الكتاب الأول
شذرات في تفسير الطبيعة وفي مملكة الإنسان١
(١) الإنسان هو المُوكَّل بالطبيعة والمفسِّر لها، وهو بهذه الصفة لا يملك أن يفعل
أو
يفهم إلا بالقدر الذي تتيحه له ملاحظته التي قام بها لنظام الطبيعة، سواء كان ذلك في
الواقع
أو في الفكر، وليس بوسعه أن يعرف أو يعمل أكثرَ من ذلك.
•••
(٢) ليس لليد وحدها ولا للعقل وحده أيةُ قدرة تُذْكَر، إنما يجري العملُ بالأدوات
والعُدَد، تلك التي يحتاجها الفكرُ بقدر ما تحتاجها اليد، ومثلما تقوم أدواتُ اليد بحفز
حركتها وترشيدها، كذلك تقوم أدواتُ العقل بحفز الفهم أو وقايته.
•••
(٣) المعرفةُ البشرية والقدرةُ البشريةُ صِنوان؛ لأن الجهل بالعلة يمنع المعلول، ذلك
أن
الطبيعة لا يمكن قهرُها إلا بإطاعتها، وما يُعَد عِلَّةً في مجال الفكر النظري يُعَد
قاعدةً
في مجال التطبيق.
•••
(٤) كل ما يستطيع الإنسان أن يعمله لكي يحقق نتائج
٢ هو أن يضم أجسامًا طبيعيةً معًا أو يُفرِّقها، والطبيعة تتولى الباقي
داخليًّا.
•••
(٥) يتمرس بالطبيعة من أجل نتائج عملية كلٌّ من الميكانيكي والرياضي والفيزيائي والخيميائي
٣ والساحر؛
٤ ولكن جميعهم — كما يشي الحال — لا يظفر إلا بنتاجٍ هزيل ونجاحٍ قليل.
•••
(٦) إنه لمن الخطل والتناقض الذاتي أن نتوقع أن الأشياء التي لم تُنجَز حتى الآن على
الإطلاق يمكن أن تُنجَز، ما لم يكن ذلك بوسائل لم تُجرَّب حتى الآن قط.
•••
(٧) تبدو نواتج العقل واليد وفيرةً جِدًّا إذا قُدِّرَت بعدد الكتب والسلع، غير أن
كل هذا
النتاج المتنوع لا يعدو أن يكون تنقيحًا مفرطًا واستنباطات من عدد قليل مما تَمَّت معرفته،
ولا يعبِّر عن عدد المبادئ
٥ (المكتشفة).
•••
(٨) وحتى النواتج التي اكتُشِفَت بالفعل إنما تم اكتشافُها بطريق المصادفة والخبرة
أكثر
مما هو بطريق العلوم؛ ذلك أن علومنا الراهنة لا تعدو أن تكون تنظيمات لائقة لأشياءَ سَبَقَ
اكتشافُها، وليست طرائق للكشف أو موجِّهات لعملياتٍ جديدة.
•••
(٩) سببُ وأصلُ كل خلل تقريبًا في العلوم هو هذا وحده: أننا في غَمرةِ إعجابِنا الخاطئ
وإطرائنا لقوَى العقل البشري لا نبحث عن دعائم حقيقية له.
•••
(١٠) الطبيعة تفوق دقة الحواس والفكر أضعافًا، بحيث إن جميع تلك التأملات والتنظيرات
والشروح المنمقة التي ينغمس فيها الناسُ هي محض جنون، كل ما في الأمر أنه لا أحد هنالك
ليلحظها.
•••
(١١) مثلما أن العلوم في وضعها الحالي لا تُجْدِي نفعًا في اكتشاف نتائج جديدة، كذلك
المنطق الذي بحوزتنا لا جدوى منه في اكتشاف العلوم.
•••
(١٢) نسق المنطق الحالي يفيد في تثبيت وترسيخ الأخطاء (القائمة على الأفكار السائدة)
أكثر
مما يفيد في البحث عن الحقيقة، ومِنْ ثَمَّ فإن ضرره أكبر من نفعه.
•••
(١٣) لا ينطبق القياسُ syllogism على مبادئ العلوم، ولا
جدوى من تطبيقه في المبادئ الوسطى، إذ إنه لا يجاري الطبيعة في دقتها، وهو مِنْ ثَمَّ
يفرض
الموافقة على القضية دون أن يُمسِكَ بالأشياء.
•••
(١٤) يتكون القياس من قضايا، والقضايا من كلمات، والكلمات هي مقابلات رمزية لأفكار،
وعليه
فإذا كانت الأفكارُ نفسُها (وهذا هو جِذر المسألة) مختلطةً ومنتزَعة برعونة من الوقائع،
فلن
يكون هناك ثبات فيما يُبنى فوقها، لذا فلا أمل لنا إلا في الاستقراء induction الصحيح.
•••
(١٥) لا شيء صحيح في أفكارنا سواء في المنطق أو في الفيزياء، فلا «الجوهر» ولا «الكيف»
ولا «الفعل» ولا «العاطفة» ولا «الوجود» نفسه أفكار واضحة، وأقل منها وضوحًا بكثير فكرة
«ثقيل»، «خفيف»، «كثيف»، «رقيق»، «رطب»، «يابس»، «كون»، «فساد»، «جذب»، «طرد»، «عنصر»،
«مادة»، «صورة»، وما إلى ذلك، كأنها أفكار وهمية وغير محددة.
•••
(١٦) إن أفكارنا عن الأنواع الأقل عمومية — مثل: «الإنسان»، «الكلب»، «الحمام»، وعن
الإدراكات المباشرة للحواس، مثل: «الحار»، «البارد»، «الأسود»، «الأبيض» — لا تخدعنا
كثيرًا، ولكن حتى هذه قد تضطرب في بعض الأحيان من جراء تدفق المادة وتغيرها وامتزاج الأشياء
بعضها ببعض، وكل ما عدا ذلك مما استخدمه البشر إنما هو زَيغ وضلال، وغير مستمَد ولا مستخلَص
من الأشياء على نحو قويم.
•••
(١٧) وليس تشييد «المبادئ»
axioms بأقلَّ تهافتًا وزيغًا
من تكوين الأفكار، ولا حتى تلك المبادئ نفسها التي تعتمد على الاستقراء المعتاد،
٦ غير أن التهافت والزيغ يبلغ مبلَغًا أعظم من كل ذلك في حالة المبادئ والقضايا
الدنيا المستقاة من الأقيسة.
•••
(١٨) إن كل ما اكتُشِفَ حتى الآن في العلوم ينسجم على قَدر الأفكار الشائعة، ولكي
نحقق
اختراقًا إلى الأعماق الباطنة والقصِية من الطبيعة يتعين أن نستخلص الأفكار والمبادئ
من
الأشياء بطريقة أكثر وثوقًا وحذرًا، ويتعين اتخاذ إجراء فكري أكثر وثوقًا وصحةً.
•••
(١٩) ليس هناك — ولا يمكن أن يكون — سوى طريقتين اثنتين للبحث عن الحقيقة وكشفها:
الأولى
تقفز من الحواس والجزئيات إلى أكثر المبادئ عمومية، ثم تنطلق من هذه المبادئ — وقد سَلَّمَت
تسليمًا بصدقها — لكي تقرر المبادئ الوسطى وتكشفها، وهذه هي الطريقة الراهنة، أمَّا الثانية
فتستمد المبادئ من الحواس والجزئيات، ثم ترتقي في صعود تدريجي غير منقطع حتى تصل في النهاية
إلى أكثر المبادئ عمومية، وهذه هي الطريقة الصحيحة وإن لم يَجرِّبها أحدٌ حتى الآن.
•••
(٢٠) إذا تُرِك الفكر لحاله فإنه يمضي في نفس الطريق الذي يتخذه عندما يسترشد بالمنطق
(أي
يتخذ أولى الطريقتين السابقتين)، فالعقل مُغرَمٌ بالقفز إلى العموميات لكي يتجنب العَناء؛
ولذا فإنه سرعان ما يضيق ذَرعًا بالتجربة، غير أن هذه الآثام تتفاقم بالمنطق؛ لأنه يُغري
بالمُماحكة والمراء.
•••
(٢١) حين يُترَكُ الفكرُ لحاله لدى عقلٍ يَقِظ وحصيف وجاد (وبخاصة إذا كان غيرَ معَوَّق
بمذاهب سائدة)، فإنه يبذل محاولةً ما في الطريق الصحيح، لكن دون جدوى؛ ذلك أن الفكر بغير
توجيه ومساعدة لا حول له على الإطلاق، ولا قدرة على فض لغز الأشياء.
•••
(٢٢) إن كلتا الطريقتين تبدأ من الحواس والجزئيات وتَخلص إلى أعلى العموميات، غير
أنهما
مختلفتان اختلافًا بعيدًا: فالأولى تمر على التجربة والجزئيات مرور الكرام، أمَّا الثانية
فتتمعَّن فيها كما يجب وتُوليها كلَّ اهتمامها. الأولى تضع منذ البداية تعميمات معينة
مجردة
وعقمية، أمَّا الثانية فتصعد درجة درجة إلى تلك المبادئ التي هي أعَم حقًّا في نظام
الطبيعة.
•••
(٢٣) إن البون لَبعيدٌ بين أوهام العقل البشري وأفكار العقل الإلهي، أي بين ما هو
مجرد
آراء فارغة وما هو السمة أو البصمة الحقيقية المطبوعة على المخلوقات كما نجدها في
الطبيعة.
•••
(٢٤) هيهات لمبادئ تم استخلاصها بالجدل أن تُعين أحدًا في كشف نتائج جديدة؛ لأن الطبيعة
أدق وأحذق من الجدل أضعافًا مضاعفةً، أمَّا المبادئ التي تُستخلَص من الجزئيات بطريقة
وافية
قويمة فإنها تشير وتومئ بسهولة إلى جزئيات جديدة، وهذا ما يُضفي الفاعلية على
العلوم.
•••
(٢٥) المبادئ المستخدمة في الوقت الحالي هي مبادئ مستمَدَّة من حفنةٍ من الخبرة ونَزرٍ
يسيرٍ من الجزئيات الشائعة الحدوث، وكثيرًا ما تُوسَّع وتُمَط لكي تنطبق عليها، ومِنْ
ثَمَّ
فلا عجب إذا كانت هذه المبادئ لا تقودنا إلى جزئيات جديدة، فإذا ما صادَفَنا مثالٌ مضاد
لم
نلحظه من قبل ولم نعرفه، فإننا ننقذ المبدأ ونُبقي عليه بواسطة تمييزٍ عبثيٍّ حيث يكون
التصرف الأقوم هو أن نصوِّب المبدأ نفسه.
٧
•••
(٢٦) آثرتُ — من باب الإيضاح — أن أطلق على الاستدلال الذي يطبقه الناسُ عادةً على
الطبيعة اسم «استباق الطبيعة» anticipation of nature؛
لأنه عملٌ طائش ومبتسَر، وأن أطلق على ما هو مستنبَط من الأشياء على نحوٍ منهجي صحيح
اسم
«تفسير الطبيعة» interpretation of nature.
•••
(٢٧) تتمتع الاستباقات anticipations بقوة ورسوخ يكفي
لانتزاع الإجماع، فحتى إذا أُصيب البشر جميعًا بالجنون بدرجة متساوية فسيكون بوسعهم
الاتفاقُ فيما بينهم اتفاقًا كبيرًا.
•••
(٢٨) الحق أن «الاستباقات» أقوى بكثير على كسبِ الإجماع من «التفسيرات»، فلأنها مستقاة
من
أمثلة قليلة (شائعة مألوفة في الأغلب) فهي تمس الفهمَ على الفور وتملأ المخيلة، على حين
أن
التفسيرات — إذ تستجمع وقائع شديدة التنوع والتناثر — لا يمكنها أن تَنفُذ إلى الفهم
للتو،
ومِنْ ثَمَّ فلا مناص لها من أن تبدو للنظرة الشائعة شيئًا صعبًا وناشزًا وأشبه بأسرار
الإيمان.
•••
(٢٩) يحق للعلوم القائمة على الآراء والاعتقادات أن تستخدم «الاستباقات» والجدل؛ ذلك
أن
غايتها أن تفرِض القبول (بالقضية) لا السيطرة على الأشياء.
•••
(٣٠) حتى لو اجتمعت كل العقول من كل العصور وتآزرت جهودُها جميعًا فلن يتحقق تقدمٌ
كبيرٌ
في العلم من طريق «الاستباقات»؛ ذلك أن الأغلاط المتجذِّرة في جِبِلة العقل الأولى لا
سبيل
إلى الشفاء منها بأية جهود أو علاجات لاحقة مهما بلغت عبقريتُها.
•••
(٣١) من العبث أن نتوقع أي تقدم كبير في العلوم من عملية إضافة وتطعيم
٨ أشياء جديدة على القديمة، لا بد لنا من بدايةٍ جديدةٍ
٩ تتناول الأسسَ نفسَها إذا شئنا ألا نظل ندور إلى الأبد في حلقة لا تُفضي إلى أي
تقدم يُذكَر.
•••
(٣٢) كرامةُ المؤلِّفين القدماء محفوظة، وكذا كرامةُ الجميع، فنحن لا ندخل في مقارنة
من
حيث العقول أو الملكات، بل مقارنة في الطرق والمناهج، ونحن لا نضطلع بدور القاضي بل بدور
المرشد.
•••
(٣٣) فلنقلُها صراحةً: ليس ثمة حكمٌ صائبٌ يمكن إصدارُه على منهجنا ولا على الكشوف
الناجمة عنه بواسطة تلك «الاستباقات» التي تشكِّل طريقةَ التفكير السائدة في الوقت الحالي،
فليس ثمة ما يحملنا على أن نتقبل حكم المنهج الذي هو نفسُه يُحاكَم.
١٠
•••
(٣٤) ولا هو بالأمر السهل أن نشرح أو نفسر ما نحن بصدده؛ ذلك أن كل ما هو جديد سيظل
يُفهَم من خلال الإشارة إلى ما هو قديم.
•••
(٣٥) كان بورجيا
١١ يقول عن حملة الفرنسيين إلى إيطاليا: إنهم جاءوا بطباشير في أيديهم كي يَسِموا
بها مساكنَهم، وليس بأسلحة كي يقتحموا بها طريقهم، وبنفس الطريقة أريد لفلسفتي أن تنفذ
بهدوء إلى العقول الممهَّدة لتلقِّيها، فلا محل للدحوضات ما دمنا نختلف في المبادئ الأولى
وفي الأفكار ذاتها، بل وحتى في صور البرهان.
•••
(٣٦) ليس أمامنا سوى طريقة واحدة بسيطة لطرح قضيتنا: هي أن نضع الناس وجهًا لوجه أمام
الجزئيات نفسها وأمام تسلسلها ونظامها المطرد، وعليهم بدورهم أن يتخلوا بُرهةً عن أفكارهم
ويبدءوا في التعارف مع الأشياء.
•••
(٣٧) يتفق منهجُنا في بداية الطريق بعضَ الشيء مع منهج أولئك الذين أنكروا إمكان الوصول
إلى اليقين، غير أنهما يفترقان في النهاية غايةَ الاختلاف ويتعارضان كل التعارُض، فهم
يذهبون ببساطة إلى أننا لا يمكننا أن نعرف شيئًا، وأنا أيضًا أذهب إلى أننا لا يمكننا
أن
نعرف شيئًا يُذكَر في الطبيعة بواسطة المنهج المستخدَم الآن، إلا أنهم يَمضون إذَّاك
لكي
يدمروا سلطة الحس والفهم، بينما نمضي نحن لكي نبتكر لهما مساعدات ونزودهما بدعائم.
•••
(٣٨) تلك الأوهام والتصورات الزائفة — التي استحوذَت على الذهن البشري وما زالت متجذِّرة
فيه بعمق — لا تَرِين فقط على عقول البشر فلا تجد الحقيقةُ منفذًا إليها، بل حتى إذا
وَجَدَت الحقيقةُ منفَذًا فإن هذه الأوهام سوف تلاحقنا مرة أخرى في عملية تجديد العلوم
نفسها، وتضع أمامنا العوائق ما لم يأخذ البشرُ حِذرَهم ويُحصِّنوا أنفسَهم منها قدر ما
يستطيعون.
•••
(٣٩) ثمة أربعة أنواع من «الأوهام»
١٢ تُحْدِق بالعقل البشري، وقد قَيَّضتُ لكلٍّ منها اسمًا بغرض التمييز بينها،
فأطلقتُ على النوع الأوَّل: «أوهام
القبيلة»
idols of the tribe (idola tribus)، وعلى النوع
الثاني: «أوهام
الكهف»
idols of the cave (idola specus)، وعلى الثالث:
«أوهام
السوق»
idols
of the market place (idola fori)، وعلى الرابع:
«أوهام
المسرح»
idols of the theatre (idola theatric).
•••
(٤٠) لا شك أن تكوين التصورات والمبادئ بواسطة الاستقراء الصحيح هو العلاج الناجع
للتخلص
من الأوهام وإزالتها، إلا أن التعرف على الأوهام هو أيضًا أداة مفيدة للغاية، فدراسة
«الأوهام»
idols هي بالنسبة إلى «تفسير الطبيعة» مثل
دراسة «الدحوضات السوفسطائية»
sophistic refutations١٣ بالنسبة للمنطق العادي.
•••
(٤١) «أوهام القبيلة» (أوهام الجنس) idola tribus
مُبَيَّتةٌ في الطبيعة البشرية وفي القبيلة البشرية نفسها أو الجنس البشري نفسه، فالرأي
القائل بأن حواس الإنسان هي مقياس الأشياء إنما هو رأي خاطئ، فالإدراكات جميعًا، الحسية
والعقلية، هي — على العكس — منسوبة إلى الإنسان وليس إلى العالَم، والذهن البشري أشبه
بمرآة
غير مستوية تتلقَّى الأشعة من الأشياء وتمزِج طبيعتها الخاصة بطبيعة الأشياء فتشوهها
وتُفسِدها.
•••
(٤٢) أمَّا «أوهام الكهف» idola specus فهي الأوهام
الخاصة بالإنسان الفرد، إن لكل فرد — بالإضافة إلى أخطاء الطبيعة البشرية بعامة — كهفًا
أو
غارًا خاصًّا به يعترض ضياءَ الطبيعة ويشوهها، قد يحدث هذا بسبب الطبيعة الفريدة والخاصة
لكل إنسان، أو بسبب تربيته وصلاته الخاصة، أو قراءاته ونفوذ أولئك الذين يُكِنُّ لهم
الاحترام والإعجاب، أو لاختلاف الانطباعات التي تتركها الأشياء في أذهان مختلفة: في ذهنٍ
قلقٍ متحيز، أو ذهنٍ رصينٍ مطمئنٍ … إلخ. الروح البشرية إذن (بمختلف ميولها لدى مختلف
الأفراد) هي شيءٌ متغير، وغير مُطَّرد على الإطلاق، ورهنٌ للمصادفة العشواء، وقد صدق
هيراقليطس حين قال: إن الناس تلتمس المعرفة في عوالمهم الصغرى الخاصة، وليس في العالم
الأكبر أو العام.
•••
(٤٣) ثمة أيضًا أوهام تنشأ عن تواصل الناس واجتماعهم بعضهم ببعض، والتي أسميها
«أوهام السوق» idola fori، بالنظر إلى ما يجري بين
الناس هناك من تبادل واجتماع، فالناس إنما تتحادث عن طريق القول، والكلماتُ يتم اختيارها
بما يلائم فهم العامة، وهكذا تنشأ مُدَوَّنةٌ من الكلمات سيئةٌ بليدةٌ تعيق العقل إعاقةً
عجيبة، إعاقة لا تُجْدي فيها التعريفاتُ والشروح التي دأب المثقفون على التحصن بها أحيانًا:
فما تزال الألفاظ تنتهك الفهمَ بشكلٍ واضحٍ، وتُوقِع الخلطَ في كل شيء، وتوقِع الناس
في
مجادلات فارغة ومغالطات لا حصر لها.
•••
(٤٤) وأخيرًا هناك تلك الأوهام التي انسربت إلى عقول البشر من المعتقدات المتعددة
للفلسفات المختلفة، وكذلك من القواعد المغلوطة للبرهان، وهذه أسميها «أوهام المسرح» idola theatric، ذلك أني أعتبر أن كل الفلسفات التي
تَعلَّمَها الناسُ وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات عديدة جِدًّا تُقدَّم وتؤدَّى
على
المسرح، خالقةً عوالمَ من عندها زائفةً وهمية، ولا ينسحب حديثي على الفلسفات والمذاهب
الرائجة اليوم فحسب، ولا حتى على المذاهب القديمة، فما يزال بالإمكان تأليف الكثير من
المسرحيات الأخرى من نفس النمط وتقديمُها بنفس الطريقة المصطنعة وإضفاء الاتفاق عليها،
ما
دامت أسبابُ أغلاطها الشديدة التعارض هي أسباب مشتركة إلى حد كبير، ولا أنا أقصر حديثي
على
الفلسفة الكلية، وإنما أشمل أيضًا كثيرًا من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم، والتي
اكتسبت
قوتها الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي، غير أننا ينبغي أن
نعرض
لكل صنف من الأوهام على حدة بتفصيل أكبر؛ كيما نحصِّن الفهم البشري ضدها.
•••
(٤٥) من طبيعة الفهم البشري الخاصة أنه يميل إلى أن يفترض في العالم نظامًا واطِّرادًا
أكثر مما يجده فيه، ورغم وجود أشياء كثيرة في الطبيعة فريدة في نوعها وعديمة النظير،
فإن
الذهن البشري يخترع لها أشباهًا ونظائرَ وصلاتٍ لا وجود لها، ومن هنا يأتي الوهم القائل
بأن
جميع الأجرام السماوية تتحرك في دوائر مكتملة، بينما تُستبعَد تمامًا المسارات اللولبية
والمتمعجة (إلا في الاسم)، ومن هنا كذلك إدخال عنصر النار ومداره؛ لكي يكوِّن رباعيًّا
مع
العناصر الثلاثة الأخرى التي تدركها الحواس، وكذلك فرض نسبة عشرة إلى واحد على العناصر
(كما
يطلَق عليها) بشكلٍ اعتسافي، والتي هي نسبة كثافاتها على التوالي، وما إلى ذلك من الهُراء،
ولا تقتصر هذه الحماقة على النظريات، بل تمتد أيضًا إلى التصورات البسيطة.
•••
(٤٦)
١٤ من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيًا (سواء لأنه الرأي السائد أو لأنه يروقه
ويَسُرُّه) أن يقسِر كلَّ شيءٍ عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد
أكثر عددًا وثقلًا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية
ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقةً تُسوِّل له أن يزيحها وينبذها؛
١٥ لكي يخلص — بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبِق — إلى أن استنتاجاته
الأولى ما زالت سليمةً ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابًا وجيهًا ذلك الذي بَدَر من رجلٍ أطلَعوه
على صورةٍ معلقةٍ بالمعبد لأناسٍ دفعوا نذورهم ومِنْ ثَمَّ نجوا من حطام سفينة؛ عساه
أن
يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنًا، ولكن أين صورُ أولئك الذين
غرقوا بعد دفع النذور؟!»
١٦ وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه،
حيث تجد الناس — وقد استهوتهم هذه الضلالاتُ — يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أمَّا
الأحداث التي لا تتفق — رغم أنها الأكثر والأغلب — فيغفلونها ويَغُضون عنها الطرف، على
أن
هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاءً ودقةً إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكمُ الأوَّل
لونَه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديدُ أفضلَ
وأصوبَ بما لا يُقاس، وفضلًا عن ذلك — وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرتُ —
فإن من
الأخطاء التي تَسِم الفكرَ الإنساني في كل زمان أنه مُغرَمٌ ومُولَع بالشواهد الموجبة
أكثر
من الشواهد السالبة،
١٧ حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد. والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ
صحيح يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهةً وفعاليةً.
•••
(٤٧) إن أكثر ما يشغف الفهمَ البشري هو تلك الأشياء التي تلفت العقلَ وتنفذ إليه فورًا
وفجأةً، فتجعل المخيلة تمتلئ للتو وتتمدد، ثُمَّ يتراءى له (أي الفهم) ويفترض أن كلَّ
شيءٍ
آخر هو بطريقة ما — وإن تكن خفيةً غيرَ مدرَكة — شبيهٌ بتلك الأشياء القليلة التي استحوذت
على العقل، أمَّا في الترحال إلى أمثلةٍ بعيدةٍ وغير متجانسة تختبر المبادئ اختبارَ النار
فإن الفكر بطيءٌ جِدًّا وغيرُ مؤهَّل ما لم تحمله على ذلك قواعدُ قاسيةٌ وسلطةٌ
نافذةٌ.
•••
(٤٨) إن الفهم البشري في نشاط دائب، ولا يمكنه أن يتوقف أو يستكنَّ، وما يزال يبتغي
المضيَّ قُدُمًا وإن كان ذلك بغير جدوى؛ ولذا فمن غير المتصوَّر أن يكون هناك حَدٌّ ما
للعالَم أو نقطة نهاية؛ إذ يبدو لنا دائمًا — بما يشبه الضرورة — أن هناك شيئًا ما وراء
ذلك
الحد أو النهاية، ولا هو من المتصوَّر أيضًا كيف تدفقت الأبدية نُزُلًا إلى يومنا هذا؛
لأن
هذا التحديد المتفق عليه للانهاية في الماضي واللانهاية في المستقبل لا يمكن أن يصمد،
إذ
سيترتب أن هناك لا نهاية أكبر من لا نهاية أخرى، وأن اللانهائية تتآكل وتؤول إلى نهائية،
وثمة نفس الصعوبة فيما يتعلق بقابلية الخطوط للانقسام إلى ما لا نهاية، والناجمة عن انفلاتِ
فكرِنا وعجزه عن التوقف،
١٨ على أن هذا الانفلات من جانب العقل يكون أكثر إيذاءً في عملية اكتشاف العلل،
فعلى الرغم من أن المبادئ الأكثر عمومية في الطبيعة ينبغي أن تكون وقائع خامًا هي كما
وُجِدَت عليه ولا يمكن أن تُحال حقًّا إلى علة، إلا أن الفهم البشري في عجزه عن التوقف
ما
يزال يتلمس شيئًا ما سابقًا في نظام الطبيعة، ثم هو في غَمرة جهادِه في المضي إلى ما
هو
أبعد إذا به يرتد إلى ما هو أقرب مأخذًا، أعني إلى العلل الغائية،
١٩ تلك التي تَمُتُّ بالصلة إلى طبيعة الإنسان أكثر مما تَمُتُّ إلى طبيعة العالم،
وهي من جَرَّاء هذا المنشأ قد أفسدت الفلسفة على نحو عجيب، على أن الفيلسوف الذي يلتمس
العلل في العموميات القصوى ليس أقلَّ خَرَقًا وسطحيةً من ذلك الذي يتوانَى عن التماسها
في
الأشياء التابعة والفرعية.
•••
(٤٩) الفهم الإنساني ليس مجبولًا من ضياء صرف،
٢٠ وإنما هو مُشرَّبٌ بالإرادة والعواطف،
٢١ من هنا تأتي المعرفة التي يمكن أن تُسَمَّى «معرفة حسب الطلب»، فالإنسان
أمْيَلُ دائمًا إلى تصديق ما يُفضِّله، ولذا فهو ينبذ الأمور الصعبة؛ لأنها تُجشِّمه
الصبرَ
في البحث، وينبذ الاعتدال لأنه يُضيِّق حدود أمله، وينبذ التعمق في الطبيعة؛ لأنه — أي
الإنسان — مرتهنٌ للخرافة، ويرفض نورَ التجربة؛ لأنه متغطرسٌ مكابِرٌ يظن أن العقل لا
يليق
به أن يهدر وقته في أشياء مبذولة متغيرة، ويرفض كل ما هو غير تقليدي خوفًا من رأي العامة،
صفوة القول: إن العاطفة تدمغ العقل وتصبغه بطرائق لا حصر لها، وطرائق خفية تَنِدُّ عن
الإدراك في بعض الأحيان.
•••
(٥٠) غير أن أكبر عائق للفهم البشري على الإطلاق وأكبر زيغ إنما يأتي من بلادة الحواس
وقصورها وخداعها، فالأشياء التي تمس الحواس لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرةً
مهما علا شأنها، هذا ما يجعل التأمل يتوقف في أغلب الأحوال حيثما يتوقف البصر، بحيث لا
يؤبَه للأشياء غير المرئية، وبذلك يبقى كل فعل الأرواح المكنونة في الأجسام الملموسة
٢٢ خفيًّا غير ملحوظ من الناس، وخَفِية بالمثل تلك التغيرات البنيوية
٢٣ الأدق في أجزاء الأشياء الكثيفة (والتي تشيع تسميتها بالتغير ولكنها في حقيقة
الأمر حركة جسيمات دقيقة)، ولكن ما لم يتم بحثُ هذين الأمرين المذكورين وإخراجُهما إلى
واضحة النهار فلن يمكن تحقيق نتائج ذات قيمة في الطبيعة، وكذلك الطبيعة الجوهرية للهواء
المشاع ولجميع الأجسام الأقل كثافةً من الهواء (وهي كثيرة جِدًّا) فهي أيضًا مجهولة
تقريبًا؛ ذلك أن الإحساس بحد ذاته كليلٌ وعُرضة للخطأ، ولا تفيده كثيرًا الأدواتُ
المستخدَمة لتوسيعه وشحذه، أمَّا التفسير الأصدق للطبيعة فإنما يتحقق بواسطة الشواهد
وبواسطة التجارب المناسبة وذات الصلة، حيث يحكم الحس على التجربة وحدها، بينما تحكم
التجربةُ على الطبيعة والشيء ذاته.
•••
(٥١) الفهم البشري يميل بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرًا (ثابتًا) وواقعًا
فيما
هو عابرٌ ومتغيرٌ، غير أنه أفضل لنا أن نُشَرِّح الطبيعةَ إلى أجزاء من أن نجردها، وهذا
ما
فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدُّمًا أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة، إن المادة
—
وليست الصور — هي ما ينبغي الالتفات إليه: المادة وبنيتها وتغيرات هذه البنية والفعل
المحض
٢٤ وقانون هذا الفعل، أمَّا الصور فما هي إلا وهم العقل البشري، إلا إذا أطلقنا
اسم «الصور» على قوانين الفعل.
•••
(٥٢) هكذا هي أوهام القبيلة، التي تنشأ إما عن اطراد جِبِلة الروح البشرية أو عن تحيزاتها
أو قصور مَلَكاتها أو حركتها الدائبة أو عن تأثير الانفعالات أو عن عجز الحواس أو عن
شكل
انطباعاتها.
•••
(٥٣) أمَّا «أوهام الكهف» idola specus فتَصدُر عن
الطبيعة الخاصة لعقلِ كل فرد وجسمه، وعن ثقافته أيضًا وعاداته وظروفه، ورغم أن هذه الفئةَ
متنوعةٌ ومركَّبة إلا أننا سنتناول منها تلك الجوانب الأكبر خطرًا وأشد إفسادًا لصفاء
الفهم.
•••
(٥٤) يقع الناس في غرام قطاعات معينة من المعرفة والأفكار، إما لأنهم يظنون أنفسهم
مؤلفيها ومبتكريها، وإما لأنهم أنفقوا فيها جهدًا كبيرًا وصاروا على إلفٍ كبيرٍ بها،
إذا
عَمَدَ مثل هؤلاء الناس إلى الفلسفة والتأملات ذات الصبغة الكلية فإنهم يلوون بها ويفسدونها
لكي تلائم خيالاتهم المسبقة، ولدينا من أرسطو نموذجٌ واضحٌ لهؤلاء: لقد أخضع فلسفة الطبيعة
تمامًا لمنطقه، فجعل منها شيئًا خِلافيًّا ولا خيرَ فيه، ولدينا أيضًا جماعة الخيميائيين،
فقد شيَّدوا فلسفةً خياليةً ضيقةَ النطاق للغاية، قوامُها بضعُ تجارب في الأتون، وكذلك
جلبرت
Gilbert٢٥ فبعد أن كرَّس جهدًا كبيرًا في دراسة الحجر المغناطيسي وملاحظته توجَّه للتو
إلى تلفيق فلسفةٍ كاملةٍ أخضعها لموضوعه الأثير.
•••
(٥٥) أمَّا أكبر الفروق بين العقول وأكثرها جذرية في مجال الفلسفة والعلوم، فهو أن
بعض
العقول أقْدَر وأمْيَل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء، وبعضها الآخر إلى ملاحظة التشابهات
بينها، فالعقول المدقِّقة الدءوبة بوسعها تثبيت الانتباه وتركيزه فترات طويلة على كل
فارق
طفيف، أمَّا العقول الرصينة الاستدلالية فبوسعها التفطن إلى أخف التشابهات وأعمِّها
والمضاهاة بينها، وكلا الصنفين من العقول عُرضةٌ للشَّطَط، سواء بالتشبث بالفروق التافهة
أو
بخيالات التشابه.
•••
(٥٦) ثمة عقولٌ أُشرِبَت بإعجاب لا حدود له بالقديم، وعقولٌ أخرى مُغْرَمَة بالجديد،
وقلَّما نجد من يقف موقفًا متوازنًا فلا يَبخَس القدماء إنجازاتهم الصائبة ولا يزدري
الإسهامات الوجيهة للمحدَثين، وهذا خسران مبين للعلوم والفلسفة، فهذه ليست أحكامًا مستبصِرة
بل مجرد وُلوع بالقديم أو بالجديد، أمَّا الحقيقة فينبغي ألا تُلتمَس في حظوة زمنٍ بعينه،
فهذا أمرٌ غير مضمون، بل في ضوء الطبيعة والتجربة، وهو شيءٌ أزلي، علينا إذن أن نجتنب
مثل
هذه الأهواء ونُعيذ فكرنا أن ينساق إليها.
•••
(٥٧) إن ملاحظة الطبيعة والأجسام في أجزائها البسيطة من شأنها أن تكسر الفهمَ وتُشتِّته،
في حين أن ملاحظة الطبيعة والأجسام في تكوينها الكلي وبنيتها المركبة من شأنه أن يُذهِل
الفهمَ ويوهِنه، وهذا التمييز نراه في أوضح صورة عند مقارنة مدرسة ليوسيبوس وديمقريطس
٢٦ بغيرها من الفلسفات، فهذه المدرسة مشغولة بالجزئيات بحيث أغفَلَت البنيةَ إلى
حد كبير، بينما المدارس الأخرى منبهرةٌ بمشاهدة البنية فلا تكاد تَنفُذُ إلى بساطة الطبيعة.
ينبغي إذن أن نتناوب هذين الصنفين من الملاحظة، بحيث نجعل الفهم ثاقبًا وشاملًا في الوقت
نفسه، ونتلافى العيوبَ المذكورة لكلٍّ من الطريقتين والأوهامَ التي تنجم عنها.
•••
(٥٨) كذا فَليَكُن الحَذَرُ في الملاحظة، الكفيلُ بنفي أوهام الكهف، تلك الأوهام
التي
تنشأ في معظمها من غُلُوٍّ في التركيب أو شَطَطٍ في التقسيم، ومن التحيز لعصورٍ تاريخية
بعينها، ومن كِبَر موضوعات الملاحظة أو صغرها،
٢٧ وبصفة عامة: فعلى كل دارس للطبيعة أن ينظر بارتيابٍ إلى كل ما يفتن عقلَه ويأخذ
بِلُبِّه، وأن يجعل ذلك هَمَّه الأكبر في هذا الصنف من البحث؛ كيما يحفظَ ذهنَه صافيًا
ومتوازنًا.
•••
(٥٩) غير أن «أوهام السوق»
idola fori٢٨ هي أكثر الأوهام إزعاجًا، تلك الأوهام التي انسرَبَت إلى الذهن من خلال تداعيات
الألفاظ والأسماء؛ ذلك أن الناس يظنون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، بينما الحقيقةُ أيضًا
أن
الألفاظ تعود وتشن هجومًا مضادًّا على الفهم، وهذا ما جعل الفلسفة والعلوم مغالِطَة وعقيمة؛
لأن الألفاظ تكوَّنت في معظمها لكي تلائم قدرةَ العامة من الناس، وهي تحدد الأشياء بخطوط
تقسيمٍ تَسهُل على الذهن العامي، وحالما أراد ذهنٌ أكثرُ حِدَّة أو ملاحظَةٌ أكثرُ تدقيقًا
أن تغير هذه الخطوط لتلائم التقسيمات الأصوب للطبيعة فإن الألفاظ تعترض الطريق وتقاوم
التغيير، ومِنْ ثَمَّ تنتهي الحوارات الرفيعة والجليلة — في كثيرٍ من الأحيان — إلى خلافات
حول ألفاظ وأسماء؛ ولذا فمن الأسلم (اقتداءً بحذر علماء الرياضيات) أن نبدأ منها ونُضْفِي
عليها النظام باستخدام التعريفات، إلا أن مثل هذه التعريفات لا يمكنها أن تعالج هذا الخلل
إذا كان موضوع الدراسة هو الطبيعة والمادة؛ لأن التعريفات نفسها تتكون من ألفاظ والألفاظ
تولِّد ألفاظًا؛ ولذا فإن علينا أن نلجأ إلى شواهد محددة وإلى تسلسلها المطرد ونظامها،
كما
سنذكر حالًا عندما نعرض للمنهج والطريقة فيما يتصل بتكوين التصورات والمبادئ.
•••
(٦٠) هناك نوعان من الأوهام تفرضهما اللغةُ على الفهم، وهما إما أسماء لأشياء لا
وجود لها
(فإلى جانب الأشياء التي تفتقر إلى أسماء؛ لأنها لم تُلاحَظ بعد، هناك أيضًا أسماء تفتقر
إلى أشياء؛ لأنها وليدة افتراضات خيالية لا تناظرها أشياء في الواقع)، وإما أسماء لأشياء
موجودة ولكنها مختلطة وغير محددة؛ لأنها انتُزِعَت من الأشياء على عجلٍ ودون تدقيق، من
الصنف الأوَّل لفظ
fortune٢٩ و«المحرك الأوَّل» و«الأفلاك الكوكبية»
٣٠ وعنصر «النار»، إلى غير ذلك من الخيالات التي تعود في نشأتها إلى النظريات
الزائفة العقيمة، هذا الصنف من الأوهام يسهل التخلص منه، إذ من الممكن استئصالها بواسطة
التفنيد المستمر أو التخلي عن النظريات نفسها، أمَّا الصنف الثاني من الأوهام فهو معقَّد
ومتجذِّر؛ لأنه ناتج من تجريد مغلوط وأخرَق، ولنأخذ كمثال كلمة «رطب»، وننظر إلى أي حد
تتسق
الأشياء المُشار إليها بهذه اللفظة، وسنجد أن كلمة «رطب» لا تعدو أن تكون علامة تُستخدَم
بتسيُّبٍ وخلطٍ لتدل على أفعال متباينة لا يجمعها أي اطراد أو قاسم مشترك، فهي تشير إلى
ذلك
الذي ينشر نفسَه حول شيء آخر، وذلك الذي لا تخوم له ولا ثبات، وذلك الذي يستسلم في كل
اتجاه، وذلك الذي يسهل انقسامه وتناثره، وذلك الذي يسهل تدفقه وتحريكه، وذلك الذي يسهل
التصاقه بجسم آخر وترطيبه، وذلك الذي يُرَد بسهولة إلى الحالة السائلة، أو هو صلب يسهل
انصهاره، ومِنْ ثَمَّ فإذا أتيت إلى استعمال هذا اللفظ فستجد من جهة أن اللهب رطب، ومن
جهة
أخرى أن الهواء رطب، ومن أخرى أن التراب الدقيق رطب، ومن أخرى أن الزجاج رطب،
٣١ هكذا يتبين بسهولة أن هذا التصور قد انتُزِعَ على عجلٍ من الماء والسوائل
الشائعة والعادية فحسب بدون أي تمحيص واجب.
ثمة درجات من القصور والخطأ في الألفاظ، فأقل فئات الألفاظ خطأً أسماء المواد وبخاصة
النوع الأقل تجريدًا وأكثر تحديدًا (تصور الطباشير والطين حسن، وتصور التراب سيئ)، تليها
أسماء الأفعال مثل «يولِّد» «يفسد» «يغيِّر»، أمَّا أكثر الفئات خطأً فأسماء الكيفيات
(باستثناء الموضوعات المباشرة للإحساس)، مثل: «ثقيل» «خفيف» «مخلخَل» «كثيف» … إلخ، على
أنه
في جميع الفئات تكون بعض التصورات بالضرورة أفضل قليلًا من البعض الآخر، وفقًا لكثرة
أو قلة
الأشياء التي تقع في نطاق الحواس.
•••
(٦١) أمَّا «أوهام المسرح» idola theatric فليست فطرية
ولا هي تَسترِق إلى الذهن سِرًّا، وإنما يتم إدخالُها عَلَنًا وتقبُّلُها عن طريق النظريات
الخرافية والقواعد المغلوطة للبرهان، ولكن ليس بما يتفق مع ما أعلنتُه آنفًا أن أحاول
أو
أضطلع بتفنيدها، فما دمنا لا نتفق حول المبادئ ولا حول البراهين فلا محل للجدل، وهذا
من حسن
الحظ بقدر ما يحفظ للقدماء كرامتهم، فأنا لا أنتقص من قدرهم، إذ لا يعنيني في مذهبي كله
إلا
الطريقُ الذي يُتَّبَع، وكما يقول المثل: «الأعرجُ على الطريق الصحيح يَسبِق العَدَّاء
على
الطريق الخطأ.» بل إن الذي يتخذ الطريقَ الخطأ يزداد ضلالًا وبُعدًا عن المقصِد كلما
كان
أمهرَ وأسرع.
إن منهجي في الكشف مصمَّم بحيث لا يعوِّل على حِدَّة الموهبة الفردية وقوتها، بل إنه
يكاد
يُسوِّي بين المَلَكات والأفهام، فمثلما أن رسم خط مستقيم أو دائرة دقيقة يعتمد كثيرًا
على
ثبات اليد ودُربتِها بينما لا حاجةَ لأي ثباتٍ ودُربة إذا ما استُخدِمَت مسطرةٌ أو فرجار،
كذلك الأمر بالضبط في منهجي المقترَح، ولكن رغم أني لا أعرِض لتفنيداتٍ بعينها، إلا أن
شيئًا ما ينبغي أن يُقال، أوَّلًا عن مذاهب هذه النظريات وأنواعها، ثم عن وجود دلائل
خارجية
على ضعفها، وأخيرًا عن أسباب مثل هذا الفشل ومثل هذا التشبث الطويل بالخطأ والإجماع عليه،
أتَغيَّا من ذلك أن أجعل المسلك إلى الحقيقة أقلَّ عِثارًا، والفهم البشري أكثر نزوعًا
إلى
التطهر ونبذ الأوهام.
•••
(٦٢) هناك الكثير من «أوهام المسرح» أو أوهام
النظريات، ويمكن أن تكون هناك وربما ستجدُّ فيما بعد أوهامٌ أخرى كثيرة، إذ لولا أن عقول
الناس قد انشغلت أحقابًا طويلةً بالمسائل الدينية واللاهوتية، والحكومات المدنية (وبخاصة
الملكيات) قد أبغضت مثل هذه التجديدات حتى في الفكر (بحيث لا يمكن لأحد أن ينخرط فيها
دون
خطر وضرر، ولا يعدم الثواب فحسب بل يلحقه الازدراء والحسد)، لولا ذلك لكانت أدخلت
— بلا شك — مذاهب فلسفية ونظرية أخرى كثيرة مثل تلك التي ازدهرت مرة بوفرة وتنوع كبير
عند
اليونان، فمثلما يمكن تشييد نظريات خيالية كثيرة من ظواهر السماء، فمن الممكن
— بل والأيسر — تشييدُ اعتقاداتٍ متنوعة كثيرة من ظواهر
الفلسفة، وفي مسرحيات هذا المسرح الفلسفي قد تلاحظ نفس الشيء الموجود في مسرح الشعراء:
أن
القصص المؤلَّفةَ للمسرح أكثر تماسكًا ووجاهةً وإمتاعًا من القصص الحقيقية من التاريخ،
وأقرب لرغبات الناس.
وبصفة عامة فإن الناس يأخذون كأساسٍ لفلسفتهم: إما أشياء كثيرة جِدًّا من موضوعات
قليلة،
وإما أشياء قليلة جِدًّا من موضوعات كثيرة، وفي كلتا الحالتين تتأسس الفلسفة على أساسٍ
ضيِّقٍ جِدًّا من التجربة والتاريخ الطبيعي، وتُقَرَّر الأحكام بناءً على شواهد أقل مما
يجب، فالفلاسفة العقليون يلتقطون من التجربة تنويعةً من الأمثلة العامة لم يَتِم فهمُها
بدقة ولا فحصها ووزنها بعناية، ويعتمدون فيما تبقَّى على التأمل والنشاط الفكري.
وهناك أيضًا فئة أخرى من الفلاسفة ما يكادون يعكِفون بعناية وصدق على بضع تجارب حتى
يسارعوا باستنباط فلسفاتهم منها ويشيدوها تشييدًا، ويلوون كل الوقائع الأخرى بطرق عجيبة
لكي
تنسجم مع هذه الفلسفات.
وهناك بَعدُ صنفٌ ثالث من الفلاسفة يحملهم إيمانهم ووقارهم على أن يخالطوا فلسفتهم
باللاهوت والتعاليم، مِن هؤلاء مَنْ بَلَغ بهم الغرور مبلَغًا جعلهم يحاولون اشتقاق العلوم
من الأرواح والعفاريت. ثمة إذن ثلاثةُ مصادرَ للخطأ وثلاثةُ أنواع من الفلسفة الزائفة:
السوفسطائية
٣٢ والتجريبية العشوائية والخرافية.
•••
(٦٣) وأوضح مثل على الصنف الأوَّل من الفلاسفة هو أرسطو، الذي أفسد الفلسفة الطبيعية
بمنطقه، وشَيَّدَ العالمَ بمقولاته، ونَسَبَ إلى الروح البشرية — أنبل الجواهر جميعًا
—
جنسًا يقوم على كلمات من المقصد الثاني،
٣٣ وحوَّل التفاعل بين الكثيف والمُخلخَل (الذي به تَشغَل الأجسامُ محلًّا أكبر أو
أصغر) إلى تلك التفرقة الباردة بين القوة والفعل، وأكَّدَ أن لكل جسم حركة فريدة خاصة
به،
فإذا شارك في حركةٍ أخرى فإن هذه الحركة تعود إلى علة خارجية، وفَرَضَ على الطبيعة أشياء
أخرى لا حصر لها وفقًا لهواه، فقد كانت تعنيه دائمًا التعريفاتُ والدقة في صياغة قضاياه
أكثر مما تعنيه الحقيقة الداخلية للأشياء، يتجلى هذا في أوضح صورة إذا ما قارنَّا فلسفته
بغيرها من الفلسفات الذائعة بين اليونان: فاﻟ «هومويوميرا»
٣٤ (الأجزاء المتماثلة) عند أنكساجوراس، والذرات عند ليوسيبوس وديمقريطس، والسماء
والأرض عند بارمنيدس، والتنافر والانسجام عند أمبدوقليس، وتلاشي الأجسام في الطبيعة غير
المتمايزة للنار ثم عودتها إلى الصلابة مرة أخرى عند هيراقليطس، كل أولئك يحمل داخله
شيئًا
من الفلسفة الطبيعية ومن حس الطبيعة والتجربة والأجسام، في حين لا تكاد تسمع في فيزيقا
أرسطو أي شيء عدا مصطلحات المنطق، والتي أعاد تدويرها مرة أخرى في ميتافيزيقاه تحت تسمية
أكثر جلالًا، زاعمًا أنه واقعي
realist أكثر منه
اسميًّا
nominalist، ولا يخدعن أحدًا كثرةُ التجائه
إلى التجربة في كتبه «عن الحيوان» و«مشكلات» ورسائل أخرى، فحقيقة الأمر أنه قد حَسَمَ
أمرَه
مسبقًا ولم يستشِر التجربة حقَّ المشورة كأساسٍ لأحكامه ومبادئه. إنه يعتسفُ أحكامه
اعتسافًا ثم يلوي بالتجربة حتى تُلائم أفكاره، ويجُرُّها كما يُجَرُّ أسيرٌ في موكب،
ومِنْ
ثَمَّ فهو أفدح ذنبًا من تابعيه المحدَثين (الأسكولائيين) الذين هجروا التجربة تمامًا
ونفضوا أيديهم منها.
٣٥
•••
(٦٤) تتولد عن المدرسة التجريبية معتقداتٌ أكثر تشوُّهًا ومَسخًا مما تُنتِجه المدرسة
السوفسطائية أو العقلية؛ ذلك لأن هذه المعتقدات لا تتأسس في ضوء التصورات العامة (التي
رغم
ضعفها وسطحيتها فهي بشكل ما عمومية وتشير إلى أشياء كثيرة)، بل تقوم على أساسٍ ضيِّق
ومعتم
من حفنة تجارب، مثل هذه الفلسفة تبدو محتملة وشبه يقينية عند أولئك الذين ينخرطون كل
يوم في
مثل هذا الصنف من التجارب فأفسدوا مخيلتهم بها، أمَّا لغيرهم فتبدو بعيدة عن التصديق
وغير
ذات جدوى، ولدينا عليها مثال صارخ في أهل الخيمياء ومعتقداتهم، وهي عدا ذلك نادرة الوجود
في
زمننا هذا، ربما باستثناء فلسفة جلبرت، ويبقى علينا رغم ذلك أن نحذر من مثل هذه الفلسفات؛
ذلك أننا ندرك ونتوقَّع أنه إذا أصغى الناس لنصيحتنا وكرَّسوا أنفسهم حقًّا للتجربة (بعد
أن
ودعوا المذاهب السفسطائية) فإن هذه الفلسفة ستكون مصدر خطر حقيقي على أقل تقدير، وذلك
بسبب
تسرُّع العقل وتهوره، وقفزه أو طيرانه إلى العموميات وإلى مبادئ الأشياء، ذلك الخطر الذي
ينبغي مِنْ ثَمَّ أن نكون متأهبين — حتى في هذه اللحظة — لمواجهته.
•••
(٦٥) على أن الفساد الذي يأتي الفلسفة من الامتزاج بالخرافة والثيولوجيا هو أوسع انتشارًا
وأشد ضررًا عليها، سواء على منظوماتها الكلية أو على أجزائها، فتأثر العقل البشري بالخيال
لا يقل عن تأثره بالأفكار الشائعة. إن الصنف الجدلي والسوفسطائي من الفلسفة يوقِع العقل
في
شَرَك، أمَّا الصنف الآخر أي الفلسفة الخيالية الطنانة شبه الشعرية فتُغويه. إن بالإنسان
ضربًا من طموح الفكر لا يقل عن طموح الإرادة، وبخاصة لدى الشخصيات الشامخة النبيلة.
وهناك مثال لافت على هذا بين اليونان نجده في فيثاغوراس، وإن كانت الخرافة لديه فظة
ثقيلة، ومثال آخر في أفلاطون ومدرسته حيث الخرافة أخطر وأرقى، وهذا الإثم نجده أيضًا
في
جوانب من الفلسفات الأخرى، متمثِّلًا في القول بالصور المجردة والعلل الغائية والأولى،
٣٦ مع إغفالٍ كثيرٍ للعلل الوسطى وما إليها. إن علينا أن نتخذ أشد الحذر هنا، فليس
ثمة ما هو أسوأ من تمجيد الخطأ، فحين تؤلَّه الحماقةُ فذلكم بلاءٌ يحيق بالفكر، في هذه
الحماقة انغمس بعضُ المحدَثين، وبغفلةٍ متناهيةٍ حاولوا أن يؤسِّسوا فلسفةً طبيعيةً على
الفصل الأول من سِفْر التكوين
Genesis وسِفْر أبواب وأجزاء
أخرى من الكتاب المقدس، باحثين — هكذا — عن الموتى بين الأحياء،
٣٧ ومثل هذه الحماقة يجب أن توقَف وتُقمَع بكل قوة، فمن هذا المزج غير الصحي بين
البشري والإلهي لا تنبثق فقط فلسفةٌ وهميةٌ، بل ودينٌ هرطقيٌّ، ومِنْ ثَمَّ فإن رأس الحكمة
والاتزان أن نعطي للإيمان ما هو للإيمان ولا نَتَزَيَّد.
•••
(٦٦) بحسبنا هذا عن السلطة الخبيثة للفلسفات القائمة على تصورات عامة أو تجارب قليلة
أو
على الخرافة، ويبقى أن نتحدَّث عن الموضوعات الخاطئة للتأمل العقلي، وبخاصة في الفلسفة
العقلية، إن العقل يضل السبيل إذ ينظر إلى ما يجري في الفنون الميكانيكية، حيث الأجسام
تتغير تمامًا عن طريق التركيب والتفريق، فيفترض أن شيئًا شبيهًا بذلك يحدث في الطبيعة
الكلية للأشياء، وهذا هو مصدر الوهم القائل ﺑ «العناصر»
elements واحتشادها لتكوين الأجسام الطبيعية، كذلك عندما يتأمَّل
الإنسان في الطبيعة وهي تعمل بحرية، فإنه يلتقي بأجناسٍ شتى من الأشياء: حيوانات، نباتات،
معادن، ومن هنا ينزلق بسهولة إلى تصور أن في الطبيعة صورًا أوليةً للأشياء تريد أن تنتجها،
وأن ما عدا ذلك من تنويعات إنما يأتي من جراء عوائق وأخطاء للطبيعة في إنجاز مهمتها،
أو من
صراع بين الأجناس المختلفة، أنتجَت الفرضية الأولى مذهب الخواص الأولية، والثانية أنتجت
مذهب الخواص الخفية والقوى النوعية، وكلا التصورين ينتميان إلى تلك الفئة من المختصرات
الفكرية الفارغة التي فيها يسترخي العقلُ وينصرف عن موضوعات أكثر أهمية، وحسنًا يفعل
الأطباء حين يُكِبُّون على الخواص الثانوية للمادة وعمليات الجذب والطرد والتكثيف والبسط
والقبض والتشتيت والنضج وما إلى ذلك،
٣٨ ولقد كانوا حَرِيين بتحقيق تقدم أكبر لو لم يَعْمَدوا إلى التصورات المبسوطة
التي تحدثتُ عنها (أي الخواص الأولية والقوى النوعية) فيُفسِدوا بها هذه الملاحظات القويمة
باختزالها إلى خواص أولية وأخلاط دقيقة غير قابلة للمقايسة، أو بعدم تتبعها بملاحظات
أكثر
قوة ودقة إلى خواص ثالثة ورابعة، والتوقف فجأة عن الملاحظة قبل الأوان، مثل هذه القوى
(أو
ما شابهها) لا ينبغي أن نبحث عنها بين أدوية الجسم البشري فحسب، بل أيضًا في العوامل
التي
تغيِّر الأجسام الطبيعية الأخرى.
وأشد خطرًا من ذلك أنهم يبحثون ويتقصُّون المبادئ الساكنة للأشياء التي «منها» أتت
الأشياء نفسها إلى الوجود وليس المبادئ المتحركة التي «بواسطتها» أتت،
٣٩ فالأولى تتعلق بالحديث، والثانية بالعمل، وليس ثمة أي قيمة في التمييزات
الشائعة للحركة والتي نلحظها في الفلسفة الطبيعية التقليدية، مثل: الكون والفساد والزيادة
والنقصان والتغير والحركة الموضعية، فكل ما تعنيه هو أنه إذا ما تحرك جسم — هو على ما
هو
عليه فيما عَدا ذلك — مِن مكانه، فهذه هي الحركة الموضعية (النقل)، فإذا تغير في الكيف
بينما بقي المكان والنوع على حاله فهذا هو «التغير»
alteration، أمَّا إذا نتج من هذا التغير أن الكتلةَ نفسها وكَمَّ الجسم لم
يظلا كما هي فهذه هي حركة «الزيادة»
augmentation
و«النقصان»
diminution، فإذا استمر التغير إلى أن تبدل
النوعُ نفسه والجوهرُ ذاته، فهذا هو «الكون»
generation
و«الفساد»
corruption، ولكن كل هذه أمور معلومة
ومبتذلة، ولا تنفذ إلى عمق الطبيعة على الإطلاق؛ لأنها تشكِّل مقاييس الحركة وحدودها
وليس
الأنواع المختلفة للحركة، فهي تشير إلى «كم» (إلى أي درجة) وليس إلى «كيف» (بأية وسيلة)
أو
«من أين» (من أي مصدر)، ولا تخبرنا بأي شيء عن نزوع الأجسام أو عن صيرورة أجزائها، بل
تحدِس
فحسب بتقسيم للحركة عندما تُظهِر هذه الحركة للحواس بطريقة واضحة أن شيئًا ما لم يعد
كما
كان من قبل، وحتى عندما يريدون تفسير شيء ما عن علل الحركات وأن يؤسسوا تقسيمًا لهذه
العلل،
فإنهم يضعون تمييزًا بين الحركة الطبيعية والحركة العنيفة، وهي نقلة غاية في العقم؛ لأن
هذا
التمييز هو نفسه مُسْتَمَد تمامًا من تصور عامي، حيث إن الحركة العنيفة هي أيضًا في الحقيقة
حركة طبيعية، أي علة خارجية تجعل الطبيعة تعمل بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل.
ولكن لنضرب صفحًا عن كل هذا، فإذا ما لاحظ أي شخص — على سبيل المثال — أن في الأجسام
نزوعًا إلى الاتصال المتبادل، بحيث لا تسمح لوحدة الطبيعة أن تنفصم أو تنحطم تمامًا وللفراغ
بالتالي أن يتكون، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعًا إلى استعادة أبعادها أو ضغطها
الطبيعي، بحيث إذا ضُغِطَت أو مُطَّت أكثر من ذلك أو أقل جهدت على الفور لاستعادة واسترداد
حجمها وامتدادها السابق، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعًا إلى التجمع مع كتل
الأشياء التي من صنفها، أي نزوع الأجسام الثقيلة إلى الأرض، والأشياء الهزيلة والخفيفة
إلى
محيط السماء؛ فكل هذه الأشياء وأمثالها هي في الحقيقة أنواع فيزيقية من الحركة، أمَّا
تلك
الأشياء الأخرى فهي نظرية ومدرسية قلبًا وقالبًا كما هو واضح جلي من هذه المقارنة فيما
بينها.
وليس أهون من ذلك أنهم في فلسفاتهم وملاحظاتهم يهدرون جهودهم في بحث وتناول المبادئ
الأولى للأشياء والعلل القصوى
للطبيعة
ultimatibus naturae، رغم أن كل الجدوى وفرص التطبيق تكمن في العلل الوسطى
in mediis؛ لذا لا يكف الناس عن تجريد الطبيعة إلى أن يصلوا إلى مادة
ممكنة وغير مُشَكَّلة، ولا هم من الجهة الأخرى يكفون عن تشريح الطبيعة إلى أن يصلوا إلى
الذرة، وهي أشياء — حتى لو صدقت — قلَّما تُجْدِي نفعًا في تحسين حالة الجنس البشري.
٤٠
•••
(٦٧) على الذهن أيضًا أن يأخذ حِذرَه من الإفراط الذي تُبديه المذاهب الفلسفية في
إبداء
الموافقة أو الامتناع عنها، ويبدو أن هذا الإفراط يُرَسِّخ الأوهامَ وأنه بطريقةٍ ما
يطيل
عمرَها، غيرَ تاركٍ أيَّ منفذٍ للوصول إليها والتخلص منها.
ثمة نوعان من هذا الإفراط: الأول هو الذي يأتيه أولئك الذين يتسرعون في إصدار الأحكام،
فيجعلون العلوم جازمةً تسلطية، والثاني يأتيه أولئك الذين ينكرون أن بإمكاننا أن نعرف
أي
شيء (
acatalepsia)، فيفتحون المجال لنوع هائم من البحث لا
يهدف إلى شيء ولا ينتهي إلى شيء، من شأن النوع الأول أن يقمع الذهن، أمَّا الثاني فيوهِنه،
فبعد أن فرغت الفلسفة الأرسطية من تدمير الفلسفات الأخرى (على طريقة العثمانيين تجاه
إخوتهم)
٤١ بتفنيدات عدائية، أخذ أرسطو يؤسس أحكامًا في كل شيء، ثُمَّ أخذ هو نفسُه يطرح
اعتراضات من عنده؛ كَيلا يلبث أن يتصدى لها، بحيث لا يترك أمرًا إلا وهو يقيني محسوم،
وهي
طريقة ما زالت قائمة اليوم بين أتباعه.
أمَّا مدرسة أفلاطون فأدخلَت مذهب الشك، بدأ ذلك هَزلًا وتهكُّمًا من جراء استيائها
من
قُدامى السوفسطائيين — بروتاجوراس وهيبياس وغيرهما — الذين كانوا يستخذون من الظهور بمظهر
مَن يتردد بإزاء أي شيء، غير أن الأكاديمية الجديدة تصلَّبت في الشك واتخذته عقيدة، إنه
لَمنهجٌ أكثرُ صدقًا من الترخُّص في سَكِّ الأحكام؛ لأنهم قالوا بأنهم لا يقوِّضون كل
بحث
بأي حال مثلما كان يفعل فيرون و«المتوقفون عن الحكم»
Ephectici، بل يسمحون باستقصاء بعض الأمور على أنها احتمالية، وإن لم يسمحوا بأي شيء أن
يُؤخذ كحقيقة، غير أن العقل البشري ما إن ييأس من العثور على الحقيقة حتى يأخذ شغفُه
بكل
الأشياء في الخمود، وينتهي الأمر بأن ينصرف الناس إلى مناقشاتٍ وأحاديثَ لطيفةٍ، وإلى
نوعٍ
من التطواف حول الأشياء دون المثابرة على البحث الجاد، ولكن — كما أسلفنا في البداية
وكما
نؤكد على الدوام — فإن علينا ألا ننتقص من سلطة الحواس البشرية والفهم البشري — على قصورهما
— بل علينا أن نزودهما بما يساعد ويُعِين.
•••
(٦٨) انتهينا الآن من عرض لمختلف ضروب «الأوهام»
idola
وخصائصها، وكلها أوهام ينبغي التخلي عنها وشجبها، وتطهير العقل وتحريره منها، حتى لا
يبقى
ثمة إلا مدخل واحد إلى مملكة الإنسان، المدخل القائم على العلوم، مثلما أنه «لا مدخل
إلى
مملكة السماء إلا عبر طهارة الطفولة».
٤٢
•••
(٦٩) غير أن البراهين الزائفة هي حصون «الأوهام» ودفاعاتها، والبراهين التي لدينا
في
المنطق لا تعدو أن تُخضِع العالَمَ وتسخِّره للأفكار البشرية، وتُخضِع الأفكارَ للألفاظ،
ولكن البراهين هي نفسها — بمعنًى ما — فلسفات وعلوم، فكيفما تَكُن البراهينُ سديدة أو
واهية
تكن الفلسفاتُ والتأملات المترتبة عليها، غير أن البراهين التي نستخدمها في العملية بأكملها
التي تمضي من الحواس والأشياء إلى المبادئ والاستنتاجات هي براهين مغلوطة وواهية؛
٤٣ فأوَّلًا: انطباعات هذه الحواس نفسها خاطئة؛ لأن الحواس تخذلنا وتخدعنا، ولا بد
من أن نعالج الثغرات ونصحح الأخطاء، وثانيًا: التصورات تُستَمَد من انطباعات الحواس بطريقة
غير قويمة، وهي ملتبسة ومشوشة حيث ينبغي أن تكون مُحكَمة ومحددة المعالم، وثالثًا:
الاستقراء الذي نستخدمه خاطئ؛ لأنه يقرر مبادئ العلم بناءً على التعداد البسيط، ودون
استخدام الاستبعاد والفصل أو التحليل الصحيح للطبيعة، وأخيرًا: فإن طريقة الكشف والبرهان
التي تبدأ بوضع المبادئ الأعَم ثم تجعل منها مِحَكًّا للمبادئ الوسطى فتختبر المبادئ
الوسطى
بمضاهاتها بالمبادئ العامة، هذه الطريقة هي أمُّ الأخطاء، وهي كارثة كل العلوم، وإذا
كُنَّا
الآن نمر على هذه الأشياء مرورًا عابرًا فسوف نَعْرِض لها باستفاضة حين نتناول الطريقة
الصحيحة لتفسير الطبيعة، بعد أن ننتهي من عملية تنقية العقل وتطهيره.
•••
(٧٠) ولكن أفضل برهان على الإطلاق هو التجربة، شريطة أن يبقى ذلك لصيقًا بالتجربة
الفعلية، فمن المغالطة الامتدادُ بها إلى أشياء أخرى شبيهة في الظاهر ما لم يكن يتم هذا
الاستدلال بطريقة منهجية حذرة، أمَّا الطريقة التي يُجري بها الناسُ التجارب
٤٤ في الوقت الحالي فهي طريقة عمياء بلهاء، ومِنْ ثَمَّ فإنهم يهيمون ويتخبَّطون
دون أي مسار واضح، مرتَهَنين للمصادفات يَتَأدَّون منها هنا وهناك دون أن يُحْرِزوا
تقدُّمًا يُذكَر، وهم — بين رجاءٍ حينًا وتشتتٍ حينًا آخر — يجدون دائمًا بارقًا جديدًا
يسعون نحوه؛ ذلك أن الناس في الأغلب يُجرون تجاربَهم بغير اكتراث ولا جِدِّية، واضعين
تنويعات ضئيلة على التجارب المعروفة بالفعل، فإذا لم تُجِبهم التجربةُ بشيءٍ تَبَرَّموا
بها
وأقلعوا عن المحاولة، وحتى عندما يُكِبُّون على عملهم بِجِد وكد ومثابرة فإنهم يهدرون
وقتَهم في سبرِ موضوعٍ واحد معين، كشأن جلبرت مع المغناطيس، وشأن الخيميائيين مع الذهب.
مثل
هذا المسلك لا ينمُّ فحسب على غياب المهارة بل أيضًا على غياب الرؤية: فما كان لأحد أن
ينجح
في كشف طبيعة شيءٍ ما بالنظر إلى الشيء وحده، بل لا بُدَّ للبحث من أن يكون نطاقُه أوسعَ
ومجالُ رؤيتِه أَعَم.
وحتى عندما يُشَيِّد الناسُ نوعًا ما من العلم والنظرية على التجارب، فإنهم — في
الأغلب —
يُهرَعون بحماسٍ أهوج إلى التطبيق العملي، لا لكي يجنوا منها ثمارًا مرتقبةً فحسب، بل
لكي
يجدوا توكيدًا في شكل نتاجٍ جديدٍ بأن سعيَهم جديرٌ بالمواصلة ولن يكون مَضيَعة للوقت،
بالإضافة إلى توطيد شهرتهم واكتساب صيتٍ جيِّدٍ لمجال عملهم، هم إذن أشبه بأتالانتا Atalanta يتركون طريقَهم لكي يلتقطوا التفاحة الذهبية
فيَقطَعون العَدْو ويفوتهم الفوز. إنما علينا — في دأبنا على الطريق الصحيح للتجربة
ومواصلته لبلوغ نتائج جديدة — أن نقتدي بالحكمة والتدبير الإلهيين: ففي اليوم الأول للخَلق
اكتفَى الرب بخلق النور وكَرَّس يومًا كاملًا لهذا العمل، ولم يَخلُق أي شيء مادي في
ذلك
اليوم، نحن أيضًا علينا أوَّلًا أن نحاول — بشتى ضروب التجارب — أن نكتشف العلل والمبادئ
(القوانين) الحقيقية، وأن نلتمس التجارب التي تقدم النورَ لا الأثمار، فما إن يتم اكتشاف
المبادئ وصياغتها على نحوٍ صحيحٍ حتى تقدم للممارسة عونًا هائلًا لا محدودًا، وتَجُرَّ
وراءها أرتالًا غفيرةً من النتائج، وسوف نَعرِض لاحقًا لطرق التجربة التي سُدَّت وقُطِعَت
مثلما سُدَّت طرق الحكم، فأنا لم أقل حتى الآن إلا أن البحث التجريبي المعتاد هو نوع
رديء
من البرهان، غير أن المقامَ يقتضيني أن أضيف شيئًا ما عن العلامات التي سبق ذكرها والتي
تشير إلى أن الفلسفات والملاحظات المستخدمة الآن عاجزة، وعن أسباب ما يبدو للوهلة الأولى
عجيبًا لا يُصَدَّق، فمعرفة هذه العلامات الخارجية تمهد للتصديق، وتفسير الأسباب يزيل
العجب، وهذان الشيئان مفيدان غاية الفائدة في تطهير الذهن من الأوهام بسهولة ويُسر.
•••
(٧١) تأتي العلوم التي لدينا — في معظمها — من اليونان؛ إذ إن ما أضافه الرومان والعرب
أو
الكُتَّاب الأحدث هو شيء قليل ومحدود الأهمية، ومبنيٌّ كيفما كان على أساسٍ من كشوف اليونان،
٤٥ إلا أن حكمة اليونان كانت احترافية وميَّالة إلى الجدل، وذاك لون من الحكمة
معاكس للبحث عن الحقيقة، وهكذا فإن اسم «السوفسطائيين» الذي رفضه بازدراء أولئك الذين
وَدُّوا أن يُعتبَروا فلاسفةً وأطلقوه على الخطباء: جورجياس، بروتاجوراس، هيبياس،
بولس
Polus، هذا الاسم يمكن أن ينطبق على العشيرة
بأكملها: أفلاطون وأرسطو وزينون وأبيقور وثيوفراسطس، وخلفهم كريسبوس وكارنيادس والبقية،
والفارق الوحيد بين أولئك وهؤلاء هو أن الأوَّلين كانوا مرتزقة جَوَّالين يطوفون بين
البلدان المختلفة ويعرضون حكمتهم ويطلبون أجرًا عليها، في حين أن الآخرين كانوا أكثر
تبجيلًا وسَعة، إذ كانت لهم مَقارُّهم الثابتة ومدارسُهم المفتوحة، وكانوا يُعلِّمون
الفلسفةَ دون مقابل، إلا أن كلتا المجموعتين (رغم اختلافهما في الجوانب الأخرى) كانت
احترافية، وتُحَوِّل كلَّ موضوع إلى مجادلات، وتؤسس مذاهب وعقائد فلسفية وتنافِح عنها،
ومِنْ ثَمَّ كانت مذاهبُهم في معظمها (مثلما قال ديونيزيوس — بحق — عن أفلاطون): «حديث
عجائز مُتَبَطِّلين إلى شُبَّانٍ جاهلين.»
٤٦ على أن اليونانيين الأقدم مثل أنبدوقليس وأنكساجوراس وليوسيبوس وديمقريطس
وبارمنيدس وهيراقليطس وزينوفان وفيلولاس والآخرين (وأنا أستثني فيثاغوراس باعتباره مشعوذًا)
لم يفتحوا مدارس على حد علمي، بل نذروا أنفسهم للبحث عن الحقيقة في صمت وجِدِّية وبساطة
أكثر: أي بادِّعاء واستعراض أقل؛ لذا فقد كانوا — في رأيي — أكثر نجاحًا، لولا أن أعمالهم
قد غَشَّت عليها بمرور الزمن تلك الأعمالُ الأقل وزنًا التي راقت أفهامَ السوقةِ وأذواقهم،
فالزمن (كالنهر) يجلب لنا ما هو خفيفٌ منتفخ ويُغرِق ما هو ثقيلٌ صلب،
٤٧ وحتى هؤلاء الأقدمون لم يَبرَءوا تمامًا من عيوب قومهم، فقد كانوا مأخوذين
بغرورٍ وطموحٍ لتأسيس مذهبٍ وانتزاع إعجاب عامة الناس، ولا تؤمِّل خيرًا في البحث عن
الحقيقة إذا تَدنَّى إلى مثل هذه التفاهات، ولا نَنسَ في هذا المقام ذلك الحكم بل النبوءة
التي تفوَّه بها أحد الكهنة المصريين عن اليونانيين بأنهم «دائمًا أطفال، يعوزهم قِدَمُ
المعرفة ومعرفةُ القِدَم.»
٤٨ فهم بالتأكيد يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب،
فحكمتهم لفظية لا تثمر نتائج، وعليه فإن العلامات التي نتلقاها من منبع الفلسفة السائدة
ومسقط رأسها هي علامات غير مُبشِّرة.
•••
(٧٢) ولا العلامات المستفادة من طبيعة الزمن والعصر بأفضل حالًا من تلك المستفادة
من
المكان والشعب، فقد كانت المعرفةُ في ذلك العصر معرفةً محدودةً هزيلةً، سواء المعرفة
عن
الزمن أو عن العالم، وهذا حقًّا شيء غير محمود على الإطلاق وخاصةً بالنسبة لأولئك الذين
يعتمدون على التجربة في كل أمر؛ لأنهم ليسوا بإزاء ألف عام من التاريخ تستحق اسم التاريخ،
بل بإزاء قصص خيالي وتقاليد عتيقة، لم يكن أهل ذلك العصر يعلمون سوى جزء صغير من أصقاع
العالم وبلدانه، فقد كانوا يسمون كل شعوب الشمال Scythians
وكل شعوب الغرب Celts دون تمييز، ولا يعرفون عن أفريقيا أي
شيء يتجاوز الجزء الأقرب من إثيوبيا، ولا من آسيا ما يتجاوز اﻟ
Gangs، وأقل من ذلك كثيرًا عن أقاليم «العالم الجديد»
ولو من طريق الروايات أو الشائعات المقبولة. الحق أن معظم الأقاليم المناخية والأصقاع
التي
تعيش وتتنفَّس فيها أممٌ لا تُحصى كانت تُعَد عندهم غيرَ قابلة للسُّكنَى، بل كانوا
يُكبِرون رحلات ديمقريطس وأفلاطون وفيثاغوراس التي كانت أقرب إلى نزهات الضواحي، بينا
في
أزمنتنا صارت كثير من أجزاء العالم الجديد وكل أطراف العالم القديم معروفة جَيِّدًا،
وزادت
ذخيرتنا من الخبرات زيادة لا متناهية، وعليه فإذا كان لنا — شأن الفلكيين — أن نستقي
علامات
من ميقات مولدهم أو ظهورهم فليس لدينا ما يُنبئ بشأنٍ عظيمٍ لهذه المنظومات الفلسفية
المبكرة.
•••
(٧٣) ليس بين العلامات جميعًا ما هو أوثق وأوجَه من
الثمار، فاكتشاف الثمار والنتائج بمثابة كفالةٍ أو ضمانةٍ لِصدقِ أي فلسفة من الفلسفات،
فانظر الآن إلى كل هذه الفلسفات اليونانية، وعلى العلوم الجزئية المتشعبة منها، ليس بوسعك
أن تورِد بعد انقضاء كل هذه السنين تجربةً واحدةً تُفضي إلى التخفيف عن الإنسان وتحسين
حاله، ويمكن أن تُرجِع الفضلَ فيها — بحق — إلى تنظيرات تلك الفلسفات ومذاهبها، يعترف
سيلسوس
Celsus٤٩ بصراحة وحكمة أن خبرات الطب تم اكتشافها أوَّلًا، ثم بَنَى الناسُ عليها
فلسفاتهم بعد ذلك وسَعَوا في التماس العلل وتحديدها، ولم يحدث الأمر في الاتجاه العكسي:
أي
لم تُكتشَف الخبرات بواسطة الفلسفة وتُستمَد منها ومن معرفة العلل، لا عجب إذن في أن
المصريين (الذين أسبغوا قداسةً وألوهةً على أصحاب الابتكارات الجديدة) كانت لديهم صورٌ
للحيوانات أكثر مما للبشر، وتفسير ذلك أن الحيوانات اجترَحَت الكثيرَ من الكشوف بغريزتها
الطبيعية، في حين لم يقدِّم البشرُ شيئًا يُذكَر من خلال الجدل والاستنباط العقلي.
صحيحٌ أن صناعة الخيميائيين قد أثمرت بضع نتائج، ولكن ذلك حدث بالمصادفة وبشكلٍ عابر،
أو
من خلال تنويع تجاربهم (كما يفعل الميكانيكيون أيضًا)، وليس على أساس فنٍّ مقرر أو نظرية،
فالنظريات التي تخيلوها تربك التجارب أكثر مما تُعِينها. كذلك حال أولئك الذين انشغلوا
بالسحر الطبيعي كما يسمونه، فلم يقدموا إلا نتاجًا هزيلًا وأقرب إلى الدجل؛ لذا فمثلما
نتعلم في الدين أن نُظهِر إيماننا في أعمالنا فإن المبدأ نفسه ينسحب على الفلسفة، فنحكم
عليها من خلال ثمارها، فإذا كانت الفلسفة عقيمة بلا نتاج فهي عبثٌ لا نفع فيه، وهي بَعدُ
أكثر عبثًا إذا كانت بدلًا من ثمار العنب والزيتون تُثمر قَتَادًا وأشواكًا من الجدل
والمُماحكة.
•••
(٧٤) ثمة علامات أخرى ينبغي أن تُستفاد من تنامي
وتقدم فلسفات وعلوم معينة، فتلك التي تتأسس على الطبيعة تنمو وتزداد، أمَّا التي تقوم
على
الرأي فتتغير ولكنها لا تنمو؛ ولذا فلو أن هذه الفلسفات التي ذكرناها بعيدة الشبه عن
نباتٍ
مقتلَع من جذوره، بل متصلة دومًا برحم الطبيعة آخذة غذاءَها منه لما كان بالإمكان أن
يحدث
ما رأيناه الآن لألفين من السنوات: لألفين من السنوات والعلومُ واقفة حيث هي وباقية كما
هي
دون تقدم ملحوظ، بل إنها بالعكس تعيش ذروة ازدهارها في ظل مؤسِّسِها الأوَّل ثم لا تلبث
أن
تنحطَّ من بعده، بينما نرى أن العكس هو ما يحدث في حالة الفنون الميكانيكية التي تتأسس
على
الطبيعة وفي ضوء التجربة، فهي ما دامت رائجة فهي في ازدهار ونمو مستمر كأنها ممتلئة بنَفَسِ
الحياة، تبدأ فجة ثم تصير ملائمة ثم فاخرة، وعلى الدوام في تقدُّم.
•••
(٧٥) ثمة — بعدُ — علامةٌ أخرى يجب أن نلحظها (إن جاز تسميتها علامة، إذ إنها بالأحرى
شهادة، بل هي حقًّا أقوى شهادة): وهي الاعتراف الفعلي للكُتَّاب أنفسهم الذين يتبعهم
الناس
اليوم، فحتى هؤلاء الذين يفرضون حكمهم على الأشياء بثقة كبيرة، ما يزالون من وقت لآخر
عندما
يُرَدُّون إلى القصد، يعمدون إلى الشكوى من ألغاز الطبيعة وغموض الأشياء وضعف الفهم البشري،
فلو أنهم اقتصروا على هذا فقد يكون رادعًا لغيرهم من ذوي المزاج الهياب عن المضي في البحث،
وحافزًا لذوي العقول الأكثر حدة وثقة إلى مزيد من التقدم، غير أنهم لا يكتفون بمناجاة
أنفسهم، بل يعتبرون كل شيء لم يعرفوه ولم يلمسوه بأنفسهم — هم أو معلموهم — كشيء وراء
حدود
الإمكان، ويعلنون — من موقع السلطة في فنهم — أنه من المحال أن يُعرَف أو يُعمَل، ومِنْ
ثَمَّ فإنهم بكل غطرسةٍ يُحوِّلون ضعفَ كشوفهم إلى افتراء على الطبيعة وتثبيط لغيرهم
من
الخَلق. هكذا نشأت الأكاديمية الجديدة التي اعتنقت مذهب الشك وحكمت على البشر بالظلام
الأبدي، وهكذا نشأ الرأي القائل بأن «الصور» forms أو
الفروق الحقيقية بين الأشياء (التي هي في الحقيقة قوانين الفعل الخالص) مستحيلة الكشف
ودون
منال الإنسان، وهكذا نشأت الآراء الخاصة بالجانب النشط والعملي من العلم: أن حرارة الشمس
وحرارة النار هما صنفان من الحرارة مختلفان تمامًا، فلا يطمعن أحد في أن يستخلص أو يكوِّن
—
من خلال إعمال النار — شيئًا ما شبيهًا بالأشياء الموجودة في الطبيعة، وهكذا نشأ الرأي
القائل بأن التركيب composition فقط بوسع الإنسان، أمَّا
المزج mixture فهو فعل الطبيعة وحدها، فلا يطمعن أحدٌ
من طريق الفن أن يخلق أو يحوِّل أجسامًا طبيعية، هكذا سوف يتسنَّى للناس أن يروا في هذه
العلامة ما يَزَعُهم أن يرهنوا مصائرهم وجهودَهم بعقائد ليست يائسة فحسب، بل مكرَّسة
لليأس.
•••
(٧٦) وهاكَ علامة أخرى لا ينبغي إغفالُها: أنه كان هناك خلافات كثيرة جِدًّا بين
الفلاسفة
وتباين بين المدارس، الأمر الذي يُظهِر — بوضوح — أن الطريق من الحواس إلى الفكر لم يكن
ممهَّدًا بشكلٍ جيد ما دام الأساس الفلسفي الواحد (أي طبيعة الأشياء) قد تمزَّق وتشظَّى
إلى
أخطاء شديدة الاختلاف والتشعب، ورغم أن الاختلافات والتباينات حول المبادئ الأولى
والمنظومات الفلسفية الكلية قد انتهت تقريبًا في زمننا الحالي،
٥٠ فما زالت هناك أسئلة وخلافات لا تُحْصَى حول الأجزاء الفرعية للفلسفة، مما يدل
على أنه لا يوجد أي شيء مؤكد أو صحيح لا في المنظومات نفسها ولا في طرائق البرهان.
•••
(٧٧) نعرض الآن للرأي الشائع القائل بأن هناك شبه
إجماع على فلسفة أرسطو، حيث إنه عقب ذيوعها توارت الفلسفات الأقدم وطواها النسيان، ثم
لم
يُكتشَف في الأزمنة اللاحقة شيءٌ أفضل منها، ومِنْ ثَمَّ بات مؤكدًا ومقرَّرًا أنها بسطت
ظلها على العصرين معًا، ردًّا على ذلك أقول: أوَّلًا: إن القول بأن الفلسفات القديمة
انتهت
عقب صدور فلسفة أرسطو هو قول خاطئ، فقد عاشت أعمال الفلاسفة القديمة طويلًا بعد ذلك،
وظلت
قائمة حتى زمن شيشرون والقرون التالية له، الخَطْبُ أنه في زمن لاحق، عندما تحطمت سفينة
المعرفة البشرية — إن صح التعبير — إثر طوفان البرابرة الذي غمر الإمبراطورية الرومانية،
هنالك كانت فلسفة أرسطو وأفلاطون أشبه بألواح أخف وزنًا وأقل صلابةً، فظلت طافيةً فوق
أمواج
الزمن وكُتِبَت لها النجاة، ثانيًا: مسألة الإجماع هي أيضًا خادعة ولا تصمد للتمحيص،
فالإجماع الحقيقي هو ذلك الذي ينطلق من أحكام حرة تلتقي جميعًا — بعد فحص المسألة — في
نقطة
واحدة، ولكن الغالبية العظمى من الذين قبلوا فلسفة أرسطو قد ارتهنوا أنفسهم لها من خلال
الحكم المسبق وسلطة الآخرين، الأمر إذن أقرب إلى الاتِّباع والتحَزُّب منه إلى الاتفاق،
وحتى لو كان اتفاقًا حقيقيًّا وعريضًا فمن الخطأ الذريع أن نَعُدَّه تأييدًا صادقًا وصلبًا،
ذلك الاتفاق الذي يتضمن قرينة قوية إلى العكس، فبئس الدليلُ الإجماع في المسائل الفكرية
(باستثناء الأمور الإلهية والسياسية حيث يحق للاقتراع أن يُقرِّر)، فلا شيء أثلج لصدور
الطَّغام من ذلك الذي يَفتِن الخيالَ ويوثِق العقل في أغلال الآراء الشائعة كما لاحظنا
آنفًا، وما أجدرنا إذن أن نستعير قول فوشِيُون
Phocion٥١ من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر: «إذا ما غَمَرَكَ الدهماءُ بالتأييد
والإعجاب فتَحَسَّسْ أخطاءَك!» هذه العلامة إذن من أخطر العلامات. ها قد فَرَغنا الآن
من
عرض فكرتنا: أن كل ما يُتخذ دليلًا على صدق الفلسفات والعلوم وصحتها هو دليل غير صحيح،
سواء
كان مُسْتَمَدًّا من منشئها أو من نتاجها أو من تقدمها أو من اعترافات واضعيها أو من
الإجماع (عليها).
•••
(٧٨) نأتي الآن إلى أسباب هذه الأخطاء، والأسباب التي جعلت الناس تتعثر بها طيلة هذه
القرون، هذه الأسباب هي من الكثرة والقوة بحيث يزول معها أي عجب من أن تخفَى هذه الاعتبارات
التي طرحتُها عن ملاحظة الناس حتى يومنا هذا، العَجَب الوحيد هو أن تطرأ اليوم أخيرًا
في
ذهن واحد من الناس وتصبح موضوعًا لفكره، أنا شخصيًّا أعتبر ذلك حقًّا نتاج مصادفةٍ سعيدةٍ
وليس فضل موهبةٍ استثنائية عندي، هي بنتُ الزمن وليست بنت الذكاء.
فأنت أوَّلًا إذا نظرت إلى الأمر على حقيقته لوجدت أن هذه القرون الطويلة تُختزَل
في
نطاقٍ صغيرٍ جِدًّا، ففي هذه القرون الخمسة والعشرين — التي تحيط بها الذاكرة والمعرفة
البشريتان — لن تستطيع أن تُفرِد أكثرَ من ستة قرون كانت خصبة في العلوم ومواتيةً لتقدمها.
إن للزمنٍ فَيافِيَه وقِفارَه مثلما لأصقاع الأرض، ونحن لا نستطيع أن نَعُدَّ عن حق إلا
ثلاث ثوراتٍ وفتراتٍ ذروة في الفلسفة: الأولى بين اليونان، والثانية بين الرومان، والثالثة
بيننا نحن أمم أوروبا الغربية، ولن تزيد الفترة المقيَّضة لكل واحدة منها عن قرنين من
الزمن، أمَّا العصور الوسطى للعالم فلم تكن خصبةً في إنتاج محصولٍ وفيرٍ وغنيٍّ من العلوم،
وليس ثمة ما يدعو إلى ذكر العرب والأسكولائيين الذين مَحَقوا العلومَ برسائلهم العديدة
في
الزمن الوسيط أكثر مما أضافوا إلى وزنها، جملة القول: إن السبب الأوَّل لهذا التقدم الهزيل
في العلوم يعود إلى ضآلة الفترات الزمنية التي كانت مواتيةً للعلم.
•••
(٧٩) في المقام الثاني هناك سببٌ يطرح نفسه، وهو بالتأكيد على أعلى درجة من الأهمية،
وهو
أنه في تلك العصور نفسها — التي ازدهر فيها الذكاء البشري والمعرفة ازدهارًا كبيرًا أو
حتى
ازدهارًا متوسطًا — لم يكن الناسُ يُولُون الفلسفة الطبيعية إلا جزءًا ضئيلًا من جهدهم،
غير
أن هذه نفسها هي التي ينبغي أن تُعَدَّ الأم العليا للعلوم، فكل فن أو علم ينبت عن هذا
الجذر، قد يُصقَل ويُعدَّل للاستخدام العملي، ولكنه لن ينمو على الإطلاق، ومن المعلوم
أنه
بعد أن انتشرت المسيحية واشتد عودُها، فإن أغلب العقول النابغة اشتغلت باللاهوت، حيث
كانت
تُقدَّم أعلى المِنَح وتُبذَل بسخاء كلُّ ضروب الإعانات، هذا التكريس للاهوت احتلَّ ذلك
الجزء الثالث أو الفترة الثالثة بيننا نحن الأوروبيين الغربيين، لا سيَّما أنه في الوقت
نفسه بدأ الأدب في الازدهار والخلافات الدينية في الاندلاع، أمَّا في العصر السابق —
أي
طوال الفترة الثانية بين الرومان — فكانت تأملات الفلاسفة وجهودهم منصرفة بالدرجة الأساس
إلى الفلسفة الخلقية التي كانت عند الوثنيين بمثابة اللاهوت عندنا، إلى جانب ذلك انشغلت
العقول النابغة بالشأن العام (السياسة)؛ نظرًا لضخامة الإمبراطورية الرومانية وما تتطلبه
من
خدمات عدد كبير من الأشخاص، أمَّا العصر الذي بَدَا فيه أعلى ازدهار للفلسفة الطبيعية
بين
اليونان فلم يمتد طويلًا، ففي الفترة المبكرة كرَّس الفلاسفة المعروفون ﺑ «الحكام السبعة»
(باستثناء طاليس) أنفسهم للفلسفة الخلقية والسياسة، وفي الفترة المتأخرة — بعد أن أنزل
سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض — ازداد رواج الفلسفة الخلقية وصرفت عقول الناس عن
فلسفة
الطبيعة.
بل إن الفترة نفسها التي ازدهر فيها البحث في الطبيعة قد أفسدتها الخلافات اللفظية،
والمنافسة في وضع آراء جديدة، وجعلتها عديمة الجدوى، وهكذا خلال هذه الفترات الثلاثة
أُهمِلَت الفلسفة الطبيعية أو أُعِيقَت، فلا عَجَبَ ألا يحقق الناس غير تقدم يسير في
هذا
المجال؛ إذ كان اهتمامهم منصرفًا إلى شيء مختلف تمامًا.
•••
(٨٠) أضف إلى ذلك أن الفلسفة الطبيعية قَلَّما وَجَدَت — حتى بين أولئك الذين مارسوها
— مَن يكرِّس لها كل وقته، وخاصة في الأزمنة الحديثة (إلا
إذا عثر المرءُ ربما على نموذج أو اثنين في راهبٍ في صومعته أو نبيلٍ في بيته الريفي)،
٥٢ فقد عُومِلت الفلسفةُ الطبيعية كمجرد مَعبَرٍ أو جسر إلى مطالب أخرى.
هكذا أُكْرِهَت هذه الأم العليا للعلوم — بجَورٍ غريب — على أن تؤدي مهامَّ خادمة،
فتلبي
حاجات الطب أو الرياضيات، أو تغسل الأذهان غير الناضجة للشباب وتنقعها في نوعٍ من الصبغة
الأولى حتى يتسنى لها لاحقًا أن تمتصَّ صبغةً أخرى وتُثَبِّتها، كذلك لا يتوقعن أحدٌ
أي
تقدم كبير في العلوم (وبخاصة في جانبها العملي) ما لم تُوصَل الفلسفة الطبيعية بالعلوم
الخاصة، وتُرَد العلوم الخاصة ثانيةً إلى الفلسفة الطبيعية، وبسبب افتقارها إلى هذا نجد
علوم الفلك والبصريات والموسيقى وعددًا من الفنون الميكانيكية والطب نفسه (ويا للعجب)
والفلسفة الأخلاقية والسياسة وعلوم المنطق؛ نجدها جميعًا تفتقر إلى العمق، ولا تمس الأشياء
إلا مسًّا سطحيًّا عابرًا؛ ذلك أنها بعد أن انفصلت وتأسست كعلوم خاصة لم تَعُد تتغذى
بالفلسفة الطبيعية التي كانت كفيلة بأن تمدها بقوة جديدة ونماء من خلال التأمل الأصيل
للحركة والأشعة والأصوات وبِنية الأجسام وهيئتها وللانفعالات والعمليات الذهنية، ومِنْ
ثَمَّ فلا عَجَبَ ألا تنمو العلومُ إذا ما انفصلت عن جذورها.
•••
(٨١) ثمة سببٌ آخر مهم وقوي لعدم إحراز العلوم إلا تقدُّمًا قليلًا: فليس بالإمكان
أن
تتقدَّم في المضمار كما ينبغي إذا كان الهدفُ نفسُه لم يوضَع على نحوٍ صحيح، فالهدف الحقيقي
والمشروع للعلوم هو أن تزود الحياةَ الإنسانية باكتشافات وموارد جديدة، والكثرة الكاثِرة
من
الناس لا يعرفون شيئًا عن هذا، إنْ هم إلا مأجورون ومحترفون، ربما يتصادف أن صانعًا ما
ذا
عبقرية حادة وطموح للشهرة يكرس نفسَه لعمل اختراع جديد، والذي يكون دائمًا على نفقته
الخاصة، غير أن الغالبية من الناس لا يُحَدِّثون أنفسَهم بأن يزيدوا حصيلة العلوم والفنون،
فهم لا يأخذون من الحصيلة المتوافرة لديهم ولا يلتمسون منها إلا ما يمكنهم أن يحولوه
إلى
استعمال حِرَفي أو ربح أو صيت أو ما شابه ذلك من المزايا، وإذا كان في هذا الحشد واحدٌ
يسعى
إلى المعرفة بحب صادق ولأجل المعرفة فحسب، فحتَّى هذا سنجد أن هدفه هو التأملات والمذاهب
المتنوعة وليس البحث الصارم الجاد عن الحقيقة، وحتى إذا كان هناك مَنْ هو باحث أكثر كَدًّا
عن الحقيقة فهو أيضًا سوف يضع أمامه وصفًا للحقيقة من شأنه أن يُرضي عقلَه وفهمَه في
تقديم
عِلَلٍ للأشياء معلومةٍ أصلًا، لا وصفًا يقود إلى نتائج جديدة ونورٍ جديد من المبادئ،
٥٣ وهكذا إذا كانت «غاية» العلوم لم تُوضع بعدُ على نحوٍ صحيح، فلا عَجَبَ أن يكون
الناس قد أخطئوا في أمر «الوسائل».
•••
(٨٢) ومثلما أن الناس لم تحدد غايةَ العلوم وهدفَها كما ينبغي، فإنهم حتى لو حددوا
ذلك
تحديدًا جيِّدًا، إنما يتخذون إليه طريقًا خاطئًا ومسدودًا تمامًا، وإنه لمن أعجب العَجَبَ
لمن يتأمل الأمر أن لا يُعنَى أحدٌ ولا يهتم بفتح طريق مُمهَّدٍ ومُعبَّدٍ للفهم الإنساني
ينطلق من الحواس عبر التجربة المنظمة المحكَمة، بل يُترَك كلُّ شيءٍ نَهبًا لغيوم التقاليد
ودوامة الجدل، أو لتقلبات الصدفة ومتاهاتها والخبرة العارضة غير المنظَّمة، فليتأمل أيٌّ
مِنَّا بتيقظ وعناية في نوعية الطريق الذي اعتاد البشرُ اتخاذَه في بحث أي شيء واكتشافه،
فإنه — بدون شك — سيلحظ أوَّلًا منهجًا بسيطًا غيرَ علمي للكشف مألوفًا جِدًّا للبشر،
وهو
لا يعدو أن يكون كالتالي: عندما يُعِدُّ أيُّ شخصٍ نفسَه للكشف فإنه يستعلِم عن كل ما
سبق
أن قيل في الموضوع ويُلِم به، ثم يضيف تأملاته الخاصة، ويُقلِّب الأمرَ في ذهنه ويستنطق
روحَه الخاصة ويهيب بها أن توحي إليه، هذا منهج يفتقر إلى أي أساس، وتذهب به الآراءُ
كلَّ
مَذهَب.
وآخرُ قد يستدعي المنطقَ لكي يُعينه في الكشف، والمنطقُ لا صلةَ له بهذا الغرض سوى
صلة
اسمية، فالمنطق لا يكتشف المبادئ والقضايا الرئيسية التي تتألف منها الفنون، بل يكتشف
فحسب
تلك القضايا التي تبدو متسقة معها،
٥٤ فإذا ما أخَذَكَ الفضولُ وألححت عليه في السؤال عن براهينه على المبادئ أو
القضايا الأولى فلن تجد من المنطق سوى ردٍّ واحدٍ معروفٍ جَيِّدًا، وهو أن يُحيلك ثانيةً
إلى الإيمان وقَسَم الولاء الذي ينبغي أن يؤدَّى لمبادئ كل فن على حِدَة.
لا تبقى هناك إلا الخبرة المحضة، والتي إذا جاءت بنفسها سُمِّيَت مصادفة، وإذا جيء
بها
سُمِّيَت تجربة، ولكن هذا النوع من الخبرة ليس أكثر من مكنسة بدون رباط (كما يقولون)
مجرد
تَحسُّس، شأن أناس في الظلام يتحسسون حولهم عساهم أن يجدوا طريقهم الصحيح، بينما الأفضل
لهم
جِدًّا أن ينتظروا ضوء النهار أو ضوء شمعة ثم يتقدموا، على النقيض من ذلك يبدأ النظام
الصحيح للخبرة بإيقاد ضوء، ثم بكشف الطريق في هذا الضوء، منطلقًا من التجربة الممنهجة
المنظمة لا التجربة الملفقة العشوائية، ومنها يستنبط المبادئ، وعلى هذه المبادئ يؤسس
تجارب
جديدة، ذلك أنه حتى «كلمة الرب» لا تؤتي فعلَها في الخليقة إلا بمنهج.
لذا فلا عَجَبَ للناس إذا كانت العلوم قد تعثرت عن إكمال الطريق، فلقد ضَلَّت سبيلَها
إذا
تَرَكَت التجربةَ وهجرتها تمامًا، أو أوقعت نفسَها في شَرَك متاهاتها وجعلت تتخبط في
حلقات
مفرغة، في حين أن المنهج المنظم القويم يتخذ جادةً آمنةً خلال غابة الخبرة تُفضي إلى
رَحبة
المبادئ.
•••
(٨٣) ولقد زاد في تعقيد المشكلة بدرجة عجيبة اعتقادٌ أو تصورٌ عميقُ الجذور على أنه
متغطرسٌ ومؤذٍ، مُفادُه أن مما يحط من قدر الذهن البشري أن يظل عاكفًا ومُكِبًّا على
التجارب وعلى الأشياء الجزئية التي هي موضوعات للحِس ومقصورة على المادة، لا سيَّما وأن
هذه
الأمور تقتضي في العادة جهدًا في البحث، وأنها لا تليق بالتأمل ولا بالحديث ولا بالممارسة،
وأنها مفرطة في الدقة، وهكذا لم يعد الطريق الحق مهجورًا فحسب بل معترَضًا ومغلَقًا،
لم
يقتصر الأمر على تجاهل التجربة وإساءة تطبيقها، بل تَمَّ نبذُ التجربة وازدراؤها.
•••
(٨٤) إن توقيرَ العصور القديمة ونفوذَ الرجال الذين حظوا بمكانةٍ كبيرةٍ في الفلسفة
والإجماعَ العام، كل أولئك أمورٌ عاقت الناسَ عن التقدم في العلم، وأَسَرَتهم إلى حد
كبير،
أمَّا عن الإجماع فقد تناولته فيما سبق، «وأمَّا عن الرأي الذي يرفع به الناسُ من قيمة
القِدَم فهو رأيٌ عقيمٌ تمامًا ولا يكاد يتفق مع اللفظة؛ ذلك لأن كِبَرَ العالَم وتقدمَه
في
العمر هو ما ينبغي أن يُعتبَر «قِدَمًا» في حقيقة الأمر، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا
نحن
لا للعمر المبكر للعالم في أزمنة القدماء، فإذا كان هؤلاء الأخيرون بالنسبة لنا قدماءَ
مُسِنِّين فإنهم بالنسبة للعالم مُحدثون صغار، ولمَّا كُنَّا نتوقع من الشخص الأكبر معرفةً
أكبر بالشئون البشرية وحُكمًا أنضجَ مما نتوقعه من الصغير — بفضل خبرة الكبير وبفضل كثرة
وتنوع ما رآه وسمعه وتأمَّلَ فيه — فإن لنا أن نتوقع من عصرنا أمورًا أعظم مما نتوقعه
من
العصور القديمة، ما دام العالم قد تقدم في العمر وازدادت ذخيرتُه واكتنزت بما لا نهاية
له
من التجارب والملاحظات، وينبغي أيضًا أن نأخذ في اعتبارنا أن كثيرًا من الأشياء الجديرة
بأن
تُلقي الضوءَ على الفلسفة قد اكتُشِفَت وأُميطَ عنها اللثام بفضل الرحلات والأسفار الطويلة
التي زَخَرَت بها أيامُنا، إنه ليكون مخزيًا حقًّا للجنس البشري أن تُستكشَف أصقاعُ العالم
المادي — الأرض والبحر والنجوم — وتُسْتَظْهَر على هذا النحو المذهل، بينما تبقى حدودُ
العالم الفكري محصورةً في الكشوف الضيقة للقدماء.»
أمَّا عن السلطة فهي من الجبن بحيث تُولِي ثقة غير محدودة لمعلِّمين معينين بينما
تغمِط
الزمنَ حقَّه، الزمنُ هو معلِّمُ المعلِّمين، ومِنْ ثَمَّ فهو سلطة كل سلطة، فقد صدق
مَنْ
أطلق على الحقيقة «بنت الزمن» لا بنت السلطة، لا عَجَبَ — إذن — إذا كانت قيود القِدَم
والسلطة والإجماع قد كَبَّلَت قوى البشر فصاروا عَجَزةً (كما لو كانوا مسحورين) عن مقاربة
الأشياء ذاتها.
•••
(٨٥) ليس الإعجابُ بالقِدَم والسلطة والإجماع فقط هو ما أجبر جهود الإنسان على أن
تقف
قانعةً بالكشوف التي تم تحقيقها، بل الإعجاب أيضًا بالأعمال نفسها التي صارت بحوزة الجنس
البشري، فمَنْ يستعرض مختلف الأشياء والأدوات الرائعة التي جَمَّعَتها الفنون الميكانيكية
وأدخلتها من أجل خدمة البشر، فمن المؤكد أنه سيكون أَمْيَلَ إلى الإعجاب بثراء الإنسان
منه
إلى الشعور بفقره، غيرَ مُدرِكٍ أن الملاحظات الأصلية وعمليات الطبيعة (التي هي أشبه
بالروح
أو المبدأ المحرِّك لكل تلك الأشياء) ليست بالكثيرة ولا العميقة، وأن بقية الأمر تُعزَى
—
ببساطة — إلى الصبر وإلى خفة ودربة حركة اليد والأداة، ولنأخذ صناعة الساعات كمثال: إنها
بالتأكيد شيء حساس ودقيق، وتبدو تروسُها محاكيةً للمدارات السماوية ولضربات قلب الحيوانات
في حركتها الموصولة المنتظمة، ورغم ذلك فهي تعتمد على مبدأ طبيعي واحد أو مبدأين.
مرة ثانية، إذا تأملت الحذقَ المتبدِّي في الفنون الحرة،
٥٥ أو حتى في إعداد الأجسام الطبيعية في الفنون الميكانيكية، وتأملت في أشياء مثل:
اكتشاف الحركات السماوية في علم الفلك والهارمونيا في الموسيقى وأحرف الأبجدية (غير مستخدمة
حتى الآن في الصين)
٥٦ في النحو، ومنتجات باكوس وسيريس، أي تحضير النبيذ والجعة وعمل الخبز، أو حتى
مشتهيات المائدة والتقطير وما إلى ذلك، وإذا تفكَّرْت أيضًا كم استغرقت هذه الأشياء من
أحقاب (إذ إنها جميعًا قديمة باستثناء التقطير) حتى بلغت الدرجةَ الراهنة من الكمال،
وكم هي
قليلة (كما في مثال الساعات) تلك الملاحظات والقوانين الطبيعية التي يمكن أن تُرَد إليها،
وكم كانت بسيطةً عمليةُ اكتشافها (من خلال فرصٍ مواتيةٍ وملاحظات عابرة)، إذا تأملت ذلك
فسينقطع إعجابُك للتو وسترثي لحال البشر، بالنظر إلى ضآلة المكتشفات خلال هذه الأحقاب
الطويلة من الزمن، ولكن حتى المكتشفات التي ذكرناها كانت أقدمَ من الفلسفة ومن العلوم
الفكرية؛ ولذا فإن شئت الحقيقة فمنذ أتت العلوم العقلية والدوجماطيقية إلى الوجود انقطع
اكتشاف منتجات نافعة.
وإذا تحول أيُّ شخص عن الورَشة إلى المكتبة، وأخذه الإعجاب بالتنوع الهائل للكتب التي
يراها هناك، فدعه فقط يعاين ويفحص بدقة موضوعاتها ومحتوياتها، ولسوف يُغيِّر رأيه بكل
تأكيد، فعندما يكتشف ألا نهاية للتكرار، وكم يعيد الناسُ الفعلَ والقول نفسه مراتٍ ومراتٍ،
فسينصرف من الإعجاب بالتنوع إلى الاندهاش من فقر وقلة المادة التي شَغَلَت عقولَ الناس
واستحوذت عليها إلى يومنا هذا.
وإذا تنازَل الشخصُ لينظر في تلك الفنون التي تُعَد أقربَ إلى الغرابة منها إلى
المعقولية، وتأمل بدقة في أعمال الخيميائيين أو السَّحرة، فربما يقع في حيرة ولا يدري
أيَنبغي عليه أن يضحك أم يبكي، فالخيميائي يتعلَّق بأمل أبدي، وعندما تفشل جهوده يلوم
نفسَه
ويعزو الفشلَ إلى خطأ ما قد ارتكبه، فلعله لم يحسن فهمَ كلمات فنه أو كلمات معلميه (ومِنْ
ثَمَّ يَرجع إلى التعاليم والهمسات السرية)، أو لعله ارتكب زَلةً في الأوزان أو في توقيت
الإجراء (لذا فإنه يمضي في إعادة المحاولة إلى غير نهاية)، وفي نفس الوقت عندما يقع في
تجاربه العابرة على شيء يبدو جديدًا أو على درجةٍ ما من النفع، فإنه يغذي روحَه بهذه
الوعود
ويبالغ فيها ويذيعها، معلِّقًا أمله في النتيجة النهائية: «لا يمكن لأحد أن ينكر أن
الخيميائيين قد اجترحوا اكتشافاتٍ عديدةً، وقدموا للجنس البشري اختراعاتٍ نافعة، غير
أنهم
تنطبق عليهم حكايةُ الرجل العجوز الذي ترك لأبنائه تركةً من الذهب مدفونةً في حقله،
متظاهرًا بأنه لا يعرف موقعه بالتحديد، فظل الأبناء يكدُّون في حفر الحقل، ورغم أنهم
لم
يجدوا ذهبًا فإن الحقل أنتج محصولًا أوفر بفضل عملهم.»
٥٧
أمَّا أتباع السحر الطبيعي — الذين يفسِّرون كل شيء بالتوافق والنفور — فقد عزوا إلى
الأشياء قوًى زائفة وتأثيرات عجيبة، على أساس تخمينات عقيمة لا مسوغ لها، وإذا هم حققوا
نتائجَ على الإطلاق فهي نتائجُ أقرب إلى الطرافة والجِدة منها إلى النفع والفائدة.
وأمَّا في السحر الخرافي (إذا كان علينا أن نتناوله أيضًا) فينبغي أن نلاحظ — بصفة
خاصة —
أن الموضوعات التي عَمِلَت فيها الفنونُ الغريبة والخرافية، أو بدا أنها عملت، أيَّ شيءٍ
—
بين جميع الأمم وجميع العصور بل وجميع الأديان — هي موضوعات من صنف محدود وخاص؛ لذا فلنغض
عنها الطرْف، ولا عجبَ — في الوقت نفسه — أن اعتقادنا الكاذبَ بالغِنى قد أفضى بنا إلى
الفقر.
•••
(٨٦) هذا الإعجاب الذي أَوْلَاه الناس للفنون والمعارف، والذي هو في حد ذاته فجٌّ
وشبه
طفولي، قد زاده مكرُ أولئك القائمين بالعلوم وناقليها إلى الأجيال التالية، إنهم يقدمونها
إلينا بكثيرٍ من الاستعراض والتَّعَمُّل، ويعرضونها على الخلق في صورة مضلِّلة مقنَّعة
حتى
تعطينا انطباعًا بأنها تامة مكتملة من كل جانب، فلو تأمَّلت منهجَهم
٥٨ وتقسيماتهم لَبَدا لك أنها قد تضمَّنَت كلَّ ما يتصل بالموضوع واشتملت عليه،
ورغم أن هذه التقسيمات أُسيءَ ملؤها وأنها أشبه بالقِرَب الفارغة فإنها تتخذ — في نظر
الذهن
السوقي — شكلَ العلمِ الكامل ومظهرَه، أمَّا الباحثون الأوائل والأقدم عن الحقيقة، فقد
كانوا أكثر أمانةً وسدادًا بحيث صاغوا المعرفةَ التي أرادوا استخلاصَها من تأمل الأشياء،
وعمدوا إلى حفظها للاستعمال في شكل شذرات
aphorisms أو
عبارات قصيرة ومتناثرة غير موصولة معًا بمنهج اصطناعي، دون تظاهر أو ادِّعاء باشتمالها
على
أي علم كامل، ولكن وَفقًا لما صارت إليه الحال الآن فلا عجب إذا كانت الناس لا تبحث عما
يتخطَّى ما قُدِّم إليهم على أنه كاملٌ مُكَمَّل.
•••
(٨٧) اكتسبت النظرياتُ القديمةُ أيضًا دفعةً قوية لسُمعتها وصيتها من غرور وخِفة
دعاةِ
الجديد، وبخاصة في الجانب العملي والتطبيقي من الفلسفة الطبيعية، فلقد ظهَرَ الكثيرُ
من
المتحدثين السطحيين والحالمين، تدفعهم السذاجةُ من جانب والادِّعاء من جانب آخر، فأمطروا
الخَلْقَ بالوعود معلنين ومتبَجِّحين بإطالة العمر وتأخير الشيخوخة وإزالة الآلام وعلاج
العيوب الخِلقية وخداع الحواس، وفن كَبح الانفعالات وإطلاقها، وتنوير وإعلاء الملكات
الذهنية، وتحويل المواد، وتقوية الحركة ومضاعفتها بلا حدود، والطبع في الهواء والتغيير
فيه،
والتحكم في التأثيرات الفلكية واستشفاف المستقبل وتمثيل الأشياء البعيدة وكشف الأشياء
الخفية وما إلى ذلك. إن المرء لا يجانبه الصواب إذا لاحظ — فيما يتصل بهؤلاء الأدعياء
— أن
هناك فَرقًا في الفلسفة بين وعودهم الفارغة وبين العلم الحقيقي يضاهي الفرق في التاريخ
بين
مآثر قيصر
٥٩ والإسكندر ومآثر أماديس ديجول وآرثر أوف بريتين:
٦٠ فنجد أن هذين القائدين العسكريين (قيصر والإسكندر) قد اجترحا بالفعل أشياء أعظم
مما يحلم بتحقيقه هذان البطلان الخياليان (أماديس وآرثر)، ومن طريق الفعل الحقيقي لا
الفعل
الخيالي الغرائبي، ولكن ليس معنى ذلك أن نفقد الثقة بالتاريخ الحقيقي؛ لأنه شُوِّهَ أحيانًا
وانتهكته الخرافات، وفي الوقت نفسه فلا عجب إن كان الأدعياء الذين حاولوا مثل هذه الأشياء
قد أوغَروا الصدورَ ضد الاجتهادات الجديدة (وبخاصة إذا اقترنَت بذكر النتائج العملية
المنتظرة)، إذ إن غرورهم المفرِط والنفور الذي خَلَّفَه — حتى في يومنا هذا — قد دَمَّرا
كل
اعتقاد في مشاريع من هذا النوع.
•••
(٨٨) وأذًى أكبرُ من ذلك بكثير لحق بالعلوم من جراء وَهَنِ العزيمة وضآلة المشروعات
التي
اضطلعت بها الصناعة الإنسانية، والأسوأ من كل ذلك أن يأتي هذا الوهن الروحي مصحوبًا بلونٍ
معين من الغطرسة والاستعلاء.
هناك أوَّلًا مبرِّرٌ أصبح شائعًا في كل فن من الفنون، «وهو أن يحوِّل أصحابُ هذا
الفن
ضعف فنهم نفسه إلى افتراءٍ على الطبيعة، فكلما فشل فَنُّهم في تحقيق شيءٍ ما أعلنوا أن
هذا
الشيء غيرُ ممكن في الطبيعة، ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يُدانَ الفن إذا كان الفن هو
قاضي
نفسه!» وحتى الفلسفة الرائجة اليوم تطوي جوانحها على مواقفَ واعتقاداتٍ معينة الغرض منها
(إذا تأملتها جَيِّدًا) إقناعُ الناس بأنْ ليس هناك شيء من الأشياء الصعبة أو التي تنطوي
على تسخير الطبيعة وإخضاعها يمكن أن نتوقَّعه من الفن أو الجهد البشري، وقد سبق أن ضربنا
مثلًا الفرق الكيفي المزعوم بين حرارة الشمس وحرارة النار، وبين المركَّب
composition والمزيج
mixture. عند الملاحظة المتمعِّنة نجد أن كل هذا الميل إلى مثل هذه
المواقف مقصود منه تقييد القدرة البشرية وبَث اليأس من وسائل الابتكار والاختراع، ومن
شأن
ذلك ألا يُفضي فقط إلى قص أجنحة الأمل، بل إلى قطع أطناب الصناعة ومحفِّزاتها، بل إهدار
فرص
الخبرة ذاتها، كل ذلك من أجل أن يُظهِروا فنهم الخاص بمظهر الكمال، ومن أجل الادِّعاء
المتغطرس الموبِق بأن كل ما لم يُكتشَف بَعدُ ويُفهَم فلا ينبغي أن ننتظر أن يُكتشَف
أو
يُفهَم في المستقبل، وحتى إذا حاول أي شخص أن يكرِّس نفسه للأشياء ويكتشف شيئًا ما جديدًا
فلن يزيد على أن يبحث بدقة وتفصيلٍ اكتشافَ شخصٍ آخر، فيبحث في أشياء من قبيل طبيعة
المغناطيس أو الجزر والمد أو النظام الفلكي وما إلى ذلك، والتي تبدو خفيةً إلى حدٍّ ما،
وما زالت تُبْحَت حتى الآن دون تقدُّم يُذكَر: «إنه لمن الخَرَق والرعونة أن تجهد في
دراسة
الشيء الواحد على حِدَة، فالطبيعة التي تبدو كامنةً وخفيةً في بعض الأشياء تكون ظاهرة
ومفهومة في أشياء أخرى، والتي تُثير الاستغراب في الحالة الأولى لا تكاد تجذب الانتباه
في
الحالة الثانية.»
٦١
ذلك هو الحال في طبيعة «القوام»
consistency الذي لا نقف
عنده في حالة الخشب والصخر، بل نشير إليه إشارةً عابرةً على أنه «صلب» دون مزيد من البحث
عن
مقاومته للانفصال أو لانهيار مُتَّصليَّته
continuity،
بينما في حالة فقاعات الماء فالشيء نفسه يبدو أكثر دقةً ورهافة؛ لأنها تلف نفسَها في
طبقات
رقيقة متشكلة على نحوٍ غريبٍ في هيئة كرة، حتى تتجنب — للحظةٍ — انهيار متصليتها.
٦٢
وبصفة عامة فإن الأشياء التي تُظَن خفيةً ملغَزة لديها طبيعة مفتوحة مشاع في حالات
أخرى،
ولن يتسنى لأحد الاطِّلاع عليها إذا اقتصر بحث الناس على الأشياء بمعزلٍ وعلى حِدة، غير
أن
الناس دأبوا كلما أضاف أحدٌ في الأعمال الميكانيكية لمسةً نهائيةً أكثر رهافةً على أشياء
مكتشفة منذ زمان، أو يزينها بأناقة أكثر، أو يضم أشياء معًا ويدمجها، أو يجعلها أسهل
في
الاستخدام، أو يعرضها في نماذج أكبر أو أصغر أو أخف … إلخ، دأبوا على أن يَعُدوا ذلك
اكتشافًا جديدًا!
ليس عجيبًا إذن ألا تظهر إلى النور اكتشافاتٌ عظيمةٌ تَليق ببني الإنسان، ما دام الناسُ
قد قَنَعوا ورَضوا بهذه المهمات التافهة الصبيانية، بل توهموا أنهم بذلك كانوا يسعون
إلى
هدفٍ عظيمٍ أو يحققونه.
•••
(٨٩) ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الفلسفة الطبيعية كان لها خصمٌ مزعجٌ وعنيدٌ في كل عصر
ألا
وهو الخرافة والحماس الأعمى والمتطرف للدين، فنحن نرى بين اليونان أن أولئك الذين كشفوا
العِللَ الطبيعية للرعد والعواصف — لأول مرة — لأناسٍ لم يسمعوا قَط عن هذا الشيء قد
أُدينوا بالكفر،
٦٣ كما أن معاملة بعض آباء الكنيسة الأوائل لم تكن أفضل حالًا مع أولئك الذين
أثبتوا بأوثق البراهين (بحيث لا يَعترِض عاقلٌ عليها الآن) أن الأرض كروية، وبالتالي
أكدوا
وجود النقاط المتقابلة
antipodes.
٦٤
وحتى في الوضع الحالي فإن الحديث عن الطبيعة قد غدا أصعب وأخطر بسبب الخلاصات ومناهج
العَرض
٦٥ التي وضعها اللاهوتيون السكولائيون، الذين بعد أن رَدُّوا اللاهوتَ إلى نظام
مُطَّرِد قدرَ استطاعتهم، وصَبُّوه في شكل علم، راحوا يمزجون فلسفةَ أرسطو الشائكة
والخلافية بجوهر الدين أكثر مما ينبغي.
ونفسُ الميل تَبَدَّى — وإنْ بطريقة مختلفة — في رسائل أولئك الذين لم يتورَّعوا عن
استنباط وتأييد صدق الدين المسيحي من مبادئ الفلاسفة وسلطتهم، وهلَّلوا لزواج الإيمان
والعقل كما لو كان شرعيًّا، وفتنوا عقول الناس بتنويعةٍ سارةٍ من الأشياء، إلا أنهم في
الوقت نفسه خلطوا الأشياء الإلهية بالأشياء البشرية وهو اتحادٌ غير متكافئ، ليس في هذه
الأخلاط اللاهوتية الفلسفية مكانٌ إلا لما هو مقبولٌ سائدٌ في الفلسفة، أمَّا المذاهب
الجديدة — وإن تكن تغييرات إلى الأفضل — فلا تُقابَل إلا بالرفض والاستبعاد.
أخيرًا سوف تجد أن بعض اللاهوتيين في جهلهم يُوصِدون تمامًا كلَّ منفذٍ إلى الفلسفة
مهما
نُقِّحَت، فبعضهم يحمله ضَعْفُه على التوجس من البحث المتعمق في الطبيعة خشية أن يتجاوز
الحدود المسموح بها للفهم الرصين، وهم يُسيئون تفسيرَ ما يقوله الكتابُ المقدس — في حديثه
عن الأسرار الإلهية — ضد التحديق في أسرار الرب، ويطبقونه خَطًّا على أسرار الطبيعة التي
هي
غير محظورة بأي تحريم، والبعض الآخر — بمكرٍ أكبر — يخمنون ويتخيلون أنه إذا كانت العلل
الوسطى غير معلومة فمن الممكن أن تُعزَى الأحداثُ المُفرَدةُ بسهولةٍ أكبر إلى يد الرب
وعصاه (وهو في ظنهم شيء في مصلحة الدين بدرجة عظيمة): هذه — ببساطة — محاولة «لإرضاء
الرب بكِذبة»،
٦٦ والبعض يخشى من مثال سابق أن الحركات والتغيرات في الفلسفة سوف تنتهي إلى غزو
الدين، وأخيرًا هناك مَنْ يبدو مُتخوِّفًا من أن تُفضي دراسة الطبيعة إلى اكتشافٍ ما
يطيح
بالدين أو يهز سلطته على الأقل وبخاصة بين الجهلاء، والخوفان الأخيران أتشمَّم فيهما
رائحةَ
حكمةٍ جسديةٍ، وكأن الناس أحست في أعماق عقلها وفي سرائرها شكًّا في قوة الدين وهيمنة
الإيمان على العقل؛ فتملَّكها الخوف وأحست أنها مهدَّدة من بحث الحقيقة في الطبيعة، ولكن
إذا وضعت الأمر في نصابه الصحيح فإن الفلسفة الطبيعية — بعد كلمة الرب — هي أقوى علاج
ضد
الخرافة، وأَسْلَم غذاء للإيمان؛ لذا فقد استحقَّت أن تُقدَّم للدين بوصفها أخلصَ خَدَمِه،
إذ إن أحدهما يُظهر إرادة الرب، والآخر يُظهِر قدرتَه، ولم يجانب الصواب مَنْ قال: «تضلون
إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله.»
٦٧ تمزجون بذلك وتخلطون الوحيَ المتعلق بإرادته والتأملَ المتعلق بقدرته، ولا عجب
أن تَقَدُّمَ الفلسفة الطبيعية قد أُوقِفَ منذ اختُطِفَ الدين — أكبر قوة مؤثرة على عقل
البشر — بواسطة جهلِ البعض وحماستهم الهوجاء، وحُمِلَ على أن ينضم إلى جانب العدو.
•••
(٩٠) فإذا التفتَّ إلى تقاليد ونظم المدارس والجامعات، وما إليها من مؤسسات قُصِدَ
بها أن
تكون مُقامًا للعلماء وسببًا إلى تقدم المعرفة، وجدت كلَّ شيء مناوئًا لتقدم العلوم.
ستجد
أن المحاضرات والتدريبات مصمَّمةٌ بحيث لا يخطر لأي شخص أن يفكر أو ينظر في أي شيء خارج
المضمار الاعتيادي،
٦٨ فإذا ما خطر لأحدٍ أن يستعمل حريتَه في الحكم فعليه أن يركَن إلى نفسه ولن يجد
له مُعينًا من زملائه، فإذا تَجشَّمَ ذلك فسوف يجد اجتهادَه واتساع أفقه عبئًا عليه في
مسعاه العلمي؛ ذلك أن دراسات الناس في هذه الأماكن مقصورة ومحصورة في كتابات مؤلفين بعينهم،
وإذا جَرُؤ أيُّ شخص على مخالفتهم فإنه يُهاجَم للتو بوصفه ثوريًّا مثيرًا للقلاقل. على
أن
هناك بالتأكيد فارقًا كبيرًا بين الأمور المدنية السياسية والأمور الفنية أو العلمية
من حيث
حجم الخطر الناجم عن التجديد في كل من الحالتين، أمَّا في الأمور السياسية فحتى التغيير
إلى
الأفضل يُعَد مُقلقًا نظرًا للاضطراب الذي يثيره؛ ذلك أن السياسة تقوم على السلطة والاتفاق
والصيت والرأي، ولا تقوم على البرهان، وأمَّا في الفنون والعلوم — كما في المناجم — فإن
كل
شيء يجب أن يعجَّ بأعمالٍ جديدة وتَقَدُّم جديد، هذا ما يجب أن يكون — وفقًا للعقل السليم
—
وليس ما هو كائن في واقع الحال. إن ما هو قائمٌ في عملية إدارة العلم وتسييره من شأنه
أن
يعيقَ تقدم العلم بدرجة خطيرة.
•••
(٩١) وحتى لو توقَّفَت هذه المناوأة الغيورة، فسوف يتكفل بوقف نمو العلم أن تمضي هذه
المحاولات والاجتهادات دون إثابة؛ ذلك أن تنمية العلوم وتمويلها ليسا في يد واحدة: نمو
العلوم يأتي بالضرورة من عقولٍ كبيرة، أمَّا المنح والاعتمادات فهي في أيدي العامة أو
الوجهاء وهُم بالكاد (باستثناءات قليلة جِدًّا) متوسطو الثقافة، بل إن هذا النوع من التقدم
ليس فقط محرومًا من التمويل والإغداق من جانب أفراد بل محرومًا أيضًا من التقدير والتمجيد
من جانب العامة؛ ذلك أنه فوق فهم الأغلبية من الناس، وعُرضةٌ للانسحاق والانطفاء بعواصف
الرأي العام، ولا عجب أن ما لا يُمَجَّدُ لا يزدهر.
•••
(٩٢) غير أن أكبر عقبة على الإطلاق أمام تقدم العلوم وفتح ارتيادات وآفاق جديدة فيها
إنما
تكمن في اليأس البشري وانقطاع الرجاء، فأصحاب المزاج الرصين الحذِر من الناس يميلون إلى
فقدان الثقة تمامًا بإزاء هذه الأمور، إذ يتأملون في أنفسهم استغلاقَ الطبيعة وقِصَر
العمر
وخداعَ الحواس وضعفَ ملكة الحكم وصعوبةَ التجربة وما إلى ذلك؛ ولذا يفترضون أن هناك نوعًا
من الجَزْر والمد في المعرفة عبر انعطافات الزمن وعبر العصور، إذ تنمو المعرفة وتزدهر
في
فترات معينة، وتنحدر وتذبل في فترات أخرى، ودائمًا تخضع لهذا القانون: إنها إذا ما وصلت
مستوًى وحالة معينة فلا يمكنها أن تمضي أبعد من ذلك.
وعليه فإذا اعتقد شخصٌ أو وَعَدَ بأكثر من ذلك فإنهم يَرَون أن هذا علامة على عقلٍ
منفلتٍ
غير ناضج، وأن مثل هذه المحاولات أوَّلُها مُبهجٌ وأوسطُها مُجهِدٌ وآخرُها خَلط، وحيث
إن
هذه الأفكار سريعة الولوج إلى عقول ذوي الرصانة والحكمة من الناس، فإن واجبنا أن نَحْذَر
من
أن يأسرنا حبنا لما هو أنبل وأجمل، وأن نتريَّث ونخفف من غلوائنا! وأن نتمعَّن أي شعاع
من
الأمل يتسلَّل إلينا، ومن أي اتجاه يأتي، وأن نرفض النفحات الأخف من الأمل فيما نحن نحلل
ونزن بدقة تلك التي تبدو الأصح والأقْوَم. علينا أيضًا أن نتذرَّع في نصحنا بحصافة سياسية
دأبها التحرُّز وتوَقُّع الأسوأ في كل الشئون البشرية؛ لذا فإن عليَّ الآن أن أتحدث عن
الأمل، وبخاصة أنني لا أنجرف إلى وعودٍ براقة، ولا أريد أن أصادر على أحكام الناس ولا
أن
أنصب لها الفخاخ، بل أن أقودهم طواعيةً بملء إرادتهم، ولعل أقوى علاج على الإطلاق لِبَث
الأمل هو أن أقودهم إلى الجزئيات، وبخاصة كما هي ملخصة ومرتبة في قوائمي الكشفية (يدرج
هذا
الموضوع جزئيًّا في الجزء الثاني من «الإحياء» Instauration ولكنه يندرج بالدرجة الأساس في الجزء الرابع)، فهي ليست مجرد
أمل بل الشيء ذاته. على أن واجبي لكي أفعل كل ذلك بتلطف أن أمضي في خطئي لإعداد عقول
الناس،
وإن نَشَر الأمل ليس بالجزء الهيِّن من هذا الإعداد، فبدونه يكون كل ما قلته أدعى إلى
الأسى
منه إلى حفز النشاط وإحياء الهمة إلى التجربة، إذ يُخيِّب ظنَّهم في الأشياء، ويُقوِّي
إدراكهم وشعورهم ببؤس حالهم، ومِنْ ثَمَّ فإن عليَّ أن أكشف عن حدوسي التي تُبرِّر الأمل
في
النجاح، وأن أضع ذلك في الصدارة، تمامًا كما فعل كولمبس قبل رحلته المدهشة عبر الأطلنطي،
إذ
أبدى أسباب ثقته بإمكان العثور على أراضٍ وقارات جديدة وراء تلك المعروفة من قبل، وهي
أسبابٌ قوبِلَت بالرفض في البداية، إلا أن التجربة اللاحقة أيدتها، فغَدَت سببًا وبدايةً
لأمورٍ عظيمةٍ.
•••
(٩٣) ينبغي أن نبدأ من الرب، إذ إن عملنا — بما يتضمنه ويتصف به من خير عميم — هو
بداهةً
من الرب، الذي هو مصدر الخير وأبو الأنوار، وفي أعمال الرب فإن البدايات مهما كانت ضئيلة
تُفضي يقينًا إلى غايتها، ومثلما يُقال في الأمور الروحية: إن «مملكة الله لا تأتي من
الملاحظة.»
٦٩ فإن ذلك يَصدُق أيضًا في كل الأعمال العظيمة للعناية، بحيث يسير كل شيء يسيرًا
هيِّنًا دون خلط أو ضجيج، ويتم الأمر قبل أن يعي الناس أنه بدأ، ولا يفوتنا أن نذكر نبوءة
دانيال عن الأيام الأخيرة للعالم: «كثيرون سيروحون ويجيئون والمعرفة ستزداد.»
٧٠ بما يومئ — بوضوح — إلى أن القَدَر (أي العناية) سيَقضي بأن الإحاطة بالعالم
(التي تبدو بعد كثير من الرحلات الطويلة أنها اكتملت أو في سبيلها إلى الاكتمال) وازدياد
المعرفة سيحدثان في نفس الحقبة.
•••
(٩٤) والآن نأتي إلى أهم سببٍ يدعونا إلى الأمل،
وهو مستفادٌ من أخطاء الماضي، ومن الطرق التي جُرِّبَت حتى هذه اللحظة، ثمة تأنيبٌ وجيهٌ
بَدَرَ ذات يوم من شخصٍ ما على الإدارة السيئة لأحد المواقف السياسية إذ يقول: «إن الشيء
الأسوأ بالنسبة للماضي ينبغي أن يُعتبَر الأفضل للمستقبل؛ لأنك إذا كنتَ قد عملتَ كلَّ
ما
يقتضيه واجبُك ولم ينصلح أمرُك فلا أمل لك في إمكان انصلاحه، أمَّا وقد تعسَّر حالُك،
لا
بسبب قهر الظروف، بل بسبب أخطائك أنت، فإنه لمن دواعي الأمل أنك إذا تجنبت هذه الأخطاء
أو
قوَّمتَها فإن تغيُّرًا عظيمًا إلى الأفضل حقيقٌ أن يحدث.» وبنفس الطريقة، فلو أن الناس
طوال هذه الأحقاب قد لزموا الطريق الصحيح إلى الكشف وإلى نمو العلوم وعجزوا مع ذلك عن
تحقيق
تقدم أكثر مما أحرزوه، هنالك يكون من التوقح والطيش أن نقول بأن بالإمكان أن يحرزوا المزيد،
أمَّا إذا كانوا قد ضلُّوا الطريق وبدَّدوا جهدَهم فيما لا طائل من ورائه؛ لتبيَّنَ من
ذلك
أن مكمن الأزمة ليس في الأشياء ذاتها (وذاك شيءٌ ليس لنا به يد)، بل في الفهم البشري
واستخدامه وتطبيقه، وذاك شيء قابل للعلاج والشفاء؛ لذا فإن أفضل شيء هو أن نُبين ما هي
هذه
الأخطاء؛ لأن كل خطأ كان يشكل عقبة في الماضي هو داعٍ من دواعي الأمل في المستقبل، ورغم
أننا ألمحنا إلى هذه الأخطاء سابقًا، فمن الملائم أيضًا أن نُفرِدها هنا بطريقة مختصرة
واضحة بسيطة.
•••
(٩٥) هناك فصيلان من الذين تناولوا العلوم: أهل التجربة وأهل الاعتقاد،
٧١ أهل التجربة أشبه بالنمل، يجمعون ويَستعملون فحسب، وأهل العقل أشبه بالعناكب،
تغزل نسيجها من ذاتها، أمَّا النحلة فتتخذ طريقًا وسطًا بين الاثنين، تستخلص مادةً من
أزهار
البستان والحقل، غير أنها تحوِّلها وتهضمها بقدرتها الخاصة، وعملُ الفلسفة الحقيقي لا
يختلف
عن هذا، فهي لا تعتمد على قوتها العقلية وحدها، ولا تختزن المادة التي يقدمها التاريخ
الطبيعي والتجارب الميكانيكية في ذاكرتها كما هي، بل تُغيرها وتُعمِل فيها الفكر، ومِنْ
ثَمَّ فإننا نأمل الكثير من خلال اتحاد هاتين الملكتين (التجريبية والعقلية) اتحادًا
أوثق
وأصفى مما تم لهما حتى الآن.
•••
(٩٦) ليس لدينا حتى الآن فلسفةٌ في حالةٍ خالصةٍ، بل لدينا فلسفة طبيعية مَشوبة ومُفسَدة:
مفسدة في فلسفة أرسطو بالمنطق، وفي فلسفة أفلاطون باللاهوت الطبيعي، وفي المدرسة
الأفلاطونية الثانية — عند بروكلوس
٧٢ وغيره — بالرياضيات، التي عليها أن تضع حدودًا فحسب للفلسفة الطبيعية، لا أن
تُنشِئها أو تخلقها، إنما الأمل في نتائج أفضل معقودٌ على فلسفة طبيعية خالصة غير
مُشوبَة.
•••
(٩٧) لم يوجد أحد حتى الآن هو من صحة العزم وصرامة الفكر بحيث أخذ نفسَه بأن يَنفُض
عنه
جميع النظريات والأفكار الشائعة، ويستخدم عقله من جديد — مطهَّرًا نزيهًا — في دراسة
الجزئيات، هكذا تأتَّى أن يكون الفهمُ البشري الذي لدينا مجرد خليط مضطرب وكتلة فجة مجبولة
من كثير من السذاجة والمصادفة والأفكار الطفولية التي تشرَّبنا فيها صِغَرنا.
ولكن إذا جاء شخص ناضج السن، ذو فهم غير مُعاق وعقل مُبرَّأ من التحيز، وانكبَّ من
جديد
على الخبرة والجزئيات، فإن آمالًا أكبر ستنعقد عليه، وفي هذه المهمة أبشر نفسي بمصير
مماثل
للإسكندر الأكبر، ولا يتهمني أحد بالغرور حتى يسمع القصة؛ لأن الشيء الذي أعنيه يهدف
إلى
محو كل غرور. يتحدث إسكينيز
Aeschines٧٣ عن الإسكندر ومآثره هكذا: «نحن بالتأكيد لا نعيش حياة الفانين، بل وُلِدنا
لهذا: لأن تتحدث عَنَّا الأجيالُ القادمة وتُشيد بمعجزاتنا.» كما لو أنه يَعُد بطولات
الإسكندر إعجازية، إلا أنه في العصر الذي تلا هذا نظر تيتوس ليفيوس إلى المسألة نظرةً
أفضل
وأعمق، قائلًا في الإسكندر ما معناه: «لم يفعل شيئًا أكثر من أنه كانت لديه الشجاعة لاحتقار
التوافه.» وأحسب أن الحكم نفسه سوف ينسحب عليَّ في العصور القادمة: أنني لم أفعل أشياء
عظيمة، بل — ببساطة — أسبغتُ قيمةً أقل على الأشياء التي تُعَد مهمة، في الوقت نفسه —
كما
قلت آنفًا — لا أمل إلا في ميلاد جديد للعلم، أي تشييده باطراد من الخبرة وبنائه من جديد،
الأمر الذي لن يجرؤ أحد (في اعتقادي) على الجزم بأنه قد عُمِلَ حتى الآن أو خَطَرَ
ببال.
•••
(٩٨) أمَّا عن أسس الخبرة (إذ ينبغي أن نركز التفكير عليها) فقد ظلت حتى الآن إما
لا وجود
لها أو ضعيفة جِدًّا، ولم يحاول أحد، أو يتم له، الحصول على مجموعة أو مخزونٍ من الجزئيات
حقيقٍ من حيث العدد أو النوع أو الوثوق أن يزود العقل بمعلومات، أو وافٍ على أي نحو من
الأنحاء، إذ على العكس من ذلك تَقَبَّل أهلُ العلم (الكسالى الخاملون في الحقيقة) — في
بناء
فلسفتهم وتأييدها — روايات عن الخبرة أشبه بالإشاعات والأراجيف وأعطوها وزنَ الأدلة
المشروعة، ولك أن تتخيل مملكةً أو دولة تُسَيِّر مستشاريها وشئونها بناءً على أقاويل
الشارع
لا بناءً على خطابات وتقارير من السفراء والمراسلين ذوي المصداقية، هذا بالضبط هو نوع
الإدارة الذي أُدخِلَ في الفلسفة فيما يتعلق بالخبرة، لا يحتوي التاريخُ الطبيعي على
شيء تم
بحثه كما ينبغي، لا شيء محقَّق، لا شيء مُحْصَى، لا شيء موزون، لا شيء مقيس، وكل ما غمضَ
والتَبَسَ كملاحظة فهو خادعٌ ومُضلِّلٌ كمعلومة، ومَنْ يستغرب هذا القول ويظنه شكوى غير
منصفة (فأرسطو — وهو نفسه رجل عظيم جِدًّا ومدعوم من ملك عظيم جِدًّا — ألَّف تاريخًا
دقيقًا للحيوان، وغيره ممن يعملون بجد أكثر وصخب أقل قد أضافوا إضافات كثيرة، وسواهم
قد
ألَّفوا تواريخ ضافيةً وملاحظات عن النباتات والمعادن والمتحفرات)، مَنْ يَقُل ذلك فهو
لم
يفهم ما نحن بصدده على نحوٍ صحيح، فرق بين تاريخ طبيعي مؤلَّف من أجل ذاته وبين تاريخ
طبيعي
يُحصَّل لتزويد الذهن بمعلومات من أجل أن يؤسس فلسفة، فهُما يختلفان من وجوه عديدة، ولكن
أهم وجوه الاختلاف أن الأوَّل يحوي تنويعات الأجناس الطبيعية فحسب بدون تجارب الفنون
الميكانيكية، ومثلما أنه في مجال السياسة لا تنكشف شخصيةُ الإنسان الحقيقية وخفايا عقله
وطوايا ضميره إلا عندما يكون في أزمة، كذلك الحال مع الطبيعة: إن أسرار الطبيعة تكشف
عن
نفسها تحت مشاكسات الفن أسرع مما تكشف إذا تُرِكَت لحال سبيلها، ومِنْ ثَمَّ فنحن لا
نؤمِّل
في فلسفة طبيعية إلا بعد أن يُجمَع التاريخ الطبيعي (الذي هو قاعدتها وأساسها) على نحوٍ
أفضل، وليس قبل ذلك.
•••
(٩٩) ومع وفرة التجارب الميكانيكية فقليلة جِدًّا هي
التجارب التي تُضيء الفهمَ وتُعينه على أفضل نحو، فالفني الميكانيكي — الذي لا يعنيه
بحال
استكشاف الحقيقة — قلما يوجِّه ذهنَه أو يمد يده إلى أي شيء غير ذي نفع له في عمله، غير
أن
تقدُّم العلوم لا أمل في أن يتحقق ما لم يكتسب التاريخ الطبيعي ويراكِم الكثيرَ من التجارب
التي هي غير ذات نفع في ذاتها، ولكنها — ببساطة — تساعد على اكتشاف العلل والمبادئ
(القوانين)، وقد أطلقت على هذه التجارب
Experimenta
Lucifera (تجارب النور، التجارب المضيئة)؛ لأميزها عن تلك التي أسميها
Expermenta Fructifera (تجارب الثمار، تجارب المنفعة
والنتائج)، لمثل هذا النوع من التجارب خاصية وطبيعة مدهشة، إنها لا تخدع ولا تخيب على
الإطلاق، فلما كانت تُجرَى لا لتحصيل ثمرة ما بل لكشف العلة الطبيعية لشيء ما، فإنها
تلبي
الغاية منها بنفس القدر أيًّا كان ما تُسفِر عنه ما دامت قد حسمت السؤال.
٧٤
•••
(١٠٠) ولكن إذا كان علينا أن نبحث عن مخزون أكبر من التجارب ونحصل عليه، وعن تجارب
من صنف
مختلف عما أجريناه حتى الآن، فإن لِزامًا علينا أيضًا أن نُدخِل منهجًا مختلفًا تمامًا
ونظامًا وعمليةً لمواصلة الخبرة والتقدم بها، فالخبرة التي تُترَك لتجول في مضمارها مُرخاةَ
العنان هي مجرد تَحسُّس في الظلام (كما قلنا آنفًا)، وهي تُدهش ولا تُخير، أمَّا عندما
تمضي
الخبرة قُدُمًا بقواعد محدَّدة
٧٥ بنظام مطرد ودون انقطاع، سيكون لنا أن نعقد آمالًا أكبر على العلوم.
•••
(١٠١) ولكن حتى بعد أن نحصل على هذا المخزون، من التاريخ الطبيعي والخبرة، الضروري
لعمل
الفكر أو للعمل الفلسفي، يظل الفكر عاجزًا تمامًا عن أن يشتغل على هذه المادة بنفسه
وبالاتكاء على ذاكرته، فشأنه في هذا كشأن مَنْ يريد أن يستظهر حسابات روزنامة ويحتفظ
بها في
ذاكرته، ورغم ذلك فما زال التأمل يقوم حتى الآن بدور أكبر من دور التدوين (التسجيل) في
أعمال الاستكشاف، ولم تُدوَّن تجارب حتى الآن في صحائف، غير أن علينا ألا نقبل بأي طريقة
للكشف بغير تدوين، وحين يَدخل في الكشف نظامُ التدوين، وتتعلَّمُ الخبرة أن تقرأ وتكتب،
سيكون لنا أن نعقد آمالًا أكبر.
•••
(١٠٢) وفضلًا عن ذلك، فما دام هناك عددٌ هائلٌ وجيشٌ من الجزئيات، وما دام هذا الجيشُ
مبعثرًا منتشرًا بطريقةٍ تُشتِّت الفهمَ وتربكه، فلا ينبغي أن نأملَ كثيرًا في المناوشات
والتحرشات الضئيلة والحركات العابرة المضطربة من جانب الفكر، ما لم نُنَظِّم كل الجزئيات
التي تتعلق بموضوع البحث ونَصُفَّها بواسطة قوائم للكشف ملائمةٍ وجيدةِ التنظيم ومفعمةٍ
بالحياة (إن شئت)، فيشرع العقل عندئذٍ في العمل على هذه الخلاصات المنظَّمة من الوقائع
التي
تقدمها هذه القوائم.
•••
(١٠٣) ولكن بعد أن نكون قد وضعنا أمام أعيننا هذا المخزون من الجزئيات على النحو
المنظم
القويم، ينبغي ألا نمضي مباشرةً إلى بحث واستكشاف جزئيات أو أعمال جديدة، أو على الأقل
إذا
فعلنا ذلك فينبغي ألا نقرَّ هناك قانعين بذلك، فرغم أننا لا ننكر أنه بعد أن تُوضَع جميعُ
التجارب لجميع الفنون وتُنظَّمَ وتُتاحَ أمام ملاحظة وحكم شخصٍ واحدٍ يكونُ انتقالُ التجارب
من فن لآخر سببًا لاكتشاف أشياء جديدة من شأنها أن تفيد المجتمع والجنس البشري من خلال
ما
أسميه literate experience (الخبرة الكتابية/المتعلَّمة/غير
الأمية)، رغم ذلك فلا يؤمَّل من هذا إلا نتائجُ متواضعة. أمَّا الشيء الأهم فإنما يأتي
من
الضياء الجديد من المبادئ (القوانين/القضايا) التي تُستنبَط بمنهجٍ وقاعدةٍ وثيقين من
الجزئيات المذكورة، والتي قد تشير بدورها إلى جزئيات جديدة، ذلك أن طريقنا لا يمضي عبر
سهلٍ
مستوٍ، بل يُنْجِد ويُتْهِم، صاعدًا أوَّلًا إلى المبادئ ثم هابطًا إلى النتائج.
•••
(١٠٤) ولكن علينا ألا نسمح للفهم بأن يقفز ويطير من الجزئيات إلى المبادئ القصية
والشديدة
العمومية (كتلك التي تُسَمَّى «المبادئ الأولى» للفنون والأشياء)، ثم ينطلق منها — مسلِّمًا
بيقينها الذي لا يتزعزع — ليبرهن بها على المبادئ الوسطى ويُفَصِّلها، وهو المتَّبَع
حتى
الآن، إذ إن العقل ميالٌ بطبعه لأن يفعل ذلك، بل هو مُدرَّبٌ عليه ومعتاد من خلال نموذج
البرهان «القياسي» syllogistic، ولكننا لا نأمل خيرًا من
العلوم إلا عندما ننتقل على سُلَّمٍ أصيلٍ صاعدٍ بدرجاتٍ متتاليةٍ بلا ثغرات أو كسور،
من
الجزئيات إلى المبادئ الصغرى، ثم إلى المبادئ الوسطى، الواحد تلو الآخر، انتهاءً بالمبادئ
الأعم، ذلك أن المبادئ الدنيا غيرُ بعيدة من الخبرة الخام، والمبادئ العليا (كما هي
متصوَّرة حاليًّا) تصورية ومجردة وتفتقر إلى الصلابة، إنما المبادئ الوسطى هي الصادقة
السليمة الحية التي تقوم عليها الشئون البشرية والمصائر البشرية، وأيضًا المبادئ التي
فوقها، وهي حقًّا الأكثر عمومية على أنها عندي غير مجردة بل محدودة بالمبادئ الوسطى.
لذا ينبغي ألا نُزوِّد الفهمَ البشري بأجنحة، بل بالأحرى بأثقالٍ مُدلاةٍ حتى نَعقِلَه
عن
الوثوب والطيران، وهذا ما لم يُعمَل حتى الآن، وعندما يُعمَل سيكون لنا في العلوم أملٌ
أكبر.
•••
(١٠٥) في عملية تكوين المبادئ،
٧٦ ينبغي أن نبتكر شكلًا آخر من الاستقراء غير المستخدَم حتى الآن، وينبغي أن
نستعمله لإثبات واكتشاف لا «المبادئ
الأولى»
first principles (كما يُطلَق عليها) فحسب بل المبادئ الصغرى
٧٧ أيضًا والوسطى وجميع المبادئ في الحقيقة؛ ذلك أن الاستقراء الذي ينطلق من
التعداد البسيط هو شيء طفولي، استنتاجاته قلِقةٌ وعُرضةٌ للخطر من أي شاهدٍ مضاد، وهو
—
بصفة عامة — يحكم بناءً على عددٍ صغيرٍ جِدًّا من الوقائع، وعلى تلك الوقائع المتوافرة
فحسب، أمَّا الاستقراء الذي نريده من أجل اكتشاف العلوم والبرهنة عليها فينبغي أن يحلل
الطبيعة بواسطة عمليات نبذٍ واستبعادٍ مناسبة، وعندئذ بعد عددٍ كافٍ من السوالب يصل إلى
استنتاج عن الأمثلة الموجبة، وذاك شيء لم يُعمَل حتى الآن بل لم يُحَاوَل، باستثناء أفلاطون
الذي استخدم حقًّا على الشكل من الاستقراء إلى حدٍّ ما بغرض تمحيص التعريفات والأفكار،
ولكن
لكي نُهيئ هذا الاستقراء أو البرهان لعمله تهيئةً جيدةً ومناسبةً: ثمة أشياء كثيرة جِدًّا
يجب تقديمها، والتي لم يفكر فيها أحدٌ من الخَلق حتى الآن، حتى إننا سيلزمنا بذل جهد
فيه
أكبر مما بُذِلَ حتى الآن في القياس،
٧٨ وهذا النوع من الاستقراء يتعين استخدامه ليس فقط لاكتشاف المبادئ، بل أيضًا
لتكوين المفاهيم، وإنما على هذا الاستقراء ينعقد أملُنا الأكبر.
•••
(١٠٦) ولكن في عملية تكوين المبادئ بواسطة هذا النوع من الاستقراء يتعين علينا أيضًا
أن
ندرس ونتفحص ما إذا كان المبدأ المتكوِّنُ مُفضَّلًا على مقاس تلك الجزئيات فحسب التي
استُمِدَّ منها، أم هو أكبر من ذلك وأوسع مجالًا، فإذا كان ذا مجال أكبر وأوسع فإن علينا
أن
ننظر هل يقدم هذا المبدأ تأييدًا لهذا المجال الأعرض — كما بنوع من الضمانة الإضافية
— بأن
يدلنا على جزئيات جديدة، بحيث لا نكون متشبثين فقط بأشياء معروفة أصلًا، ولا قابضين بِطَيشٍ
على ظلالٍ وأشكالٍ مجردة لا على أشياء صلبة مقوَّمة في المادة، وعندما نسلك في عملنا
هذا
المسلك، هنالك سيكون لدينا ما يدعونا إلى الأمل الحقيقي.
•••
(١٠٧) وهنا أيضًا نكرر ما قلناه آنفًا
٧٩ عن مد نطاق الفلسفة الطبيعية لتستوعب داخلها العلومَ الجزئية، ورد العلوم
الجزئية إلى الفلسفة الطبيعية، بحيث لا تَنْبَتُّ أفرعُ المعرفة عن الجذع، فبِغَير هذا
لا
نتوقع أي تقدُّمٍ يُذكَر.
•••
(١٠٨) هكذا تكون الملاحظات التي نريدها، من أجل أن نمحو اليأس ونُحيي الأمل بالتخلي
عن
أخطاء الماضي أو تصحيحها، والآن علينا أن ننظر إن كان ثمة أي دواعٍ أخرى للأمل، وسرعان
ما
يخطر لنا هذا الخاطر: إذا كانت هناك اكتشافاتٌ كثيرةٌ نافعةٌ قد وقعت لبني الإنسان من
طريق
المصادفة أو الظروف، وبدون دراسةٍ أو انتباهٍ من جانبهم، فلا بد بالضرورة أن نُسلِّم
بأن
اكتشافاتٍ أكثر بكثيرٍ قَمِينةٌ بأن تظهر إلى النور من طريق البحث والانتباه إذا ما تَمَّا
باطراد ونظام، وليس بتسرُّع وتَقَطُّع، فرغم أنه يحدث بين الحين والحين أن يقع شخصٌ
بالمصادفة على شيءٍ ما سَبَقَ أن تمنَّع على جهوده الكبيرة وتحقيقاته المضيئة، إلا أن
الحال
بغير شك هو العكس بصفة عامة؛ ولذا فإن لنا أن نأمل من العقل الإنساني والكد والمنهج
والتطبيق أكثرَ مما نأمله من الصدقة والغريزة الحيوانية الصرف وما شابه ذلك، والتي كانت
هي
مصدر الاكتشاف حتى هذه اللحظة.
•••
(١٠٩) وسبب آخر من أسباب الأمل: أن بعض الاكتشافات التي تمَّت فيما مضى لم تكن لتخطر
على
بال أحد، بل كان أيُّ شخصٍ حقيقًا بأن يرفضها — ببساطة — كشيء مستحيل؛ ذلك أن الناس قد
اعتادت أن تستشفَّ ما هو جديد من خلال مثال مما هو قديم، وبخيالٍ مسكونٍ بالقديم ومصطبغٍ
به، وتلك طريق مغالِطَة للغاية في تكوين التصورات، فالتيارات المستمَدَّة من منابع الطبيعة
لا تتخذ دائمًا المجرى القديم.
فلو أن واحدًا قبل اختراع المدفع وصف هذا الشيء بتأثيراته، وقال مثلًا: إن ثمة اكتشافًا
جديدًا يمكن بواسطته زعزعة أقوى الحصون والأسوار وتدميرها من مسافة بعيدة، من المؤكد
أن
الناس عندئذٍ ستشرع في التفكير في طرائق زيادة قوة المنجنيق ومُعَدَّات الحصار بواسطة
الأثقال والعجلات وما شابه من آليات الرجم والقذف، أمَّا فكرة ريح نارية تتمدد فجأة وبعنف
وتنفجر، تلك فكرة ما كانت لتَرِد في تصوُّرِ أحدٍ أو خياله؛ ذلك أنه لم يشهد بنفسه شيئًا
شبيهًا بذلك في حياته، ربما باستثناء زلزال أو صاعقة، وهي أشياء قمينة بأن يستبعدها الناسُ
على الفور باعتبارها خوارقَ أو غرائب الطبيعة التي لا يمكن أن يحاكيها البشر.
وبنفس الطريقة فإنه لو قال أحد قبل اكتشاف الحرير إن هناك صنفًا اكتُشِفَ من الخيط
لغرض
اللبس والأثاث أرقى من الكتان أو الصوف، وفي الوقت نفسه يفوقها في القوة وأيضًا في الجمال
والنعومة، عندئذٍ سيشرع الناس في التفكير في نباتٍ ناعمٍ ما أو في الشعر الأنعم لحيوانٍ
معين أو في ريش أو زغب طائر، أمَّا أن تكون خيوط دودة صغيرة، دودة وفيرة الإنتاج تُجَدِّد
نفسَها كل عام؛ فهذا ما لم يكن يخطر ببال أحد، بل إذا قال أحد ذلك عن إحدى الديدان
لَأَثَارَ السخرية منه على أنه يتوهم نوعًا جديدًا من نسيج العنكبوت.
كذلك لو أن أحدًا — قبل اكتشاف البوصلة البحرية — أشار إلى أن أداةً قد اكتُشِفَت
يمكن
بها أخذُ اتجاهات ونقاط السماء وتمييزُها بدقة، فسوف يأخذ الناسُ في التخمين في الأمر
والحديث عن تطوير أدوات فلكية أكثر دقة وما إلى ذلك، أمَّا فكرة أن يكتشف أي شيء يتفق
في
حركته تمامًا مع الأجرام السماوية وليس هو نفسه جرمًا سماويًّا بل مجرد حجر أو مادة معدنية،
فذاك شيءٌ سيبدو بعيدًا تمامًا عن التصديق، غير أن هذا وأمثاله من الأشياء قد ظلَّ خَفيًّا
على البشر عصورًا طويلةً، ولم تكتشفها الفلسفة ولا الفنون الميكانيكية، بل اكتُشِفَت
بالحظ
والصدفة؛ ذلك أنها حقًّا (كما قلنا آنفًا) من نوعٍ مختلفٍ تمامًا وبعيدٍ كل البعد عن
أي شيء
معروف من قبل، فلم يكن لأي تصور سابق على الإطلاق أن يقود إليه.
ومِنْ ثَمَّ فإن لنا أن نأمل في أن الكثير من الأشياء الرائعة والمفيدة ما زالت مذخورة
في
حَشا الطبيعة، بعيدة الشبه جِدًّا عن الأشياء التي تم اكتشافها، وبعيدة جِدًّا عن منال
تخيلنا، وما زالت غير مكتشَفة، ولكنها بغير شك سوف تظهر إلى النور في وقت ما خلال انعطافات
القرون وتحولاتها، تمامًا مثلما ظهر غيرُها، ولكن ليس بغير المنهج الذي نعالجه الآن يمكنها
أن تُظهَر وتُستبَق بسرعة وفورية وتزامن.
٨٠
•••
(١١٠) ولكنَّ هناك صنفًا آخر من الاكتشافات يبرهن على أنه قد تكون هناك كشوف قابعة
تحت
أقدامنا، ومع ذلك يَعبُرُها البشرُ دون أن يلحظوها، فإذا كان اكتشاف البارود والحرير
والمغناطيس والسكر والورق وما إليها يعتمد على خصائص معينة للأشياء ذاتها وللطبيعة، فليس
ثمة في تقنية الطباعة أي شيء غير ظاهر وغير مكشوف، إلا أن البشر — لِغفلتِهم — سَلَخوا
أحقابًا طويلةً بدون هذا الاكتشاف الجميل الذي قدَّم خدمةً جليلةً في تقدم المعرفة؛ ذلك
أنهم — لِغفلتِهم — لم يلاحظوا أنه رغم أن صَفَّ أحرف الطباعة أصعبُ من كتابة الأحرف
بحركة
اليد إلا أن أحرف الطباعة ما إن يتم صَفُّها حتى تمكِّننا من أَخْذ ما لا يُحصَى من
الطبعات، في حين لا تَسمح الأحرف المكتوبة باليد إلا بنسخةٍ واحدة، وأنهم — لغفلتهم —
لم
يلاحظوا أن الحِبر يمكن أن يكثَّفَ بحيث يَسِمُ
٨١ من غير جَرْي، وبخاصة إذا كانت الأحرف متجهة إلى أعلى وفِعلُ الطبع يُجرَى من
أعلى.
وهكذا هو حالُ العقل البشري في سيرة الكشف، لقد مَرِنَ في أغلب الأحيان على التَّعَثُّر
والخَرق، فهو في البداية غيرُ واثقٍ من نفسه، ثم محتِقرٌ لها بعد ذلك. في البداية يبدو
له
هذا الاكتشاف أو ذاك بعيدًا عن التصديق، وبعد أن يتحقق الاكتشافُ تبدو له غفلتُه نفسُها
بعيدًا عن التصديق، إذ كيف تفوتُ البشر هذه الملاحظة كلَّ هذا الزمن؟! وهذا نفسه قد يكون
من
دواعي الأمل، بمعنى أن هناك حشدًا هائلًا من الكشوف تنتظرنا، نستنبطها ونخرجها إلى النور
بمساعدة الخبرة الكتابية (المتعلِّمة) التي تحدثتُ عنها، ليس فقط باكتشاف طرائق غير معروفة،
بل أيضًا بنقل الطرائق المعروفة ومضاهاتها وتطبيقها.
•••
(١١١) ثمة سببٌ آخر للأمل ينبغي ألا نغفله، فَكِّر مجرد تفكير في الإنفاق الهائل،
من
الوقت والثروة والموهبة، الذي ينفقه البشر في أشياء وفي مَساعٍ أقَلَّ فائدةً وقيمةً
بكثير،
فلو أن جزءًا يسيرًا منه وُجِّهَ إلى موضوعات جادة قويمة؛ لأمكنَ التغلبُ على كل صعوبة،
ولقد أصبت إذ أضفتُ هذه الملاحظة؛ لأني أعترف — بصدق — أن مجموعة من التاريخ الطبيعي
والتجريبي — مثلما تَقصَّيتُها في عقلي وكما ينبغي لها — هي عملٌ عظيم، وعملٌ ملكيٌّ
إن
شئت، وعملٌ يتطلب جهدًا وتكلفةً كبيرين.
•••
(١١٢) في الوقت نفسه، لا ينبغي لأحد أن ينزعج من كثرة الجزئيات، فهذه الحقيقةُ نفسُها
أدعى إلى الأمل، إذ إن الظواهر الجزئية للفنون والطبيعة ما هي إلا حِفنةٌ إذا قورِنَت
بتُرَّهاتِ العقلِ عندما تَنبَتُّ عن الواقع وتفقد الصلةَ ببيِّنة الأشياء، وإن نهاية
هذا
المنهج الذي أدعو إليه واضحة وقريبة نوعًا ما، أمَّا الطريق الآخر فلا آخرَ له، بل هو
متاهةٌ لا نهائية؛ ذلك أن الناس حتى الآن لم تعكِف على الخبرة إلا قليلًا ولم تمسَّها
إلا
مَسًّا عابرًا، بينما ضَيَّعوا وقتًا هائلًا في التفكر النظري وفي التهاويم الذهنية،
فإذا
تسنَّى لأي أحدٍ من بيننا أن يجيب حقًّا عن تساؤلاتنا عن وقائع الطبيعة، فإن اكتشافَ
جميع
العلل وجميع العلوم لن يستغرق إلا بضعةَ أعوام.
•••
(١١٣) أظن أيضًا أن الناس يمكن أن تستمد بعض الأمل من خلال النموذج الذي أمثِّلُه
أنا
شخصيًّا، ولستُ أقول هذا من باب التفاخر بل لأن من المفيد أن أقوله، فلينظر إليَّ مَن
يَقنَطون ولا يثقون في قدراتهم: هاكم رجل هو الأكثر انشغالًا بين مُجايليه بشئون الدولة،
رجل ليس في تمام الصحة (ومن شأن ذلك إضاعة الكثير من الوقت)، ومستكشفٌ أول يَرُود وحدَه
هذا
الطريق، لا يقتفي خُطى أحدٍ ولا يشاور في أفكاره أحدًا، ولكن بمجرد أن وضعتُ قدمي بثبات
على
الطريق الصحيح مُسلِمًا عقلي للطبيعة، فإنني أجرؤ على القول بأني حققتُ للمسألة التي
أعالجها دفعةً ما إلى الأمام، فما بالكم بما يمكن أن يُتوقع (بعد أن تبيَّنَ الطريقُ
على
هذا النحو) من أناس لديهم وفرةٌ من الوقت، ومن جهودٍ متآزرة، ومن توالي العصور، على طريقٍ
غيرِ مقصورٍ على عابر واحد في الوقت الواحد (مثلما هو شأن التأمل العقلي)، بل طريق يمكن
فيه
لأعمال الناس وجهودهم (وبخاصة في جمع الخبرة) أن تتوزع على أفضل نحو ثم تتحد، فلن يدرك
الناسُ قوَّتَهم إلا عندما لا تعود الأعدادُ الكبيرة تقوم كلُّها بنفس الشيء، بل يتولَّى
كلُّ واحدٍ شيئًا واحدًا ويقدم إسهامًا مختلفًا عن الآخر.
٨٢
•••
(١١٤) أخيرًا، حتى لو باتت نسمةُ الأمل الآتيةُ من هذه «القارة الجديدة» أوهَنَ وأخفَتَ
بكثير، فما زلتُ أعتقد أن علينا أن نحاول بأي شكل (إلا إذا شئنا أن نَركَن للضعة)؛ ذلك
أن
ما نخسره من عدم المحاولة يفوق كثيرًا ما نخسره من عدم النجاح، فعدم المحاولة من شأنه
أن
يضيع علينا احتمالَ أن نجني خيرًا هائلًا، أمَّا عدم النجاح فلن نخسر منه إلا القليل
من
الجهد الإنساني، ولكن استنادًا إلى ما قلتُه وإلى كثيرٍ غيره لم أقُلْه فإنه يبدو لي
أن
لدينا ما يدعونا إلى الأمل الكبير، لا يدعو الجَسُورين فحسب إلى المحاولة، بل ويدعو
الحَذِرين المتحرِّزين إلى التصديق.
•••
(١١٥) ها قد انتهيتُ من الحديث عن إزالة اليأس، اليأس الذي كان من أقوى الأسباب التي
عطَّلت وأخَّرت تقدمَ العلوم، وأكملتُ عرضي لعلامات الخطأ وأسبابه، وللعطالة والجهل
السائدين، وأرجَعتُ الأسباب الأكثرَ خَفاءً — والتي تَنِدُّ عن إدراكِ العامة وملاحظتهم
—
إلى ما قيل عن «أوهام العقل».
هنا أيضًا ينبغي أن أختتم الجزءَ الهدمِي من «الإحياء» Instauration، والذي يتكوَّن من ثلاثة تفنيدات: (١) تفنيد العقل الإنساني
الطبيعي حين يُترَك على سَجيته. (٢) تفنيد البراهين. (٣) تفنيد النظريات أو الفلسفات
والمذاهب السائدة. وقد كان تفنيدي لها مثلما أمكَنَ أن يكون، أي يكشف علامات الخطأ وتقديم
بيِّنةٍ عن أسبابه، وهذا هو الشكل الوحيد المتاح لي من التفنيد ما دمتُ لا أتفق مع غيري
حول
مبادئ البرهان وصوَرِه.
لذا فقد حان الوقت لأن نأتي إلى الفن نفسِه وإلى معيار تفسير الطبيعة، ولكن تبقى هناك
ملاحظةٌ مبدئيةٌ ينبغي ألا تفوتنا، فبينما هدفتُ من هذا الكتاب الأوَّل من الشذور إلى
أن
أُعِدَّ عقولَ الناس لفهم وتقبُّل ما سيأتي، فالآن وقد طهَّرت العقل وصقلته وسوَّيته،
يبقى
عليَّ أن أضع العقلَ في وضع جيد، وبواجهةٍ مواتيةٍ (إن شئت) لما سوف أعرِض أمامه؛ ذلك
أنه
في أي عمل جديد لا يأتي التحيزُ فقط من تأثير رأي قديم مسيطر، بل أيضًا من استباقٍ أو
توقعٍ
زائفٍ للشيء الجديد الذي يُقَدَّم، ومِنْ ثَمَّ فقد حَرَصتُ على أن أبثَّ انطباعات جيِّدةً
وصحيحةً عن الأشياء التي أقدمها، حتى لو كان هذا من باب التشويق فحسب، حتى تتمَّ رؤية
الشيء
نفسه على نحو واضح مكتمل.
•••
(١١٦) أوَدُّ إذن قبل كل شيء ألا يفترض أحدٌ أنني أطمح إلى تأسيس أي مذهب فلسفي على
طريقة
قُدامَى اليونان أو بعض المحدثين من أمثال: تيليزيوس أو باتريزي أو سيفيرينوس،
٨٣ إذ ليس هذا هدفي، ولا أنا أعتقد أنه يهمُّ كثيرًا لمصائر الناس ماذا يُضمِر
المرء من تصورات مجردة عن الطبيعة وعن مبادئ الأشياء، لا شك هناك أن كثيرًا من مثل هذه
الآراء القديمة قد يُعاد إلى الحياة، وأن أفكارًا جديدةً قد تُدخَل، تمامًا مثلما يمكن
أن
نفترضَ نظرياتٍ كثيرةً عن السماء، والتي توافق الظواهرَ إلى حد كبير ولكنها غير متوافقة
إحداها مع الأخرى.
وهكذا فإن جهدي ليس مُنصَبًّا على هذه الأمور النظرية والعقيمة في الوقت نفسه، وإنما
هدفي
على العكس هو أن أحاول إيجاد أساس أَمْتَن لقدرة الإنسان وعظمته، ومد حدودهما إلى آماد
أوسع، ورغم أن لديَّ — في موضوعاتٍ معينةٍ وبصورة غير كاملة — نتائجَ أعتبرها أصوبَ وأوثق
كثيرًا وأنفع أيضًا من تلك السائدة (وقد جمعتُ هذا في الجزء الخامس من كتابي «الإحياء»
Instauration)، ولا أنا آمل أن أُعَمَّرَ حتى أُكْمِلَ
الجزءَ السادس من «الإحياء» (المقيَّض للفلسفة المكتشَفة بواسطة التفسير المشروع للطبيعة)،
بل أقنَع لو أني مضيتُ — بخُطَى رزينة ومثمرة — في الأجزاء الوسطى من مسعاي، ناثرًا للأجيال
المقبلة بذورَ حقيقةٍ أكمل، ومؤديًا دوري في افتتاح المشروع العظيم.
٨٤
•••
(١١٧) وكما أني لا أدَّعي أني أؤسِّس مذهبًا، كذلك أنا لا أُقَدِّمُ ولا أَعِدُ بتقديم
نتائج معينة، ومِنْ ثَمَّ قد يعترض البعض قائلًا: أنت يا مَنْ تُكثِر من الحديث عن النتائج
وتُعَلِّق كل شيء على هذه الغاية، ألا يليق بكَ أن تقدم أيضًا بعض عينات منها؟! غير أن
طريقتي ومنهجي (كما قلت كثيرًا بوضوح، وكما يسرني أن أكرر) ليس أن أستخلص نتائجَ من نتائج
أو تجارب من تجارب (مثلما يفعل التجريبيون العشوائيون
empiricis)، بل من النتائج والتجارب أستخلص العلل
والمبادئ، ومن تلك العلل والمبادئ أعود فأستخلص نتائج وتجارب عديدة، شأن مفسِّرٍ شرعيٍّ
للطبيعة.
ورغم أنه في قوائمي الكشفية (التي تشكل الجزء الرابع من «الإحياء»)، وفي أمثلة الأشياء
الجزئية (التي قدمتها في الجزء الثاني)، وأيضًا في ملاحظاتي في التاريخ (الذي وصفته في
الجزء الثالث)، سيلاحظ أيُّ قارئ متوسط الذكاء والاستبصار إشارات هنا وهناك وإلماعاتٍ
إلى
نتائج مهمة كثيرة، إلا أني أعترف بصدقٍ أن التاريخ الطبيعي الذي بحوزتي الآن، سواء جمعته
من
الكتب أو من بحوثي الخاصة ليس من الكمال ودقة التحقيق بحيث يخدم أغراضَ تفسيرٍ
مشروعٍ.
ومِنْ ثَمَّ فإذا كان هناك مَنْ هو أقدرُ في الأشياء الميكانيكية وأفضل تدريبًا،
ومَنْ هو
قديرٌ في اصطياد النتائج من مجرد التعارف على التجارب، فليضطلع بالمهمة الصعبة في جمع
محصول
جيد من تاريخي ومن قوائمي وهو في طريقه، ويستخدمها في إنتاج نتائج، آخذًا عربونًا مؤقَّتًا
حتى يتسنَّى له أخذ المبلغ، أمَّا عني فإن لي هدفًا أكبر، وأنا أنكر أي نشاط مبتسر وسابق
لأوانه من هذا النوع، وأشجبه بوصفه «كُرات أتلانتا»
٨٥ (كما أحب أن أسميها)، أنا لا أُلاحِقُ كالطفل تفاحاتٍ ذهبية، بل أراهنُ على
انتصار الفن على الطبيعة في السباق، ولا أنا متلهف على جز الطحلب أو قطع الذرة الخضراء،
بل
أنتظر الحصاد في إبَّانه.
•••
(١١٨) وسوف يخطر للبعض — بغير شك — عند قراءة التاريخ (الطبيعي) وقوائم الكشف الخاصة
بي:
أن هناك بعض أشياء في التجارب نفسها غير مؤكدة أو ربما خاطئة تمامًا، وربما يظن لهذا
السبب
أن اكتشافاتي تقوم على أسس ومبادئ خاطئة ومشكوك فيها، ولكن لا بأس في ذلك البتة، فمثل
هذه
الأمور لا مَناص منها في البدايات، فهي أشبه بما يحدث في الكتابة أو الطباعة، إذ يتصادف
أن
يكون هناك حرف أو اثنان فيهما خلل أو انحراف، ولكنهما لا يسببان أي إزعاج للقارئ، إذ
يتولى
الحِسُّ تصحيحَهما بسهولة، كذلك ينبغي أن يدرك الناس أن كثيرًا من التجارب في التاريخ
الطبيعي قد تكون اندرجت فيه بطريق الخطأ، والتي سرعان ما تتُدارَك بعد ذلك وتُحذَف عند
اكتشافِ العلل والمبادئ، ولكن من الحق رغم ذلك أنه إذا ما زادت هذه الأخطاء في التاريخ
الطبيعي والتجارب وتكررت واستمرت، فلن يتسنَّى لأي حِذقٍ أو فَنٍّ أن يصححها وينقحها،
فإذا
كان هناك أي أخطاء أو أغلاط في الجزئيات حتى في تاريخي الطبيعي الذي بُحِثَ وجُمِعَ بكل
جد
ودأب، ولعلي أقول بعناية دينية: فما بالُكم بالتاريخ الطبيعي الشائع، المهمل والمهلهل
بالقياس إلى تاريخي؟ أو بالفلسفة والعلوم المؤسَّسة على مثل هذه التربة الهشة (أو بالأحرى
الرمال المتحركة)؟ ومِنْ ثَمَّ فلا داعي للانزعاج من هذه الزاوية.
•••
(١١٩) وفي التاريخ (الطبيعي) والتجارب الخاصة بي سيكون هناك أيضًا أشياء كثيرة تافهة
وشائعة، وأخرى هابطة وفجة، وأخرى مفرطة الدقة وتأملية خالصة وغير ذات جدوى، وقد يكون
ذلك
مدعاةً لانصراف الناس.
بالنسبة للأشياء الشائعة يجب أن يدرك الناسُ أنهم دأبوا على أن يَرُدوا عِللَ الأشياء
النادرة الحدوث إلى تلك الأكثر حدوثًا، دون أي تمحيص لعلل هذه الأشياء الكثيرة الحدوث
ذاتها، فهم يسلِّمون بها تسليمًا ويأخذونها على عِلاتها، وعليه فإنهم لا يدرسون علل الوزن
ودوران الأجرام السماوية والحرارة والبرودة والخفة والصلابة والرخاوة والتخلخل والكثافة
والسيولة والصلابة والحياة واللاحياة والتشابه والاختلاف والعضوية وما إلى ذلك؛ لا يبحثون
علل كل ذلك، بل يسلِّمون بها كشيءٍ جَليٍّ وواضحٍ بذاته، بينما يتنازعون ويُعمِلون الحكمَ
حول أشياءَ أخرى أقلَّ حدوثًا وتواترًا وإلفًا.
ولكني أنا مَن يعرف جَيِّدًا أن من غير الممكن الحكمَ على الأشياء النادرة
واللافتة — ناهيك بالأشياء الجديدة التي ظهرت إلى النور —
ما لم تُبحَث أوَّلًا عللُ الأشياء الشائعة وعلل تلك العلل على نحوٍ وافٍ وتُكْتَشَف.
أنا
الذي أعرف ذلك كنتُ مضطرًّا إلى أن أفسح مكانًا للأشياء المعتادة في تاريخي الطبيعي،
بل في
اعتقادي أنه لم يعرقل تقدمَ الفلسفة شيءٌ مثلما عرقلها أن الأشياء المألوفة الكثيرة الحدوث
لا تأسر انتباه الناس ولا تحظى بالتفاتهم وتأملهم بل يمرون عليها مرورَ الكرام، ولا
يتساءلون عن عللها، إنما يلزمنا أن نولي انتباهًا للأشياء المعروفة أكثرَ مما يلزمنا
أن
نُحَصِّلَ معلوماتٍ عن الأشياء غير المعروفة.
•••
(١٢٠) أمَّا عن الأشياء الوضيعة أو حتى الدنسة — التي علينا (كما يقول بليني
pliny)
٨٦ أن نعتذر عليها — فيجب أن ندرجها في التاريخ الطبيعي بما لا يقل عن أفخم
الأشياء وأقْيَمها، فالتاريخ الطبيعي لا يتلوث منهما، فالشمس تدخل القصر والبالوعة دون
تفرقة فلا تتلوث، نحن لا نبني أو نكرس كابيتولًا أو هرمًا لزَهو الإنسان، بل نضع أساسًا
في
الفهم الإنساني لمعبدٍ مقدس على غرار نموذج العالَم. أنا إذن أتبع النموذج، فأيُّما شيء
يستحق الوجود فهو يستحق المعرفة، فالمعرفة هي صورة الوجود، والأشياء الوضيعة والرفيعة
موجودة على السواء، وفضلًا عن ذلك فكما أن أفضل العطور يُستخرَج أحيانًا من أشياء عفنة
كشأن
المسك والزَّباد، كذلك قد يَصدُر ضوءٌ ومعرفةٌ رائعان من أشياء وضيعة وقذرة، ولكن بحسبنا
هذا القدر، فمثل هذه الرهافة ما هي إلا طفوليةٌ وتخَنُّث.
•••
(١٢١) ولكنَّ هناك اعتراضًا آخر ينبغي أن ننظر فيه بتمعن أكبر، وهو أن ثمة أجزاء كثيرة
في
هذا التاريخ (الطبيعي) ستبدو للفهم العام — أو لأي فهم معتاد على الأشياء الراهنة
— دقيقة بشكلٍ خياليٍّ غير مفيد، ومِنْ ثَمَّ فقد قلتُ
منذ البداية بخصوص هذه المسألة، ويجب أن أكرر ثانيةً، أنني أبحث عن «تجارب النور لا تجارب
الثمار»، مقتديًا في ذلك بمثال الخلق الإلهي الذي برأ النورَ وحده في اليوم الأوَّل،
وقَيَّضَ كل هذا اليوم لخلق النور ولم يَزِد عليه أيَّ عملٍ ماديٍّ.
لذا فكل مَنْ يظن أن مثل هذه الأشياء غير مفيدة يشبه ذلك الذي يظن أن الضوء غير مفيد؛
لأنه ليس صلبًا وليس ماديًّا، والحق أن معرفة الطبائع البسيطة بتمحيصٍ ودقة هي أشبه بالضوء،
فهو يقدم منفَذًا إلى كل أسرار مَشغَل الطبيعة، ولديه قدرة على أن يمسك ويجر وراءه فيالقَ
كاملةً وأرتالًا من النتائج، ومصادر المبادئ الأعلى قيمة، وإنْ كان هو في ذاته غير ذي
نفع
كبير، كذلك الحال مع أحرف الأبجدية، فهي بذاتها وبمعزلٍ لا معنى لها ولا فائدة، ولكنها
مع
ذلك بمثابة الخامة الأولى لتركيب وإعداد كل حديث، وكذلك بذور الأشياء، قيمتها الكامنة
كبيرة، ولكنها لا نفع لها البتة إلا في نموها، وكذلك الأشعة المشتَّتة للضوء نفسه لا
تؤتي
فائدة ما لم تُجْمَع وتتركَّز.
ولكن إذا تأذَّى أحدٌ من الدقائق النظرية فماذا تراه يقول عن السكولائيين وانغماسهم
المهول في الدقائق؟ لقد أهدروا تلك الدقائق في الألفاظ أو في التصورات العامة (وهي تَئُول
إلى نفس الشيء)، وليس في الأشياء وفي الطبيعة، وكانت تلك الدقائق غير مثمرة لا في مبدئها
ولا في منتهاها، ولا تشبه من قريب أو بعيد دقائقنا نحن التي هي غير مفيدة في البداية
ولكن
نتائجها ذات فوائد لا نهائية، فليعلم الناسُ علمَ اليقين أن كل حذقٍ في الجدل والاستدلال
لا
يُؤتَى به إلا بعد أن يتم اكتشاف المبادئ إنما هو حذقٌ بائرٌ في غير موضعه، أمَّا الوقت
الصحيح والمناسب للحذق أو أفضل وقت على كل حال فهو إبان رَوز الخبرة وتقييمها وتكوين
المبادئ منها، أمَّا النوع الآخر من الحذق فهو إن أمسك بالطبيعة أو تشبث بها فهيهات له
أن
يقبض عليها أو يأسرها. إن الطبيعة لَيصدُقُ فيها كل الصدق ما قيل في الحظ أو الفرصة:
«لها
من الأمام خُصلة، ولكنها من الخلف صلعاء.»
وباختصار أقول لأولئك الذين يزدرون أي جزء من التاريخ الطبيعي باعتباره مبتذَلًا
أو
وضيعًا أو مفرط الدقة والرهافة أو غير مفيد في بدايته، أقول لهم ما قالته امرأة فقيرة
لملك متغطرسٍ
٨٧ رفض الإصغاء إلى طلبها بوصفه شيئًا تافهًا ولا يليق بجلالته: «كُفَّ إذن عن أن
تكون ملكًا.» فمن المؤكد أن مَن لن يلتفت إلى أشياء مثل هذه على أنها تافهة وضئيلة فلن
يفوز
بمملكة الطبيعة ولن يحكُمَها.
•••
(١٢٢) سيُعترَض أيضًا بأنه من الغرابة والفظاظة أن نتخلص من جميع العلوم وجميع الثقات
مرةً واحدةً وبضربةٍ واحدةٍ، ولا نستعين بأيٍّ من القدماء، بل نعتمد على قوتنا
الخاصة.
ولكني أعلم أنني لو كنتُ اخترتُ أن أكون أقل صدقًا لما كان صعبًا عليَّ أن أعزو منهجي
الحالي إلى القرون القديمة قبل اليونان (عندما كان العلم الطبيعي ربما أكثر ازدهارًا
وإن
كان أقلَّ صخبًا، قبل أن يتوصل إلى مزامير اليونان وطبولهم)، أو حتى أعزوه — في شطر منه
—
إلى بعض اليونان أنفسهم، فأكون قد كسبت منهم العون والمجد معًا، كشأن مُحدَثي النعمة؛
إذ
ينتحلون لأنفسهم شرفَ التحذُّر من سلالةٍ ما عريقة بمساعدة علوم الأنساب،
٨٨ ولكني أستند إلى بَيِّنة الأشياء، وأرفض كل صنف من الخيال والادِّعاء، ولا
أعتقد أنه يهم لعملي الحالي هل الكشوف التي ستأتي كانت ذات يوم معروفة للقدماء وجَعَلَت
تغيب وتعود مع تقلبات الأشياء وكَرِّ العصور، لا يهم هذا لعملي أكثر مما يُهِم للجنس
البشري
ما إذا كان العالم الجديد هو جزيرة أطلنطا
٨٩ الشهيرة التي عرفها القدماء أم هو أرض جديدة تُكتشَف الآن للمرة الأولى؛ ذلك أن
الكشوف الجديدة يجب أن تُؤخذ من نور الطبيعة، لا أن تُسترَد من غياهب القِدَم.
أمَّا عن نقدي العام للعلوم القديمة، فمن الواضح
تمامًا للنظرة المنصفة أن هذا الشجب ليس فقط أكثر قبولًا، بل أيضًا أكثر تواضعًا مما
كان
يمكن أن يكونه أيُّ شجبٍ متحيِّزٍ، فلو لم تكن الأخطاءُ متجذِّرة في التصورات الأولية
لكان
هناك بالضرورة بعض الاكتشافات الصحيحة، ولقُدِّرَ لهذه الاكتشافات الصحيحة أن تقوِّم
الاكتشافات الخاطئة، ولكن لأن الأخطاء كانت أساسية، ومن طبيعةٍ أدَّت بالناس إلى أن تغفَل
الأشياء وتَعمَى عنها لا أن تحكم عليها حكمًا متهافتًا أو غير صحيح، فلا عجب إذا كان
الناسُ
لم يَبلُغوا ما لم يحاولوه، ولم يُدرِكوا هدفًا لم يحددوه، ولم يُكمِلوا سباقًا لم يَدخلوه
ولم يخوضوه.
وأمَّا عن الغطرسة المتضمَّنة فيه فأقول: من المؤكد أنه إذا ادَّعى شخصٌ أنه يستطيع
رسمَ
خَطٍّ أكثر استقامة أو دائرةٍ أكثر اكتمالًا مما يستطيعه أي شخص آخر بثبات اليد وحِدَّة
البصر، فإنه يدعو إلى منافسةٍ للقدرات، أمَّا إذا أقر شخصٌ بأنه يستطيع رسم خط أكثر استقامة
أو دائرة أكثر اكتمالًا بمساعدة مسطرة أو فرجار، فمن المؤكد أنه لا يتفاخر على الإطلاق،
ولننتبه إلى أن هذه الملاحظة لا تنطبق فحسب على محاولتي هذه التمهيدية، بل تنطبق أيضًا
على
أولئك الذين يكرسون أنفسهم لهذا الموضوع في المستقبل؛ لأن منهجي الكشفي في العلوم يُسوِّي
بين الأذهان، ولا يترك للامتياز الفردي إلا القليل؛ لأنه يؤدي كل شيء بواسطة أوثق القواعد
والبراهين؛ ولذا فأنا أعزو إسهامي — كما قلتُ مِرارًا — إلى الحظ لا إلى القدرة، وأعُدُّه
سليل الزمن لا الذكاء، فهناك — بلا شك — عنصرٌ من المصادقة في أفكار الناس لا يقل عما
في
أعمالهم وأفعالهم.
•••
(١٢٣) لذا يجب أن أُطلِق على نفسي النكتة القديمة (إذ إنها تصيب كَبِدَ المسألة):
«شارب
الماء وشارب النبيذ لا يمكن أن يفكرا بنفس الطريقة.»
٩٠ فجميع البشر — قديمهم وحديثهم سواء — قد شربوا في العلوم شرابًا بسيطًا كالماء،
جاريًا تلقائيًّا من الفهم، أو مُسْتَمَدًّا بواسطة المنطق كما ببكراتٍ من بئر، بينما
أشرَب
وأجعل أنخابي من شرابٍ مُعَدٍّ من أعنابٍ كثيرة، في إبَّانها تامة النضج، جُمِعَت وقُطِفَت
من أفرع منتخَبة، ثم عُصِرَت في معصرة النبيذ، ثم صُفِّيَت وخُمِّرَت في الدَّنِّ، ليس
مستغربًا إذن أنني لا أفكر كما يفكرون.
•••
(١٢٤) كذلك سيُوَجَّه إليَّ بدون شك اعتراضٌ مُفادُه أنني لا أستهدف من العلم غايته
الصحيحة، أو أفضل غاية له (وهو نفس الشيء الذي أعيبه على الآخرين)، إذ إن تأمل الحقيقة
هو
شيء أكرم وأرفع من كل منفعة أو امتداد للنتائج، بينما هذا التشبث الطويل بالتجربة والمادة
وبالأحوال المتقلبة للأشياء الجزئية يقيد العقل بالأرض، أو بالأحرى يُلقي به في جحيمٍ
من
الفوضى والاضطراب، وينأى به عن سكينة الحكمة المجردة وصفاتها، وهي حالة أكثر سُموًّا
وقداسةً، وأنا أقبل هذا التوجه بكل ارتياح، فهذا الذي يدعون إليه ويُعلون شأنَه هو بالتحديد
ما أتغيَّاه وأصبو إليه؛ وذلك أني أُشيِّد في الفهم الإنساني نموذجًا حقيقيًّا للعالم
مثلما
هو عليه في الواقع لا كما شوَّهَه عقلُ الإنسان، وذاك أمر لا يتحقق إلا بتشريح العالم
بكل
دقة، غير أني أعلن أنه لا بد من القضاء التام على تلك التقليدات الحمقاء والهزيلة والقِردية
للعالَم التي كوَّنَتها أوهامُ الناس في مختلف المذاهب الفلسفية، فليُدرِك الناسُ إذن
الفرقَ الهائل (كما قلتُ آنفًا)
٩١ بين أوهام العقل البشري (
idols) وأفكار العقل
الإلهي (
ideas)، فما الأولى إلا تجريداتٌ اعتباطية، أمَّا
الأخرى فهي طابَعُ الخالق نفسه على مخلوقاته، وقد انطبع على المادة وتَحَدَّدَ فيها بخطوطٍ
حقيقيةٍ رائعةٍ، ومِنْ ثَمَّ فإن الحقيقة هنا والمنفعة شيءٌ واحد،
٩٢ وقيمة النتائج نفسها — بوصفها ضماناتٍ للحقيقة — أعظمُ من قيمة المنافع التي
تقدمها لحياة الإنسان.
•••
(١٢٥) قد يعترض آخرون بأني لا أفعل غير ما كان
يُفعَل من قبل، وأن القدماء أنفسهم اتخذوا نفس المسار الذي أتخذه الآن؛ ومِنْ ثَمَّ فمن
المرجح أنني — أنا أيضًا — بعد كل هذا العناء والصخب سوف أرسو في واحدٍ من هذه المذاهب
التي
سادت في الأزمنة القديمة، فالقدماء أيضًا كانوا حين يَبدَءون تنظيراتهم يذخرون مخزونًا
هائلًا من الأمثلة والجزئيات، ويرتبونها في رسائل بأبواب وعناوين، ويشيدون منها فلسفاتهم
وفنونهم، وبعد ذلك عندما يفهمون المسألة يذيعونها على العالم، مضيفين بضعة أمثلة هنا
وهناك
للبرهان والتوضيح، ولكنهم كانوا يرون أن من الزائد والمضجر أن يطبعوا ملاحظاتهم عن الجزئيات
ومدوناتهم ورسائلهم، وهكذا كان شأنهم شأن البنائين الذين بعد أن ينتهوا من بناء البيت
يزيلون السقالات والسلالم من المشهد، هذه بغير شك هي العملية التي كانت تتم ولا يمكن
أن
يتصورها المرء غير ذلك، غير أن هذا الاعتراض (أو بالأحرى الوسواس) سيكون من السهل أن
يَرُدَّ عليه أيُّ شخصٍ لم ينسَ تمامًا ما قلته آنفًا، فأنا أيضًا أُسلِّم بأن هناك شكلًا
من البحث والكشف كان بين القدماء، وهم أنفسهم قد بينوه بوضوح في كتاباتهم، وهو ببساطة
أنهم
من خلال بضعة أمثلة وجزئيات (مع إضافة تصورات شائعة وربما جرعة ما من أكثر الآراء رواجًا)
كانوا يقفزون قفزًا إلى المبادئ الأكثر عمومية أو المبادئ الأولى للعلم، وإذ يأخذون صدق
هذه
المبادئ الأولى كأمرٍ ثابتٍ لا يتزعزع، فإنهم ينطلقون منها إلى استنباط الاستنتاجات الدنيا
بواسطة قضايا وسطى، ويختبرونها بعرضها على محك المبادئ الأولى الصادقة صدقًا ثابتًا لا
يتزعزع، ومنها يشيِّدون الفن، وأخيرًا فإنهم إذا ظهرت في الأفق جزئياتٌ جديدة تُناقِض
وجهات
نظرهم فإنهم إما يَسلُكونها بمهارةٍ في المذهب بواسطة تحديداتٍ وتفسيراتٍ لقواعدهم نفسها،
٩٣ وإما يتخلصون منها برعونة على أنها استثناءات، أمَّا الجزئيات التي لا تتعارض
مع قواعدهم فكانوا يُقيِّضون لها — بتكلفٍ وعَنَت — عللًا
تتماشى مع مبادئهم، ولكن ليس هذا هو التاريخ الطبيعي والخبرة كما كان ينبغي أن يكونا،
كما
أن قفزهم إلى التعميمات قد دَمَّرَ كلَّ شيء.
•••
(١٢٦) واعتراضٌ آخرُ قد يوجَّه ضدي، هو أنني
بتحرُّزي من أن يُصدِر الناسُ آراءً ويضعوا مبادئ معينة حتى يصلوا على نحوٍ وافٍ إلى
العموميات عبر الخطوات الوسطى؛ أنني بذلك أُعَلِّقُ الحكم وأقود إلى ما يسميه اليونان
acatalepsia (الشك)، غير أن ما أقصده وما أدعو إليه ليس
الأكاتالبسيا «الشك» (إنكار قدرة العقل على فهم الحقيقة)، بل اليوكاتالِبسيا «الاعتقاد
السليم» (تأهيل العقل للفهم الصحيح)، فأنا لا أنتقص من سلطة الحواس بل أُعينها بمساعِدات،
ولا أستهين بالفهم بل أُنَظِّمه، وَلَأَن نعرفَ بقدر ما يلزمنا أن نعرف ثم نرى أن معرفتنا
ناقصة خيرٌ من أن نرى أن معرفتنا كاملة ثم لا نعرف أي شيء تلزمنا معرفته.
•••
(١٢٧) كذلك قد يسأل البعض (من باب التشكك لا من باب
الاعتراض) عما إذا كان منهجي مَعنيًّا بإنهاض العلم الطبيعي وحده أم يهدف أيضًا إلى إنهاض
العلوم الأخرى كالمنطق والأخلاق والسياسة، إنني بالتأكيد أهدف من منهجي أن ينسحب على
العلوم
جميعًا، ومثلما أن المنطق الشائع الذي ينظم الأمور بواسطة القياس لا يقتصر على العلم
الطبيعي بل يمتد ليشمل كل العلوم، فإن منهجي الاستقرائي هو أيضًا يشملها جميعًا، فأنا
أضع
تاريخًا وقوائم كشف للغضب والخوف والخجل وما شابهها وللأمور السياسية، وكذلك للعمليات
العقلية للذاكرة والتركيب والتقسيم
٩٤ والحكم وما شاكلها، تمامًا كما أضع للحرارة والبرودة أو للضوء أو النمو النباتي
… إلخ، ولكن لما كان منهجي التفسيري بعد إعداد التاريخ واستيفائه لا يقتصر على عمل العاقل
وخطابه فحسب (كما يفعل المنطق الشائع) — بل يشمل أيضًا طبائع الأشياء — فقد زوَّدت العقلَ
بقواعدَ وتنظيم بحيث يُعمِل نفسَه في كل شأن على نحوٍ ملائم لذلك الشأن؛ ولهذا فقد قدمتُ
قواعدَ كثيرةً ومتنوعةً في مذهبي التفسيري بحيث تُكيِّف منهجَ الكشف — بدرجة ما — وفقًا
لنوعية موضوع البحث وحالته.
•••
(١٢٨) وليس لأحدٍ أن يتشكَّك في موقفي من الفلسفة والفنون والعلوم القائمة ويظن أني
راغبٌ
في تدميرها، فأنا أبعدُ ما أكون عن ذلك، بل يسرني أن أراها تُستخدَم وتُنَمَّى وتُقدَّر،
فأنا لا أتدخل بأي حال لتثبيط هذه الفنون الرائجة عن أن تُستخدَم لإثراء المناقشة وتجميل
الخطاب، وأن تكون في خدمة الأساتذة ورجال الأعمال، وأن تحظَى بالقبول العام كنوعٍ من
العملة
المتداوَلة، بل إني أعلن بوضوح أن ما أقدمه الآن لا يصلح لهذه الأغراض، إذ هو غيرُ مهيَّأ
لكي تفهمَه العامة إلا من خلال نتائجه وآثاره، أمَّا عن تعاطفي الصادق ونيتي الحسنة تجاه
العلوم السائدة فهو شيءٌ تشهدُ به كتاباتي المنشورة (وبخاصة «في النهوض بالعلم»
On the
advancement of learning) شهادة تُغنيني عن الكلام، وأكتفي بأن أنبه علانيةً وبغير انقطاع أن المناهج
المستخدَمةَ حاليًّا لا يمكن أن تؤدي إلى تقدم كبير في الجانب النظري والتأملي من العلم،
ولا إلى آثارٍ (عملية) واسعةِ النطاق.
•••
(١٢٩) يبقى أن أقولَ بضعة أشياء عن نُبل الغرض (من عملي هذا)، وإذا كنت قد عَرضت قَبلًا
لهذه الأشياء، فربما بدا ذلك من جانبي مجردَ أماني، فأما وقد أحييتُ الأملَ وأزلتُ
التحيزات، فلعلها تكون الآن أثقل وزنًا، وإذا كنتُ قد أكملتُ العملَ بنفسي دون أن أهيب
بأحد
أن يشارك بقسطٍ فيه وأن يمدَّ إليَّ يدَ العَون، فإن عليَّ الآن أن أُقلِع عن ذلك؛ لئلا
يُظَن بي ادعاء التميز والاستحقاق، إنما يليق بي أن أستدعي إلى ذاكرة الناس نقاطًا معينةً
ما دمتُ أريد أن أثير هِمَّتَهم وأشعلَ حماستهم.
أولُها إذن أن إدخال اختراعات كبيرة هو العملُ الذي يحتل المكانةَ الأولى، غيرَ مدافَع،
بين الأعمال البشرية جميعًا، وهكذا كان رأي القدماء فيه، فقد كانوا يخلعون على أصحاب
الاختراعات ألقابَ الشرف الإلهية، بينما يُعزون أمجادًا بطولية فحسب لأصحاب الإنجازات
السياسية الكبرى (مثل مؤسسي المدن والإمبراطوريات والمشرعين ومحرري أوطانهم من المحن
المقيمة وقاهري الطغاة ومَنْ إليهم)، ومَنْ يقارن بين الفصيلين مقارنةً عادلةً سيجد أن
القدماء كانوا على حق في حُكمهم؛ ذلك أن منافع الاختراعات تَعُم الجنسَ البشري كلَّه،
أمَّا
المنافع السياسية فهي مقصورة على مناطق بعينها، وهي لا تدوم إلا زمنًا، بنيما تدوم منافعُ
الاختراعات إلى أبد الدهر، كما أن الإصلاح السياسي قلما يتم دون عنف واضطراب، أمَّا
الاختراعات فإنها تُسبِغُ نعمةً وتُقدِّم منفعةً دون أن تُلحِقَ بأحدٍ أيَّ أذى أو
ضرر.
كما أن الاختراعات هي ضروبٌ من الخلق الجديد، ومن المحاكاة للأعمال الإلهية، وكما
قال الشاعر:
٩٥ «كانت أثينا — تَمَجَّدَ اسمُها — ذات يوم هي أول مَنْ مَنَحَ الجنس البشري
البائس حصادًا مثمرًا، وأعاد خَلق حياتهم، وصَنَع لهم قوانين.»
وهنا لا ننسَى أن سليمان رغم سطوته وذهبه وأعماله العظيمة وبلاطه وخَدَمِه وأسطوله
وبهاء
اسمه وإعجاب البشر غير المحدود به، لم يكن يَعُد مجدَه في أي شيء من ذلك، بل كان يعلن
أن
«مجد الله أن يُخفي شيئًا ما، ولكن مجد المَلِك أن يكتشفه.»
وفضلًا عن ذلك، فليتأمل أي شخص في الفارق الهائل بين حياة الناس في أرقى البلاد الأوروبية
وحياتهم في أي منطقة همجية وبربرية من مناطق الهند الجديدة، ولسوف يجد أن الفارق قد بلغ
من
الضخامة بحيث يَصِح أن يُقال: إن «الإنسان إلهٌ للإنسان.»
٩٦ ليس فقط باعتبار العون والمنافع المتبادلة، بل من مقارنة الوضعين، وهذا الفارق
لا يأتي بفضل التربية أو المناخ أو العرق، بل بفضل «الفنون».
كذلك ينبغي أن نلاحظ قوة المخترعات وتأثيرها ونتائجها، والتي تظهر في أوضح صورة في
تلك
المخترعات الثلاثة التي لم يعرفها القدماء: الطباعة والبارود والبوصلة، فقد غيرت هذه
المكتشفات الثلاثة وجه وحالة العالم بأسره، الأوَّل في الأدب، والثاني في فن الحرب، والثالث
في الملاحة، ثم ترتب عليها تغيراتٌ لا تُحصَى، بحيث يمكن القول بأنه لم يكن لأي إمبراطورية
أو مذهب أو نجم أيُّ قوةٍ أو تأثيرٍ في الشئون البشرية يفوق ما كان لهذه الكشوف
الميكانيكية.
كذلك يصح أن نميز بين ثلاثة أنواع ودرجات من الطموح البشري؛ الأوَّل: طموح أولئك الذين
يريدون بَسْطَ سطوتهم على بلدهم الأصلي، وهو نوعٌ سوقيٌّ ومُنحَط من الطموح، والثاني:
طموحُ
أولئك الذين يسعون إلى بسط سلطان بلادِهم على البشر، وهذا طموحٌ أسمَى من سابقه بالتأكيد،
وإن لم يكن أقل جشعًا، ولكن إذا سعى إنسانٌ إلى تأسيس وبَسط سطوة الجنس البشري نفسه وسلطانه
على العالم، فإن طموحه — إن جازت هذه التسمية — أسلمُ وأنبل من سابقَيه. إن سلطانَ الإنسان
على الأشياء ليعتمِدُ كليًّا على الفنون والعلوم، إذ إننا لا يمكن أن نحكم الطبيعة إلا
بإطاعتها.
كذلك إذا كانت فائدةُ أي اختراع معين قد حرَّك الناسَ إلى أن تعتبرَ أيَّ شخصٍ أمكنَه
أن
يُسبِغ مثل هذا النفع على الجنس البشري كله؛ تعتبره أكثرَ من إنسان، فأي تمجيد سوف يَحظى
به
ذلك الكشفُ الذي يؤدي إلى تسهيل اكتشاف كل شيء آخر؟! ومع ذلك (لكي نقول الحقيقة) فمثلما
أن
فوائد الضوء لا نهاية لها في تمكيننا من السير في طريقنا ومن ممارسة الفنون ومن القراءة
ومن
تمييز أحدنا الآخر، على أن إبصار الضوء نفسه أروع وأجمل من شتى استخدامات الضوء، كذلك
فإن
تأمل الأشياء كما هي — دون خرافة أو خداع أو خطأ أو اضطراب — هو بذاته أَقْيَمُ من كل
ثمرات
الكشوف.
وأخيرًا: فإذا طُرِحَ اعتراضٌ بأن العلوم والفنون قد انحرفت إلى جهة الشر والترف وما
إلى
ذلك، فلا ينزعجن أحدٌ من هذا الاعتراض، فالشيءُ نفسه يمكن أن يُقال في كل خير أرضي: الذكاء،
الشجاعة، القوة، الجمال، الثروة، والضوء نفسه، وكل شيء آخر، فقط دَع الإنسانَ يستعيد
حقَّه
على الطبيعة — ذلك الحق الذي خَصَّه الله به وكفله له — ودَعْه يَتَمَلَّك هذه القوةَ
التي
سيكون استخدامُها محكومًا بالعقل السليم والدين الصحيح.
•••
(١٣٠) والآن حان الوقتُ لأن أقدِّم الفنَّ نفسَه — فن تفسير الطبيعة — الذي لا أدعي
أنه
ضروريٌّ بشكلٍ مُطلَق (أي لا يمكن فعلَ أيٍّ شيءٍ بدونه)، ولا أنه كاملٌ مُكَمَّل، وإن
كنتُ
أعتقد أنني قدمتُ فيه قواعد صحيحةً وبالغةَ الفائدة؛ ذلك أن لديَّ قناعةً بأنه إذا توافر
للناس تاريخٌ طبيعيٌّ جيِّدٌ وخبرةٌ جيدة، وإذا أخلصوا العملَ عليهما، وألزموا أنفسَهم
بقاعدتين:
- (١)
التخلي عن الآراء والتصورات الشائعة.
- (٢)
الامتناع عن التعميمات المتسرعة؛ فإن بوسعهم بإعمال قُوَى عقلِهم الأصلية
والأصيلة لا أكثر أن يَعثُروا على طريقتِي في التفسير بغير معونة من أي فن؛ ذلك
أن التفسير هو الفعل الحقيقي والطبيعي للعقل عندما يَتِم تحريرُه من العوائق.
ومن الحق مع ذلك أن قواعدي التي أقدمها سوف تجعل كلَّ شيءٍ أسرع وأوثق.
غير أني لا أدَّعي أنْ ليس بالإمكان إضافةُ أي شيء على هذه القواعد، فأنا — على العكس
—
إذ أنظر إلى العقل لا في قدراته الذاتية فحسب بل في اتحاده بالأشياء، أذهب بالضرورة إلى
أن
فن الكشف يمكن أن ينمو مع نمو الكشوف ذاتها.