مارست فئاتٌ عديدة من مجتمع الغرب الإسلامي النَّسيج؛ فاشتهر بعضهم بمزاولته في
مراحله كافة من تصنيع وبيع وتجارة، خاصة ممن عاصر فترة الدراسة وما قبلها من الأئمة
والعلماء من مشاهير وأعيان ونساء وصبية ممن أشارت لهم كتب التراجم والسير والمناقب
والنوازل.
(٦-١) فئة العلماء
عمل بالنَّسيج الكثير من العلماء؛ لارتباط تلك الصِّناعة بأمور الزهد والتقشف
ورغبتهم في الحصول على قوت يومهم من صنع أيديهم؛ فزاولها المتصوِّفة في بلدان الغرب
الإسلامي،
٢٣٣ كالعالم ظاهر بن يزيد الزاهد من أهل قُرْطُبَة، فكان قَزَّازا يبيع
القز ويصنعه.
وقد انتسب للقُطْن من عمل به وتاجر فيه، ومنهم قاسم بن مطرف بن عبد الرحمن أبو
محمد من أهل قُرْطُبَة، كان يُعرَف بالقطان،
٢٣٤ كذلك ربيع القطان فقد امتلك حانوتًا لبيع القُطْن، ومحمد بن سليمان ابن
أحمد أبو عبد الله (ت٤١٩ﻫ/١٠٢٨م) من أهل إشبيلية عُرف بالقطاني، وأبو جعفر حمديس
القطان عمل في القُطْن وكان يبيعه في السوق، وأبو عمران موسى كان حلاجًا، وأبو
الربيع سليمان بن عبد الرحمن بن المعز الصنهاجي المعروف بالتلمساني احترف النسج
وأقام بسلا، كذلك أبو الحسن علي بن عبد الله القطان المعروف بابن الحلاج الذي ورث
حانوت قُطْن عن والده، فعمل في ندف القُطْن حيث يذكر «كنت أعمل القُطْن، فنتفرغ من
العمل بالعشي؛ فيضيق الوقت، وكانت نوالات بُنيت غصبًا على وادي القصاري.»
٢٣٥
ومن هؤلاء الذين عملوا بالكَتَّان وانتسبوا لصنعتهم به، أبو عمرو هاشم بن مرور
التميم فكان يشتري الكَتَّان ويُوزِّعه على الفقراء والأرامل.
٢٣٦ ويمكن أن يُضاف إلى هؤلاء مَن عَمِل في هذا المجال كالرفاء والمطرز،
منهم عبد الرحمن بن يوسف بن نصر من أهل قُرْطُبَة كان رفاءً يرفأ الثياب ومنها
يتعيَّش.
٢٣٧
وتأتي الخِياطة ضمن تلك المهن التي انتسب إليها عدد من العلماء، كالوليد بن سعيد
بن وهب الحضرمي الإشبيلي أبي العباس (ت٤١٩ﻫ/١٠٢٨م) الجبَّاب، والجبَّاب هو من يبيع
الجباب ويخيطها، فعُرف بها وعمل بالخِياطة بمراكش، وعمل أبو العباس أحمد بن عبد
الرحمن الصنهاجي (ت٥٩٢ﻫ/١١٩٥م) في حِياكة الجبب، وكذلك أبو محمد عبد الله الشريف
الذي عمل بالخِياطة «فكان يأكل من كد يده من الخِياطة وبعض التجارة وكان بسوق
الصوافين من بجاية.»
٢٣٨ وكذلك أبو العباس أحمد بن إبراهيم المعروف بابن القطان عمل بالخِياطة
ثم احترف التجارة، فكان يخرج من تلمسان إلى سبتة وفاس ويعود بالمال
الوفير،
٢٣٩ كما تعايش محمد بن أحمد بن عبد الرحيم بن إبراهيم الأنصاري الساحلي
(ت٧٣٥ﻫ/١٣٣٥م) من حِرفة الخِياطة، وأبو سعيد خلف بن محمد الخولاني «فرأس ماله مقص
بنصف درهم، وحلقة بربع، وإبرة مخروبة، وكان إذا خاط بدرهمين لا يخيط شيئًا حتى
ينفقهما.» ومنهم من كان دقيقًا بالخِياطة لدرجة الإبهار مثل عبد الله سبحان الله،
فيقول: «خِطتُ لبعض المشايخ ثَوْبًا بالديار المغربية فلما دفعته إليه أخذه ونشره …
فإذا كل غرزة في هذا الثوب مكتوب عليها سبحان الله.»
٢٤٠ ومحمد بن أحمد بن طاهر المعروف بالخدب، عمل بالخِياطة في مدينة فاس،
وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الخياط عمل بالخِياطة في حانوت له بحي القبابين
بتلمسان.
٢٤١
ومنهم من كان «مُعَلِّمًا» للخياطين كالإمام أبي عبد الله محمد بن يعلى التاودي،
وكذلك محمد بن يوسف الزاوي (ت٨٠٧ﻫ/١٤٠٥م) فكان خبيرًا في الخِياطة واستقر بمصر
وزاول حِرفته بها، ومحمد بن عبد الله التونسي أبو عبد الله (ت٨٨٨ﻫ/١٤٨٣م) عمل
بالخِياطة بمدينة الإسكندرية،
٢٤٢ بالإضافة للشيخ أحمد بن محمد بن عبد الله الغماز من الخياطين «وكان طول
مجاورته بمكة يتسبب فيها بالخِياطة.»
٢٤٣ ومحمد الخياط بسويقة الدوح بفاس، وسيدي محمد أبو طاق الخياط.
ومنهم من خالط تجار البز كالشيخ علي بن محمد المراكشي، فجالس تاجرًا للبز في
باديس «فكان يعطيه أثوابًا من حانوته يخيطها له بالأجرة.»
٢٤٤ وكذلك العابد الفاضل مروان الخياط مارس عمله في بيته بخِياطة جبب
الصوف،
٢٤٥ بالإضافة لأبى زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن النجار من مراكش
واستوطن بتلمسان من العاملين بحِياكة الصوف بتلمسان، امتلك العديد من ورش وتربيعات
الصوف في الموضع الذي يسكنه بدرب شاكر في تلمسان، خُصص أغلب هذا الدرب له ولعماله
وخدامه العاملين. ويذكر ابن مرزوق
٢٤٦ عن مدى إتقانه لمهنته «فكان يحترف بإقامة عمل الحاكة من الصوف
الرفيع.»
وأُطلق لقب البزاز على بعضهم ممن عمل في بيع الحرير أو ثِيابها، وهي لفظة تُقال
لمن يبيع البز، واشتهر به جماعة من المتقدمين والمتأخرين،
٢٤٧ فهذا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد التميمي التاهرتي
أبو الفضل (ت٣٩٥ﻫ/١٠٠٤م) كان بزازًا، وعمل محمد بن عبد الله بن هاني بن هابيل
اللخمي أبو عبد الله (ت٤١٠ﻫ/١٠١٩م) من أهل قُرْطُبَة بزازًا،
٢٤٨ وكذلك هشام بن محمد بن عبد الفاخر المعافري، ويحيى بن عمر بن عبد الله
بن عبد الرحمن بن قحطة الأنصاري أبو بكر من أهل قُرْطُبَة، ومحمد بن عبد الله
المطماطي، وسليمان بن يحيى المعروف بابن ستهم كان يتاجر بالبز ويقصد الأسواق
بتجارته،
٢٤٩ ويحيى بن سحنون من أهل بادس كان من تجار البز.
٢٥٠
وأشير لمن عمل مُقصرًا للثياب،
٢٥١ فهذا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن مسافر الهمذاني الوهراني أبو
القاسم (ت٤١١ﻫ/١٠٢٠م) من أهل بجانة، فكان معاشه من ثِياب يبتاعها ببجانة ويقصرها
ويحملها إلى قُرْطُبَة، فتُباع له ويبتاع في ثمنها ما يصلح لبجانة، ويجلب كتبه
فيُقرأ عليه من ذلك، وكان يرد قُرْطُبَة كل عام إلى أن وقعت الفتنة، فإذا سكنت أطال
سكن داره ببجانة، وإن خاف صار بألمرية، فكان غير مستقر إلى أن مات،
٢٥٢ وكذلك الشيخ أحمد بن سوسان ممن عاش ببلاد المغرب، فقد عمل بالخِياطة
والقصارة.
٢٥٣
وكان عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن الأنصاري (ت٤١٣ﻫ/١٠٢٢م) من أهل قُرْطُبَة
ويُعرف بالقنازعي ونُسب لصنعته وهي عمل القنازع فكان يصنعها، ويُرجح أنها صناعة
القلانس أو هي غطاء للرأس يشبه القلانس،
٢٥٤ كذلك أحمد بن عبد الله أبو عمر (ت٤٠٤ﻫ/١٠١٣م) من أهل قُرْطُبَة عُرف
بالقنازعي، ومحمد بن محمد بن سليمان السوسي الروداني، فكان يحسن عددًا من الحِرف
والصناعات الدقيقة كالطراز.
٢٥٥
ومن الصناعات الأخرى صناعة الحصر، وأطلق على صانعيها الحصارين،
٢٥٦ منهم أبو عمر الحصار (ت٤٢٩ﻫ/١٠٣٧م)، والفقيه أبو عمران المارثي «فكان
يعمل الخوص بيده في خلوته، ويبيعه ويتصدق منه؛ لأنه كان يرى كراهية البطالة عن شغل
لمثله.»
٢٥٧ وكذلك عروس المؤذن الشهيد كان يتعيش من عمل الحلفاء،
٢٥٨ كما عمل محمد بن سحنون المصري (ت٧٠٥ﻫ/١٣٠٥م) بالحلفاء وتقوَّت
منها،
٢٥٩ ومنهم من عمل بالصناعات الثانوية للنسِيج كأبي الغصن السوسي الذي عمل
في صناعة الغرابيل، وتعايش منها واقتات.
٢٦٠
وأطلق أهل الأندلس على صانع القلنسوة القلاس،
٢٦١ فهذا محمد بن عيسى بن رفاعة الخولاني أبو عبد الله (ت٣٣٧ﻫ/٩٥٨م) من أهل
رية، يحيى بن نجاح أبو الحسين، مولى جعفر الحاجب الفتى الكبير، مولى الحكم بن عبد
الرحمن المستنصر من أهل قُرْطُبَة (ت٤٢٢ﻫ/١٠٣٠-١٠٣١م) عُرف بابن القلاس وتوفي
بمصر.
٢٦٢
(٦-٢) النساء
أعطى الإسلام للمرأة المسلمة حريةً كاملة في التصرف في أملاكها، وجعل لها ذمةً
ماليةً منفصلة بعيدة عن زوجها، ولم يمنعها من ممارستها لبعض الأعمال والمهن التي لم
تخرج عن إطار الدين الحنيف، وهو ما أيده ابن حزم
٢٦٣ في أن النساء يساهمن في النشاطات الصناعية «فمن النساء الطبيبة
والحجامة والسراقة والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمستخفة
والمُعَلِّمة والصَّنَاع في المغزل والنَّسيج.» فكان النَّسيج من بين تلك الصناعات
التي دارت في فلك المبادئ والشريعة الاقتصادية للإسلام وبرعت فيها النساء بصفةٍ
خاصة.
٢٦٤
ومن المفيد الإشارة إلى أن بعض الحِرف لم تقتصر على الرجال فقط، بل شارك فيها
عددٌ كبير من النسوة فاحترفن أغلبهن الغَزْل والنسج،
٢٦٥ فبرزت — المرأة في الغرب الإسلامي — في ممارسة أعمال الغَزْل والنسج
للصوف والقُطْن والكَتَّان بالإضافة إلى تربية دودة القز لإنتاج الحرير،
٢٦٦ في حين يرى البعض أن حق المرأة في ممارسة العمل في بلدان الغرب
الإسلامي، وبصفةٍ خاصة في أعمال الغَزْل والنسج، مُثبَت وظاهر أكثر من أي مكان
آخر،
٢٦٧ على عكس النساء الغازلات في مصر وبخاصة اليهوديات، فتطلب منهن العمل
داخل منازلهن مع أخذ رخصة من السلطة تبيح لهن العمل بمنازلهن حتى تستطيع السلطات
تقدير الضرائب المقدَّرة عليهن،
٢٦٨ فقلَّما حدث هذا داخل مجتمع الغرب الإسلامي، فقد حدث لامرأة من غرناطة
تبيع الحرير أن تعرضت للتهديد والضرب بالسياط في حالة عدم دفع ما عليها من ضرائب؛
فأباح العلماء عدم الإكراه والتهديد والإجبار في أخذ الضرائب وبخاصة من
النساء.
٢٦٩
فوُجد النول والمنسج في معظم بيوت الغرب الإسلامي؛ نتيجة لملاءمة تلك المهنة
لطبيعة المرأة وجلوسها لفتراتٍ طويلة داخل منزلها؛ فلجأت إليه لقضاء أوقات فراغها
من جهة، ومن جهةٍ أخرى للمساعدة في نفقات البيت والأولاد والزوج عند افتقاد العائل
أو الاحتياج للمال،
٢٧٠ وهو ما دفع البعض لأن يُطلِق على هذا الوضع الصناعي للنسِيج ﺑ «دولة
النساء» نتيجة لارتباط أعمال النَّسيج ومتعلقاته بطبيعتهن،
٢٧١ أو كما اصْطُلِحَ على تسميته في بعض بلدان المغرب الإسلامي ﺑ «التويزة»
التي تعني باللهجة المغربية العمل المشترك أو الخدمة المشتركة، وهي أن النساء كن
يخرجن لمجالس يغزلن فيها لامرأة منهن في منزلها؛ ما تدعوهن هي لغَزْله من كَتَّان
أو صوف إعانة أو رفقا،
٢٧٢ أي أن نساء الغرب الإسلامي كن يتشاركن في الغَزْل بمراحله
المختلفة.
بالإضافة لذلك كن يلجأن إلى استلاف واقتراض المواد الخام من الجيران لإكمال
الغَزْل المطلوب منهن «إلا أنه أعوزني شيء من الصوف فطلبته من جارة لي فكملت به
الكساء.»
٢٧٣ فلهذا اتسم النسج النسائي بالطابع العائلي، بينما نسج الرجال اتسم
بالحِرفية والمهنية والتنظيم.
٢٧٤
ويذكر ابن حزم
٢٧٥ أنه في بعض الأوقات كان النساء يُرغَمن على عمل الغَزْل للحفاظ عليهن
وصونهن فيقول: «وقرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم يوكل ثقة له بنسائه يلقي
عليهن ضريبة من غَزْل يشتغلن بها أبد الدهر؛ لأنهم يقولون: إن المرأة إذا بقيت بغير
شغل إنما تتشوَّف إلى الرجال، وتحنُّ إلى النكاح.»
واتُّخذ من بعض النساء الماهرات، العارفات بأمور صنعتهن والمتقنات، مُعَلِّمات
ومدرِّبات للصبايا لتعليمهن فنون النسج من غَزْل ونسج وخِياطة وطراز وغيرها، فكانت
الصبايا يذهبن لمُعَلِّماتهن في بيوتهن يتعلمن الخِياطة والطراز، ومثال على ذلك
والدة أبي عبد الله محمد بن محمد الربعي «فكانت مُعَلِّمة للبنات تغزلهن … فإنهن
يغزلن مصليات.»
٢٧٦ ومنهن من ذاع صيتهن في هذا الشأن واستمرت تعلم وتدرب الأطفال لمدة
ثمانية أعوام،
٢٧٧ أو إحداهن طالبها الناس بأن تنشئ مكانًا لغَزْل النَّسيج لجودة غَزْلها
ودِقَّته، حتى إن أخاها لم يلبس إلا من إنتاجها.
٢٧٨
ويتبيَّن من هذا أن أعمال الغَزْل للنساء احتضنتها منازلهن في أغلب الأوقات؛ لأن
المحتسبين والفقهاء أوصوا بذلك الأمر منعًا للفتنة،
٢٧٩ بالإضافة إلى أن بعضهن كن يغزلن في البوادي خلف قطعان الماشية
والأغنام، كما كانت تفعل نساء جبل بني منصور من بلاد المغرب، فكن يخرجن خلف الغنم
لممارسة أمور الغَزْل.
٢٨٠
ومُدحت المرأة لإتقانها أمور الغَزْل والنسج، وهو ما نطقت به أمثال العرب:
«نِعْمَ لَهْوُ الحُرةِ الغَزْلُ.»
٢٨١ وهو ما أكده رسولنا الكريم
ﷺ: «نعم لهو المؤمنة في بيتها
الغَزْل.» وما أكدته أمثال العامة في بلدان الغرب الإسلامي: «كل مر، تغزل أمك جر.»
أو «كلما قلبت غَزْلي، لطمت صدري.» و«معها غَزْل، وعليها غزول.»
٢٨٢ ويرجع السبب في ذلك إلى أن النساء كن يتقنَّ مهنة الغَزْل بشكلٍ دقيق
كنسوة تونس ومكناس اللائي اشتهرن بغَزْل الصوف والحرير والقُطْن وأخرجن قطعًا فنية
غاية في الدقة والجودة،
٢٨٣ فبعضهن كن يقررن ويقدرن وزن وقيمة الغَزْل قبل البدء في غَزْله ونسجه
بمجرد النظر إليه نتيجة لخبرتهن،
٢٨٤ لهذا عملت النساء بنسج الثياب والطراز حسب ما يتماشى مع النسق والاتجاه
العام داخل المدن والقرى بتوجيه من التجار أو الزبائن أصحاب الثياب، كما صنعت نساء
جبل زهون من بلاد المغرب «وتنسج النسوة فيه أقمشةً صوفية مصنوعة حسب طراز
البلاد».
٢٨٥
فانقسم دور النساء في صناعة النَّسيج في بيوتهن إلى:
- أولًا: الإنفاق على البيت: فبالنسبة للنساء الفقيرات اللائي احتجن
للمال، واضطررن للعمل، كن يغزلن النَّسيج مقابل أجر ووقت معلومَين؛
ما جعلهن ملتزمات بالوقت لاحتياجهن للمال، حتى إنهن لم يتوقَّفن عن
العمل في أوقات الصيام خلال شهر رمضان لتوفير نفقات بيوتهن
والمحافظة على مصدر رزقهن، ومن ثم فقد أخذن الرخصة من الشيوخ لصحة
صومهن، وخاصة من يغزلن الكَتَّان ويضعنه بأفواههن، فأباح الشيوخ
صومهن، وذلك على حسب نوع الكَتَّان أو النَّسيج المستخدم،٢٨٦ أو أنهن كن يطرحن الغَزْل للبيع من أجل الإنفاق على
البيت، كما فعلت جارية أبي عمرو ميمون بن عمرو، فكانت تغزل وتبيع
غَزْلها وتنفق عليه من ذلك،٢٨٧ أو لجأن لتغطية نفقات المنزل من مأكل ومشرب
وغيره،٢٨٨ كما كانت تصنع عائشة بنت الشيخ أبى موسى عمران الحاج
سليمان المنوبي التي عُرفت بالسيدة المنوبية؛ فغَزْلت الصوف وأصبح
مورد رزقها، أو مَن تَرَكها زوجُها للجهاد ولم يكن لديها عائل
فعملت في الغَزْل والنسج في بيتها، كزوجة بكار المرواني التي أبت
مساعدة أحد لها، فغَزْلت وباعت غَزْلها لنساء البلدة اللائي تخصصن
في هذا الأمر فقالت: «فلنا من العجائز من ينظر في حالنا ويبيع
غَزْلنا ويتفقد أحوالنا.»٢٨٩ أو كالتي دفعت غَزْلها إلى أحد الشيوخ ليبيعه ويشتري
لها لعدم قدرتها على الخروج لبيع الغَزْل، أو أنها تعففت
عنه.٢٩٠
- ثانيًا: ما تعلق بالإنفاق على أولادهن: فبعض نساء الغرب الإسلامي كن
يغزلن ويخطن الثياب لأولادهن؛ لتوفير النفقات ولاستغلال أوقات
فراغهن،٢٩١ أو عمل أولادهن بأمور النَّسيج فتغزل الأم ويبيع
الأولاد في السوق، وبذلك يشترك كلٌّ من الأم والأولاد في عملية
إعداد النَّسيج ومن ثم بيعه، كما حدث بالنسبة لأولادٍ «استأجروا
أنفسهم في غنم يرعونها يتَّخذون من صوفها بغير إذن أربابها؛ فما
اجتمع عندهم من ذلك أعطوه إلى أمهم فتعمله لهم ثم يبيعونه في
السوق.»٢٩٢
- ثالثًا: مشاركة أزواجهن في الإنفاق على البيت: يتضح دور نساء الغرب
الإسلامي جليًّا في تلك الأمور التي تتعلق بمشاركة الزوج في تغطية
نفقات البيت، فمنهن من أعطت زوجها الغَزْل ليبيعه للإنفاق على
البيت، فتقاسما العمل فأصبحا شريكين فيه،٢٩٣ كالقاضي المصعب بن عمران الهمذاني الذي تولى أمور
القضاء للأمير هشام بن عبد الرحمن «الرضا» الذي كان يجالس ويشارك
زوجته العمل أثناء جلوسها على النول ويصنع لها الخيوط،٢٩٤ أو كما فعلت زوجة القاضي عبد الله بن محمد بن مسحور
الهواري بغَزْلها كسوة من القُطْن لزوجها ليرتديها،٢٩٥ أو من اقتات من عمل بناته في الغَزْل كالمعتمد بن
عباد؛ فبعد أن سُجن بأغمات عاش مما تنفقه بنته من غزل «واستقر
بأغمات، واقتات من غَزْل بناته.»٢٩٦ وكذلك زوجة الشيخ الفقيه أبي بكر بن هذين الذي كان
عيشه من غَزْلها، فيشتري الكَتَّان فتغزله وينسج منه أبدانًا، وما
يزيد عن حاجتهم يشتري به كَتَّانا.٢٩٧
وكغيرهن، تطرقت النساء لأمور الغش والتدليس في عملهن، فمنهن من كانت تدلُّك الصوف
بشحم الخنزير ليلين ويرطب فيصير كالحرير في ملمسه فيُباع بثمنٍ مرتفع، كما فعلت
نساء مدينة الشاشين «إذا استجارت المرأة منهم الصوف، مشَّطت الشاة كل صباح، ودهنت
صوفها بشحم الخنزير؛ فيلين الصوف، ويأتي كالحرير، فيتخذون منه الثياب.»
٢٩٨ أو تدلك الكَتَّان بالماء لكي يرطب ويثقل وزنه،
٢٩٩ أو تخلط الغَزْل الجيد بنوعٍ رديء، أو تبيع الغَزْل مكببًا.
٣٠٠
ومن الأمور التي مُنعت النساء عن عملها عند الغزل أو البيع، الاختلاط بالرجال
خاصة في الأسواق؛ لهذا وجب عليهن أن ينتدبن أحدًا للبيع أو الشراء نيابة
عنهن،
٣٠١ كما خُصص لهن مكان لبيع غَزْلهن، ولهن شيوخ معروفون بثقتهم في مخالطة
النساء يبتاعون لهن أو يرسلن منتجاتهن إليهم، أو يرسلن منتجاتهن مع سيدات قعيدات
كبيرات في السن للسوق لبيع الغَزْل،
٣٠٢ كما منعن أيضًا من الجلوس في حوانيت الصُّناع والتجار للبيع أو
للشراء،
٣٠٣ وعلى الرغم من هذا لم يمنع عمل النساء في السوق وخارجه كمن عملت سواقة
— الدلالة — تنادي على السلع والأمتعة على المنازل لبيعها وعرضها على
النساء.
٣٠٤
وقد حذر ابن عبدون
٣٠٥ من مخالطة النساء اللائي عُرفن بالبغاء وممارسة الرذيلة، وإبعادهن عن
حوانيتهم واللائي لُقِّبْنَ «بالطرازات»، وربما سُموا بهذا الاسم؛ لأن هذه النوعية
من النساء كن يرتدين الملابس المطرَّزة والمزركشة بغية إظهار مفاتنهن وإثارة
الرجال.
ويبدو أن النساء لم يمارسن الأعمال الأخرى المرتبطة بالنَّسيج من قصارة أو كمادة
أو صباغة أو غيرها؛ لأنها من الأعمال الصعبة التي استلزمت القوة لتأديتها، ولكن من
المؤكد أنهن مارسن أمور الغَزْل والنسج والخِياطة، وهي المهن التي تماشت وما أمر به
الدين الحنيف، والظروف الاجتماعية من عادات وتقاليد.
(٦-٣) الصبية والغلمان
كما وضح أن الصبية والمبتدئين، عملوا في صناعة النَّسيج لدى الصُّناع
والتجار،
٣٠٦ حتى يكتسبوا خبرات مُعَلِّميهم ويصيروا فيما بعدُ صنَّاعًا معروفين؛
فاستخدمهم الصُّناع في أمور الغَزْل والنسج وبخاصة الحرير؛ لأنه من أنواع النَّسيج
الدقيقة ويتطلَّب نوعًا من الرقة والدقة والليونة من قِبَل الصُّناع حتى لا تتقطَّع
خيوط الغزل؛ فاسْتُخدمت الصبية والغلمان في هذا الأمر نظرًا لملمس أيديهم الناعم،
وهو ما يحافظ على خيوط الحرير من القطع.
٣٠٧
فدفعت النساء — خاصة الفقيرات منهن — أولادهن إلى الصُّناع المشهورين ليعلموهم
أسرار الصنعة بدرجة تؤهلهم فيما بعدُ أن يكونوا صُنَّاعًا مهرة، أو دفعوهم لأحد
التجار المعروفين ليخبرهم طرق البيع وفنونه، كأبي ميسرة بن نزار أحمد الفقيه الذي
أرسلته والدته لأحد تجار الثياب «الرهادنة»، «وكان عنده عدد من الصبيان، فكان
يعطيهم سلع الزبائن كي يبيعوها.»
٣٠٨ وأبي العباس السبتي الذي يعطي نموذجًا لإحدى الأسر الفقيرة التي تُوفي
عائلها ويُتِّم أولادها، فحملته أمه لأحد البزازين ليتعلَّم صناعة يتعيَّش منها،
ولم تكن الأم تمتلك شيئًا سوى غَزْل الصوف الذي تبيعه وتقتات منه،
٣٠٩ أما في حالة أن الوالدين ميسورا الحال فكان لا يجوز لهما إرسال
أبنائهما لتعلم الغَزْل بأجر عند الصُّناع لأنهما لا يحتاجان لذلك،
٣١٠ ومن الصبية من عمل بالنَّسيج داخل البيت تحت إشراف أهله
وذويه.
٣١١
فضلًا عن إرسال الصبايا من الفتيات إلى مُعَلِّمات النَّسيج لتعلم أمور الخِياطة
والطراز، فكن يذهبن إلى بيوت — كما وضح سابقًا — المُعَلِّمات لتعلم فنون الصنعة،
وغالبًا ما كانت تلك الجلسات تدور في جو من الروحانيات والتعبد، فكن يُعلِّمن
الأطفال النسج وهم يصلون على النبي
ﷺ، واعتادوا على ذلك؛ فصار هذا الأمر
عادة من عادات النسج «وكانت مُعَلِّمة للبنات تغزلهن، وكنا نرى أن كثرة تردد الشيخ
إلينا إنما كان ليسمع الصلاة على النبي
ﷺ من أفواه الصغار، فإنهن يغزلن
مُصلياتٍ على النبي
ﷺ حسبما هو معلوم في ذلك عندهن.»
٣١٢
ورغبة من الصُّناع في المحافظة على مهنتهم وأسرارها وتوريثها لأولادهم، ساعدوهم
وأكسبوهم خبراتهم التي تجمعت لديهم عبر السنين وتوارثوها أبًا عن جَد،
٣١٣ وهو ما جاءت به أمثال العامة: «صنعة ولدك، ولو كان حشاش.»
٣١٤ ونذكر حادثة وقعت وهي أن أحدهم كان يقيم مع أبويه وإخوته وسافر إلى
بلدٍ آخر وكان حائكًا، وبدأ ينسج في ذلك البلد حتى جمع مالًا كثيرًا فاشترى به
أملاكًا، فلما تُوفي أبوه طالبه إخوته بنصيبهم من عمله وأمواله على الرغم من أن
أباه لم يساعده. والمقصود من تلك الحادثة أن مهنة النَّسيج كانت منتشرة بين أفراد
الأسرة خاصة، وبين معظم الأسر عامة.
٣١٥
(٦-٤) أهل الذمة
عمل العديد من الصُّناع الذميين في حِرف وصناعات النَّسيج، فمنهم من كان يصنع
الغَزْل ويبيعه، ومنهم من كان يقوم بعمليات الصباغة للمنسوجات والثياب،
٣١٦ وكان أكثرهم في بلاد المغرب «حمالين وخياطين وكيالين.»
٣١٧ وفي الأندلس مارس الصُّناع اليهود الصناعات الرذيلة والوضيعة خاصة
صناعة الأصباغ؛ فهيمنوا عليها، على الرغم من أنهم نُبذوا بسبب الأوساخ والإزعاج
الذي يسببونه والروائح الكريهة التي تصدر عن عمليات الصبغ،
٣١٨ والبعض الآخر عمل في جمع القرمز وتصنيعه.
٣١٩
أما من أسلم من اليهود فأُتيح له ممارسة بعض الحِرف كما في فاس «وأما من أسلم من
اليهود فاحترف بخِياطة الملف والثياب وضفر القيطان الذي يُخاط مع الثياب ونسج العقد
ونسج قلنسوة وتبطينها وصبغها وتصفيفها.»
٣٢٠ وهو ما يوضح ممارسة اليهود لمعظم الأنشطة الصناعية والتجارية للنسِيج
وبخاصة في فاس؛ فكان بها أكثر من ألفي يهودي عملوا في صناعة الحرير والثياب
الأرجوانية.
٣٢١