الحارث بن زهير ولبنى
خرج ذات يوم الحارث بن زهير مع خلان له إلى الصيد والقنص فأوسع بهم في عرض الفلاة حتى وصلوا إلى اليعمودية، فلاحت له غزالة في ذلك البر فجدَّ في أثرها، فانتهى به المسير إلى غدير كبير على شاطئه جماعة من البنات الحسان وبينهنَّ جارية بديعة الجمال كأنها هلال، جمعت بين لطافة القد وحسن الجيد والاعتدال، وكانت تُدعى لبنى بنت المعتمد، فلما رآها الحارث غلب عليه العشق والجوى واستولى عليه سلطان الهوى، وكانت الغزالة قد دخلت بين البنات فانثنى نحوهنَّ وسلَّم، ثم قال بصوت لطيف: دعي صيدي يا بنت الكرام حتى آخذه وأذهب، فقالت له: خلي عنك أيها الشاب فقد استجار بنا وأعطيناه عهدنا وزمامنا، وكانت لبنى تتكلم بقلب يخفق غرامًا وصوت يتقطع لوعة وهيامًا، ثم قالت له: ما اسمك الكريم؟ قال: الحارث بن زهير سيد بني عبس، فقالت: نِعْمَ الفتى، وبعد ساعة من الزمان ودعهنَّ وسار وقد اشتعل فؤاده من فرط الحب بلهيب النار، ولما زاد به الشوق باح لسانه بالشعر فأنشد:
وما زال يقطع البيداء حتى وصل البيت مساءً، فبات ليله أرقًا بين السهاد وتباريح الغرام، ولما أصبح الصباح أخبر خادمته بما جرى وما أصبح فيه من قاتل الحب ووكل إليها تدبير الأمر، فقالت: سمعًا وطاعة، وذهبت إلى أحيائها فسألت عنها فدلوها عليها، فلما رأتها هدأ بالها وحدثتها سرًّا بحديث الحارث وما هو فيه من الحب والغرام، فلما سمعت لبنى كلامها أعلمتها بوجدها وغرامها وقالت لها: إن رأيت أن تجمعيني به الليلة على شاطئ الغدير، فقالت: حبًّا وكرامة، وذهبت فأعلمت الحارث فكاد يطير من الفرح، ولما أمسى المساء سار من فوره إلى الغدير، فلما رآها زاد حبه وهاجت أشجانه فأنشد:
فما زال بين شكوى ونجوى إلى أن أصبح الصباح فافترقا متعاهدين على الحب والولاء، وداما على هذه الحال من الاجتماع وبث الأشواق في ذاك المكان إلى ذات يوم ذهب الحارث فلم ير أحدًا فذُهل غاية الانذهال وارتاب في أمر لبنى، فسأل عن السبب فقيل له: إنهم ساروا إلى بلدة قريبة، فأرسل يسأل عنها ليعلم ما عندها وما يكنه فؤادها، فكتبت له: إن ذلك ما كان إلا رغمًا عنها وأنها قريبًا تعود إليه، فلما بلغ الحارث ذاك الكتاب وقرأ ما به هدأ باله وصار ينتظر لقاء الحبيب، فلما اجتمعت به لبنى خفق فؤادها وتنهدت وباحت بما عندها فأنشدت:
وداما على هذا الحب إلى آخر حياتهما.