مراحل ومراكز صناعة النَّسيج في بلدان الغرب الإسلامي
(١) مراحل صناعة النَّسيج
(١-١) مرحلة التجهيز
تدخل المواد الخام النَّسيجية — الحيوانية أو النباتية — عدة مراحل حتى تصير في النهاية منتجًا يُلبس أو مادة جاهزة للتصنيع، ومن بين تلك المرحل والخطوات:
-
(أ)
تجهيز الصوف: لا يدخل الصوف مراحلَ كثيرةً حتى يخرج في صورته النهائية على هيئة ألياف وشعيراتٍ ناعمة تكون صالحة للاستخدام في أمور الغَزْل والنسج أو حتى الاستعمال الشخصي؛ فالصوف يُحصَل عليه من جزة الفروة التي تغطي جسم الضأن من الخرفان أو الكباش، وتُقصُّ بالمقراض لتكون مناسبة، ثم تُضرب بالقضيب لتُفرد وتلين، وبضربها تتبين نوعية هذا الصوف من الخرفان أو الكباش، لأن صوف الخرفان يكون أطول من صوف الكباش،٤ وبعدها ينظف الصوف من الوذح، وهو ما يعلق به من أبعار وبول الغنم أو التبن أو الحسك.٥وتتباين أطوال وأشكال الصوف؛ بحسب مدة بقاء الصوف على بدن الضأن ومكانه على جسمه؛ لهذا يُفضَّل الحصول على الصوف الذي مرَّ عامان على بقائه على بدن الضأن؛ فالصوف المتَّخذ من جذع وعنق الغنم يكون قصيرًا، والمتَّخذ من ثني الغنم فهو طويل وقوي، وصوف الظهر يأتي في المرتبة الأولى المفضلة للصناع والتجار، أما صوف الجنبَين والخاصرة فهو في المرتبة الثانية، وبالنسبة لصوف البطن فيكون في المرتبة الثالثة، كذلك صوف الفخذين يقبع في المرتبة الرابعة للصناع والتجار من حيث الاختيار.٦وبعد تنظيف الصوف من الوذح وما يعلق به يُغسل غسلًا جيدًا فيصير جاهزًا كي يُنفَش وتُسرَّح أليافه وتنفك، فالألياف الطويلة تُمشَّط عن طريق مشطٍ كبيرٍ مصنوع من الخشب أو الصدف، وهو من الأدوات الأساسية التي تُفكُّ بها عقد الصوف، وقد احتكر صناعتها بعض الصناع اليهود وخاصة المقيمين في مدينة فاس خلال القرن ٧-٨ﻫ/١٣-١٤م،٧ وبالنسبة للألياف القصيرة يتم تنقيتها عن طريق مشط يتكون من لوحَين بهما أشباه مسامير يُحك بها الصوف؛ فيعلق بالمسامير ما بقى متشبثًا بالصوف من عقد، وما حل من الصوف فيصعد لأعلى اللوح فيصير جاهزًا ليدخل مرحلةً جديدة،٨ كما اسْتُخْدِمت بعض النباتات الشوكية في تسليك شعيرات الصوف، وهو ما عرف عند صناع المغرب بصفةٍ خاصة ﺑ «القرظاج» وهو ما ذكره ابن قزمان بقوله: «أر بعد لس شير من قزظاج ولا تهجم فلس اغرنون.»٩
-
(ب)
تجهيز الكَتَّان: تُعتبر زراعة الكَتَّان من الزراعات التي تحتاج للكثير من الماء، وهو ما وُجد ببلدان الغرب الإسلامي نتيجة كثرة الأودية العذبة والعيون والآبار بها، بالإضافة إلى التربة الرملية الصالحة لزراعة الكَتَّان، فيزرع الكَتَّان بداية من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ويُحصَد في شهر مايو (آيار)، ويُضاف إليه روث البهائم ويُزرع بطريقة تُسهِّل وصول المياه إليه ومن ثم غمره، فحرص الفلاحون على ألَّا يُسقى الكَتَّان بالمياه المالحة؛ لأنها تفسده، فروي بالمياه العذبة، ثم يُنظَّف ويُنقَّى من الأعشاب الضارة الموجودة به للحصول على أفضل إنتاجيه من ألياف الكَتَّان، ومن العلامات التي تشير لنضجه وبداية حصاده اصفرار اللون،١٢ وبعدها تبدأ عملية الجمع، فيجمع الكَتَّان في حزم، كلٌّ منها يقارب في مجمله راحة اليد؛ ليستطيع العمال والفلاحون تطويقها بكلتا يديهم وهو ما يقارب حجم الذراع أي ما يعادل «٤٧سم» تقريبًا، ثم يُترك الكَتَّان لمدة أربعة أو خمسة أيام في الشمس مع تغطية بذوره حتى تجفَّ، ثم تُفرك الأوراق الجافة المعلَّقة على سيقانه، وتُوضع الجذور لأعلى ويُوجَّه الكَتَّان في اتجاهٍ معاكس مع الحرص والحفاظ على سلامة البذور كي لا تتفتح وتفسد.١٣وبعدها مرحلة نقع الكَتَّان وغمسه بالمياه أو كما أطلق عليها المقريزي «الهدار»١٤ التي تتم في برك ومستنقعات مياه خُصصت لذلك أو في الأنهار، كما كان يحدث في نهر قُرْطُبَة وبخاصة في أيام الصيف؛ مما أدى لتغير طعم ورائحة مياه النهر،١٥ وتستمر هذه المرحلة من شهر أبريل حتى يونيو، بترك مياه البرك لفترة لتسخن بواسطة الشمس؛ نظرًا لارتفاع درجات الحرارة في هذه الأوقات من السنة، وفُضلت المياه العذبة للحصول على ألياف كَتَّان بيضاء، أما المياه الراكدة العكرة التي يُنقع فيها الكَتَّان فتُخرج الكَتَّان رمادي اللون ومعها تقل جودة الكَتَّان، وفي بعض الأحيان كان يُلقى روث البهائم في المياه للإسراع في نضج الكَتَّان.١٦أما عملية الغمر فيُوضع الكَتَّان في حزم مع غمر الأجزاء السفلية منها في الماء، ثم توضع أحجار أو عوارض خشبية ثقيلة عليها كي لا تطفو سيقانه على السطح، وبعد عملية الغمر يتم إخراج الكَتَّان لتهويته في الشمس مع ضرورة تقليبه من مرة لأربع مرات، حتى يصير الكَتَّان ناضجًا بنسبةٍ كبيرة، وهذه العملية تتم في شهر يوليو.١٧وبعدها تبدأ المرحلة الثالثة من مراحل تجهيز الكَتَّان وهي الحلج، وذلك بغمر الكَتَّان في الماء، ثم تبدأ مرحلة «تعطين الكَتَّان»، وتستغرق هذه العملية ما يقرب من الشهر مع الأخذ في الاعتبار أن مدة الغمرة تختلف من منطقة لأخرى حسب درجة الحرارة، ففي المناطق الحارة تستمر هذه العملية مدة ثلاثين يومًا كما هو الحال في بلاد المغرب، أما في المناطق الرطبة فكانت تصل إلى خمسين يومًا متتالية حتى ينضج الكَتَّان، كما في الأندلس وصِقِلِّيَّة، وتُعرف عملية النضج عن طريق إمساكها بالأصابع مع الضغط على ساق الكَتَّان، فإذا فُصلت أليافه عن الساق أصبح صالحًا، أو عن طريق أخذ بعض سيقانه وضربها على المياه، فإذا تسلَّخت صارت ناضجة، وفي هذه الحالة يتم رفع الكَتَّان من برك المياه تجنبًا للتعفُّن،١٨ ثم يخرج الكَتَّان ليجف من سبتمبر حتى أكتوبر وبعدها يُضرب الكَتَّان بالمطارق الحديدية أو الخشبية للحصول على الألياف.١٩وتبدأ مرحلة التصنيع من حيث ما انتهت إليه مرحلة التجهيز، فجودة الكَتَّان تبدأ من تلك المرحلة، وهو ما يعني أن أي تقصير في مرحلة من المراحل السابقة يأتي سلبًا على جودة الكَتَّان، وهو ما أبرزته إحدى وثائق الجنيزة التي تُبين أن لون الكَتَّان كان متغيِّرًا عن لونه الطبيعي والمعتاد؛ ويرجع ذلك لأن الكَتَّان لم يحظَ بالوقت الكافي حتى يجفَّ في الشمس،٢٠ فأولها مرحلة تمشيط الكَتَّان وهي تتم بواسطة الفلاحين أو عمال مأجورين، لديهم الخبرة الكافية للقيام بتلك العلمية، مستخدمين أمشاطًا خاصة مُعدة لذلك،٢١ وبعدها تصير ألياف الكَتَّان جاهزة للغَزْل، ثم تُجمع الخيوط على شكل خُصل وتُجهَّز للصباغة وتُلفُّ على بَكَر أو قضبانٍ خشبية.٢٢
-
(جـ)
تجهيز الحرير:٢٣ قبل الحديث عن الحرير ومراحل تصنيعه وإنتاجه، لا بد من الإشارة إلى تلك الحشرة التي تنشأ عليها صناعة الحرير، والتي تُعدُّ عماد صناعة الحرير ألا وهي دودة القز، فهي دودةٌ صغيرة تَقْطُن الأشجار؛ تتغذَّى على ورق التوت، وتحقق لنفسها قدرًا من الحماية عن طريق ما تنسجه من لعابها كي تحفظ نفسها من البرد والحرارة والرطوبة، وتُنتج خيوطًا لامعة ومنها يُصنع الحرير.٢٤ولكن سرعان ما انتشرت صناعة الحرير في الإمبراطورية البيزنطية زمن الإمبراطور جستنيان ٥٣٦م،٢٥ وتُعتبر صناعة الحرير من الصناعات القلائل التي قامت بمدينة تونس في أربطةٍ حصينة وورش، وتُباع في الأسواق في العصر الأغلبي للحفاظ على سِرِّها، وقد انتقلت صناعة الحرير لبلاد المغرب الإسلامي في عهد بني الأغلب (١٨٤ﻫ/٨٠٠م–٢٩٦ﻫ/٩٠٩م) إلى قَابِس ومنها إلى تُونس،٢٦ فكان أول مصنع أُنشئ في أرضٍ أوروبية أقيم بمدينة بليرم في صِقِلِّيَّة،٢٧ ومنها وصلت أساليب تربية دودة القز وصناعة الحرير إلى إيطاليا، والتي بلغت أوج ازدهارها في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي.٢٨وتبدأ عملية إنتاج الحرير في فصل الربيع حيث يُجلب البزر «الشرانق» لتدخل عملية التحضين، وهذه العملية قامت بها النساء بانتقاء الشرانق لرعايتها وتحضينها، وتمت هذه العملية في الأندلس كما ذكر عريب بن سعد (ت القرن ٥ﻫ)٢٩ في شهر فبراير: «وتبدأ النساء بتحضين دود القز حتى تفقص.» فتحضن النساء البزر (الشرانق) لمدة أسبوع بوضعها تحت أثداء النساء وصدورهن، ثم تخرج وتنثر على أوراق التوت المقطعة، فتأكل لمدة ثلاثة أيام، وتُسمى تلك العملية ﺑ «الإطعام»، ثم تنقطع عن الأكل وهو ما يُعرف ﺑ «التصويم»، وتتكرر هذه العملية أكثر من مرة، حتى يجيء موعدها فيكثر لها العلف حتى تنتج الصلجة أو «الفليجة»٣٠ وتتم عملية فقس دود القز في شهر مارس وفيه «يتولد الحرير»٣١ نتيجة لاعتدال الجو وملاءمة نسبة الرطوبة لها.٣٢ومع عملية الفقس تبدأ الديدان في نسج الخيوط حولها، ورُوعي عند بداية ظهور الخيوط إبعادها عن المياه، وخاصة مياه المطر حتى لا تلين «الفليجة» — الصلجة — وتُثقَب عن طريق الفراشات ولا يُنتَج الحرير، وقد ذكر ابن قزمان٣٣ تَعرُّض دود القز للماء والأمطار في بعض أزجاله. ولهذا كانت تُنقل الفليجات (الشرانق) قبل خروج الفراشات إلى الشمس حتى تموت، وتستخلص خيوط الحرير، ثم تُترَك الفليجات الباقية ليثقبها الدود وتخرج الفراشات لتفقس وتبيض وتستمر دورة حياة «دود القز» مرةً أخرى.٣٤وتبدأ مدة حياة الدودة من التحضين إلى الفقس تتغير حسب الأقاليم والطقس ما بين سبعة وثلاثين وخمسين يومًا، وتصل في الأندلس لستين يومًا،٣٥ ويُسمى الحرير قبل أن يُنقى من أغراسه «درفس»٣٦ والمنقى يعرف ﺑ «الإبرسيم» وهو الحرير الخام.٣٧ولما كان الحصول على ورق التوت لازمًا لتغذية دود القز؛ فقد تعاون الكثير من الزرَّاع والصنَّاع بالاشتراك فيما بينهم لإنتاج الحرير، أطلق عليها الفقهاء «شراكة في علوفة الحرير»؛٣٨ وهو ما أغرى كثيرًا من الفلاحين والزراع في بعض الأوقات لبيع أوراق التوت قبل أن تُورق على الأشجار لتهافت صناع الحرير ومربي دودة القز لشرائها؛٣٩ وهو ما أوجد بعض الخلافات والخصومات والجوائح؛٤٠ فأوجب تدخل الفقهاء لحلِّها. فعندما سُئل الفقهاء عما هو جائز في شركة علوفة الحرير، أجاب بأن يقوم صاحب أشجار التوت باستئجار أحد ليجمع الورق الخاص بحصته في الشركة أو أن يقوم بتربية الدود بنصيبٍ معلوم على أن يكون ذلك منصوصًا في عقد محرَّر بينهم،٤١ وأوجز ابن سراج٤٢ شروط الشراكة في علوفة الحرير بقوله: «الشرط الأول: أن يكون الورق قد ظهر وبدأ صلاحُه، الشرط الثاني: أن ينظر إلى الورق ويحزرها ويعلم مقدارها بالحزر والتخمين، الشرط الثالث: أن يشترطا أنهما إن نفد الورق واحتاجا إلى ورقٍ آخر أن يشترياها معًا من غير أن يختص أحدهما بشراء دون الآخر، الشرط الرابع: أن يكون العمل معلومًا إما بالشرط وإما بالعادة، الشرط الخامس: أن يكون العمل معلومًا بينهما على حسب الشركة كما كان الشراء بينها كذلك.» أما عند قسمة لوز الحرير فكان بعضهم يريد قسمته بالوزن أو بالعد، فأوجب الفقهاء أن يُقسَّم بالوزن لأن العدَّ تؤثر عليه الأحجام،٤٣ كل تلك الخلافات أوجبت كتابة عقود تحفظ وتضمن حقوق الطرفين المشتركَين في شركة وزراعة ورق التوت.وبعدها يدخل الحرير مرحلة الجمع، التي تبدأ من شهر أبريل بجمع إنتاج الحرير من المزارع والقرى قبل أن يُرسَل إلى دور الطِّراز، وهو ما يذكره ابن سعد٤٤ أنه يتم في شهر مايو ويبدأ دخول الحرير في مرحلة التصنيع الفعلي بإصدار الأوامر للمنتجين بأن يسلموا غَزْلهم إلى دور الطِّراز، بقوله: «أيام شهر مايو عددها ثلاثون يومًا … وفيه تخرج الكتب في القرمز والحرير والغاسول للطراز.»ثم تأتي المرحلة الأخيرة من مراحل تصنيع الحرير بإصدار الكتب والمراسيم وإعطاء الأوامر إلى المسئولين عن مراقبة عملية صناعة الحرير والإشراف عليها من قِبَل المحتسبين والمشرفين، وتتم في شهر أكتوبر، بتسليم الحرير لدور الصناعة لإتمام أعمال الصباغة، فيخبر ابن سعد:٤٥ «وتخرج الكتب في الحرير والصباغ السماوي للطراز.»
ومن خلال ما ذكره ابن سعد عن مراحل تصنيع وإنتاج الحرير وبخاصة في الأندلس، يتَّضح أنها خضعت لرقابةٍ حكومية أُشرف عليها في جميع مراحلها، فكان إنتاج الحرير بمثابة عملٍ قومي تباشر عليه الدولة، وهي تلك الفترة التي تميزت بها الأندلس بإنتاج الحرير، ولكن مع ضعف الحكومات الإسلامية في الغرب الإسلامي وعدم الاهتمام بمربي وصناع الحرير وسقوط العديد من المعاقل والحصون الإسلامية في الأندلس، والتي كانت من أهم المراكز الصناعية لإنتاج الحرير، فضعفت وانهارت تلك الصناعة، وخير مثال على ذلك قُرْطُبَة وألْمرية.
كما تُعدُّ عملية حلِّ الحرير من أهم الأعمال في إنتاج الحرير، ويتم فيها تحويل الشرانق إلى خيوط لاستعمالها في الصناعة أو البيع، وتتمحور تلك العملية في تفريغ الشرنقة أي تحويلها إلى خيطٍ متصل، ولهذه العملية مراحل كثيرة أهمها التخنيق، وهي قتل الفراشة داخل الشرنقة حتى لا تخرج وتثقب الفليجة، ثم سلق الشرانق حتى تلين خيوطها ويسهل حلها، ثم إزالة الرغس أي اللزوجة التي تصاحب الحرير وهي لعاب دود القز،٤٦ وإمساك خيط الشرنقة ونزع ما لا يصلح للاستعمال، وأخيرًا جذب بضعة خيوط لعدة شرانق وجمعها وحلُّها معًا، ولفُّها على الدولاب حتى إذا بردت الْتصق بعضها ببعض وصارت خيطًا واحدًا، هو الذي يُحول في النهاية إلى خيطٍ صالح للاستعمال. ولإتمام عملية حل الحرير لا بد من توافر عدة أدوات، منها: «الخِلْقين» وهو عبارة عن إناءٍ نحاسي واسع العمق يُملأ بالقَدر اللازم ماءً، وتُضرم النار تحته حتى غليان الماء، فتُسلق الشرانق فيه حتى تتخنق، ويتم تحريك الشرانق داخل الإناء عن طريق عصًا، وذلك بطريقةٍ دائرية لفصل الشرانق عن الخيوط، حتى تصير لامعة وساخمة وبرَّاقة بعد تنقيتها.٤٧وكذلك لا بد من توافر «الدولاب» وهو عبارة قطعةٍ خشبية لها ماسكة من الحديد لتديره، مُثبَّتة على قاعدةٍ خشبية ترتكز على ست خشبات، خمس منها ثابتة، والسادسة متحركة — سهلة الخلع — يمكن حلُّها عند عملية فكِّ الحرير الذي يكون مشدودًا على الدولاب ويُثبت فوق الخلقين، وفوق الدولاب لوحةٌ خشبية يُركز عليها ثلاث أو أربع خشبات وبَكَر لبرم الخيط، وجدت به كرةٌ خشبية تساعد على تسليك الخيوط على الدولاب أثناء البرم، وأُطلق على هذه الآلة الطاحونة، وعُرفت تلك العملية برَدَن الحرير،٤٨ وبعدها تُنزع الخيوط وتُوضع على سقالة خشبية لنشرها حتى تجف، وبعد أن تجف تُكبُّ على سقالةٍ خشبيةٍ مستديرة، وبعده تُجمع الخيوط لتُفتل، وبذلك تكون خيوط الحرير جاهزة لأن تدخل مرحلةً جديدة وهي الغَزْل، وكانت تتمُّ باستخدام المغزل.٤٩ -
(د)
تجهيز القُطْن: كما ذُكر — سابقًا — أن القُطْن يُشرع في جمعه في الصباح الباكر بداية من شهر سبتمبر قبل أن تشتدَّ حرارة الشمس، ويكون باليد بكل رفق ولين، ثم يُعرض في الشمس ليُجفَّف، ثم يُرفع ولا يُترك لفتراتٍ طويلة في الشمس حتى يحتفظ ببعض رطوبته وليونته ببقائه في الظل،٥٠ لأنه متى جُمع في الحر كُسر جوزه واختلط بالقُطْن ولا يمكن التخلص منه، وهو ما يهدر الكثير من الوقت في تخليصه، وإذا خُزِّن القُطْن دون أن يُنشر في الشمس فسد،٥١ ومن مراحل تجهيز القُطْن المهمة التخلُّص من محارين القُطْن وهو كل ما يعلق به من قشور وحب أثناء عملية جمعه، وتُعرف هذه العملية بالحَلْج، ثم يدخل بعد ذلك مرحلةً جديدة وهي الندف وهي فك القُطْن من العُقد وتشابك نَسِيجه، ليُحَلَّ ويُنفَش فيكون جاهزًا للغَزْل.٥٢
(١-٢) مرحلة الغَزْل
(١-٣) مرحلة التصنيع
قبل الاستطراد في تلك المرحلة وذكر خطواتها والتطرق لأهم مواضعها ومنتجاتها ومراكز صناعتها، لا بد من الإشارة إلى دُور الطِّراز الخاصة والعامة في بلاد الغرب الإسلامي، التي انتشرت خلال فترات تاريخها، فبوجودها تأثرت صناعة النَّسيج؛ مما ساهم في تنوع الإنتاج النَّسيجي بإنتاج نوعيات تميزت بها بلدان الغرب الإسلامي عن غيرها واشتهرت بها.
(أ) دور الطِّراز في الغرب الإسلامي٧٥
(٢) الصناعات النَّسيجية ومراكز صناعتها
مع توافر المواد الخام والمقوِّمات الزراعية والصناعية اللازمة لتصنيع النَّسيج، برزت العديد من المواضع التي اختصت بإنتاج نوعٍ معين من خام النسيج، أو إنتاج أنواعٍ معينة من المَنْسوجات، أو أن أهلها اختصوا وبرعوا في تصنيع أو صباغة أو التمهيد لتصنيع بعضها.
ولإيضاح الأهمية الاقتصادية لمراكز إنتاج النَّسيج في الغرب الإسلامي، وجب على الباحث التطرُّق بالحديث عن عاصمتين من أهم عواصم النَّسيج خلال فترة الدراسة، واللتان تنوعتا في إنتاج المَنْسوجات الحريرية والصوفية والقُطْنية والكَتَّانية، واختلفتا في كمية الإنتاج على الرغم من تباعد الفترة الزمنية التي ازدهرتا فيها، وجمعتهما منطقةٌ واحدة — الغرب الإسلامي — وهو ما استوجب إظهار تلك المفارقة.
-
مدينة ألمرية: من المدن التي تبوَّأت الصدارة في إنتاج النَّسيج وبخاصة إنتاج الحرير
كانت مدينة ألمرية الأندلسية؛ الأمر الذي جعل كل من زارها يتحدث عن
مَنْسوجاتها وعن دقَّتها وجودتها؛ فلم تكن فقط مركزًا مهمًّا في الغرب
الإسلامي فحسب، لكنها تحوَّلت إلى مصدرٍ مركزي لإنتاج النَّسيج أيضًا وبعض
المصنوعات المرفهة للممالك المسيحية المجاورة.١١٤وانتقلت صناعة الحرير إليها عن طريق بعض الممالك والمدن المجاورة وبالأخص مدينة بجانة التي عُدَّت من أهم مراكز إنتاج وتصنيع الحرير إبان القرنين الثالث والرابع الهجريين/التاسع والعاشر الميلاديين؛ فكانت المَنْسوجات الحريرية بها «تُحمل إلى مصر ومكة واليمن وغيرها.»١١٥ ومع بداية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي وعلى أثر انتقال معظم صناع وحرفيي بجانة إلى مدينة ألمرية، وازدهرت وشهدت صناعة الحرير بألمرية تقدمًا ملحوظًا وما واكب ذلك من انهيارٍ اقتصادي وسياسي بإقليم بجانة خلال تلك الفترة.١١٦وقد اشتهرت ألمرية ﺑ «صناعة الوَشي والديباج على اختلاف أنواعه، ومن صنعة الخَز وجميع ما يُعمل من الحرير ما لم يصر مثله في المشرق ولا في بلاد النصارى.»١١٧ وهو ما ميزها عن سائر البلاد فكانت تنتج الديباج١١٨ «ما حسن صبغه وانتظمت نقوشه ودق حَرِيره وصفق نسجه وأشرق لونه وثقل وزنه وسلم من النار.»١١٩وذكر الزهري١٢٠ في حديثه عن مدينة ألمرية أن «فيها كان يُعمل الديباج المُحكَم الصنعة مثل المرنجات المعروفة بالعداديات وثياب السندس الأبيض وهو دِيباج أبيض … كله لا يخفى على أحد من صناعته شيء، وفيها استنبطت ثياب المعمة المعروفة بالخلدي، ليس في ثياب الحرير كلها أتم منها مجالًا ولا جمالًا؛ لذلك سُميت بهذا الاسم، وهو مشتقٌّ من الخلد … وأكثر صناعة نسائهم الغَزْل الذي يقارب الحرير في سوقه وأكثر صناعة رجالهم الحياكة.» وصُنع بألمرية من صنوف الحرير الكثير من الديباج والوَشي والسقلاطوني والبغدادي والستور١٢١ «والأصبهاني والجرجاني بالإضافة إلى الستور الملكية والثياب المعينة والخمر والعتابي والمعاجر وصنوف أنواع الحرير.»١٢٢ وفي هذا النص دليل على أن مصانع الحرير بألمرية اتبعت في صناعتها التقليد لبعض منتجات المشرق الإسلامي كالعتابي والأصبهاني والجرجاني وهو ما أُشير إليه، ويعكس مدى ما وصل إليه صناع الغرب الإسلامي، وبخاصة صناع ألمرية، من مهارة في إتقان جميع صنوف المَنْسوجات الحريرية لدرجة أنها طابقت في جودتها ودِقَّتها بلادها الأصلية،١٢٣ وهو ما يوضح عمليات الصنع والبيع للمَنْسوجات المقلدة من الحرير ذات السمعة الجيدة من الجرجانية وغيرها الذي قد أُنتج في ألمرية، حتى إن أبًا من عدن طلب بعض الحرائر الجرجانية من ألمرية من أجل جهاز عرس ابنته فجاءت بسهولة من الأندلس،١٢٤ ووُجد بألمرية ثمانمائة طراز من طرز الحرير النفيسة وألف منوال للديباج.١٢٥
-
مدينة فاس: عاصمة النَّسيج في بلدان الغرب الإسلامي من الكَتَّان والصوف والقُطْن
والحرير، بفضل ما هيأته الطبيعة من جودة التربة وتوافر مصادر المياه
بالإضافة إلى الأيدي العاملة الماهرة، وما يَقدم إليها من مواد خام سواء
محلية أو عن طريق التجار والمزارعين، فضلًا عن كونها مركزًا إداريًّا
وسياسيًّا خلال فترات طويلة من تاريخها؛ ما أهلها لأن تكون إحدى عواصم
النَّسيج في الغرب الإسلامي.١٢٦فخلال فترة حكم الموحدين وخاصة أيام الخليفة الناصر الموحدي ٥٨٥ﻫ/١١٨٩م، كان بفاس ٣٠٦٤ موضعًا خاصًّا بالنَّسيج وطرزه،١٢٧ بالإضافة للعديد من الأماكن التي خُصصت لصنع وبيع وتجارة النَّسيج ومتعلقاته،١٢٨ كما وُجدت بها بعض الأزقة والشوارع الخاصة بالحاكة والنساجين،١٢٩ ما يعكس المكانة الاقتصادية والصناعية التي وصلت إليها فاس فيما يتعلق بصناعة النَّسيج، فهذا العدد الكبير من دور النَّسيج يُبرز كيف أنها زجَّت بالعمال والصناع فأصبحت قبلة النَّسيج، ففي ظل حكم بني مرين كان لهم دار طراز بفاس باعتبارها دار حكم، واستمرت تنتج المَنْسوجات الفاسية،١٣٠ وخلال القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، وعلى إثر ما سمح به تخطيط مدينة فاس من إقامة العديد من حوانيت النَّسيج، استمرت فاس في تقدمها النَّسيجي؛ فكان بها ٢٥٠ محلًّا للحياكة، و١٥٠ دكانًا لصباغة الغَزْل، بالإضافة للعديد من حوانيت القطانين وأسواقهم؛ فكان بها ٣٠ دكانًا لباعة الأشرطة القُطْنية وبعض السروج، وبعض الأماكن الخاصة ببيع الأقمشة الصوفية الغليظة، فكان عددها ١٠٠ دكان و١٤١ دارًا مخصصة لأمور الغَزْل تستجلب الصوف القادم من الرعاة والفلاحين المحليين فيدخل في تلك الدور لإنتاج الثياب والمَنْسوجات الصوفية، والعديد من الحوانيت الخاصة بالمَنْسوجات، فكان بجوار باعة الشمع العديد من باعة الخيوط النَّسيجية، وبجوارها حوانيت تبيع الحبال والخيوط وحبال الخيل وأرسانها المصنوعة من القنب، فضلًا عن حوانيت بيع الكَتَّان والثياب والكثير من الأسواق الخاصة بالنَّسيج،١٣١ والكثير من الحوانيت المُعدة التي خُصصت لصناع الأشرطة الكَتَّانية والقلاع والشقق الكَتَّانية، وكذلك قماش الكَتَّان الغليظ الذي يُستخدم في تغطية الشوارع والأسواق، كالذي اسْتُعمل في تغطية صحن جامع القرويين.١٣٢
(٢-١) المَنْسوجات القُطْنية ومراكز صناعتها
(٢-٢) المَنْسوجات الكَتَّانية ومراكز إنتاجها
(٢-٣) المَنْسوجات الحريرية ومراكز صناعتها
ازدهرت صناعة الحرير في الكثير من المدن المختلفة لبلدان الغرب الإسلامي، ففي الأندلس ازدهرت صناعة الحرير خلال القرن ٥-٦ﻫ/١١-١٢م نتيجة اهتمام السلطات الحاكمة بإنتاج الحرير، فأصدرت له المراسيم الخاصة بإنتاجه، وتفاوتت درجة الإتقان والجودة من مركز لآخر، ومن مدينة لأخرى حسب المقومات الصناعية المتوافرة لديها، فكان لبعضها السبق؛ إذ تربعت على عرش إنتاج المَنْسوجات الحريرية دون غيرها.
(٢-٤) المَنْسوجات الصوفية ومراكز صناعتها
(٣) صناعات ارتبطت بصناعة النَّسيج
(٣-١) صناعة الأصباغ
(٣-٢) صناعة البُسُط
(٣-٣) صناعة الشاشية
(٣-٤) صناعة الحِبال
(٣-٥) صناعة الحُصر
هوامش
Vincent Lagardère: Culture et industrie du lin en al-Andalus au Moyen Âge, p. 82.
Moshe Gil: The Flax Trade in the Mediterranean in the Eleventh Century, p. 84.
Goitein S. D.: The Main Industries of the Mediterranean Area, p. 173-174.
Serjeant: Material for a History of Islamic Textiles, p. 73; Goitein: The Main Industries of the Mediterranean, p. 177.
Lombard: Ibid., p. 242.
Serjeant: Op.cit., p. 44.
Serjeant: Material for a History of Islamic Textiles, p. 44.
Sharon Hoshta: Almeria Silk and the French Feudal Imaginary Toward a “Material” History of the Medieval Mediterranean, Medieval abrications dress, Textiles, Clothwork, and other Cultural Imagnings, palgrave, p. 168.
Sharon Hoshta: Almeria Silk and the French Feudal Imagnary Toward, p. 168.
Serjeant: Material for a History of Islamic Textiles, p. 38.
Serjeant: Material for a History of Islamic Textiles., p. 37.
Sharon Hoshta: Almeria Silk and the French Feudal Imaginary Toward a “Material” History of the Medieval Mediterranean, p. 174.
Serjeant: Material for a History of Islamic Textiles, p. 39.