ملاحظات ختامية
تنزع الكتب الفلسفية إلى الانتهاء بملخص للآراء التي يطمح المؤلف أن يكون قد رسخها في ذهن القارئ، ولكنني لن أفعل ذلك هنا؛ ففي حين أن الصفحات السابقة تشتمل على عدد من الحجج المؤيدة لعدم واقعية الأشياء التي نراها عادة واقعية (الكائنات المادية، وأنت، واللحظة الآنية)، بالإضافة إلى واقعية أشياء غالبًا ما ننظر إليها باعتبارها غير واقعية (كالمستقبل)، فإننا لا نستطيع أن نزعم أن واقعية أو زيف أي شيء قد ترسخت بشكل كامل. فَلِكَي نقوم بهذا الزعم سنحتاج إلى مساحة تتجاوز بكثير مساحة هذا الكتاب الموجز. على سبيل المثال، كان من ضمن القضايا التي أثرناها هنا قضية واقعية النفس، وهذه القضية طالما كانت محل نقاش منذ أكثر من ألفَيْ وخمسمائة عام في المعتقدات الفلسفية الهندية، كما أنها أنتجتْ قدرًا ضخمًا من الأدبيات الفلسفية في الغرب. وكل ما استطعتُ فعله في الصفحات السابقة هو الإشارة إلى بعض الآراء المهمة البارزة وإعطاؤك بعض المؤشرات التي ستمكنك من استئناف التفكير في هذه القضايا بنفسك.
وبدلًا من أن أقدِّم لك ملخصًا للنتائج، ما أودُّ القيام به هنا هو أن أقدم لك عدة مخططات فلسفية تُيسِّر عليك تجميع الآراء المتنوعة الواردة في هذا الكتاب لصياغة رأي فلسفي متماسك. وتتكون المخططات من أشكال ثمانية ورباعية الأضلاع، مجمعة بطريقةٍ ما تذكرنا ببلاط أرضية الحمام. تمثل الأشكالُ الثُّمانيةُ الأضلاعِ العقولَ الواعية، والشكل الثُّماني المركزي تحديدًا يمثِّلك أنت. وتمثل المربعات كل الأشياء الأخرى غير الواعية. وسوف نلون الشكل باللون الرمادي إذا كان الكائن الذي يعبر عنه الشكلُ واقعيًا، أما إذا كان غير واقعي فسوف نتركه باللون الأبيض. وفيما يلي الآراءُ الفلسفيةُ الأكثر أهمية:
المخطط (أ) يلون كل الأشكال باللون الرمادي. وفقًا لهذه النظرية، التي يمكن أن نطلق عليها «العالمية»، كل الأشياء حقيقية؛ فالإلكترونات والعقول والنقود والأرقام كلها جزء لا يتجزأ من هذا العالم. وتكمن صعوبة هذه النظرية في أننا سنضطر إلى أن ننظر إلى بعض الأشياء غير الواضحة باعتبارها أشياء واقعية، مثل أخيك التوءم غير الموجود أو الملك الحالي لنيبال. وفي حين أننا نستطيع التغاضي عن ذلك في نطاق الكائنات الممكنة، فماذا يفترض أن نقول بخصوص الكائنات المستحيلة، مثل أكبر رقم أو ابن المرأة العقيمة أو تفنيد صحة مبرهنة فيرما الأخيرة؟
بالمقارنة بهذه الغابة الوجودية، نجد أن المخطط (ب) يميل إلى الاقتصار بدرجة كبيرة للغاية؛ فالشيء الوحيد الواقعي هو أنت، ولا شيء غيرك. كانت هذه النظرية، التي يطلق عليها «نظرية الإيمان بالذات» أو «الذاتوية»، جذابة ومفزعة في الوقت نفسه بالنسبة للتنظير الفلسفي لقرون؛ جذابة لأنها تبدو غير قابلة للدحض، ومفزعة لأن مثل هذا العالم سيراه معظم الناس خانقًا.
لسوء الحظ أن هذه النظرية قد لاقت اهتمامًا أكبر بكثير من ابنة عمها، «اللاذاتوية»، والموضحة في المخطط (ﺟ). وفقًا لنظرية اللاذاتوية، كل ما عداك واقعي، أما أنت فلا. وهي تمثل الرؤية التي قد تملكها شخصية خيالية عن عالم مؤلفها (وليس العالم الخيالي الذي تعيش فيه الشخصية) وتتعارض تمامًا مع إيماننا الراسخ بأننا مركز العالم، والنقطة المحورية التي تلف حولها عجلة الوجود.
يمثل المخطط (د) نظريةً (أو على الأحرى مجموعة من النظريات) يمكننا أن نطلق عليها الواقعية الانتقائية. ويمكن تصنيف أغلب النظريات الفلسفية المطروحة حاليًّا ضمن هذه الفئة. وفقًا لهذه النظرية، أنت واقع، وكذلك العديد من الأشخاص الآخرين. ولكن ليس الكل، فهناك شخصيات غير واقعية مثل لارا كروفت وشيرلوك هولمز. ومن بين الأشياء غير الواعية التي تمثلها المربعات، بعض الأشياء واقعية وبعضها غير واقعي. ويعكس ما نعتبره واقعيًا وما نعتبره غير واقعي شتَّى النظريات المتعددة التي يمكن تصنيفها في فئة «الواقعية الانتقائية». بالنسبة لبعض النظريات، ربما تعتبر الإلكترونات واقعية، والكائنات الحسابية مثل الأرقام والدوال ليست كذلك. وبالنسبة لنظريات أخرى، الكائنات الحسابية واقعية، ولكن الكائنات المادية ليست كذلك. وبالنسبة لبعضها، الزمن واقعي؛ وبالنسبة للبعض الآخر، هو ليس كذلك.
رغم هذا التنوع، يمكننا تشكيل فئتين فرعيتين كبيرتين من جميع نظريات الواقعية الانتقائية. هاتان الفئتان ممثَّلَتان في المخططين (ﻫ) و(و). في الفئة الأولى من النظريات (التي سأطلق عليها نظريات «اللاعقل») كل الكائنات الواعية غير واقعية. في الأساس يتكون العالم من أشياء كالجسيمات دون الذرية أو نقاط الزمكان أو الكائنات الرياضية، ولكنه ليس مكونًا من عقول أو أشخاص أو أنفس. بطبيعة الحال، ستحتاج هذه النظريات إلى تفسيرِ كيف يمكن للكائنات الواعية أن تظهر في عالم لا عقلي. وعلى الرغم من أن نظريات اللاعقل قد أثمرت قدرًا معقولًا من الأفكار الثاقبة بشأن العلاقة ما بين العقلي والجسدي، فمن الإنصاف أن نقول إن هذا المشروع لم يكتمل بعدُ بما يرضي جميع الأطراف. من ناحية أخرى، تنص النظريات التي تندرج تحت المخطط (و) (التي أطلق عليها نظريات العقل الجماعي)، على أن الأشياء الواقعية الوحيدة هي الأشياء الواعية. فالعقل وما يفعله العقل هو فقط الواقعي، ويكمن التحدي إذن في تفسير كيف أن الأشياء التي نعرف أنها لا عقلية، مثل فنجان الشاي أو جبل إفرست، يمكن أن ننظر إليها باعتبارها جزءًا من العالم الذي نعيش فيه. وبدلًا من أن نشرح كيف ينبثق العقل من المادة، ينبغي أن تفسر نظريات العقل الجماعي كيف تنبثق المادة من العقل.
في المخطط الأخير (ز)، كل الأشكال بيضاء؛ بمعنى أنه وفقًا لهذه النظرية ليس هناك شيء واقعي. وهذه النظرية (التي يطلق عليها «اللاواقعية») لاقت نجاحًا أكبر قليلًا من نظرية العدمية التي تزعم أنه لا شيء موجود. ثمة شكوك تحوم حول ما إذا كان من الممكن حتى صياغة هذه النظرية على نحو متماسك، فلو أنه لا شيء موجود؛ إذن فعدم وجود أي شيء هو شيء واقعي؛ ومن ثم فهناك حقيقة تقضي بأنه لا شيء واقعي؛ ومن ثم يكون لدينا على الأقل شيء واحد واقعي، وهو هذه الحقيقة.
إذن يوجد شيءٌ ما، وهذا يتعارض مع الافتراض المبدئي بعدم وجود شيء. أما نظرية اللاواقعية، فهي لا تواجه تلك المشكلة. في الواقع، إذا فهمنا الواقع وفقًا لتعريف السلحفاة، فسنستطيع أن نتفهم تمامًا أنه لا شيء حقيقي؛ لأنه لا شيء يؤسس لسلسلة علاقات الاعتماد المنحدرة (إما لأن هذه السلسلة تستمر إلى ما لا نهاية، أو لأنها تكوِّن حلقة تكرارية كبيرة). فإذا كانت اللاواقعية واقعية، فإن هذه المقدمة القصيرة إلى الواقع كان من الممكن أن تكون أقصر بكثير جدًّا مما هي عليه؛ لأنه مثل «الثعابين في أيرلندا»، و«دراسة وجمع الطوابع الآشورية-البابلية»، و«تاريخ العجلة في أمريكا قبل الكولومبية»، ما «الواقع» إلا عنوان لا يندرج تحته أي شيء.