(١) الواقع الجغرافي للغرب الإسلامي
نظرًا لأهمية الواقع الجغرافي للغرب الإسلامي وجب التنويه له حتى يتسنَّى تكوين
تصوُّر جغرافي لمناطق زراعة وصناعة وتجارة النسيج في الغرب الإسلامي.
فيُطلق لفظ بلاد المغرب على المنطقة التي يحدُّها المحيط الأطلسي من جهة
الغرب،
١ ومن جهة الشرق أرض مصر،
٢ ويحدُّها من الشمال البحر المتوسط، ومن جهة الجنوب فتحدُّ بلادَ المغرب
جبال الرمل (الصحراء الكبرى) التي تمتد من المحيط الأطلسي غربًا إلى ما وراء الصحراء
وحتى برقة شرقًا.
٣
وتنقسم بلاد المغرب إلى ثلاثة أقاليم رئيسية: فتبدأ بإقليم المغرب الأدنى الذي يمتد
من الأجزاء الغربية من طرابلس والأراضي التونسية والأجزاء الشرقية الجزائرية،
٤ ثم إقليم المغرب الأوسط الذي يمتد من الأراضي الجزائرية حاليًّا وجبال بني
مزغنة وتلمسان،
٥ بالإضافة لإقليم المغرب الأقصى الذي يمتد من وادي ملوية وجبال تازا شرقًا،
حتى المحيط الأطلسي غربًا، ومن البحر المتوسط شمالًا حتى جبال أطلس جنوبًا.
٦
وضمت بلاد المغرب العديد من المعالم الجغرافية من موانئ ومرافئ وجبال ووديان (أنهار)،
وانتشرت بها الجبال على طول الشريط الساحلي وما يقع خلف ذلك الساحل من أراضٍ وصحارٍ
وجبال كجبال نفوسة، وجبال درن، وجبال أطلس
٧ التي تُعد من أبرز المعالم الجغرافية في بلاد المغرب الإسلامي.
٨
وشكَّلت هذه الجبال مصدرًا لتدفُّق الأنهار
٩ ويُعتبر نهر وادي سوليت ونهر وادي ملوية اللذان يصبَّان في البحر المتوسط
من أهمها، فضلًا عن العديد من الأنهار الداخلية كنهر وادي أم الربيع،
١٠ ونهر وادي سوس ووادي الشليف،
١١ ونهر وادي سجلماسة ونهر فاس،
١٢ بالإضافة لنهر وادي سَبْو،
١٣ ونهر وادي تنفست،
١٤ ونهر وادي درعة؛
١٥ مما أدى لوجود المدن والتجمعات السكانية على ضفاف تلك الأنهار.
وارتبطت طبيعة المغرب — في أقاليمه الثلاثة — بنشاطه الاقتصادي، نتيجة لكثرة السواحل
التي يُشرف عليها؛ سواء على المحيط الأطلسي أو البحر المتوسط، ولرداءة خلجان السواحل
المطلَّة على الأطلسي، ازدادت أهمية السواحل المطلَّة على المتوسط. والأراضي المغربية
في مجملها متوسطة الخصوبة متعددة التربة؛ لاختلاف مناطقها؛ فمنها التربة الجيرية،
والرملية التي تكثر في المغرب، والسوداء التي تعتبر من أجود الأنواع والتي تكوَّنت حول
الأنهار، وفيها أيضًا الأراضي ذات التربة الحمراء.
١٦
أما الأندلس فيقترب شكلها من مثلث وتحيط بها مياه البحر من ثلاث جهات: فمن الشرق
والجنوب يحدها البحر المتوسط، ومن الغرب والشمال الغربي يحدها مياه المحيط الأطلسي، ومن
الشمال يحدها جبل البرتات،
١٧ كما يحيط بها عدة سلاسل جبلية تكاد تُطوِّقها، كما انتشرت بها الوديان
الخصبة التي تجري فيها الأنهار.
١٨
وبذلك وُجد التنوع في سطح أرض الأندلس؛ فكان له أثره على المناخ، إذ يغلب على الأراضي
الأندلسية مناخ البحر المتوسط وهو حارٌّ جافٌّ صيفًا، دافئٌ ممطر شتاءً،
١٩ وعلى المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية الجاف بشكل عام، وتسقط الأمطار في
النصف الشمالي من الأندلس أكثر من النصف الجنوبي.
٢٠
وكان لتنوُّع مظاهر السطح والمناخ في الأندلس بهذا الشكل أن أرضها امتازت بالخصب
حتى
وصفها ابن غالب
٢١ بقوله: «الأندلس شامية في طيب أرضها ومياهها، بما فيه من اعتدالها
واستوائها، أهوازية في عظيم جبايتها، عدنية في منافع سواحلها، صينية في جواهر معادنها،
هندية في عطرها وطيبها.» وقال عنها الزهري: «هي أبرك بقاع الأرض وأكثرها نسلًا … ومن
بركتها أنه لا يمشي الإنسان فيها فرسخين دون ماء، ولا يمشي ثلاثة فراسخ إلا وجد فيها
الخبز والزيت.»
٢٢
وتعددت مصادر المياه في الأندلس متمثلة بمياه الأنهار الكثيرة؛ إذ «يشقُّها أربعون
نهرًا»
٢٣ وتكثر فيها العيون والآبار التي لجأ الأندلسيون إلى حفرها في المناطق التي
لا تتوافر فيها المياه؛ من أجل تلبية احتياجاتهم وسقي زراعاتهم، فضلًا عن غزارة الأمطار
الساقطة بكمياتٍ كافية للزراعة في بعض جهاتها،
٢٤ فكثرة الأراضي الخصبة مع توافر مياه السقي شجَّعا الفلاحين الأندلسيين على
استغلال أراضٍ كثيرة في الزراعة؛ مما ترتب عليه زراعة أغلب المحاصيل الزراعية في
الأندلس.
٢٥
ومن أبرز الملامح الجغرافية للغرب الإسلامي بصفةٍ عامة كثرة الجزر الموجودة به
والمطلة عليه، فكان منها جزرٌ كبيرة ومعروفة ومنها صغيرة ومجهولة،
٢٦ فتمتَّعت كل جزيرة من تلك الجزُر بعدة خصائص ميَّزتها بدرجاتٍ متفاوتة عن
باقي الجزُر كجزر البليار
Baliares٢٧ التي من أشهرها جزيرة ميورقة، وغيرها من الجزر،
٢٨ وجزيرة صِقِلِّيَّة،
٢٩ التي تُعتبر من الجزُر التي مثلت أهمية كبيرة للطريق البحري بين بلاد
المغرب ومدن الغرب المسيحي وبخاصة الجمهوريات الإيطالية، الذي استُخدم باستمرار في
عمليات السفر والنقل البحري؛ نظرًا لقصر المسافة بينهما، فضلًا عن وجود العديد من
الموانئ الخاصة لإرساء السفن بها للراحة أو التجارة، هذا بالإضافة لأهميتها التجارية
التي اشتُهرت بها،
٣٠ فكان لموقعها — في وسط البحر المتوسط — أهميته الاقتصادية؛ مما جعلها محط
أنظار القوى التجارية، فنشأت حوله قوًى حضاريةٌ كبرى منذ القدم وتصارعت عليه، وساهم ذلك
في إيجاد تسهيلاتٍ كبيرة لتجارة الشعوب التي تقع على هذا البحر، ولا يمكن أن يُغفَل
موقع صِقِلِّيَّة المتوسط في قلب رقعة اقتصادية موحَّدة مترامية الأطراف امتدت من
الأندلس إلى بلاد الشام.
٣١
وحصل التجار المسلمون في صِقِلِّيَّة على رُخص للسفر إليها من أجل أعمالهم التجارية
قبل سيطرتهم عليها، ليُزاوِلوا نشاطهم التجاري ضامنين العودة بحرية وسلامة إلى أوطانهم
عندما يرغبون، بالإضافة للمعاملات التجارية البحرية بين أوروبا وأفريقيا حتى نهاية
القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري، التي بدأت في صِقِلِّيَّة وإن كانت
محدودة.
٣٢
(٢) الأيدي العاملة
من المقوِّمات الرئيسية لقيام الصناعة وازدهارها الأيدي العاملة الماهرة والقادرة
على
أداء الأعمال الموكلة إليها، فأُطلق على من يعملون في الصناعات المختلفة
صُنَّاعًا،
٣٣ واشتُهرت العديد من المدن في الغرب الإسلامي بصنَّاعها، كما ذكر ابن أبي
زرع
٣٤ أن أكثر الأهالي في عدوة القرويين بفاس القديمة كانوا صنَّاعًا، وفي تلمسان
كان الصنَّاع فئةً كبيرة يعيشون حياةً كريمة وينعمون بأوقات لراحتهم، وتونس كان أغلب
سكانها من الصُّناع وخاصة صُنَّاع النسيج.
٣٥ واتصف صناع الغرب الإسلامي بالدقة والجد والصبر في أداء أعمالهم، فجاء وصف
ابن غالب
٣٦ مصداقًا لهذا القول عند حديثه عن صناع الأندلس بقوله: «صينيون في إتقان
الصنائع العملية وأحكام المهن التصورية؛ فهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد
الأعمال ومقاساة النَّصَب في تحسين الصنائع.»
وقد شجَّع حكام الغرب الإسلامي الصُّناع على مزاولة أعمالهم خاصة إبان الحكم الموحدي
(٥٤١ﻫ/١١٤٦م–٦٦٨ﻫ/١٢٦٩م) بعد اتساع نطاق الدولة الإسلامية، وتبادل الخبرات الصناعية بين
رحاب الدولة سواء من الأندلس أو غيرها من البلدان في مختلف الصنائع.
٣٧
وَسَعَت السلطة في بعض الأحيان إلى مساعدة عمال وصناع النسيج من فترة لأخرى، فهناك
رواية عن ربيع القطان
٣٨ أنه في أوقات الحج كان السلطان بالقيروان يعطي صناع القطن كميات من القطن
لغزلها وذلك في وقتٍ محدَّد وسعرٍ محدد: «يحسبه عليهم بدينارين القنطار، وكان يسوى
دينارًا ونصف، فطرح عليَّ منه ثلاثة قناطير، فهممت أن أعمله وأهيئ ثمنه
وأغزله.»
٣٩ ويُفهَم من هذه الرواية أن السلطات — في بعض الأوقات — كانت تراعي أحوال
العمال ولا تجور عليهم بل تعطيهم أكثر مما يستحقُّون.
(٣) النقل ومشاكله
كان للطبيعة الجغرافية أثر في أن يصبح البحر المتوسط من أنسب طرق الاتصال البحري
الذي
ساعد تجار وسكان الغرب الإسلامي على التنقُّل والسفر وممارسة التجارة البحرية،
٤٠ وعلى الرغم من ذلك فلم يخْلُ من بعض الصعوبات التي وقفت حائلًا أمام تقدُّم
العمليات التجارية فأعاقتها، وكان للرياح دور في البحر المتوسط خاصة في تحديد أوقات
السفر منه وإليه؛ فتعذر السفر خاصة في الفترات التي تزداد فيها سرعة الرياح،
٤١ فساعدت الرياح الشرقية في البحر المتوسط على حركة السفن وساهمت في تنشيط
حركة التجارة،
٤٢ التي نشطت في فصلَي الربيع والخريف، فيذكر ابن جبير
٤٣ ذلك: «فالمسافرون إلى المغرب وصِقِلِّيَّة وإلى بلاد الروم ينتظرون هذه
الريح الشرقية في هذين الفصلَين انتظار وعدٍ صادق.» فلهذا اعتمدت الملاحة في البحر
المتوسط على التجديف؛ لأن سرعة الرياح بطيئة في معظم أوقات السنة؛ فساد الهدوء خلال
فترات طويلة من العام.
٤٤
وكثيرًا ما تسبب هياج البحر في تلف السلع والبضائع والأطعمة الموجودة على سطح السفن،
بل كان سببًا في حدوث التلف في السفن نفسها؛ مما هددها بالغرق؛
٤٥ لأن شدة هبوب الرياح يصاحبها هياج للبحر وسقوط للأمطار والبرد، فكان له دور
في فساد البضائع وإلحاق الضرر بالأمتعة الموجودة على سطح السفينة؛ ما بث حالة من الرعب
والخوف في قلوب المسافرين والتجار.
٤٦
ففي خطابٍ مؤرَّخ في عام ٤٩٤ﻫ/١١٠٠م، من أحد التجار الأندلسيين بالإسكندرية، يبرهن
على أن الأسعار قد تأثرت بعدم وصول السفن التجارية في وقتها، فيذكر كاتب هذا الخطاب أن
الحرير ازداد سعره نظرًا لتأخر وصول مراكب الأندلس المحمَّلة بالحرير، لعدم توافق
الرياح المناسبة للإبحار، وقد استغلَّ التجار هذا الموقف، وأحجم كل من لديه كمية من
الحرير عن بيعها، أملًا في زيادة السعر.
٤٧ وتأثر ازدياد الأسعار بطول المسافة التي تقطعها القوافل، وبالضرائب
المفروضة، وتكاليف الشحن.
٤٨
ومن المشاكل التي تعرض لها التجار خاصة تجار النسيج، الحرائق التي كانت تحدث بصورةٍ
خاصة في الأسواق؛ مما يعرضهم لخسارة أموالهم، ففي عام ٥٢٥ﻫ/١١٣٠م، وقع حريق بأحد أسواق
مدينة قرطبة، ويعرف باسم «سوق الكتانين»، والْتهم هذا الحريق الكثير من بضائع
التجار.
٤٩
ووقع حريق في عام ٥٣٣ﻫ/١١٣٨م في سوق مدينة فاس؛ فكانت الخسائر كبيرة، وقد أسفر عن
إفلاس العديد من التجار،
٥٠ ووقع عام ٦٠٧ﻫ/١٢١٠م حريقٌ كبير في سوق مراكش، ومشكلة هذا الحريق أنه وقع
في الليل وظل مشتعلًا حتى الصباح، وقد الْتهمت النيران معظم ما وُجد في هذه الأسواق من
سلع وبضائع «وذهبت في لكائنة للتجار الواردين والقاطنين والقاصين والدانين، على الأخطار
الجسيمة، ما لا يحصى، وافتقر فيها أمةٌ من ذوي اليسار، وأصبحوا يتكففون الناس حيارى على
الأقطار».
٥١ وتعرضت فاس لحريق آخر عام ٦٤٦ﻫ/١٢٤٨م فيذكر ابن أبي زرع
٥٢ عن حريق السوق فيقول: «وفيها احترقت أسواق فاس من قنطرة الصباغين بقرب باب
السلسلة؛ فأحرقت سوق السقاطين والغمادين والسبيطريين والصباغين والصوابنيين، ووصلت إلى
باب الجنائز من جامع القرويين، فوقف هنالك الشيخ الصالح عبد الله القشتالي بعد أن أحرقت
مصاريع باب الجنائز …» وسوق الصباغين بفاس الذي تعرض للسيول عام ٧٢٥ﻫ/١٣٢٤م،
٥٣ وأسواق الخياطين وأسواق البزازين.
٥٤
وعلاوة على ذلك فقد اهتم الحكام بإقامة روابط وعلاقات تجارية داخل الغرب الإسلامي
وخارجه بإنشاء الطرق والمراكز والأسواق التجارية، التي ربطت مراكزه بشبكة من الطرق
والمسالك الرئيسية والفرعية وارتبطت بالطرق الخارجية وباتجاهاتٍ مختلفة، فمكَّنت هذه
الشبكةُ من المسالك والطرق التجارَ من ممارسة أنشطتهم التجارية داخلَه وخارجه، ففي
المغرب الأقصى لم ينقطع إنشاء تلك الطرق والمسالك حتى في حالات الحروب والفوضى
السياسية.
٥٥
كما أثَّرت عوامل القطع والسرقة على حركة التجارة في بلدان الغرب الإسلامي، فكانت
من
أبرز العوامل التي أثرت وبشكلٍ ملحوظ على حرية التنقل داخل أرجاء الغرب الإسلامي وعبر
موانئه، والنتيجة في الغالب خسارة للأموال، وإزهاق للأرواح، وفقدان في كثير من الأحوال
للحرية،
٥٦ ونتيجة لغياب الأمن في بعض الفترات اضْطُرَّ المسافرون والتجار لأن
يستخدموا الطرق البحرية البديلة في أسفارهم وتجاراتهم؛ مما زاد من أهمية بعض الطرق على
حساب الأخرى؛ ففاق السفر عن طريق البحر وجعله يفوق السفر عن طريق البر.
٥٧
(٤) أعمال القرصنة والقطع البحري
انتشرت أعمال القرصنة في البحر المتوسط وأثَّرت بشكلٍ كبير على سير حركة التجار،
وتشير القرصنة — بشكلٍ كبير — إلى فترة العصور الوسطى، وإلى كل الغارات المخرِّبة التي
سبَّبت أضرارًا أو عرقلة بأي شكل من الأشكال على التجارة والملاحة البحرية؛ مما أثَّر
على التجار والبحارة تأثيرًا سلبيًّا بدرجاتٍ متفاوتة سواء كانت تلك الغارات موجهة من
الخارج أو من الداخل — غارات حكومية — وما نتج عنها من مطاردات للمسافرين والتجَّار
والسفن التجارية بهدف السلب والنهب.
٥٨
والقرصان
La Corsale هو ذلك الشخص الذي يهاجم
السفينة بغض النظر عن هويتها في البحر أو على الساحل وما ينتج عن ذلك من قتل وسرقة
وخطف،
٥٩ ولا بد أن يتمتع القرصان بعدة خصائص منها: إجادة الملاحة، وخوض المعارك
والحروب البحرية، بالإضافة إلى كونه تاجرًا ماهرًا.
٦٠
وازدياد حركة القرصنة في حوض البحر المتوسط الغربي يُرجِعه ماس لاتري
Mas latrie٦١ إلى عدة أسباب، منها: التوسع الهائل للتجارة البحرية التي واكبت الحروب
الصليبية وساعدت على انتشار أعمال القرصنة البحرية، كذلك الاعتراف القانوني في بعض
الأحيان بشرعية ممارسة القرصنة، من جانب حكومات الغرب المسيحي.
وازدادت غارات القراصنة على شواطئ الغرب الإسلامي، وبالأخصِّ على المدن والمراكز
التجارية، كمدينة تونس التي مثلت مركزًا تجاريًّا كبيرًا بموقعها المتميز على البحر
المتوسط، ففي شهر شوال من عام ٧٠٢ﻫ/١٣٠١م أغارت ثلاث سفنٍ تابعة لقراصنة كتالونيين على
مرسى تونس، واستولوا على مركب تابع لتجار من بيزا، مُحمَّل بالصوف قيمته ثلاثون ألف
دينار،
٦٢ وأغار أحد القراصنة الكتالونيين وهو القرصان بيدرو رابلتة على مدينة بونة
وبنزرت واستولى على مركب تجار مسلمين محمل بالعود والقطن والتمر قيمته عشرة آلاف
دينار.
٦٣
وكذلك تجارة النسيج والملابس كانت عرضة للعديد من غارات القرصنة،
٦٤ وهو ما حدث في عام ٨٠٠ﻫ/١٣٩٧م إذ تعرضت سفينة محمَّلة بالصوف قادمة من
ميورقة في طريقها لبرشلونة لغارة من القرصان الباسكي بيرو
بايا
Pero Paya الذي حرقها بعد أن استولى على كل البضائع التي عليها.
٦٥
وظهر تأثير القرصنة واضحًا، خاصة قراصنة ميورقة،
٦٦ على حجم المبادلات التجارية بين الموانئ الكتالونية ومدن المغرب الإسلامي
خلال القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، خاصة على المنتجات الزراعية والجلد
والصوف والأقمشة، وتجارة الملابس، وغيرها من البضائع.
٦٧
كما كانت الحروب والهجمات سببًا مباشرًا في تراجع بعض المدن، وكان للفتن التي اندلعت
في أوائل العصر الموحدي، وبالأخص غارات بني غانية،
٦٨ في حرير مدينة قابس المغربية،
٦٩ وفي عام ٦٣٧ﻫ/١٢٣٩م، تعرضت مدينة فاس لغزوات المرينيين، التي كانت سببًا في
خراب المدينة وتعطُّل أحوالها في كل الميادين.
٧٠
(٥) المعاهدات والاتفاقيات والمراسلات التجارية
كان للمعاهدات والمراسلات والسفارات التي عُقدت بين حكام وخلفاء وسلاطين الغرب
الإسلامي، وحكام وملوك الممالك والبلدان الأخرى خاصة الغرب المسيحي، دور في نمو حركة
التجارة في الغرب الإسلامي التي أُسست على عدة قواعد ومبادئ كان أهمها: ضمان حرية
التجارة وأمان التجار في أموالهم وأنفسهم، بالإضافة لحماية السفن من القراصنة والكوارث
البحرية، كذلك تعيين القناصل في المدن والموانئ التجارية وإنشاء الفنادق في تلك
الموانئ،
٧١ واستفادت بعض الدول في البداية من تلك التعديلات والمزايا التجارية وبالأخص
بيزا، في حين ظل التجار الجنويون والبنادقة ممنوعين من ذلك في بعض الموانئ التجارية
خاصة في موانئ المغرب.
٧٢
وشهدت فترة حكم الموحدين (٥٤١ﻫ/١١٤٦م–٦٦٨ﻫ/١٢٦٩م) العديد من الرسائل والمعاهدات التي
نصَّت بنودها على احترام حرية التجارة واحترام السفر في البر والبحر، خاصة من قبل
القراصنة الذين شكَّلوا عقبة أمام سير العلاقات بين الدول، ودائمًا ما حرص الحكام
والخلفاء على ذكر البنود المتعلِّقة بالحماية من القرصنة ومعاقبة مرتكبيها مع توفير
الضمانات اللازمة لذلك،
٧٣ فحاولت الخلافة الموحدية حماية سواحلها من غارات القراصنة من خلال عقد
المعاهدات والاتفاقيات وكذلك المراسلات التي حملت آيات الشكوى من تكرار تلك الأعمال،
التي نتج عنها في بعض الأوقات توتر للعلاقات أثر على حركة التجارة، وتُظهر تلك
المراسلات والمعاهدات حجم المعاناة التي تعرَّضت لها الخلافة الموحدية من أعمال القطع
والتخريب.
٧٤
كما قدم بنو مرين (٦٦٨ﻫ/١٢٦٩م–٨٦٩ﻫ/١٤٦١م) بعض التنازلات من أجل الصلح مع أراجون
مقابل أن تُصان بنود وشروط المعاهدات مع ضمان سلامة الرعايا المرينيين
ومصالحهم.
٧٥ وعقدت الدولة الحفصية (٦٢٥ﻫ/١٢٢٨م–٩٨١ﻫ/١٥٧٤م) العديد من الاتفاقيات من أجل
توفير الأمن في البحر والبر، ومكافحة القرصنة وعدم تشجيعها، ومعاقبة مرتكبيها خاصة من
المسيحيين،
٧٦ حفاظًا على العلاقات المعقودة والعلاقات الطيبة بين صِقِلِّيَّة والدولة
الحفصية.
٧٧
ولكن مع بداية القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي تزايدت أعمال القرصنة
الأراجونية والحفصية؛ مما ترتب عليه كثرة الرسائل والشكاوى، التي نصت صراحة على عدم
تشجيع القرصنة ومعاقبة القراصنة، وهو ما جاء في معاهدة الصلح بين كلٍّ من «أبي عبد الله
محمد الثاني» (٦٩٤ﻫ/١٢٩٤م–٧٠٩ﻫ/١٣٠٩م) والملك «خايمي الثاني» ملك أراجون في ١٨ ربيع
الأول ٧٠١ﻫ/٢١ نوفمبر ١٣٠١م.
٧٨
وسعت السلطة الحفصية عن طريق تلك المعاهدات والاتفاقيات إلى المساعدة في الحد
والتقليل بقدر المستطاع من غارات القرصنة التي هدَّدت الحياة البحرية والتجارية، ولو
كان ذلك بصورة شبه رسمية عن طريق منع القراصنة من الاستيلاء على السفن التي تحميها
معاهدات الصلح.
٧٩
ولعب بنو نصر (٦٢٩ﻫ/١٢٣٢م–٨٩٧ﻫ/١٤٩٢م) دورًا يكاد يكون سلبيًّا أو دور الضعيف الذي
لا
يمتلك إلا الشكوى والعبارات الرنانة، التي استنكر بها رد الفعل الأراجوني بتجاهله
لطلبات غرناطة لمنع قراصنة أراجون والحد من نشاطهم على أقل تقدير، وهو ما يتضح من عدد
الرسائل التي أرسلتها غرناطة إلى الحكومة الأراجونية ومعاهدات الصلح التي كثرت وتجددت
ولكن دون جدوى، خاصة في الفترة من (٦٩٥ﻫ/١٢٩٦م–٧٧٩ﻫ/١٣٧٧م).
(٦) الأهمية النسبية للمنسوجات والملابس عند الغرب الإسلامي
اتخذ الإنسان المنسوجات والملابس في المراحل الأولى من حياته وقايةً تدفع عنه الحرَّ
والبرد، ومرحلة التزيُّن كانت مرحلةً تالية اعتبرت من أسباب التحضُّر، ودورًا من أدوار
الاعتزاز بالمظهر؛ ما أوجب الاهتمام بها وبطريقة صنعها وإجادتها. وتعدُّ الملابس
والمنسوجات من الضروريات التي رافقت الإنسان منذ بداياته الأولى؛ إذ بدأ الإنسان يستعين
أولًا بالنباتات ليستر عورته، يقول جل جلاله:
فَلَمَّا ذَاقَا
الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ،
٨٠ ومع مرور الوقت شعر بالحاجة إلى كساءٍ يقيه برد الشتاء القارس، ويحميه من
رطوبة الأمطار كما قال سبحانه وتعالى:
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ
تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ،
٨١ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان أحب الثياب إلى النبي
ﷺ أن
يلبسها الحبرة. والحبرة: ثياب من قطن محبرة أي: مزينة» (متفق عليه)، وعن أم سلمة رضي
الله عنها قالت: «كان أحب الثياب إلى رسول الله
ﷺ القميص.»
٨٢
وكغيرهم عمل سكان الغرب الإسلامي على ستر العورة واتخاذ الزينة من المنسوجات والألبسة
كما جاء في القرآن الكريم، وسنة خير الخلق محمد
ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى، فجاء
قوله جل جلاله:
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ
خَيْرٌ،
٨٣ كما أن أول من عمل بمهنة الحياكة والخياطة هو سيدنا إدريس عليه السلام؛
الأمر الذي أضفى على هذه المهنة المزيد من التقدير والاحترام، فمارسها العديد من الناس
وتفاخروا بها وتوارثوها جيلًا عن جيل، وفي هذا الإطار يقول ابن خلدون:
٨٤ «اعلم أن المعتدلين من البشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في
الدفء كالفكر في الكنِّ، ويحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحر والبرد، ولا بد
لذلك من إلحام الغزل حتى يصير ثوبًا واحدًا، وهو النسج والحياكة، فإن كانوا بادية
اقتصروا عليه، وإن مالوا إلى الحضارة فصَّلوا تلك المنسوجة قطعًا يُقدِّرون منها ثوبًا
على البدن بشكله وتعدُّد أعضائه واختلاف نواحيها، ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل
حتى تصير ثوبًا واحدًا على البدن ويلبسونها، والصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي
الخياطة.»
وجاء القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تذكر النسيج والمنسوجات وهو ما يعطي أهمية
لها ولصناعتها وبالتالي تجارتها، فمن أمثلة المنسوجات التي شُرفت بذكرها الجلباب بقوله
عز وجل:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
جَلَابِيبِهِنَّ،
٨٥ والجلباب كما ذكره ابن منظور:
٨٦ «ثوب أوسع من الخمار دون الرداء، تغطي به المرأة رأسها وصدرها.» وقيل: «هو
ثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة.» وقيل هي «ملاءتها التي تشتمل بها.» وقوله جل
جلاله:
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ
مُتَقَابِلِينَ،
٨٧ السندس هو «الرقيق من الديباج ورفيعه».
٨٨ أما الإستبرق فهو «الغليظ من الديباج وما خشن».
٨٩ وقال كذلك سبحانه وتعالى:
وَنَمَارِقُ
مَصْفُوفَةٌ،
٩٠ وكما ذكر ابن منظور:
٩١ «النمرقة والنمرق والميثرةُ ما افترشت است الراكب على الرحل كالمرفقة، غير
أن مؤخرها أعظم من مقدمها ولها أربعة سيور تُشد بآخرة الرَّحْل ووسطه.» كما وردت
الأريكة وهي «الفُرُش المزينة في السرر».
٩٢ وقد ورد ذكر الأرائك في القرآن الكريم في قوله جل جلاله:
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ
مُتَّكِئُونَ،
٩٣ وفي قوله عز وجل:
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ
وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ،
٩٤ ذُكر الرَّفْرفُ وهو الرقيق من الديباج «ثياب خضر يُتَّخَذ منها
للمجالس»
٩٥ وقال سبحانه وتعالى:
وَزَرَابِيُّ
مَبْثُوثَةٌ،
٩٦ والزَّرابيُّ «كل ما بُسط واتُّكِئَ عليه، وقيل هي الطنافس لها خمل رقيق
متعددة الألوان.»
٩٧
وارتدى سكان الغرب الإسلامي الصوف، فكان أكثر الملابس انتشارًا لبرودة الجو في بعض
مناطقه خاصة في الأندلس وخاصة في فصل الشتاء، كما انتشرت المنسوجات الصوفية نظرًا
لتوافر المراعي الخصبة به وظروف الجو المناسبة لتربية الأغنام،
٩٨ لما يعطيه الصوف من رمزية دينية وروحية لهؤلاء الزهاد من خشونة الملمس؛
عملًا بقول الرسول
ﷺ: «نوِّروا قلوبكم بلباس الصوف؛ فإنه مذلة في الدنيا ونور في
الآخرة.»
وحرَّم الإسلام لبس الحرير للرجال، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «حُرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل
لإناثهم.»
٩٩ وقد أجاز الحنفيون للرجال ارتداء الألبسة التي لُحمتها من الحرير وسداها من
نسيجٍ آخر، أما المالكيون فلم يتفقوا بشأن هذا الأمر،
١٠٠ وقد جاءت بعض النوازل لتعرض أمورًا حول لبس الحرير خاصة لبعض الصناع وصنعهم
ملابس الحرير للرجال؛ فسألوا عن الحرير وبيعه هل هو أمرٌ مباح أم مُحرَّم، فقد «سئل ابن
عتاب عمن صناعته عمل الحرير، وهل هو في سعة من عمل عمائم منه وشبهها مما لا يلبسه إلا
الرجال؟ وهل بيعها مباح له؟ فقال: لا بأس ببيعها وعملها، وإن كانت مما «يلبسه» الرجال؛
لأنه قد يشتريها من لا يلبسها ومن يصرفها في غير ملبس.»
١٠١ ومراد التحريم حظر ارتداء الرجال الحرير. وإمكان البيع بأن المشتري لهذا
الثوب المصنوع من الحرير أو لعمامة من الحرير قد لا يستعمل ما اشتراه لنفسه وإنما يهديه
لمن لا ذنب عليه في لبسه أو في أمرٍ آخر غير اللبس، وقيام هذا الاحتمال كافٍ لرفع
التحريم عن ناسج الحرير وبائعه.
واستعمل أهل الغرب الإسلامي البُرنس ثوبًا خارجيًّا، والبرنس كما عرفه ابن
سيده
١٠٢ هو: «كل ثوب رأسه منه ملتزق به سواء أكان دُرَّاعة أو ممطرًا أو جبة.» ويرى
دوزي:
١٠٣ «أن البُرنس قد يعني في القديم طاقية، إلا أنها تشير في العصور الحديثة إلى
معطف ضخم له قلنسوة.» وهو القميص، ويتكون من قطعتَيْن من القماش تُحاكان من الجانبَيْن
ومن أعلى، بحيث يُترك جزء يكون فتحة للرأس ويتميز بطوله إلى نصف الساق وبفتحة في الطوق
تمتد إلى الصدر،
١٠٤ كذلك الدُّرَّاعة وهي ثياب لا تكون إلا من الصوف خاصة للفقراء، وهي لباس
للمرأة والرجل،
١٠٥ والدرع «ثوب تَجوب المرأة وسطه وتجعل له يدين وتخيط فرجيه».
١٠٦ كذلك الملف وهو ثوب ناعم من الصوف، والغفارات، وهي ثوب يغطي الرأس كما كان
يُستعمل في تغطية البدن «وهي خرقة تلبسها المرأة فتغطي رأسها».
١٠٧ وكذلك الإزار وهو الثوب الذي يحيط بالجسم كما يشير ابن منظور:
١٠٨ «الإزار كل ما واراك وسترك.» وقيل الإزار الملحفة، وهو ما يُلتَحف به
ويُستَر به البدن من أسفله، والجُبَّةُ وهي نوع من الثياب يلبسها الرجل
والمرأة،
١٠٩ والملحفة ويعرِّفها ابن منظور بقوله: «اللِّحاف والمِلْحَفُ والمِلْحفة:
اللِّباس الذي فوق سائر اللباس من دِثار البرد ونحوه، وكل شيء تغطَّيت به فقد
الْتَحَفْت به. واللِّحاف: اسم ما يُلْتَحف به.»
١١٠
أما البُردُ فهو ضرب من الثياب فيه خطوط موشًّى … «والبُرْدَةُ هي كساءٌ صغير يُلتحف
به على شكل مربع أسود تلبسه الأعراب … وهي الشملة من صوف مخططة.»
١١١ ويصف دوزي
١١٢ البرود قائلًا: البردة هي قطعة طويلة من القماش الصوفي السميك الذي يستعمله
الناس لإكساء أجسامهم به خلال النهار، المتَّخَذ كذلك غطاءً أثناء الليل، أما لون هذا
القماش فأسمر أو رمادي.