هل الزمن واقع؟
تقع أطلال دير هيسترباخ السيسترسي في سلسلة من التلال شرقي نهر الراين. تحكي الأساطير المحلية قصة راهب من القرن الخامس عشر خرج من الدير متجوِّلًا في الغابات المحيطة، ومتأملًا في المزمور ٩٠ الآية ٤: «لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَمَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ.» جلس الراهب في الغابة، فغلبه النعاس ولم يوقظه إلا صوت أجراس الدير تؤذن بحلول صلاة المساء، عند رجوعه، بدا له شكل الدير غريبًا غير معتاد، وعندما دخل المصلَّى، لم يتعرَّف عليه أيٌّ من الرهبان. سألوه عن شخصيته، فأجاب أن اسمه أيفو، وأنه دخل الدير في العام نفسه الذي أصبح فيه إنجلبيرت فون بيرج مطران مدينة كولونيا، قال الإخوة: «ولكن هذا منذ أكثر من ثلاثمائة عام!» وفجأة شعر الراهب أنه يَرزَح تحت ثِقَل ثلاثمائة عام مُلقَاة على كاهِلِه، وقبْلَ أن يموت مباشرة، فَهِم أن الله قد أراه وجوده خارج نطاق الزمن، والآن قد أعَادَه داخِلَه.
•••
كما نرى في هذه الأسطورة، ربما يكون الزمن كما يتراءى لنا غير واقعي وفقًا لتعريف نهاية العالم. تزعم الأسطورة أن زمنَنا، الزمنَ البشريَّ، هو شيءٌ بشريٌّ في الأساس؛ أي إنه لم يكن ليوجد لولا وجود البشر. وخلف هذا الزمن ثمة نوع آخر من الزمن — نوع واقعي ولكنه مختلف في طبيعته تمام الاختلاف — ألَا وهو الحضور الأبدي لوجود الله الثابت.
ثمة شك أكثر خطورة؛ ألَا وهو الشك في أن الزمن ليس حتى سمة جوهرية غير قابلة للاختزال من سمات العالم (أي إنه ليس واقعًا وفقًا لتعريف السلحفاة)، متفشٍّ على نحوٍ مُدهِش بين الفلاسفة والعلماء. أشار فيلسوف كامبريدج جون ماك تاجارت إليس، وهو أحد المؤيِّدين المعروفين لعدم واقعية الزمن، إلى أننا نَمِيل للتفكير في الزمن بطريقتين مختلفتين جذريًّا؛ أولاهما: أن الزمن «ديناميكي»، ويتغير كل لحظة من أن يكون مستقبَلًا أولًا، ثم يصبح حاضرًا، ثم في النهاية — بمجرد أن ينتهي — يصبح ماضيًا. أما وفق الطريقة الثانية؛ فيُمكِن النظر إلى السمات الزمنية باعتبارها سمات «غير متحركة»، عندما نفكر أن لحظة معينة قبل أو بعد لحظة أخرى، أو أن لحظتين متزامنتان. هذه العلاقات لا تتغير بتحرك اللحظات من المستقبل، عبر الحاضر، إلى الماضي؛ فالخامس من يناير يأتي دائمًا قبل السادس من يناير في أي عام، سواء أكان هذا العام في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل. أشار ماك تاجارت إلى الطريقة الأولى للتفكير في الزمن بوصفها النسق (أ)، وإلى الثانية بالنسق (ب). ويرى ماك تاجارت أن النسق (ب) ليس كافيًا لفهم ماهية الزمن؛ فالزمن ينطوي على التغيير، وفي النسق (ب) لا شيء يتغير. فالعلاقات بين اللحظات: «قبل» و«بعد» و«في الوقت نفسه» كلها علاقات ثابتة طوال الوقت، مثل مجموعة متتابعة من الغُرَف، تَقَع إحدَاها تِلْوَ الأخرى، ولن تتغير أبدًا. بالإضافة إلى ذلك، نحن حتْمًا نعرف عن الزمن أكثر من المعلومات التي نَعرِفها عن النسق (ب). فأي كائن يعرف كل الحقائق النظرية عن النسق (ب) من شأنه أن يعرف العلاقات الزمنية بين كل اللحظات، بيدَ أنه لن يكون قادرًا على أن يُخبِرك بتاريخ اليوم؛ وذلك لأنه عاجِز عن تحديد موضع اللحظة الحاضرة؛ فمفهوم الحاضر لا يشكل جزءًا من مفردات النسق (ب) النظري، ولا يوجد إلا في النسق (أ). ولكن النسق (أ)، وفقًا لما قالَه ماك تاجارت، له مشاكله الخاصة.
يستحيل أن نَصِف حدثًا بأنه ماضٍ وحاضر في الوقت نفسه، أو بأنه حاضر ومستقبل، أو بأنه ماضٍ ومستقبل. إلا أن الزمن المفهوم وفقًا للنسق (أ) يتضمن أنه بمرور الوقت يحمل كل حدث خواص الماضي والحاضر والمستقبل؛ إذن يمكننا القول إن النسق (أ) متناقض.
يبدو حلُّ هذه المشكلة بسيطًا؛ الإشارة إلى أنه لا يوجد حَدَث يحمل سمة الماضي أو الحاضر أو المستقبل في الوقت نفسه، ولكنه يحملها متتابعة. فأي حدث يكون في البداية مستقبلًا، ثم حاضرًا، وبعد ذلك يصبح ماضيًا، ولكن ليس من الواضح تمامًا كيفية التعبير عن هذه الإجابة المقنِعة بدهيًّا بالتفصيل؛ خذ حدثًا محددًا، مثل عيد ميلاد ماك تاجارت (دعنا نطلق عليه م)، يبدو أننا نستطيع أن ندحض التناقض بقول إن م حَدَثٌ مستقبلي في عام ١٨٥٠ وماضٍ في عام ١٩٠٠. ولكن أجزاء حديث الزمن المستخدمة هنا («مستقبلي في عام ١٨٥٠» و«ماضٍ في عام ١٩٠٠») لم تَعُد تعبيرات النسق (أ) النظري؛ لأنها لا تتغير بتقدم الزمن. وما كان مستقبلًا في عام ١٨٥٠ سيظل مستقبلًا، بغض النظر عن تقدم الزمن وتطوره. إن تفادي التناقض بإعادة صياغة أوصاف النسق (أ) النظري الديناميكي لِتصبِحَ متوافِقة مع النسق (ب) لن يُفِيدنا في الحقيقة؛ لأننا رَأَيْنا بالفعل أن وَصْف النسق (ب) النظري ليس مُرضيًا.
-
م ماضٍ «في الحاضر»،
-
م حاضر «في الماضي»،
-
م مستقبل «في الماضي البعيد».
-
م ماضٍ «في الماضي القريب»،
-
م حاضر «في المستقبل القريب»،
-
م مستقبل «في الحاضر».
للأسف، هذه الحقائق لا تتوافق مع أوصاف النسق (أ) التي ذكرناها للتو (على سبيل المثال، م لا يمكن أن يكون ماضيًا في الحاضر ومستقبلًا في الحاضر)؛ فبهذه الطريقة سيُواجِهنا تناقض. وبما أن النسق (ب) لا يصل بنا إلى جوهر الزمن، والنسق (أ) يؤدي إلى تناقضات، يستنتج ماك تاجارت أن الزمن ليس واقعيًا؛ وبهذا فإننا عندما نتصور الزمن، نتصور شيئًا خياليًّا.
تبنَّى كورت جودل — وهو أحد أعظم علماء الرياضيات في القرن العشرين وربما على مر العصور — وجهة نظر مشابهة. أشار جودل إلى أن التدفق المتجرد للزمن، أيِ الزمن وفقًا لفهم النسق (أ)، لا بد أن يَعنِي ضمنًا أن الواقع الحقيقي، المفهوم بوصفه كل ما هو موجود، ينمو بمرور الزمن؛ فمع مرور الزمن، تَقَع الأحداث المستقبلية فحسب وتزيد مجموعة الأحداث الواقعة، مضيفة إلى تراكمات اللحظات الحاضِرة التي سرعان ما تصبح ماضية؛ فكعكة عيد الميلاد التي أُرِيد صنعها في الغد ليست موجودة حتى الآن، ولكن بتحرك عيد الميلاد من المستقبل إلى الحاضر، تصبح الكعكة من مجرد كائن مستقبلي محتمل إلى كائن حالي حقيقي؛ فالواقع الآن يشتمل على شيء جديد لم يكن موجودًا من قبلُ؛ ألَا وهو كعكة عيد الميلاد.
من العوائق التي تُواجه هذه الفكرة أن أفضل النظريات المادية الحالية، ولا سيما النظرية الخاصة للنسبية، لم تَعُد تتيح لنا التحدث عن «الزمن الحاضر» بأي معنًى مطلق؛ فلنضرب مثالًا بسيطًا، لنفترض وجود مصباح كهرباء يضيء عربة سكة حديدية متحركة عبر نافذة في منتصف العربة، ثمة مرآة في كلتا نهايتَي العربة، وبما أن كلتيهما على المسافة نفسها من النافذة، فإن الراصد داخل العربة سيرى الضوء منعكسًا من كلتا المرآتين في الوقت نفسه، إلا أنه بالنسبة للراصد من خارج العربة، يبدو أن الضوء يَصِل إلى إحدى المرآتين قبل الأخرى؛ نظرًا لأن إحدى المرآتين تتحرك نحو الضوء المقترب مع تحرك العربة، بينما تتحرك الأخرى مبتعدة عنه؛ ومن ثم علينا أن نقول إن الحدثين أنفُسَهما (حدثَي اصطدام الضوء بالمرآتين) متزامنان بالنسبة لأحد الراصدين، وغير متزامنين بالنسبة للآخر. من المستحيل إذن أن نفرقع أصابعنا الآن وندَّعي أن ثمة طريقة موضوعية يمكننا استخدامها للإشارة إلى كل الأحداث التي تقع في وقت فرقعة الأصابع نفسه، أو على الأحرى كل الأحداث التي تقع في الحاضر المطلق. فمن وجهة نظرنا، حدثت الفرقعة وبعض الأحداث الأخرى (دقة الساعة واهتزاز الجرس) في الوقت نفسه، ولكنها بالنسبة لراصد آخر ربما حدثت متتالية.
لكن هذا يعني أنه لا يوجد واقع موضوعي بشأن ماهية الكائنات التي تُعَدُّ جزءًا من الواقع المُتَنَامي وتلك التي ليست كذلك؛ فكل ما هو موجود في الزمن الحاضر يُعَدُّ جزءًا من الواقع، ولكن «الزمن الحاضر» بالنسبة لمَن؟ يبدو أننا مدفوعون لأنْ نقول إنه ليس التزامن فقط مسألة نسبية للراصد داخل الإطار المرجعي القصوري، ولكن الواقع أيضًا نسبي؛ نظرًا لأن زمنِي الحاضر قد يشتمل على أشياء مختلفة عن زمنِك الحاضر.
إلا أنه من الصعب توفيق هذه النظرة للحقيقة مع معانيها الأكثر الجوهرية فيما يتعلق بتعريف نهاية العالم أو تعريف السلحفاة. إذا كان الحقيقي هو الموجود بغض النظر عن أي شيء، أو هو ما يتبقَّى إذا ما تتبعنا سلسلة الاعتماد من الجزيئات للذرات، للجسيمات دون الذرية، وما وراءها؛ فإن كون هذا الشيء نسبيًّا للراصد لا يبدو خيارًا متاحًا؛ ولذا فإن الكثير من المفكرين، ومن بينهم جودل، قد فضلوا إنقاذ مفهوم الواقع المطلق عن طريق رفض فكرة التدفق المتجرد للزمن، والواقع المتنامي بتحول المستقبل المحتمَل إلى حاضر فعلي.
دافَع جودل أيضًا عن هذه النتيجة بتقديم برهان شديد الطرافة في محاولة منه لتوضيح أنه في فئة معينة من العوالم وفي ظروف فيزيائية خاصة، من الممكن القيام برحلة كاملة ذهابًا وإيابًا على صاروخ يأخذنا إلى أي اتجاه للزمن، سواء الماضي أو المستقبل، ويعود بنا مرة أخرى، تمامًا كما يتيح لنا عالمُنا السفرَ إلى أي اتجاه في الفضاء. من الواضح أنه في «عالم جودل» الذي يسمح بالسفر عبر الزمن، لا يمكن أن يكون هناك تدفق متجرد للزمن، أو واقع متوسع ومتنامي؛ لأننا لا نستطيع السفر إلى مكان غير موجود؛ فجزيرة لابوتا الخيالية ليست وجهة محتملة للسفر في عالمنا؛ لأنها غير موجودة. وللسبب نفسه، المستقبل (وربما يزعم البعض، الماضي) ليس وجهة محتملة أيضًا؛ لأنه غير موجود هو أيضًا. ولكن في عالم جودل، يمكننا السفر إلى المستقبل؛ ومن ثَم فإن المستقبل لا بد أن يكون موجودًا. ولكن هذا يعني أن الواقع لا يمكن أن ينمو بتحول المستقبل إلى حاضر، لأن كل شيء موجود هو بالفعل جزء من الواقع.
إن كون عالمنا في الواقع هو «عالم جودل» ليس أمرًا جوهريًّا بالنسبة لنظرة جودل للزمن، ولكن الجوهري حقًّا هو أن عالم جودل يختلف عن عالمنا على أقصى تقدير في طريقة توزيع المادة والحركة على النطاق الكوني؛ ولكنه غير محكوم بقوانين مختلفة للطبيعة. أما إذا ما كان ثمة تدفق متجرد للزمن أم لا، فهي مسألة تتعلق بماهية القوانين التي تُطبَّق على عالمٍ ما، وليست مسألة مكان وجود الجزيئات المختلفة للمادة؛ فليس فقط أن الحقائق المتعلقة بتوزيع المادة والحركة تبدو شديدة الضعف بحيث لا يمكنها أن تُحْدث تدفق الزمن، وإنما التأكدُ ممَّا إذا كانت هذه الحقائق صحيحة؛ ومن ثَم التأكد ممَّا إذا كنَّا نعيش في عالم جودل أم لا؛ هو أيضًا مسألة شائكة جدًّا. فهذا يحتاج إلى قياسات معقدة بواسطة تلسكوبات قوية، بالإضافة إلى سلاسل شديدة التعقيد من الاستنتاجات النظرية؛ ومن ثَمَّ فإن إيماني بأن الزمن يتدفق، وأن كعكة عيد الميلاد التي سأصنعها غدًا لن تكون موجودة إلا غدًا، سيعتمد على نتيجة هذه الملاحظات المعقدة للغاية. ولكن يبدو أن خَطْبًا ما قد حدث هنا؛ إذ يبدو أن هذا يعني ضمنًا أن تدفُّق الزمن من الأشياء التي يَستَحِيل إثبات وجودها بالتجربة المباشرة. أيضًا نوع الزمن الذي نستطيع ضمان وجوده بهذه الملاحظات ليس له أي صلة بالزمن كما يبدو لنا: فسواء أكان موجودًا أم لا، سيظل العالم كما هو، ولن يكون من الواضح حتى السبب وراء مجرد رغبتنا في إطلاق اسم الزمن عليه، بدلًا من أن نقول «الطريقة التي يتم بها توزيع المادة والحركة على نطاق كوني.»
إن قوانين الطبيعة لا يمكنها إثبات تدفق الزمن (لأنها واحدة في كون جودل وفي كوننا، والزمن لا يتدفق إلا في كون جودل)، وكذلك لا يستطيع مجرد ظهور الزمن إثباته (لأن هذا لا يتغير في العالمين)، وكذلك لا يستطيع توزيع الحركة والمادة إثباته (لأن هذه الأشياء غير موجودة بالمرة في تجربتنا المباشِرة للزمن)؛ من ثَم علينا أن نستنتج، وفقًا لما يراه جودل، أنَّ تدفق الزمن غير موجود؛ فوجود الزمن المتدفق والواقع المتزايد تدريجيًّا وهْم.
إلى جانب تدفق الزمن، ثمة سمات زمنية أخرى تبدو شديدة الوضوح للوهلة الأولى، ولكن عند تأملها عن قرب ندرك أنها أبعد ما تكون عن الوضوح؛ فالزمن ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الماضي والحاضر والمستقبل. فإذا سألنا أنفسنا عمَّا إذا كان الزمن واقعًا أم لا، فعلينا أن نحدد أولًا أيَّ قسم من أقسام الزمن نعني (إذا كان ثمة قسم).
هناك ثلاثة احتمالات كثيرًا ما تُثار؛ وجميعها يتفق على أن الحاضر واقع. تزعم نظرية الكون المتنامي، التي ناقشناها للتو، أن المستقبل ليس واقعًا، وتفترض تدفق الزمن إلى مستقبل مفتوح. أما نظرية الكون الجامد التي تؤيدها آراء جودل المذكورة للتو، فتزعم أن أقسام الزمن الثلاثة جميعها واقعية، وأن فكرة الزمن المتدفق والواقع المتنامي ما هي إلا وهم. ثمة تشبيه قد يساعدنا في توضيح هذه الفكرة؛ فالزمن الحاضر المتدفِّق الذي يُعَدُّ جزءًا من نظرية الكون المتنامي يُشبِه تدفُّق مقطوعة موسيقية أثناء عزفها. ووضْع هذه المقطوعة الموسيقية في سيمفونية كاملة؛ بحيث تكون جميع أجزائها موجودة في الوقت نفسه، يتوافق مع التمثيل الهندسي للزمن داخل الإطار الزمكاني لنظرية الكون الجامد. (سوف نناقش لاحقًا الاحتمال الأخير؛ ألا وهو فلسفة الحاضر، التي ترى أن الحاضر هو الزمن الوحيد الواقعي.)
يبدو أن نظرية الكون المتنامي تعكس وجهة النظر التي يتبنَّاها معظم الناس؛ فهم يَرَوْن أن الماضي واقعي (على الأقل إلى حدٍّ ما)، ويسلمون بأن الحاضر أيضًا واقعي؛ أما المستقبل فهو غير محدد؛ ومن ثَم فهو غير واقعي. ويعتمد مفهوم الواقع المستخدم هنا على تعريف جونسون وتعريف نهاية العالم للواقع؛ فالماضي والحاضر لا يمكن اختلاقهما؛ إذ إن الماضي قد ولَّى كاملًا ولا يمكن تغييره، أما الحاضر فعلينا أن نتعامل معه كما هو، وليس كما نتمناه. أما المستقبل فهو الوحيد المفتوح غير المحدد، وهو أيضًا الوحيد الذي نستطيع المشاركة في تشكيله بشكل أو بآخر وفقًا لإرادتنا. والماضي أيضًا واقعي وفقًا لتعريف نهاية العالم؛ فحتى إذا اختَفَتْ كل العقول الواعية الآن من العالم، فسيظل الماضي هو الماضي.
فيلكس إبرتي، «النجوم والأرض: أو أفكار حول المكان والزمان والأبدية» (١٨٥٤)
في حالة وجود راصد في كوكبة القنطور، فإنه لن يستطيع بالطبع رؤية النصف الشمالي للكرة الأرضية؛ لأن هذه الكوكبة لا ترتفع فوق أفقنا إطلاقًا. ولكن إذا افترضنا أنه استطاع ذلك، وأن راصدًا كان يقف في هذا النجم وكان يتمتع ببصر قوي مكَّنه من تمييز جميع التفاصيل على كوكبنا الأرضي الصغير، تضيء في وهن بضوئها المستعار، فإن هذا الراصد سيرى، في عام ١٨٤٣، التنوير العام الذي في عام ١٨٤٠ جعل مدن بلدنا تُشرِق بضوء النهار خلال ظلام الليل. أما الراصد الواقف في نجم النسر الواقع فسوف يرى ما حدث لنا منذ اثني عشر عامًا؛ وهكذا، إلى أن يأتي شخص يقطن في نجم بقوة إضاءة ١٢، إذا تخيلنا لديه قوة بصر غير محدودة، يتأمل الأرض فيراها كما كانت منذ أربعة آلاف سنة، عند إنشاء ممفيس، وتجول الأب إبراهيم على سطح الأرض.
في النجوم الثابتة العظيمة العدد المتناثرة في أرجاء الكون، الطافية على بُعْد من خمسة عشر إلى عشرين مليار ميل من كوكبنا — حاسبةً أي عدد مفترض من السنين في الماضي — يمكننا بلا شك أن نجد نجمًا يرى الحقب الماضية لكوكب الأرض وكأنها تحدث الآن، أو تتفق مع الزمن تقريبًا بحيث لا يضطر الراصد للانتظار فترة طويلة لرؤية حالتها في اللحظة المطلوبة. […]
وتظل صور كل الأعمال الخافية التي جَرَتْ موجودة على الدوام على نحو ثابت لا يُمحى، تنتقل من إحدى الشموس إلى التي تَلِيها. فبقعة الدماء الناتجة عن جريمة القتل لا تظل باقية على أرضية الغرفة دون أن تَنمَحِي وحسب، بل تنتقل صورة الفعل أكثر وأكثر إلى السماء الفسيحة.
يبدو أن واقعية الماضي نابعة في الأساس وبشكل مباشر من عدم قدرتنا على تغيير أي جزء منه. فما حدث قد حدث بطريقة معينة، وسيظل إلى الأبد على الحال الذي حدث به. والشيء الذي يشعل كل هذا القدر من المقاومة لمقاصدنا ورغباتنا لابد أن يوجد بشكل مستقل عنَّا. ومع ذلك، من الطريف أن نلاحظ (كما أشار برتراند راسل) أنه من منظورنا، ربما يكون العالم قد خُلق منذ خمس دقائق، بكل ما فيه من حفريات وبقايا أثرية ومحفوظات ومكتبات ومبانٍ وذكريات؛ ومن ثَم كنَّا سنحكي القصص نفسها التي نحكيها الآن عن الماضي، ولكنها لم تكن لتتعدَّى كونَها مجرد قصص، فالأزمنة الماضية التي تُشير إليها هذه القصص غير موجودة في الواقع. فنحن عندما نتحدث عن الماضي، إنما نتحدث على نحو ملتفٍّ عن الحاضر، عن الحفريات والبقايا التي نعثر عليها الآن، عن الوثائق التي نقرؤها الآن والذكريات التي تطرأ على عقولنا الآن.
اقترح المؤرخون اقتراحات أقل تطرفًا تنكر واقعية جزء من الماضي، ومن بينها فرضية الزمن الشبحي التي تزعم أن السنوات ما بين ٦١٤ و٩١١ ليست سوى وهْم اخترعه مؤرخو العصور الوسطى المتأخِّرين. وطبقًا لهذه الرؤية، لا بد من تأريخ كل المباني أو المصنوعات البشرية التي ترجع لهذه الفترة إلى أزمنة مختلفة، وأن شارلمان (٧٤٢–٨١٤) كان شخصية خيالية، وعام ٢٠٠٠ كان في الواقع عام ١٧٠٣. وبقدر الغرابة والخيالية التي تتسم بها هذه الأفكار، فإنها لا تزال مألوفة نسبيًّا عند مقارنتها بنتائج تجربة فكرية شهيرة في فيزياء الكم.
في «تجربة الاختيار المتأخر» الشهيرة، يتم إطلاق كائن كمي على حاجز به شقين. إذا سلك الكائن سلوك الجسيم، فسوف يمر عبر أحد الشقين؛ أما إذا سلك سلوك الموجة، فسوف يُظهر نمط تداخل الموجات المعتاد على الجانب الآخر من الحاجز. ويوجد خلف الحاجز آلية اكتشاف مثل الشاشة الفسفورية، وخلف هذه الشاشة يوجد تلسكوبين، كلٌّ منهما موجَّه إلى أحد الشقين. فإذا كانت الشاشة في مكانها، فسوف تتراكم الكائنات الكمية بما يتوافق مع نمط التداخل؛ أما إذا أُزيلت من مكانها، فسوف يتم رصد الكائنات بالتلسكوبين لمعرفة إذا ما كانت قد جاءت من خلال الشق الأيسر أم الأيمن. حتى الآن، لا يوجد شيء غريب في التجربة.
تصبح الأمور غريبة بعض الشيء عندما نقرر إذا ما كنا سنترك الشاشة في مكانها، أم سنزيلها ونعتمد على التلسكوبين فقط بعد أن يمر الكائن الكمي عبر الحاجز. بحلول هذا الوقت، سنكون قد حددنا إذا ما كان الكائن الكمي قد عبر من أحد الشقين (كجسيم) أم من كليهما مرة واحدة (كموجة)؛ من ثَم سيكون هناك احتمال أن يمر الكائن الكمي عبر الشقَّيْن في الوقت ذاته، ونختار آلية الاكتشاف المعتمدة على التلسكوبين؛ ومن ثَم نراقب الكائن عبر التلسكوبين. ومع ذلك فهذا الموقف لا يحدث مطلقًا.
يمكن جعل هذه النتيجة أكثر خطورة وجدية إذا استبدلنا مجرة بعيدة بالحاجز ذي الشقين. تملك المجرات القدرة على لَيِّ الزمكان، بحيث ينحرف شعاع الضوء بسببها، نظرًا لضخامتها الشديدة. يمكننا الآن تخيُّل وضع مثل هذه المجرة بيننا وبين مصدر الضوء. ستنعطف الفوتونات المنبعثة من هذا المصدر وتلتفُّ حول المجرة إما من اليسار وإما من اليمين وإما من كلا الاتجاهين على نحو متزامِن. مرة أخرى، يبدو أن السبيل الذي ستختاره الفوتونات يعتمد على جهاز القياس الذي نختاره، إلا أن الضوء الذي ننظر إليه يبلغ عمره مليارات السنوات، وهو بالتأكيد قد قرر السبيل الذي سيسلكه قبل وجود البشر على الأرض بأمد طويل. يبدو أن هذه التجربة تعني ضمنًا أن القرار الذي نتخذه في الحاضر (بإزالة الشاشة أو عدم إزالتها) يحدد الأحداث التي حدثت في الماضي (في أي اتجاه ذهب الفوتون). ومن المستحيل بالتأكيد أن نستطيع ببساطة تغيير أي حقيقة في الماضي بهذه الطريقة (على سبيل المثال، نحن لا نستطيع الآن أن نجعل الفوتون يتجه إلى اليسار). ولكن حتى إذا كانت توجد بعض جوانب الماضي التي نستطيع تغييرها في الحاضر، فإن الآراء المؤيدة لواقعية الماضي على أساس طبيعته غير القابلة للتغير والمقاومة التي يبديها لرغباتنا تبدو آراءً متداعية إلى حدٍّ بعيد.
في حين تُعَدُّ النظريات التي تُنكِر واقعية الماضي مُخالِفة لنظرتنا المعتادة للعالم، فإن عدم واقعية المستقبل أمر لا يُثِير الجدل بالمرة بالنسبة لأغلبية الناس. فإذا كان المستقبل واقعيًا، ولا يتأثر بما نفعله في الحاضر، فإن أفعالنا ستكون غير ذات جدوى. ولعل مؤيدي نظرية الكون الجامد يجدون صعوبة في الدفاع عن فكرة الإرادة الحرة. فوفقًا لهذه الرؤية، الانتقال إلى المستقبل سيشبه المرور عبر سلسلة من الغُرَف المُظلِمة حاملًا شمعة؛ فعندما يضيء نور الحاضر هذه الغُرَف تَظهَر لأعيننا الأشياء التي كانت مختفية. ومع ذلك، ليس ثمة شك في أن هذه الأشياء كانت موجودة طوال الوقت.
نظرًا للمعقولية البديهية لفكرة عدم واقعية المستقبل، فإنه من المدهش أن نجد رأيًا يؤيد واقعيته على أساس نظرية أخرى مقبولة على نطاق واسع؛ ألا وهي نظرية النسبية.
لقد وضَّح لنا مثالُ المرايا الموضوعة في عربة السكة الحديدية المتحركة السالفُ الذكرِ أن أي حدثين متزامنين بالنسبة لأي راصد ليسا بالضرورة كذلك بالنسبة لراصد آخَر يتحرك بالنسبة للأول. فإذا كانت المسافاتُ في التجربة كبيرةً، حتى الفروق الضئيلة في السرعة النسبية بين الراصدين يمكن أن تؤدي إلى فقْد التزامُن. وتُستَغل هذه الحقيقة في مفارقة مجرة المرأة المسلسلة.
تبعد مجرة المرأة المسلسلة نحو ٢٫٥ مليون سنة ضوئية عن الأرض. وإذا أردنا معرفة أي الأحداث على مجرة المرأة المسلسلة متزامن مع أي الأحداث على الأرض (على سبيل المثال، مع انتقال الساعة الرقمية من ٥٩ : ٥٩ : ١١ إلى ٠٠ : ٠٠ : ١٢)، فعلينا أن نكون شديدي الحذر فيما يتعلق بسرعة تحرك الساعة؛ فالأحداث التي تقع على مجرة المرأة المسلسلة بالتزامن مع حركة ساعة اليد الخاصة بي من الثانية السابقة لانتصاف النهار إلى منتصف النهار بالضبط، والأحداث التي تقع بالتزامن مع حركة ساعة يد صديقي، سيفصل بينها نحو يوم كامل على كوكب الأرض، في حالة كون صديقي يسير الهوينى بسرعة قدم واحد في الثانية.
هنا تبدأ الأمور في اتخاذ منحًى غريب. افترضْ أن كائنات فضائية شريرة تقطن مجرة المرأة المسلسلة قررت شنَّ هجوم على كوكب الأرض، وقد توصلت هذه الكائنات إلى قرارها في الوقت نفسه لتحرك ساعة يدي إلى منتصف النهار. أستطيع رؤية صديقي يسير على مهل في المرج الأخضر، وبوصول ساعته إلى منتصف النهار، تكون الأحداث على مجرة المرأة المسلسلة قد تقدمت بنحو يوم أرضي: فالأسطول المَجَرِّي في طريقه لتدمير الأرض. صديقي وأنا كلانا واقع، ومما لا شك فيه أن الحدث المتزامن مع حدث واقعي لا بد أن يكون واقعيًا؛ من ثم فإن كلا الحدثين الواقعين على مجرة المرأة المسلسلة لا بد أن يكونا واقعيين، ولكن أحدهما يقع بعد الآخر بحوالي يوم أرضي؛ إذن يمكننا قول إن الأحداث التي تقع في المستقبل يمكن أن تكون واقعية، تمامًا كالتي تقع في الحاضر.
يمكننا تعميم هذه النقطة بإثبات أنه بالنسبة لأي حدث سواء أكان ماضيًا أم حاضرًا أم مستقبليًّا، يمكننا تحديد موقعٍ ما بحيث إذا كان شخص يسير بسرعة معينة في هذا الموقع، فإن هذا الحدث سيكون متزامنًا معه. قد لا يكون هناك فعليًّا وجود لمثل هذا الشخص، ولكن يظل من الغريب أن يكون تحديدُ إذا ما كان حدثٌ مستقبليٌّ ما حدثًا واقعيًا أم لا معتمدًا على من يتحرك، وأين في الكون، وبأي سرعة!
يبدو أن لدينا بديلين متماثلين في الغرابة؛ الأول: أن نؤمن بأن ثمة أجزاءً في المستقبل محددة سابقًا بشكل ثابت، وليست مجرد تركيبات مائعة من الاحتمالات التي يمكن تشكيلها بواسطة أفعالنا. وهذه هي الأجزاء التي يوجد فيها إطار مرجعي لراصد في مكانٍ ما في الكون بحيث يكون هذا الجزء من المستقبل متزامِنًا معه. أما الثاني: فهو الإيمان بأن التزامن ليس الشيء الوحيد الذي يتوقف على الراصد، وإنما الواقع هو الآخر يتوقف على الراصد؛ فالأسطول الزاحف من مجرة المرأة المسلسلة واقع بالنسبة لصديقي (لأنه متزامن معه)، وصديقي واقع بالنسبة لي، ولكن الأسطول الزاحف ليس واقعًا بالنسبة لي؛ وذلك لأنه يقع في مستقبلي. ليس هناك واقع حاضر مشترك موضوعي مستقل عن الراصد، ولكن هناك واقع بالنسبة لي وآخر بالنسبة لك، وهكذا. ومن الممكن أن تتداخل هذه الحقائق الذاتية. (الأسطول الزاحف من مجرة المرأة المسلسلة واقع بالنسبة لصديقي وهو أيضًا واقع بالنسبة لنفسه. والصديق فقط وليس الأسطول واقع بالنسبة لي.) إذن فالواقع الذي نعيش فيه كلنا ليس هو كل الواقع، ولكنه فقط الجزء الصغير من الواقع الذي نستطيع التفاعل فيه بعضنا مع بعض؛ نظرًا لأن كل الكائنات والأحداث في هذا الجزء واقعية بالنسبة لكل واحد فينا.
القديس أوغسطين، «الاعترافات»، الكتاب الحادي عشر
ولكن الشيء المؤكد والواضح الآن هو أنه لا توجد أشياء مستقبلية ولا ماضية؛ فليس من المناسب أن نقول إن هناك ثلاثة أقسام للزمن: ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، ولكن ربما يكون من الملائم أن نقول إن هناك ثلاثة أقسام للزمن: حاضرًا للأشياء الماضية، وحاضرًا للأشياء الحاضرة، وحاضرًا للأشياء المستقبلية. وهذه الأقسام توجد بطريقة أو بأخرى في الروح، وإلا فما كنتَ رأيتَها: حاضر للأشياء الماضية، الذاكرة؛ وحاضر للأشياء الحاضرة، المَرأَى؛ وحاضر للأشياء المستقبلية، التوقُّع. وإذا كان من المسموح لنا أن نتحدث عن هذه الأشياء، فأنا أرى الأقسام الثلاثة للزمن، وأثق أن هناك ثلاثة.
وأخيرًا، ماذا عن الحاضر؟ من بين أقسام الزمن الثلاثة، يبدو أن هذا هو الأحق بأن يوصف بأنه واقعي؛ فعلى عكس الماضي والمستقبل، الحاضر هو الذي نعيش فيه. إنه أيضًا ما نتشاركه مع جميع المخلوقات الأخرى، جميعنا في أماكن مختلفة، ولكن في الزمن نفسه. وكما يبين القديس أوغسطين، الواقع الوحيد في الماضي هو الآثار التي خلَّفها في الحاضر، والواقع الوحيد في المستقبل هي توقعاتنا بناءً على الحاضر.
إلا أنه على الرغم من الثبات الظاهري الذي يتسم به الحاضر، فهو يبدو أكثر صعوبة في الفهم بكثير من الماضي أو المستقبل. فمن الواضح أن كليهما قد استمرا (أو سيستمران) لزمن طويل، ولكن إلى متى يستمر الحاضر؟ مهما قصرت المدة التي نحددها، يمكننا تمييز المزيد من الأجزاء المؤقتة في هذه المدة، ومن بين هذه الأجزاء لا يستحق أن نطلق لفظ «الحاضر» إلا على الأجزاء المتوسطة. ولكن إذا واصلنا تقسيم الوقت بهذه الطريقة، فسوف يتقلص الحاضر إلى محض شفرة موسى، محاطة بالماضي من ناحية والمستقبل من ناحية أخرى. وهذا «الحاضر» الجديد قصيرٌ للغاية لدرجة أننا نتساءل كيف يمكن أن يحدث فيه أي شيء؟!
عند هذه النقطة، من المفيد أن نفرِّق بين اللحظة الآنية الذاتية، أو النفسية، وبين الحاضر الواقعي. يمكننا ببساطة تحديد مدة استمرار اللحظة الآنية الذاتية بتجربة بندول الإيقاع. إذا ضبطنا البندول على ١٢٠ دقة في الدقيقة (بحيث نسمع دقتين في الثانية)، يمكننا تشكيل مجموعات من هذه الدقات بإعطاء وزن ذاتي إضافي لكل دقة ثانية نسمعها. ويمكننا تشكيل مجموعات أكبر بإعطاء مثل هذا الوزن لكل دقة ثالثة، أو كل دقة رابعة، وهكذا. ولكن هذه القدرة على تشكيل مجموعات تتبدد في مكانٍ ما. ومن السهل أن نرى هذا عندما نقلِّل السرعة إلى ٤٠ دقة في الدقيقة. الآن هناك فارق ١٫٥ ثانية بين كل دقة ودقة، وأصبح من الصعب بالفعل تشكيل مجموعات من دقتين. بشكل عام، البشر غير قادرين على تشكيل مجموعات دقات مجربة ذاتيًّا تستمر أكثر من ثلاث ثوانٍ. (إذا حاولتَ إلقاء الشعر باستخدام ساعة توقيف، فسوف تدرك أيضًا أن مدة استمرار إلقاء معظم أبيات الشعر أقل من ثلاث ثوانٍ.) ولذا فإنه من المنطقي أن نقدِّر مدة استمرار الحاضر الذاتي بحوالي ثلاث ثوانٍ.
هكذا يمكننا أن نقول إن الحاضر الذاتي أو النفسي ليس شفرة موسى، وإنما هو سرج فرس له عرض خاص به. ولكن الحاضر النفسي، بالطبع، لا يشبه الحاضر الواقعي. ومع أن الحاضر النفسي يكوِّن أفقنا الزمني، ويشمل كل الأحداث التي نعتبر أنها تحدث على نحو متزامن وتحدث الآن، إلا أنه ما زال بالإمكان تقسيمه مرة أخرى؛ فالشخص الذي يَسِير بسرعة عادية يعبر مسافة حوالي أربعة أمتار أثناء الحاضر الذاتي. وعندما يصل إلى نقطة المنتصف، فإن المترين الأخيرين اللذين سارهما سيقعان في جزء الحاضر النفسي الذي يعتبر ماضيًا، في حين أن المترين التاليين سيقعان في الجزء الذي يعتبر مستقبلًا. فالحاضر الذاتي أو الظاهر ممتد زمنيًّا، ويمكن تقسيمه إلى أجزاء سابقة ولاحقة. من ناحية أخرى، فالحاضر الفعلي لا ينطوي على أجزاء وليس له مدة معينة.
عندما نتساءل عمَّا إذا كان الحاضر واقعيًا، فإننا لا نريد معرفة إذا ما كان واقعيًا وفقًا لتعريفات «الواقع» الثلاثة الأولى التي يمكن وصفها بأنها تعريفات «سهلة». وجميعنا نعرف أن الحاضر يَظهر لنا ويَظهر أيضًا لأغلب الناس؛ ولذا فإنه واقع لا يقبل الشك وفقًا لتعريف فيلم «ماتريكس» ولتعريف رواية «١٩٨٤». ولكن ماذا عن تعريفَي نهاية العالم والسلحفاة «الصعبَيْن»؟
تكمن الصعوبة التي تواجهنا عند الدفاع عن كون اللحظة الآنية واقعًا أم لا وفقًا لهذين التعريفين في أنها لا تظهر في النظريات العلمية على الإطلاق؛ فعلى الرغم من أن الحاضر مهم للغاية بالنسبة للطريقة التي يَظهَر بها العالم لنا (لأنه وقت ظهور العالم لنا)، فإنه ليس واقعيًا بأي شكل من الأشكال وفقًا لتعريف نهاية العالم للواقع. فلو لم يكن هناك كائنات واعية، لَما كان هناك «الآن». ولن يستطيع أيُّ وصف علمي كامل للكون أن يخبرنا متى يكون الآن. ولن يمنح اللحظة الآنية أي سمة خاصة لا تشاركها فيها أية لحظات زمنية أخرى.
ثمة صعوبة أخرى؛ وهي أنه على الرغم من أهميتها الذاتية، فإننا لا نشعر مطلقًا بمرورنا باللحظة الآنية. تستغرق معالجة المعلومات العصبية وقتًا؛ فإذا شعرتَ بدفء النار بيَدِك، يجب أن ينتقل هذا الشعور من جزء معين من بشرتك عبر مسارات عصبية متعددة خلال ذراعك، وجسمك، إلى أن يصل في النهاية إلى الدماغ. وبمجرد أن تصل معلومة درجة الحرارة إلى هناك، فإنها تندمج مع العديد من المعلومات الأخرى (التي ربما تكون قد دخلت عبر أعضاء الحواس الخاصة بك في أزمنة مختلفة)، مثل منظر اللهب أو رائحة الخشب المحترق. هذا التمثيل المتماسك المعقد الذي ينطوي على كائنات أو أحداث وخصائصها سيكون هو تمثيل النار. ومع ذلك بمجرد أن تتاح لنا هذه المعلومة معرفيًّا، فإن اللحظة التي حدث فيها الحدث وكل ما حدث في هذه اللحظة يعتبر بالفعل شيئًا من الماضي. وعندما نحاول التواصل مع اللحظة الآنية، نواجه الموقف نفسه للشخص الذي ينظر إلى نجم بعيد، وما زال نور هذا النجم يصل إلى عينيه، في حين أن النجم نفسه قد اختفى من الوجود. من الواضح أن النطاق الزمني المعني هنا أقصر بكثير، ولكن النقطة الأساسية تظل كما هي.
بحث عالمُ الفسيولوجيا الأمريكي بنجامين ليبت الفترةَ الفاصلة المنقضية إلى أن يبني الدماغ تمثيلًا واعيًا للحاضر في مجموعة من التجارب بدأت في الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت تجارب ليبت مهمة بشكل خاص لأنها اشتملت على تفاعل مباشر مع دماغ الشخص الخاضع للتجربة. هناك أنواع معينة من الجراحات يجب إجراؤها أثناء وعي المريض وبتخديره موضعيًّا فحسب. بهذه الطريقة يستطيع الجرَّاح تحفيز مناطق معينة على سطح الدماغ باستخدام تيار كهربي ضعيف. وبمراقبة ردود أفعال المريض الجسدية يستطيع الجراح إنتاج خريطة لسطح الدماغ، ويحرص على تجنب جميع المناطق الحيوية أثناء الجراحة التالية. أثناء رسم هذه الخريطة، من الممكن في بعض الأحيان إجراء تجارب إضافية لا يَنتج عنها أي مخاطر جديدة (على افتراض موافقة المريض على إجراء هذه التجارب).
أجرى ليبت التجربة بتحفيز المناطق من الدماغ التي تعالج المعلومات المرتبطة بحاسة اللمس الصادرة من البشرة. وبتوصيل هذه المناطق بتيار كهربي، يشعر المريض بشعورٍ ما، «يوجهه» بعد ذلك نحو الجزء من الجسم الذي تأتي منه عادة المعلومات الحسية المعالَجة بهذا الجزء من الدماغ؛ ومن ثم رغم تحفيز دماغه، فإن المريض يشعر بوخز خفيف على بشرة يده، وليس على سطح دماغه.
ومن النتائج المهمة التي اكتشفها ليبت أنه ينبغي تسليط الحافز الكهربي لفترة طويلة نسبيًّا (حوالي نصف ثانية) حتى يشعر به المريض. عند تدقيق النظر في العمليات الإدراكية، نجد أن ٥٠٠ ملِّي ثانية فترة طويلة للغاية. (لأغراض المقارنة، تبلغ «مدة الإرسال» اللازمة لنقل نبضة كهربية من اليد إلى الدماغ حوالي ٢٠ ملِّي ثانية فقط.) لم تترك عمليات التحفيز الكهربي الأقصر أي تأثير على الإطلاق، حتى في حالة جعل النبضات أكثر قوة. وجدير بالذكر أن هذه المهلة الإدراكية التي يبلغ طولها نصف ثانية لا تعني ضمنًا أن كل تفاعلاتنا مع العالم تتأخر بمقدار نصف ثانية؛ فنحن قادرون على الإتيان برد فعل بصورة أسرع من ذلك. (على سبيل المثال، نحن نستطيع تمييز الأصوات في وقت قصير للغاية يصل إلى ثلاث ملِّي ثوانٍ.) إلا أن معظم ردود أفعالنا السريعة لا تنطوي على وعي بالشيء الذي نُصدر رد فعلنا تجاهه. أما فيما يتعلق بالإدراك الواعي للعالم، فإن مدة ٥٠٠ ملِّي ثانية تبدو ضرورية ليصبح الشعور واعيًا. إذن فالاكتشاف غير الواعي الذي يقوم به الدماغ ربما يكون أسرع، ولكن الوعي يحتاج إلى مزيد من الوقت.
يمكن مقارنة هذا التأخير البالغ نصف ثانية بالفاصل الزمني المعتاد عند إذاعة البرامج التليفزيونية «المباشرة» (والذي يمكن أن يتراوح بين عدة ثوانٍ وعدة دقائق). يتيح هذا الفاصل الفرصة لإجراء عمليات المونتاج أو الرقابة في اللحظة الأخيرة بعد تصوير حدثٍ ما، ولكن قبل إذاعته. (كان هذا الفاصل غائبًا بسبب خطأ تقني في الحفل الذي يقام في مباراة سوبر باول عام ٢٠٠٤.) يمكن أن يحدث شيء مشابه لذلك في الدماغ؛ ففي الخمسمائة ملِّي ثانية التي يستغرقها إحساس البشرة ليصبح واعيًا، من الممكن «إجراء عملية حذف» له، بحيث لا يدخل حيز خبرتك على الإطلاق. عَرَّضَ ليبت مرضاه لإحساسين؛ أحدهما تَسبَّب فيه تحفيز البشرة، والآخر تَسبَّب فيه تحفيز الدماغ. ويمكن تمييز الإحساسين بسهولة عند الشعور بهما على نحو منفصل. الغريب في الأمر أن تحفيز الدماغ إذا حدث بعد تحفيز البشرة بحوالي ٢٠٠ ملِّي ثانية، فإن الشخص لن يشعر بتحفيز البشرة على الإطلاق.
تمكَّن تحفيز الدماغ من حجب إحساس البشرة؛ مما منع الإحساس من الدخول إلى حيز الوعي. والشيء الوحيد الذي جعل هذا ممكنًا هو أن إدراكنا الحسي لا يتصل بشكل مباشر مع الحاضر؛ ففي الوقت الذي نصبح فيه واعين بإحساسٍ ما، يكون عمر هذا الإحساس نصف ثانية، ونظرًا لتأخير عملية الإدراك الحسي، يصبح من الممكن التدخلُ في أي إشارة وصلت بالفعل إلى دماغنا، وجَعْلُها تختفي قبل أن تدخل إلى حيز الوعي. في حالة البرامج التليفزيونية المعروضة على الهواء مباشرة، فإن وجود الفاصل الزمني الذي يُخرج خبرتنا من حيز الحاضر يجعلنا نشك في دقة العرض؛ ففكرة أن إدراكنا الحسي لا يتصل بشكل مباشر بالحاضر، وإنما يتيح وقتًا وفيرًا يمكن أن تحدث فيه عمليات تحرير داخلية، ربما تجعلنا نشك بالمثل في حقيقة تمثيل الواقع كما يتراءى لنا الآن.
ومما قد يعزز هذا الشك إحدى الحيل المدهشة التي يستطيع الدماغ أن يقوم بها. مرة أخرى، عَرَّض ليبت المريض لحافزين مختلفين؛ أحدهما سُلِّط بشكل مباشر على الدماغ، والآخر سُلِّط على البشرة. وتم تسليط الحافز على الدماغ أولًا، ثم بعد حوالي ٢٠٠ ملِّي ثانية تم تسليط الحافز الآخر على البشرة. كما هو متوقع، شعر المريض بالحافز على الدماغ بعد حوالي ٥٠٠ ملِّي ثانية. وقد نفترض أن المريض سيشعر بالحافز على البشرة بعد ٢٠٠ + ٥٠٠ = ٧٠٠ ملِّي ثانية. ولكن المدهش أن المريض ذكر أنه شعر بالحافز على البشرة قبل الحافز على المخ، بعد حوالي ٢٠٠ ملِّي ثانية؛ أي بعد تسليط الحافز على البشرة مباشرة تقريبًا.
كيف يمكن تفسير عملية انعكاس الترتيب الزمني، التي قلبت الترتيب الحقيقي (الدماغ-البشرة) إلى الترتيب النفسي (البشرة-الدماغ)؟ بالطبع، الحافز المسلط على البشرة يتعرض مثله مثل الحافز المسلط على الدماغ للفاصل الزمني البالغ نصف ثانية قبل أن يصل إلى الوعي؛ ولذا فإن التفسير الوحيد لهذه النتيجة المدهشة هو أن الدماغ يحدد زمنًا سابقًا لبداية التجربة الواعية للحافز على البشرة؛ فبدلًا من أن يشعر به المريض في توقيته الحقيقي بعد ٧٠٠ ملِّي ثانية، فإنه يشعر به ظاهريًّا بعد ٢٠٠ ملِّي ثانية؛ أي بعد تحفيز البشرة مباشرة. ومثلما يغير فنيُّ الرقابة على البرامج التليفزيونية ترتيبَ مشهدين في أي عرض مباشر، يخدعنا دماغنا بشأن الحدث الذي وقع أولًا. وهكذا، ليس هناك أي ضمان لأن الترتيب الذي ندرك به الأحداث يتفق فعليًّا مع ترتيب وقوع الأحداث.
لعلنا نَعتبر تأخير إدراكنا الحسي عن الحاضر شيئًا مزعجًا، ولكنه ليس أمرًا ذا أهمية خاصة، وليس له سوى نتائج عملية قليلة. إلا أن هذا الأمر قد يكون له تداعيات مُزعِجة للغاية عند اقترانه برؤية معينة (ومنتشرة) لواقع أقسام الزمن الثلاثة. تلك هي الرؤية التي تتلخص في أن الحاضر وحدَه هو الواقع، وليس الماضي أو المستقبل. ولا تَعتبِر هذه الرؤية، التي تُعرف باسم فلسفة الحاضر، اللحظة الآنية لحظة مركزية في التجربة فحسب، ولكنها أيضًا تعتبرها لحظة مركزية في الوجود. فليس فقط كل ما نمر به (الأحاسيس والذكريات والتوقعات) نمر به الآن، بل إن «الآن» هو الزمن الوحيد الموجود؛ فعندما نتحدث عن الماضي وعن المستقبل، نحن في الواقع نتحدث عن سمات معينة للحاضر (مثل عظام ديناصور أو التخطيط لرحلة إلى المريخ). إلا أن الماضي غير موجود على الإطلاق، ولا يكمن حتى في عالم غامض بين الوجود واللاوجود. ولكن إذا كان إدراكنا الحسي لا يربطني إلا بما حدث في الماضي فقط، إذن فأعضاء الإحساس الخاصة بنا لا تستطيع إعطاءنا أي معلومات عن العالم المحيط بنا. في الواقع، الموقف غاية في التعقيد والغموض؛ فلا شيء مما ندركه موجود؛ لأنه بحلول الوقت الذي ندرك فيه أي شيء يكون كل شيء قد اختَفَى، ومع ذلك كيف يمكن أن تكون تجربتنا بالكامل، والعالم كما نراه من حولنا، ما هي إلا إدراك لشيء غير موجود؟
سبق ورأينا أن أحد أقسام الزمن، بالتحديد الحاضر، لا يمكن اعتباره واقعًا وفقًا لأحد تعريفات الواقع المعقدة؛ فالحاضر لا يعتبر واقعًا وفقًا لتعريف نهاية العالم، لأنه في عالم خالٍ من العقول، لا يمكن أن يكون هناك حاضر. والحاضر ما هو إلا نتاج نفسي، ولكنه ليس من المكونات الأساسية لعالم بلا عقول. وما لم نفترض أن العقول من مكونات العالم التي لا يمكن الاستغناء عنها، فهذا أيضًا يعني ضمنًا أن الحاضر لا يمكن أن يكون واقعًا وفقًا لتعريف السلحفاة، فليس من الممكن أن يكون أحد المكونات الأساسية في العالم. ولكن ماذا عن أقسام الزمن الأخرى: الماضي والمستقبل؟ على الرغم من أن الحاضر لا يحتل مكانًا في الفيزياء، فإن الزمن تمتع لوقت طويل بمكان بارز فيها؛ ففي عالم نيوتن، الزمن هو الموحِّد العظيم الذي ينسِّق الأحداث في كل مكان في العالم، وتدفُّقه المستمر من الحاضر للمستقبل يحدد ترتيبها والمسافة التي تفصل بين بعضها وبعض. إلا أن تطور الفيزياء دحض هذه الرؤية للزمن تدريجيًّا؛ ﻓ «سهم» الزمن الموجَّه من الماضي إلى المستقبل لم يَعُدْ يُرَى باعتباره أحد سماته الجوهرية (وإنما باعتباره نتيجة كيفية ترتيب المادة في الكون)، والتزامن يعتمد على أُطر مرجعية، والزمن يستطيع التدفق بسرعات مختلفة في الأماكن المختلفة، وهكذا.
ألَا تزال الفيزياء تَعتبر الزمن واقعًا وفقًا لتعريف السلحفاة؛ بمعنى أنه جزء لا يتجزأ من الكون، ومكون رئيسي من مكونات الوجود بصرف النظر عن أي شيء آخر؟ على الرغم من عدم اتفاق الباحثين على لا زمنية العالم، فإن ثمة عددًا من النظريات المهمة التي طُرحت، والتي لا تفترض أن وجود الزمن أمرٌ واقعي بالضرورة. وللدفاع عن هذه الفكرة من المفيد أن نقارن الزمن بالمال. لا أحد يرى المال مكونًا جوهريًّا من مكونات العالم؛ فالمال ببساطة ما هو إلا أداة اختُرعت لتيسير المعاملات الاقتصادية. ومع ذلك، فإن هذه المعاملات ممكنة دون وجود المال، كما يشهد نموذج اقتصاديات المقايضة. بالطريقة نفسها، الوظيفة الأساسية للزمن، وهي وصف التغيير، يمكن تأديتها دون أي إشارة للزمن، وذلك بربط العمليات الفيزيائية المتكررة مباشرة بعضها ببعض؛ فبدلًا من أن نقول إن النحلة ترفرف بجناحيها ٢٣٠ مرة في الثانية، وأن قلب الإنسان يدق ٧٥ دقة في الدقيقة، وأن الأرض تلف حول نفسها مرة في اليوم، يمكننا وصف سرعة دقات القلب بأنها تكافئ ١٨٤ رفرفة، ونَصِف سرعة دوران الأرض بأنها تكافئ ١٠٨ ألف دقة قلب، أو أن نقول إن رفرفة جناح النحل تكافئ ٠٫٠٠٥ دقة قلب. وبمقتضى هذه الطرق الجديدة في الوصف، اختَفَتْ جميع الإشارات للثواني والدقائق والأيام. هذه الطريقة الجديدة للحديث عن الزمن طريقة مُرهِقة، تمامًا كما أن اقتصاديات المقايضة مرهقة؛ فلكي تحصل على الأصيص الفخاري الذي تود شراءه، عليك أن تحمل معك العديد من السلع، على أمل أن تُعجِب إحداها بائع الأصص الفخارية لكي يَمْنَحك الأصيص مقابلها. أليس من الأسهل بكثير أن تحمل تلك الأداة المحايِدة لتخزين القيمة التي يطلق عليها «المال»، والتي تصلح للتعامل في مواقف عديدة؟ بالمثل، أليس الأسهل أن يكون لديك تلك الأداة المحايدة لتحديد التغيير، التي يطلق عليها «الزمن»، والتي يمكنها أن تُعفيك من الاضطرار لقياس كل تغيير في إطار عملية دورية محددة، مثل دوران الأرض؟ يرى مؤيدو نظرية لا زمنية العالم أن خطأنا يكمن في رفع شأن المخترعات المُرِيحة مثل المال والزمن إلى مستوى الكائنات الواقعية وفقًا لتعريف نهاية العالم أو تعريف السلحفاة.
على الرغم من أنه وفقًا لهذه الرؤية يُعَدُّ الزمن شيئًا غير واقعي، فإن واقع تغيير الأشياء ليستْ مَدْعاة للشك بأي حال من الأحوال. ثمة إنكار أكثر تطرفًا لوجود الزمن في التطورات الحديثة في مجال الفيزياء. ومن الأسهل فهْم المفاهيم الأساسية المتضمنة بالنظر إلى أحد تنويعات نظرية الكون الجامد الشهيرة حاليًّا. تخيل مجموعة من أوراق اللعب والعثة الآكلة للورق التي تحفر نفقًا عبر مجموعة أوراق اللعب كلها، بداية من الورقة العليا وحتى الورقة السفلى. إذا بعثرنا أوراق اللعب، فمن الممكن لاحقًا أن نُعِيد وضعها بترتيبها الأصلي عن طريق وضعها بعضها فوق بعض بحيث نكوِّن النفق الأصلي. هذه هي الفكرة الشائعة لفلسفة الكون الجامد؛ إذ تمثل أوراق اللعب «اللحظات الحاضرة» المتتابعة، ويمثل النفق حركة الكائن في الفضاء الثنائي الأبعاد.
الآن تخيلْ مجموعة من أوراق اللعب أكبر بكثير، بحيث إنه في كل مكان محتمل يمكن أن يوجد بالورقة ثقب فيه، هناك ورقة بها ثقب في هذا المكان بالتحديد. علاوة على ذلك، يمكن أن تتكرر أوراق اللعب، فمن الممكن وجود ورقتين لديهما ثقب في المكان نفسه، وعشرة ملايين ورقة بها ثقب في مكان مختلف. فالتاريخ، وفقًا لنظرية الكون الجامد الشائعة، يتكون من أوراق لعب متجاورة بها ثقوب في مواقع شديدة التشابه. ووفقًا للنظرية الجديدة، لا تتمتع الأوراق المتتابعة بالضرورة بهذه السمة؛ فالأوراق المتتابعة يمكن أن تحتوي على ثقوب في أماكن مختلفة اختلافًا جذريًّا بعضها عن بعض. وفي حين أن جميع نظريات الكون الجامد لا تعترف بتدفق الزمن، فإن النظرية الشائعة على الأقل تعطينا انطباعًا بأن التاريخ يتكون من سلسلة فريدة من الحالات. فإذا غضضنا الطرف عن الزمن، فسوف نرى منحنًى ممهَّدًا عبر مجموعة اللحظات يقابل التغييرات التي يمر بها الكائن عبر الزمن. ولكن وفقًا للنسخة البديلة للنظرية، نحن لا نستطيع حتى أن نَجِدَ مكافئًا جامدًا ثلاثي الأبعاد للتغيير الذي يحدث في عالم ثنائي الأبعاد؛ فالواقع أغرب من هذا بكثير.
تتوافق مجموعة أوراق اللعب مع الحالات الممكنة للكون بأسره في لحظة معينة. فتمامًا كما أن أوراق اللعب التي تحتوي على ثقوب في أماكن مختلفة تمامًا يمكن وضعها متجاورة في مجموعة أوراق اللعب، كذلك يمكن أن تتكون المراحل المتعاقبة للكون في الزمن من نماذج غير مترابطة من الحالات المتنوعة. وفي حين أن الرؤية الشائعة لنظرية الكون الجامد تفترض أن مراحل الكون المختلفة المتجاورة يشبه بعضها بعضًا بطرق شتى، فإن النسخة البديلة للنظرية نفسها تختلف مع هذه الرؤية تمامًا؛ فمسار التاريخ قادر على القفز على نحو اعتباطي في حيز نُسَخ الكون البديلة المتباينة.
لكن كيف إذن يبدو العالم كأنه يتغير تغيرًا سلسًا، حيث يشبه الحاضر الماضي القريب إلى حدٍّ بعيد. فنحن عندما نرى كرة بلياردو تتحرك، نفترض أنه في اللحظة السابقة من عمر الكون كانت نسخة الكرة السابقة إلى يسار النسخة الحالية التي نراها الآن، ولكن يمكن أن يكون الوضع مختلفًا تمامًا وتكون اللحظة السابقة من عمر الكون مختلفة اختلافًا جذريًّا عن اللحظة الحالية. إننا لا نتصور أن هذا ممكن لأن بعض السمات في الحاضر تعطينا انطباعًا بأن اللحظة السابقة كانت على نحو معين. وليس هناك أي وسيلة لمعرفة ما حدث في اللحظة السابقة؛ ولذا فإن كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نراقب سماتٍ أو تراكيبَ معينةً في الحاضر ونستنتج منها ما كانت عليه اللحظة السابقة.
ولنضرب مثالًا ماديًّا على ذلك؛ افترضْ أننا جمدنا دماغ راصد أثناء مشاهدته كرة بلياردو تتحرك، سوف يشفِّر الدماغ المعلومات المتعلقة بموقع الكرة الحالي، ولكنه سيشفر أيضًا بعض المعلومات عن موقع الكرة السابق من اللحظات السابقة لمعالجة الخلايا العصبية، بهذه الطريقة توجد لقطات متعددة في الدماغ في الوقت نفسه، ويقوم الدماغ بإنتاج مشهد الكرة المتحركة من الصور المتزامنة للكرة الثابتة. وقد يكون كل هذا ممكِنًا «حتى إذا لم تحتوِ اللحظة السابقة من عمر الكون على أي كرة على الإطلاق.» إن بإمكاننا إنتاج منظر التغيير المتضمن في الزمن المتدفق، وكذلك خبرة التاريخ المتغير بسلاسة حتى في العالم الذي تعقب فيه نسخ غير مترابطة من تاريخ الكون بعضها بعضًا بطريقة عشوائية؛ ومن ثم فإن طبيعة خبرتنا مع الزمن والتغيير لا يمكن أن تعتبر حجة ضد جواز هذه النسخة الخاصة من نظرية الكون الجامد.
والآن دعونا نتحدث عن الاحتمال الأخير، بدلًا من أن نقول إن هناك انتقالًا «سلسًا» من نسخة إلى نسخة مختلفة من الكون في نظرية الكون الجامد المألوفة، أو انتقالًا عشوائيًّا وثَّابًا في النسخة التي تحدثنا عنها للتوِّ من النظرية، يمكننا أن نقول إنه ليس ثمة انتقال بين النسخ المختلفة للكون، سواء كان انتقالًا سلسًا أو وثَّابًا؛ فكل صور الكون اللحظية الممكنة واقعية على حدٍّ سواء. على عكس نظرية الكون الجامد، لا يمكننا أن نساوي بين الكائنات في الزمن وبين المسارات الموجودة داخل هذا الكون. وعلى عكس ما جاء في النظريات المؤيدة لفلسفة الحاضر، ليس هناك حاضر واحد واقعي، فكل الحواضر واقعية على حد سواء، وتوجد على نحو حاسم في عالمٍ لا زمنيٍّ مجرد. إن لدينا انطباعًا بأننا نعيش في عالم له ماضٍ لأن بعض تراكيب الحاضر الذي نعيشه يمكن تفسيرها كآثار للحواضر السابقة التي سبقت حاضرنا. وهو يحتوي على سمات يمكن تفسيرها كسجلات متسقة بالتبادل مع العمليات التي حدثت في الماضي وفقًا لقوانين معينة من قوانين الطبيعة.
وعبارةُ «يمكن تفسيرها» هي عبارةٌ حاسمة الأهمية في هذا السياق؛ نظرًا لعدم وجود حاضر سابق. فإذا كان الله قد خلق العالم عام ٤٠٠٤ قبل الميلاد، بما فيه كل سجلات الحفريات، يمكننا تفسير هذه السجلات كدليل على وجود حيوانات تعيش في أزمنة سابقة على هذا التاريخ، ولكننا بطبيعة الحال سنكون على خطأ في هذا التفسير. في الواقع، يُعَدُّ الموقف أكثر راحة في الحالة الحاضرة؛ لأنه إذا كانت كل النسخ المختلفة للكون واقعية على حدٍّ سواء، فإن الحاضر الذي يحتوي على الديناصورات واقعي تمامًا كالحاضر الذي نعيش فيه. ويمكننا النظر إلى حاضرنا باعتباره ينطوي على تمثيل جزئي لحاضر الديناصورات (عبر سجلات الحفريات)، وحينئذٍ لن تكون ادِّعاءاتنا حول وجود الديناصورات خاطئة بالكامل؛ فالديناصورات موجودة بالفعل، ولكن كل ما هنالك أن الحاضر الذي تسكنه ليس السلف الزمني للحاضر الذي نعيش فيه. في هذه النسخة من فلسفة الحاضر المُفرِطة، الزمن ليس واقعيًا وفق أي معنًى من معاني كلمة «الواقع» التي ذكرناها من قبلُ. وعلى المستوى الأكثر بدائية، العالم ثابت تمامًا.