل عائلته في الرابع عشر من سبتمبر. هذا هو يوم عودته إلى الهند، لكنه لن يغادر حتى المساء.»
فقالت: «لكن يجب أن أقابله قبل أن أذهب إلى سويسرا. أنا ذاهبة إلى جريندلوالد لمدة أسبوعَين.»
«إذَن لديكِ ما يكفي من الوقت لترتيب الأمور على نحوٍ طيِّب.»
فهزَّت رأسها في تعاسة. كانت جميع مخططاتها مبنيةً على طريقة حِرَفيٍّ شرقي ينحت مجموعة من الصناديق، كلُّ واحد منها محصور بداخل الآخَر. كان تأجيل الموعد يفسد خطتها الأصلية للقاء الميجور، ومن ثَم تلقِّي الشيك منه. كان هذا أمرًا ضروريًّا لعُطلتها؛ لكن، وكما تبدو الأمور الآن، لم تكُن الآنسة لوفابل متأكِّدة من أنه سيفكِّر في الدفع مقدمًا مع هذه المدة الطويلة.
قالت في استحياء: «من المعتاد أن يُدفَع الإيجار مقدمًا. فهل يمكنك ترتيب ذلك مع زوج أختك؟»
فقال: «دعي هذا لي.» وكانت نبرته واثقة. «والآن بما أننا حسمنا جانب العمل من الأمر، هل يمكنني تدخين سيجارة؟»
فتح الرجل علبته، وعرضها عليها. وعندما رفضت، أخذ سيجارةً وأشعلها، دون أن يخلع قفازه.
وعلى الرغم من الاختلاج الخفيف الذي شعرَتْ به، أبَتْ أن تشعر بالتوتر.
وسألته: «هل أُصبتَ في يدك؟»
فأجابها: «بطريقةٍ ما. أصابعي تبدو قبيحةً في الوقت الحالي. كنت أقوم ببعض الأعمال التجريبية. أحاول اختراع بعض الأدوات الصغيرة اللطيفة لقتل الناس.»
تقبَّلَت الآنسة لوفابل تفسيرَه بهدوء ظاهري. وإن هي فكرت للحظة في إلسي بشيءٍ من الحنين، كانت تُطمئن نفْسَها وتؤكِّد لها أنها ليست بحاجةٍ للدعم الأخلاقي أو الحماية، ولكنها تفكِّر فيها؛ لأنها قد تدقُّ الجرس لتطلب من الخادمة أن تصحب السيد بكنجهام إلى الباب.
في تلك اللحظة، كانت واعيةً بوجود رغبتَين متعارضتَين. كانت الأولى مزعجة؛ لأنها كانت خيانة لمعيارها الخاص بالاستقلالية. اعترفت لنفسها أنها كانت واعيةً تمامًا بوجود هذا الشاب ومتجاوِبة مع شخصيته. كانت ترغب في البقاء معه في هذا الدفء الخافت، والسماح للانجذاب المتبادَل بينهما أن يتطور إلى حميمية.
كانت الرغبةُ الأخرى لا واعية جزئيًّا، لكنها أثَّرَت على إرادتها بقوة تيارِ بحرٍ عميق.
يجب أن تتخلَّصَ من هذا الشاب على الفور.
سألَتْه الآنسة لوفابل بنبرةٍ مستقرة ورزينة: «متى يمكنني أن أتوقَّع استلام الشيك؟»
فأجابها بكنجهام: «لا أستطيع أن أخبركِ بذلك الآن. سأضطر إلى الانتظار حتى أحصل على عنوانٍ من براند، قبل أن أتمكَّن من مراسلته بشأن ذلك. وبالطبع، يجب أن يكون موجَّهًا للوكيل.»
احمرَّ وجه الآنسة لوفابل.
وقالت: «هل تحاول التلميحَ إلى أنني لن أدفع له عمولته؟»
أجاب: «بالطبع لا. لكن، وكما كنتِ تذكِّرينني، هذه هي الأعمال.»
نهضت الآنسة لوفابل بصعوبةٍ من أعماق كرسيها المتشبِّث بها.
وقالت: «في هذه الحالة، يبدو أن بقائي في لندن مَضْيَعةٌ لوقتي. سأسافر إلى سويسرا في الحادي والثلاثين من أغسطس وأعود إلى لندن في الثالث عشر من سبتمبر، حتى أتمكَّن من مقابلة الميجور براند يوم الرابع عشر. يمكن إرسال الشيك إلى منزلي الريفي.»
سألها الرجل: «هل لديكِ منزلان؟»
هذه المرة، لم تستطع لوفابل مقاومةَ هذه الفرصة. فبما أنه يصرُّ على معاملتها كفتاةٍ صغيرة — تتمتَّع بجاذبيةٍ كبيرة — فإن الوقت قد حان ليعرف أنها امرأةٌ مهمة تمتلك عقارات.
فقالت تصحِّح له: «بل ثلاثة. لديَّ بيتٌ من طابق واحد يطلُّ على البحر.»
«هل هذا كلُّ شيء؟ أليس لديكِ فِيلَّا في جنوب فرنسا وناطحةُ سحابٍ في نيويورك؟»
رفعت الآنسة لوفابل ذقنها بكبرياء.
«إذا كنت تقصد ممازحتي بهذا، فأنا لستُ مُستمتِعة.»
كانت نبرتها باردةً بكبرياء واستهجان شديدَين، لدرجة أنها قد تكون صدًى لتعليق الملكة فيكتوريا التاريخي، الذي يتردد على مرِّ السنين.
تبعها الرجل إلى الباب الأمامي.
وسألها: «أين منزلكِ الريفي؟»
«في كِنت.»
«أنتِ كتومةٌ أكثر من اللازم. ألَا تثقين بي؟»
«هذه ليست مسألة ثقة. الأمر فقط أنني لا أستطيع رؤيةَ الصلة بين التفاصيل الشخصية ومقابلة العمل … طاب صباحك.»
وبينما كانت تغلق الباب الأمامي خلفه، أصابَتْها رجفةٌ من فكرةٍ مفاجئة خطرَتْ لها.
السيد الذي غادَرَ للتوِّ لم يترك وراءه أيَّ بصمات.