الفصل السابع

المستمع

بعد سطوع شمس شهر أغسطس، بدا أن داخل الردهة مظلِم تقريبًا، حيث كانت نافذة جانبية ضيقة واحدة فقط تسمح بدخول شعاع من الضوء المغبَّر. ومع ذلك، لم تشعر الآنسة لوفابل بأيِّ هاجس أو قلق حول كونها في البيت وهو مُغلَق مع غريب يرتدي قفازات. وعندما الْتَفتَت إليه، كان عقلها مشغولًا فقط باعتبارات الأعمال.

قالت الآنسة لوفابل: «أودُّ أن تنظِّف سجادةَ غرفة الاستقبال إذا كان ذلك ممكنًا.»

سأل السيد واتكينز، متجهًا نحو غرفة الطعام: «أين هي؟ أهي هذه الغرفة؟»

«كلَّا. أعلى الدرَج. في الطابق الأول.»

تراجع الرجل ليترك لها فرصةً لصعود الدرَج أولًا، لكنها رفضت أن تتقدَّمه.

وقالت: «تفضَّلْ أنت. إنها الباب الأول. لا أحبُّ أن يمشي أيُّ أحد خلفي.»

وعندما بدأ الرجل يُظهِر اهتمامًا احترافيًّا بنظام البيت وترتيبه، نبَّهها حذرها الفطري نفْسُه إلى عدم الانجرار إلى إعطاء أي تعهُّد.

علَّق الرجل دون تكلُّف: «أتصور أن المنزل يتبع نفس نمط باقي المنازل في منطقة كريسنت. غرفتان أو ثلاث في كل طابق، وحوالي ثلاثة طوابق من الدرَج التي ستحتاج إلى سجاد. سيكون من المفيد لكِ بالتأكيد شراء مكنسة كهربائية … أظن أن الخدَم ينامون في الطابق العُلوي، أليس كذلك؟»

فأوضحَت الآنسة لوفابل، لتمنعه من تجاوُز حدود عمله، ودون أن تكذب: «لا يوجد سجاد في العلِّيَّة ولا في القبو.»

وعندما وصلا إلى غرفة الاستقبال، الْتَفَت إليها مبتسمًا.

وقال بصوت خافت: «أنتِ تفهمين ما تفعلين. هذه الغرفة لها جوٌّ خاص. لا يوجد فيها أيُّ تناقض. كانت عملية إعادة تأهيل، لا تجديد. أنا أيضًا أحبُّ المنازل القديمة.»

ذكَّرته قائلةً: «السجادة.»

«رائعة. لقد زرتُ بعض بيوت العائلات الثريَّة، سواءً بشكل مهني أو … قبل ذلك. لكنني لم أرَ سجادةً أجمل من هذه.»

على الرغم من مديحه، كان من الواضح أن شيئًا آخَر قد أثار اهتمامه. فاقترب يتأمَّل لوحةً زيتيةً صغيرة لمنظر طبيعي بلون بُني داكن مُعلَّقة عاليًا على الجدار.

وسأل: «هل هي أصلية؟ تبدو وكأنها لوحة لأحد الفنانين العِظام القُدامى.»

أجابته الآنسة لوفابل بصراحةٍ هذه المرة.

«أعتقد ذلك. لقد اشتريتُها من متجر للتحف. لكنني أتمتَّع بنظرةٍ موفَّقة.»

«هل جعلتِ أحدًا يُقَيِّمها؟ هل هي آمنةٌ في مكانها هذا؟»

«بالطبع. لديَّ بوليصة تأمين … حسنًا، ما رأيك؟ هل السجادة كبيرةٌ أكثر من اللازم؟»

هزَّ الشاب كتفه وهو يهزُّ رأسه نافيًا.

«سأنظِّفها، ولكن فقط لأنني متأكِّد أنني سأتمكَّن من أن أبيع لكِ المكنسة، عندما ترين كيف ستبدو بعد التنظيف … من فضلكِ، هل يمكنني معرفة اسمكِ؟»

«لوفابل.»

«السيدة؟»

«بل الآنسة.»

دَوَّن ملاحظةً في دفتره ثم تحدَّث بتردُّد.

«ذكرتِ شيئًا عن الذهاب إلى سويسرا. أتساءل إنْ كنتُ أستطيع أن أقترح عليكِ أن تتركي النوافذ العلوية مفتوحةً وتطلبي من الشرطي أن يراقب المكان وأنتِ غائبة. كما تعلمين، عندما يُوصِد المرءُ البيتَ كلَّه، فإنه يُعلِن بذلك أن المكان فارغ. وهذه دعوةٌ مفتوحة لِلُصوصِ المنازل.»

لم ترحِّب الآنسة لوفابل بنصيحته لسببَين. أولًا، كانت انعكاسًا غير مباشِر لحُكمٍ على امرأة غير متزوجة، وبيانًا لحاجتها للنصائح الذكورية. كما أنها أثارت نقطةً كانت قد ناقشتها مع إلسي في نقاشٍ حادٍّ بينهما.

أشارت ذقنها المرفوعة إلى أنه قد تجاوَزَ حدوده.

وقالت ببرود: «شكرًا لك. لكنني قادرة على ترتيب أموري بنفسي. أنا … أوه!»

ثم ابتعدت عن النافذة وهي تصيح.

وقالت: «لقد عاد ذلك الرجل مرةً أخرى.»

وبينما كانت تتحدَّث، دقَّ جرس الباب الأمامي بصوت عالٍ.

فاعترفت باندفاع: «لا أريد أن أراه.»

فأشار عليها واتكينز: «إذَن، اتركيه يدقُّ الجرس.»

«كلَّا؛ فقد رآني. من الأفضل أن أذهب. هلَّا انتظرتَني هنا؟ لن أطيلَ عليك.»

فجأةً، بدا أنَّه عملٌ من أعمال العناية الإلهية أن يأتي بكنجهام في حين وجود واتكينز في المنزل. واستنادًا إلى المبدأ التاريخي المتمثِّل في إرسال لص للقبض على لص، ينبغي لوجود رجل غريب ذي قفازات في المنزل أن يكون حمايةً من الغريب الآخَر.

ولمَّا كانت لوفابل لا تجرؤ على ترك أخي زوجة الميجور براند على الباب لفترةٍ طويلة؛ خوفًا من أن يكون لديه أخبار مُشجِّعة لها، ركضَتْ إلى الأسفل وفتحت الباب.

وعلى النقيض من الغريب الآخَر المراعي، الذي كان عليه أن يمحو شخصيته لتلبية متطلبات كونه رجل مبيعات وتجارة، بدا بكنجهام واثقًا وحاسمًا.

قال بكنجهام: «آسف على مجيئي مرةً أخرى، لكني أظن أنني تركت علبة سجائري هنا. هل تسمحين لي أن أبحث عنها؟»

اعتبر الرجل أنَّ إذنها أمرٌ مُسلَّم به؛ فدخل غرفة الجلوس الصباحية ودسَّ أصابعه تحت مقعد الكرسي الناعم المُبطَّن.

وقال وهو يرفعها لتنظر إليها: «وجدتُها. هذه الكراسي الفخمة فِخاخ.» ثم رفع رأسه بسرعة عندما سمع صوتَ صدمة خافتة.

وسأل: «ما هذا؟»

فأجابت: «لم أسمع شيئًا.»

«كأنه صوتُ شخصٍ يغلق الباب الأمامي.»

«أوه، كم هذا مزعج! لا بد أنه الرجل الذي يريد بيع مكنسة كهربائية لي. لقد وعدني أنه سينتظر … يا له من أحمق!»

تحدثت الآنسة لوفابل بغضب؛ لأنها شعرت بانزعاجٍ غامض، كما لو كانت بعض الأفكار المُربِكة قد بدأت تراوِد ذهنها.

تبعها بكنجهام إلى الردهة، حيث الْتَقطَتْ واحدة من بطاقات واتكينز التجارية من على طاولة الردهة.

كان مكتوبًا على البطاقة بقلمٍ رصاص: «آسف. الرابع عشر من سبتمبر.»

سأل بكنجهام، وقد سدَّد إليها نظرات حادَّة ونافذة: «ما الذي سيحدث في الرابع عشر من سبتمبر؟»

وعندما لم تُجِبه، طرح سؤالًا آخَر.

«هل ستغلقين هذا المنزل عندما تكونين في سويسرا؟»

«لماذا؟ هل ستعطيني نصائحَ حول كيفية خداع لصوص المنازل؟»

«كلَّا. على كلٍّ، الأمر لا يهمُّ. فبإمكان أي شخص يريد أن يقتحم المنزل أن يفعل ذلك ويده مربوطة خلف ظهره؛ بسبب كل هذه الشرفات.»

«فكرة مشجعة للغاية. هل أنت وكيل تأمين؟»

«كلَّا، ليس في الوقت الحالي، لست مُصنَّفًا … الحقيقة هي أنني كنتُ طفلًا مشاغبًا، ومشكلتي لم تُحَلَّ بعد.»

فقالت الآنسة لوفابل، وهي تفتح الباب الأمامي: «حسنًا، على أي حال لقد وجدتَ علبة السجائر.»

«نعم، شكرًا.»

وقبل أن يصل إلى عتبة الباب، عاد بكنجهام إلى الردهة.

وسألها: «ألَا تريدين أن تريني المنزل؟ وعدتُ أختي أن أعطيها معلوماتٍ بشأنه، لكنني لم أرَه بعد.»

فهزَّت لوفابل رأسها استجابةً لدافع الحذر، حيث لم يعُد الغريب الآخَر ذو القفازات يرافقها.

وأخبرته: «ليس ضروريًّا. فالمنزل يَروقُ أختك؛ حتى إنها تفكر في شرائه. اتصل بي الوكيل بشأن هذا. يبدو أن هذا أمرٌ لا تعرفه. والآن، إذا لم يكُن لديك مانع، لديَّ أشياء أقوم بها. هل تركتَ شيئًا آخر؟ أحذِّرك، لن أفتح الباب مرةً أخرى لأيِّ أحد.»

«لا يهمُّ. ربما سنلتقي مرةً أخرى.»

«أين؟»

«ربما في سويسرا.»

«عطلة سعيدة، ولكنني لا أظن أننا سنلتقي.»

أغلقت الآنسة لوفابل الباب وهي تشعر بالرضا عن نفسها. كانت معنوياتها في حالةٍ ممتازة مرةً أخرى؛ لأن حاسة الأعمال لديها اشتمَّت صفقةً مربحة. ففي حين أنها اشترت المنزل رقم «١٩» بماديرا كريسنت بثمنٍ رخيص، كان ما تحرزه من تقدُّم يبرِّر رفعَ سعره بحيث يؤمِّن ربحًا كبيرًا.

سببٌ آخَر من أسباب رضاها، كان الطريقة التي تعاملَتْ بها مع بكنجهام.

قالت في نفسها: «حاوَلَ أن يتلاعب بي كما لو كنتُ غبية. هو بالتأكيد يعرف شيئًا عن أمر عائلة براند هذه، ولكنه لا يعرف الكثير. حسنًا، أظنُّ أنني يجب أن أُفرغ حقيبتي.»

وعندما وصلت إلى الغرفة الكبيرة التي وقفت حقيبتها المُغلَقة على أرضيتها، غيَّرَت رأيها. كانت الحقيبة معبَّأة استعدادًا للسفر إلى سويسرا، وكان كل شيء مرصوصًا بإحكام في الحد الأدنى من المساحة ويتداخل مع غيره من الأشياء، فكانت في تنظيمها أشبَه بأحجية صور مقطوعة. وبما أن الجزء الأكبر منها كان يتألف من غياراتٍ داخلية وأحذية إضافية لن تحتاج إليها في هايفيلد؛ قرَّرَت ألَّا تبعثرها، وأن تتركها سليمةً من أجل عطلتها.

كان كل ما تحتاجه لقضاء ليلتَيها في لندن في حقيبتها الصغيرة، بما في ذلك المنامة. كانت قد ألقَتْها بداخل الحقيبة الصغيرة في اللحظة الأخيرة، لكيلا تتسبَّب في تجعيد تنورتها الحريرية أثناء الليل في القطار إذا كانت محظوظةً بما يكفي لتستلقي على المقعد.

قالت في نفسها: «على أي حال، يجب أن أجهِّز السرير.»

صعدَت الدرَج إلى الطابق التالي حتى وصلت إلى خزانة البياضات، وبدأت في إخراج الأغطية والمناشف من الرفوف. عادةً ما تستسلم لإغراء التفاخر والابتهاج بمخزونها — وحصر الأكوام المختلفة للتحقق منها مع قائمة الجرد — وإعادة توزيع أكياس الخزامى؛ ولكن، بعد ظُهر اليوم، كانت تدرك فقط رغبتها في الانتهاء في أقرب وقتٍ ممكن.

لم تستطع تفسيرَ مشاعرها غير العادية. فبينما كانت لا تخاف من شيء، شعرَتْ بالقلق والتوتر كما لو أن كلَّ قدراتها كانت مشدودة لتبقيها في حالة تأهُّب. وجدت الآنسة لوفابل نفسها تتسمَّع الأصوات وتجتهد في ذلك، وتجفل لأدنى صوت؛ مثل صرير لوح، أو خشخشة ستائر النوافذ.

وسرعان ما أدركَتْ أن أعصابها متوترة، في حين اقشعرَّ جسدها كما لو كان شيئًا معاديًا سيقتحم عليها المكان.

قالت في نفسها: «أولئك الأشخاص الأغبياء الذين يخافون من القطط يدَّعون أنهم يعرفون إنْ كان هناك قِط في الغرفة. ربما كان هناك قَدْر من الصحة في ذلك في نهاية المطاف. ولكن ما الذي يمكن أن يكون في المنزل ليؤثِّر فيَّ بهذه الطريقة؟»

انطلقت الآنسة لوفابل أسفل الدرَج وهي ممسِكة بحزمة البياضات إلى غرفة نومها، حيث جهزت السرير بسرعة قياسية. كانت مدفوعةً بنفس شعور الاستعجال — الحاجة المُلِحَّة لأنْ تُسرع — في الابتعاد. وعندما جفلَتْ خائفة حين سمعت صوتَ طَرْق بعيد — كما لو كان شخصٌ ما يطرق على مسامير في الطابق السفلي — استرشدَتْ بمنطقها السليم، ورفضت النزول للتحقق.

ولمَّا شعرت بالحاجة إلى تغيير المشهد من حولها، قرَّرت الخروج والتسوق. كانت تعدُّ قائمة بما ستحتاجه خلال نهاية الأسبوع، وذلك عندما تذكرت فجأةً جامعَ الأموال للمكفوفين. فبالرغم من حاجتها إلى الاقتصاد في إنفاقها، كانت كريمة فطريًّا، وكان ردُّها على استجدائه مميزًا.

قالت في نفسها، وهي تفتح سحَّاب حقيبتها: «اللعنة، أعطيتُه المال»، وبدأت في عدِّ النقود الفكَّة.

كان المبلغ أربعة شلنات وتسعة بنساتٍ ونصف بنس.

ففكَّرت: «يجب أن أصرف شيكًا.»

وفي اللحظة التالية، تذكَّرَتْ حقيقة أن اليوم هو السبت. سيكون البنك مغلقًا، وكذلك مكتب وكيل العقارات. مرةً أخرى، بدا أن خططها محكومٌ عليها بالتفكك والاضطراب عندما استعرضَت الوضع. فإذا أنفقت كلَّ مالها على الطعام، ستكون بلا مالٍ على مدار نهاية الأسبوع، وكانت تكره فكرةَ عدم وجود أموال خشيةَ وقوع طارئ. في كل الأحوال، لم يكُن بإمكانها تناول الطعام وفقًا لمعيارها المعتاد؛ لأنها تحبُّ تناوُل ثلاث وجبات كاملات في اليوم.

قررت في نفسها: «من الأفضل أن أعود إلى البيت، في حين أنه لا يزال بإمكاني العودة.»

كانت تكلفة تذكرة القطار إلى هايفيلد أربعة شلنات وبنسين اثنين، وكانت أجرة قطار الأنفاق ستة بنسات؛ لذا كان لديها فارقٌ قدْرُه بنسٌ ونصف، إذا قرَّرت أن تركن إلى الجانب الآمِن.

فتمتمَتْ بغضب: «اللعنة على قصة التوءم.»

لكن، على الرغم من أنها كانت منزعجة من إهدار الوقت والمال وعدم جدوى رحلتها عمومًا، فقد شعرَتْ بخفَّة في نفسها مُشابِهة للراحة التي تلَتْ قرارها السابق. كانت تتوقُ لأنْ تكون في طريقها إلى البيت، للجلوس في عربة القطار ومشاهدة الحقول المحصودة تمرُّ بسرعة، حتى تتمكَّن من رؤية أول مَعلَمٍ يخبرها أنها قريبة من نهاية رحلتها.

لم يكن لديها صبر لأنْ تُزيل الأغطية عن السرير؛ فتركتها جاهزةً من أجل يوم الثالث عشر من سبتمبر، عندما ستقضي ليلتها في لندن. ولكن عندما أمسكت بحقيبتها، توقفتْ ثم أعادتْ وضعها على الأرض.

كانت فكرةٌ غير سارة قد تسرَّبت للتو إلى عقلها. قالت لنفسها إنها ليس لديها أيُّ دليلٍ على أن بائع المكنسة قد غادر المنزل. كل ما سمعته هو صوتُ الباب وهو يُغلَق، في حين أنَّ بإمكانه فتحَه وإغلاقه بنفسه قبل أن ينسلَّ عائدًا إلى الطابق العلوي.

كانت تلك حيلةٌ قديمة رأَتْها في الأفلام، حين كان الرجل يتمتَّع بنظرةٍ دمثة ورقيقة، مثل شرير السينما من النوع المعسول.

قالت في نفسها: «كان يعرف أنني سأكون وحدي الليلة. حسنًا، إذا كان يظنُّ أنه سيكون روميو، فهو مخطئ تمامًا … إذا كان لا يزال هنا، سأجعله يرتدُّ على عقبَيه فرارًا.»

لم يخطر ببالها أنَّ هناك أيَّ شكلٍ من أشكال الخطر في بحثها عن الرجل، على الرغم من أنها كانت دائمًا ما تشعر بالغضب من بطلات الأفلام عندما يندفعنَ إلى الخطر بينما يَحللنَ عنوةً محلَّ العملاء الخاصين ويقُمن بعملهم. هرعَت الآنسة لوفابل في أرجاء المنزل، تفتح كلَّ باب يمكن للرجل أن يكون قد اختبأ خلفه، لكنها لم تكُن دقيقة في بحثها مثل السابق.

كان هناك قطار عليها أن تلحق به؛ لأن القطارات لم تكُن تتَّجه إلى هايفيلد بوتيرةٍ متكرِّرة. وحيث كانت تعي أنها في سِباق مع الزمن، سارعتْ إلى المطبخ لتجِدَ أنَّ صوتَ النقر يأتي من صنبورٍ يقطر. وبعد أن أحكمت إغلاقه، شطفَت زجاجةَ الحليب ووضعَتْها خارج الباب الخلفي، بينما حلَّت مشكلةَ كيفية التخلص من الخبز.

إذا ألقته في الفِناء للطيور فستُحمِّصه الشمسُ فيصبح كقوام الرمل؛ ومن ناحية أخرى، لا يمكنها تركه كي لا يجذب الفئران. في نهاية المطاف، حزمتْه لتأخذه معها.

وبعد أن دسَّته تحت ذراعها، سارعتْ إلى الطابق الأول حيث تركتْ حقيبتها. فأمسكت بها ثم توقفت تتسمَّع.

كادت تجزم بأنها سمعتْ خُطًى خفيَّة تتحرك في مكانٍ ما بالأعلى.

ففكَّرت في نفسها: «لم أبحث في العلِّيَّة.»

وعلى الرغم من واقعة الصنبور الذي كان يتقطر منه الماء، كانت الآن تصعد الدرج إلى الطابق الأعلى، وحينها نظرت إلى ساعتها … في الثانية التالية، الْتفتت وسارعتْ إلى الغرفة الرئيسية، متجاوزةً الدرجات الأخيرة كلَّها في قفزةٍ واحدة؛ وهي تخشى من أن تُفوِّت القطار. أغلقَت الآنسة لوفابل البابَ الأمامي خلفها بقوة، وركضتْ طوال الطريق حتى وصلت إلى محطة الأنفاق.

وحتى وقفتْ على السلم الكهربائي، لم تكُن قد أدركت أنَّ انطباعًا قد تسلَّل إلى عقلها لا شعوريًّا؛ كان ضبابيًّا لدرجة أنه بدا وهمًا من أوهامها. وهو أنها، بينما كانت تنزل على الدرَج المغطى بالسجاد الكثيف، بدا لها أن أصواتَ وقْعِ أقدامها كانت تتكرَّر بشكلٍ خافت في الأعلى.

في ذلك الوقت، كانت مهووسة بالحاجة إلى الوصول إلى وجهتها، لذا لم تتوقَّف ولم تُدِر رأسها؛ وحتى الآن كانت غيرَ واثقة تمامًا بشأن ما حدث بالفعل.

فقالت لنفسها: «كنتُ أصنع من الحبَّة قُبة. على أي حال، حتى لو تركتُ روميو في المنزل وهو مغلقٌ عليه، يمكنه أن يخرج بنفسه … مَن يهتم؟»

وبرغم الحرارة والعربات المزدحمة، استمتعَت الآنسة لوفابل بكلِّ ياردة في رحلة العودة، منذ اللحظة التي دخلت فيها قطار الأنفاق حتى وصل القطار المحلي إلى محطة هايفيلد. كان سيرها على الممرِّ المؤدي للمنزل وهي تثير سحابة من الغبار، وتسلُّلها عَبْر الحديقة المظللة بالزان في منزل البحيرة، يمثِّلان مغامرةً لها.

دقَّت الجرسَ لتفاجِئ إلسي. وعندما ظهرت الخادمة، حاولت أن تُهَدِّئ من انفعالات وجهها.

وسألت: «هل الآنسة لوفابل في المنزل؟»

قبل أن تنتهي من الكلام، كانت تضحك بشكلٍ هستيري، بينما انضمَّت إليها إلسي في ضحكها وطربها الهستيري. وفي خِضم الإثارة، اندفع سكوتي نحوها ينبح. وتلاه ديفيد، يركض منخفضًا على الأرض ككتلة فراء متحركة، فاكتمل الترحيب.

سألت إلسي فيما بعد، وهي تأخذ الطرد من الآنسة لوفابل: «ماذا تحملين يا سيدتي؟»

أجابت: «خبز، لم أتركه في المنزل. وهذه علامةٌ طيبة لي.»

قالت إلسي: «نعم، يا سيدتي. وأين حقيبتكِ؟»

ضربت الآنسة لوفابل جبينها.

وقالت: «نسيتُها، جَلْبُ الخبز جعلني أنساها. كنت أظنُّ أن كلتا يدي مشغولتان … حقًّا يا إلسي، لم أعرف مثلَ هذه الفوضى من قبل. بدلًا من إجراء مقابلة شخصية مع السيد ليمون، سأضطر للاتصال به، وهذا ليس جيدًا. وكل ذلك بسبب أنني أعطيتُ عشرة شلنات لجامع التبرعات للمكفوفين، الذي قصَّ عليَّ قصةً رائعة … لا أستطيع أن أعرف ما حدث لحظي اليوم. لقد نضب تمامًا.»

حينها، ولسخرية القدر، لم يكُن بمقدور الآنسة لوفابل أن تدرك مدى حسن حظها. فالجامع الذي تقاسَمَ مساهمتها تلقَّى خمسة شلنات وهي مبلغ ضئيل لقاء تدخله اللاواعي.

في تلك الليلة، زار رجلٌ متأنق المنزل رقم «١٩» بماديرا كريسنت بشمال غربي المدينة، ووجده فارغًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥